الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٠

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٠

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-192-0
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٥

الصلاة ينطلق من خلفية سعيه إلى إمارة السرية ، وقد وجد من بين أصحابه من يؤيده في ذلك ، ولا يرضى بإمارة عمرو ..

٣ ـ ولعل من أبرز هؤلاء المؤيدين لأبي عبيدة أبو بكر وعمر ، كما يظهر من تغيظ عمر ، إلى حد أنه أراد أن يبادر إلى الاعتراض على ابن العاص ، لكن نصيحة أبي بكر منعته من ذلك .. ربما لأنه وجد أن حجة عمرو ستكون أقوى ، وأعظم أثرا في نفوس الناس ، فآثر الخروج من حلبة الصراع بخسارة واحدة ، بدلا من خسارتين.

٤ ـ ثم إن أبا عبيدة حين وجد أن الغلبة ستكون لعمرو آثر أن ينسحب من هذا المأزق بلباقة ، وأن يعوض عن بعض خسارته بإظهار التسامح والتواضع والانقياد لأوامر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، التي زعم أنه أصدرها له ، بقوله : قدمت على صاحبك فتطاوعا.

ثم جاء محبوه ومؤيدوه ، فصرحوا بما ألمح إليه ، حين وصفوه بحسن الخلق ، ولين العريكة ، واعتبروا أن هذا هو سبب تراجعه أمام حجة عمرو بن العاص.

المغيرة داعية فتنة ومتزلف :

ولسنا بحاجة إلى تفصيل القول فيما ذكره المغيرة بن شعبة لأبي عبيدة عن أن فلانا من الناس قد اتبع أمير القوم .. وقول أبي عبيدة : «فأنا اطيع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وإن عصاه عمرو».

غير أننا نكتفي بالإشارة إلى ما يلي :

١ ـ إن حركة المغيرة هذه تظهر كيف أن المغيرة يغتنم الفرصة للعبث

١٨١

بمشاعر الناس ، وإثارة غرائزهم العدوانية تجاه بعضهم البعض ، حتى لو كان هؤلاء الناس ممن يلتقي معهم في كثير من التوجهات والانتماءات ، فيحاول الإبقاء على حالة التنافر ، والتنافس بين أبي عبيدة وعمرو بهذا التحريض الذي مارسه في موقفه هذا.

٢ ـ إن المغيرة لا يتورع عن إشراك أناس آخرين في حالة الصراع ، ويسعى ليوغر صدر أبي عبيدة على (ابن فلان) ، لمجرد أنه قبل بمنطق عمرو في أمر تولي عمرو للصلاة.

٣ ـ إن حركة المغيرة هذه يمكن وضعها في سياق تزلف المغيرة لأبي عبيدة أيضا .. وربما يكون سببها في ذلك هو شعور المغيرة بالضعف ، والحاجة إلى مساعدة أبي عبيدة في تحقيق مأرب يعجز المغيرة عن تحقيقه بنفسه ..

٤ ـ والملاحظة الأخيرة لنا هنا : هي أن أبا عبيدة يصرح : بأنه يعتبر عمروا عاصيا لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ثم يقدم نفسه هو على أنه مطيع لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دونه ..

فهو يشير بذلك : إلى أن قضيته مع عمرو قد تجاوزت حدود الخطأ غير المقصود ، أو الخطأ في الاجتهاد لتصل إلى مستوى التمرد على الآمر ، والمعصية المتعمدة لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وبذلك يظهر : أن ثمة اختلافا أساسيا في موضوع عدالة الصحابة بين أبي عبيدة وبين أكثر المسلمين من غير الشيعة ، الذين يصرون على عدالتهم ، وعلى ان ما يرتكبونه ما هو إلا خطأ في الاجتهاد ، ولا يصل إلى حد المعصية لله ولرسوله.

١٨٢

أخلاق أبي عبيدة :

وقد وصف الراوي أبا عبيدة : بأنه «كان رجلا لينا ، حسن الخلق ، سهلا ، هينا عليه أمر الدنيا ، يسعى لأمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وعهده».

ونقول :

١ ـ ليت أبا عبيدة كان كذلك في يوم السقيفة ، حين سعى في تضييع أمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ونقض تدبيره .. بل هو قد سعى في تكريس مخالفة أمر الله ، وساعد وشارك في نقض عهد الله تبارك وتعالى ، وذلك حين نكث بيعته لعلي «عليه‌السلام» في يوم الغدير ، وخالف أمر الله ورسوله في التسليم لإمامته «عليه‌السلام» ، والبخوع لأمر الله تبارك وتعالى فيها .. وكان هو وعمر بن الخطاب من أقوى المساعدين على استئثار أبي بكر بهذا الأمر.

٢ ـ إن إمامة الجماعة ليست من أمور الدنيا ، التي تهون على أبي عبيدة ، بل هي عبادة لها ثوابها ، وقيمتها المعنوية ، التي لا يصح التفريط أو الاستهانة بها.

أما اعتبار قيادة السرية وإمارتها أمرا دنيويا .. فذلك أيضا غير مقبول ، لأن هذه الإمارة أيضا أمر عبادي ، من حيث أنه موقع جهادي متقدم وحساس ، وليس على المؤمن لو طلبه وسعى إليه من غضاضة ..

٣ ـ إن هؤلاء الذين يقدسون جميع الصحابة ، ويعتقدون بعدالتهم ، وإن كانوا قد مدحوا أحدهم ، ودافعوا ودفعوا عنه ، ما ربما ينسب إليه مما لا يليق به ، ولكنهم قد سقطوا في فخ الطعن في نزاهة صحابي آخر حيث نسبوا إليه حب الدنيا والسعي إليها .. ألا وهو عمرو بن العاص نفسه.

وهذا يتنافى مع نظرتهم التنزيهية للصحابة .. إلا أن يدّعوا : أن حب

١٨٣

الدنيا لا ينافي العدالة التي يتحدثون عنها ..

غير أننا نقول : إن حب الدنيا والتنازع عليها منقصة في الإنسان ، والمفروض بأهل الإيمان والمجاهدين أن ينزهوا أنفسهم عنها. ولا سيما وهم في مواقع الجهاد ، وفي ساحات التضحية.

صلاة الجماعة :

١ ـ لما ذا يقع النزاع بين عمرو وأبي عبيدة على إمامة الجماعة؟! ما دام أن الأمر يرجع فيها إلى المأمومين أنفسهم ، فالأمر في اختيار إمام الجماعة يعود إليهم ، فهم يأتمون بمن شاؤوا .. إذ لا يجب أن يكون أمير السرية هو الإمام في الصلاة.

فاختلافهم في ذلك يدل على عدم وجود نص حاسم من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على إمامة شخص بعينه في هذه السرية على أقل تقدير.

٢ ـ إن نفس أن يتصدى أبو عبيدة لإمامة الناس يدل على أن إمامة الأمير للناس في الصلاة لم تكن مستندة إلى أوامر من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وإنما هو اعتماد على مجرد تقليد متّبع ، وعادة جرت. وهذا هو ما قصد إليه عمرو في اعتراضه على أبي عبيدة ..

ويؤكد هذا المعنى : أن أبا عبيدة لم يتصد لإمامة الماءتين الذين جاء بهم .. بل تصدى لإمامة جميع الحاضرين حتى الذين جاؤوا مع عمرو ، وحتى عمرو نفسه. وهذا ما أثار حفيظته ، ودعاه إلى الطلب من أبي عبيدة أن يتنحى ، ويترك الأمر له.

٣ ـ إنه لأمر مثير للعجب أن يكون الذين أجابوا عمرو بن العاص على

١٨٤

حجته هم خصوص المهاجرين ، كما صرحت به الرواية ..

بل هم خصوص المهاجرين الذين جاؤوا مع أبي عبيدة .. ونتوقع أن يكون على رأسهم عمر بن الخطاب ، فإنه هو الذي يشهر سيف الاعتراض كثيرا ، حيث يبدو لنا : أنه هو وربما غيره من المهاجرين معه قد اعترضوا على إمامة عمرو لهم ، خوفا من أن يؤسس ذلك لتفضيله وتقديمه عليهم في أمور أخرى ..

٤ ـ ولعل هذا الأمر يشير إلى أنه قد كان ثمة ضعف ظاهر في الأنصار ، حيث لا يظهر منهم أي تحرك اعتراضي أو حتى استعراضي ، كما نشهده لدى المهاجرين .. في العديد من المناسبات ، وفي هذه السرية أيضا.

المهاجرون يعترضون مرة أخرى :

وقد ذكرت النصوص المتقدمة : موقفا آخر للمهاجرين في هذا السياق ، فحين منعهم عمرو ، هم وغيرهم من إيقاد النار ليصطلوا عليها ، كلمه في ذلك بعض المهاجرين فغالظه .. ثم طلبوا من أبي بكر أن يكلمه ، ففعل فتوعد أن يقذف في النار من أوقدها.

وذكروا أيضا : غضب عمر من هذا الإجراء. وأنه همّ أن يأتيه ، فنهاه أبو بكر ، وأخبره : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يستعمله إلا لعلمه بالحرب ، فهدأ عنه.

ونقول :

١ ـ لماذا علت أصوات المهاجرين فقط في هذه الحادثة أيضا؟! ..

فهل كان الأنصار يخافون من الاعتراض على القائد إذا كان مهاجريا؟!

ولماذا يخافون؟!

٢ ـ لماذا يصل الأمر إلى حد المغالظة والتهديد بإلقاء الناس في النار

١٨٥

التي يوقدونها؟!

ألم يكن بالإمكان حسم الأمر بكلمة واحدة ، وهي أن إيقاد النيران يدل العدو على وجودهم في المنطقة ، ولهذا الأمر سلبيات كبيرة ، أدناها ضياع الفرصة المتاحة ، ومنح العدو فرصا قد تكون خطيرة على هذه السرية؟!

٣ ـ إن التأييد الذي روي عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في هذا الإجراء إنما رواه عمرو بن العاص نفسه ، لتدعيم موقفه أمام منتقديه ، فليلاحظ ذلك.

٤ ـ ما معنى أن يعاقب عمرو من يوقد نارا بأن يقذفه فيها؟! فهل وردت هذه العقوبة في آية أو رواية؟ أو سمعها من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟ أو رآه فعلها؟ أو رخص أحدا فيها؟!

ولماذا لم يعترض عليه أبو بكر : بأنه ليس من حقه أن يمارس عقوبة من هذا القبيل؟!

ولا يمكن حمل كلام عمرو على المبالغة في الوعيد ، إلا إذا قامت قرينة على أنه لم يكن قاصدا لظاهر كلامه .. وهي مفقودة هنا.

التناقض والإختلاف :

إننا نراهم تارة يزعمون : أن الذين سار إليهم عمرو بسريته تلك هم قضاعة ، وعاملة ، وجذام ، ولخم .. وأنهم جمع كثير ، وأنهم كانوا مجتمعين ففضهم ، وقتل منهم مقتلة عظيمة ، وغنم.

وتارة يقولون : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أرسله إلى جمع من قضاعة ، ولم يذكر غيرهم.

١٨٦

ثم يقولون : إنه وطأ بلاد العدو ودوخها كلها ، حتى انتهى إلى موضع بلغه أنه قد كان به جمع ، فلما سمعوا به تفرقوا .. ثم سار حتى بلغ أقصى بلادهم ، فلقي هناك جمعا ليسوا بالكثير ، فاقتتلوا ساعة ، وحمل عليهم المسلمون فهزموهم وتفرقوا ..

ثم يذكرون : أنه أقام لا يسمع لهم بجمع ولا مكان صاروا فيه إلا قاتلهم. وكان يبعث أصحاب الخيل ، فيأتون بالشاء والنعم ، فكانوا ينحرون ويأكلون ، ولم يكن اكثر من ذلك ، ولم يكن في ذلك غنائم تقسم ، كذا قال جماعة.

ويقولون في مقابل ذلك : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أخبره أن الله سوف يغنمه في مسيره ذاك ..

فترى كيف أن التناقضات ظاهرة بين هذه النصوص بحيث لا مجال للملاءمة فيما بينها كما هو ظاهر.

غنائم عمرو المكذوبة :

وقد زعمت الروايات عن عمرو بن العاص نفسه : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دعاه ، وأمره أن يأخذ ثيابه وسلاحه ، وقال : يا عمرو ، إني أريد أن أبعثك على جيش ، فيغنمك الله ، ويسلمك.

فقلت : إني لم أسلم رغبة في المال.

قال : نعم المال الصالح للرجل الصالح (١).

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٩١ والمستدرك للحاكم ج ٢ ص ٢ وعن فتح الباري ج ٨ ص ٦٠ والأدب المفرد للبخاري ص ٧٢ وكنز العمال ج ١١ ص ٧٢٩ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٦ ص ١٤٣.

١٨٧

ونقول :

إن هذا الكلام غير صحيح ، إذ لو كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قال ذلك ، لكان قد تحقق ، ولكان عمرو قد أتى بغنائم تحقق ما وعده به النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، مع أنهم يقولون : إنه قد رجع خالي الوفاض من أي شيء من ذلك ، رغم أنهم يزعمون : أنه سار حتى انتهى إلى أقصى بلادهم ، ودوّخ عمرو ما هنالك. وأنه أقام أياما لا يسمع لهم بجمع ولا مكان صاروا فيه إلا قاتلهم.

«وكان يبعث أصحاب الخيل ، فيأتون بالشاء والنعم ، فكانوا ينحرون ويأكلون ولم يكن أكثر من ذلك. لم يكن في ذلك غنائم تقسّم. كذا قال جماعة» (١).

فأين كانوا يخبئون شاءهم ونعمهم يا ترى؟! أم أنهم كانوا يأخذونها معهم أينما ذهبوا ، وحيثما توجهوا؟!

أليس قد وطأ عمرو بلادهم بعساكره؟ ودوّخ تلك البلاد؟

ولماذا فشل في العثور عليها رغم إقامته أياما لا يسمع بجمع لهم إلا قصده؟!

ولماذا يأتي ـ كما يزعمون ـ ابن أبي حدرد وفي غزوة الغابة ، ورجلان معه بإبل عظيمة ، وغنم كثيرة ، ويأتي أبو قتادة في خمسة عشر رجلا فقط ،

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٦٨ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٧٠ و ٧٧١ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ٢٣ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٣١٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥١٧.

١٨٨

بألفي شاة ، ومئتي بعير ، حتى يحصل كل فرد بعد إخراج الخمس من تلك السرية على ثلاثة عشر بعيرا. ثم لا يصيب عمرو بن العاص في تلك البلاد كلها إلا بعض ما استفاده في طعامهم ، ولم يكن أكثر من ذلك.

إن هذا الأمر عجيب جدا ، وأي عجيب!!

وهل يعقل أن لا يصدق ما أخبره به رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من أن الله يغنمه ويسلمه ،؟! وهو الذي صرح القرآن بأنه : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١).

ألا يحق لنا بعد هذا كله ، أن نشك في كثير مما ينسبه ابن العاص لنفسه ، أو ينسبه له الناس؟!

ولماذا لا يكون عمرو بن العاص قد أراد أن يضع لنفسه أمجادا ، مكذوبة؟ حتى لو أدى ذلك إلى التشكيك بالنبوة والعياذ بالله؟!

وإذا كان هو الذي وضع هذه الأمور لصالح نفسه ، فالسؤال هو : كيف يكذب وهو صحابي؟! أليس الصحابة عدو لا كما يزعم هؤلاء؟!

لا تأمّرن على اثنين :

وقالوا أيضا :

روى ابن إسحاق ، ومحمد بن عمر ، عن رافع ما ملخصه قال : «كنت امرءا نصرانيا وسميت سرجس ، فلما أسلمت خرجت في تلك الغزوة التي بعث فيها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل».

__________________

(١) الآيتان ٣ و ٤ من سورة النجم.

١٨٩

قال : «فقلت : والله ، لأختارن لنفسي صاحبا».

قال : «فصحبت أبا بكر فكنت معه في رحله ، وكان ذا عباءة ، فدكية ، فكان إذا أنزلنا بسطها ، وإذا ركبنا لبسها ، ثم شكها عليه بخلال له.

وذلك الذي يقول أهل نجد ، حين ارتدوا كفارا : نحن نبايع ذا العباءة؟!

قال : «فلما دنونا من المدينة قافلين ، قلت : يا أبا بكر رحمك الله ، إنما صحبتك لينفعني الله تعالى بك ، فانصحني وعلمني».

قال : «لو لم تسألني ذلك لفعلت. آمرك أن توحد الله تعالى ، ولا تشرك به شيئا ، وأن تقيم الصلاة ، وأن تؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت ، وتغتسل من الجنابة ، ولا تتأمرن على رجلين من المسلمين أبدا».

إلى أن قال : ففارقته على ذلك ، فلما قبض رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، واستخلف أبو بكر على الناس قدمت عليه فقلت له : يا أبا بكر ، ألم تك نهيتني عن أن أتأمر على رجلين من المسلمين؟

قال : «بلى ، وأنا الآن أنهاك عن ذلك».

فقلت له : «فما حملك على أن تلي أمر الناس»؟

قال : «اختلف الناس ، وخشيت عليهم الهلاك».

وفي رواية : «الفرقة ، ودعوا إلي ، فلم أجد بدا من ذلك» (١).

ونقول :

إن لنا مع هذه القضية وقفات ، هي التالية :

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٦٩ و ١٧٠ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٧٢ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٠٤١.

١٩٠

نبايع ذا العباءة؟!

قد نقل ذلك الرجل عن أهل نجد أنهم حين رفضوا بيعة أبي بكر ، قالوا :

نبايع ذا العباءة؟!

ونقول :

إنه وإن كان يحتمل أن تكون كلمة «ذا العباءة» قد جاءت للإشارة إلى صاحبها ، ولكن من المحتمل جدا أيضا أن يكون هذا التعبير قد جاء على سبيل الاستصغار لشأن أبي بكر ، وإظهار الاستنكاف عن إعطاء البيعة له ..

وقد ظهر رفض البيعة لأبي بكر لدى قبائل كثيرة ، ولكن أبا بكر أصرّ على بسط نفوذه على تلك القبائل ، فكان يطالبهم بدفع الزكاة له .. فمن أبى منهم اتهمه بالكفر والارتداد ، وشن الحرب عليه ، وقتل الرجال ، وسبي النساء والأطفال ، واستولى على الأموال.

ولذلك يلاحظ : أنهم يطلقون على حروبهم لما نعي الزكاة عن أبي بكر ، اسم «حروب الردة» ، تعمية بذلك على الناس ، وسعيا في إبطال الحقائق ..

مع أن الحقيقة هي : أن هؤلاء لم يرضوا بمخالفة أمر الله ، ورد توجيهات رسوله في موضوع الإمامة .. خصوصا بعد يوم الغدير وبيعة عشرات الألوف من الناس لعلي «عليه‌السلام».

والظاهر : أن هؤلاء الذين ذكرهم رفيق أبي بكر ، كانوا من هؤلاء الذين أوقع بهم أبو بكر .. ولم يكونوا مرتدين على الحقيقة ، بل هم رفضوا الاعتراف بشرعية خلافته ، والرواية المتقدمة تدل على ذلك تلميحا ، فرغم نعتهم بالإرتداد إلا أنّ ما نسبه إليهم من قول لا يعدو كونه إعلانا برفض بيعة أبي بكر ، وقد امتنعوا عن إعطاء الزكاة له تعبيرا عن هذا الرفض ،

١٩١

فجعل ذلك أبو بكر ذريعة لاتهامهم بالارتداد ، وسببا للإيقاع بهم ، وقتلهم .. وقصة مالك بن نويرة معروفة ومشهورة ..

أما الذين ارتدوا بالفعل ، أو أعلنوا مناقضة هذا الذين .. فهم مسيلمة الكذاب ، والأسود العنسي ، وطليحة بن خويلد .. وهم إنما أعلنوا ذلك ، أو ارتدوا في عهد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، كما يعلم بالمراجعة ..

أبو بكر مجبر على الخلافة :

ولسنا بحاجة إلى التعليق على ما زعمه أبو بكر مبررا لقبوله للخلافة ، غير أننا نقول :

١ ـ إن الذي أو جد الخلاف بين الناس ، وكان هو الركن الرئيس فيه هو أبو بكر نفسه ، ومعه صاحبه عمر بن الخطاب.

وقد بادر هو إلى ابتزاز هذا الأمر من صاحبه الشرعي ، حتى قبل أن يدفن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. وهو الذي وراء حادث الهجوم على بيت فاطمة الزهراء «عليها‌السلام» ، ومحاولة إحراقه بالنار ، ثم ضربها في ذلك الهجوم ، وأسقاط جنينها ، إلى غير ذلك مما جرى عليها يعلمه القاصي والداني ..

٢ ـ أما اجتماع الأنصار في السقيفة ، فلم يكن يشكل أية خطورة على وحدة المسلمين ، بل كان أمرهم أهون مما نتصور ..

والدليل على ذلك : أن بضعة أشخاص قد لا يبلغ عددهم عدد أصابع اليد الواحدة ، قد سلبوا الأنصار المجتمعين في سقيفتهم ، وبحضور أكثريتهم ، ما كان سعد بن عبادة يطمح له ، وأراد أن يسبقهم بعد أن علم بتصميمهم على سلب هذا الأمر من صاحبه الشرعي ، وهو علي «عليه‌السلام».

١٩٢

والأشخاص الذين نتحدث عنهم ، والذين سلبوهم هذا الأمر هم أبو بكر ، وعمر ، وأبو عبيدة .. وعاونهم من الأنصار بشير بن سعد ، وأسيد بن حضير ..

وهؤلاء هم الفريق الذي كان الناس يعرفون أنهم مصممون على إبعاد علي «عليه‌السلام» عن حقه في هذا الأمر بكل ثمن ..

٣ ـ إن أبا بكر هو الذي بادر مع عمر وأبي عبيدة لا قتناص الخلافة من الأنصار ، ولم يطلب منه أحد منهم التدخل لحسم خلافهم فيه .. بل لم يكن قد ظهر بينهم فيه خلاف.

فما معنى قوله : إنه أراد حسم الخلاف في هذا الأمر ، وأنهم دعوا إليه ، فلم يجد بدا من ذلك؟!

٤ ـ إذا كان الاختلاف حول هذا الأمر قد بلغ حدا يخشى أبو بكر معه على الناس الهلاك ، فهل يعقل أن لا يكون هناك بيان من الله ورسوله حول هذا الأمر؟!

ألم يأمرهم الله سبحانه بالرجوع في الأمور التي يختلفون فيها إلى الله ورسوله ، فقال : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (١).

ومن الواضح : أن أعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة ، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان ..

__________________

(١) الآية ١٠ من سورة الشورى.

١٩٣

كما يقوله الشهرستاني (١).

وهل نسي الناس ما جرى في يوم الغدير ، الذي حصل قبل استشهاد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بسبعين يوما؟! وكذلك سائر مواقف رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الكثيرة ، وأقواله الغزيرة حول إمامة علي أمير المؤمنين «عليه‌السلام»؟!.

الأجرة على قسمة الجزور :

عن عوف بن مالك الأشجعي قال : «كنت في الغزاة التي بعث فيها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عمرو بن العاص ، وهي غزوة ذات السلاسل ، فصحبت أبا بكر وعمر ، فمررت بقوم وهم على جزور قد نحروها ، وهم لا يقدرون على أن يبعضوها. وكنت امرءا [لبقا] جازرا ، فقلت لهم : أتعطوني منها عشيرا على أن أقسمها بينكم؟

قالوا : نعم.

فأخذت الشفرة ، فجزأتها مكاني ، وأخذت جزءا ، فحملته إلى أصحابي ، فاطّبخناه وأكلناه.

فلما فرغوا قال لي أبو بكر وعمر : أنى لك هذا اللحم يا عوف؟

فأخبرتهما.

فقالا : والله ، ما أحسنت حين أطعمتنا هذا. ثم قاما يتقيآن ما في بطونهما منه.

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ج ١ ص ٢٤ وراجع : المهذب لابن البراج ج ١ ص ١٣ ودلائل الإمامة للطبري ص ١٦ وعن المراجعات ص ٥١.

١٩٤

فلما قفل الناس [من ذلك السفر]. كنت أول قادم على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فجئته وهو يصلي في بيته ، فقلت : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.

فقال : «أعوف بن مالك»؟

فقلت : نعم ، بأبي أنت وأمي.

فقال : «أصاحب الجزور»؟ ولم يزدني على ذلك شيئا (١).

ونقول :

لا ندري ماذا نقول حول هذا التقيؤ لما أكلاه ، وكأنهما يريدان إظهار الورع عن أن يرضيا بأن يستقر طعام فيه شبهة في بطونهما ، مع أنه لا مجال لادعاء الشبهة في ذلك اللحم ، فهو جعالة تراضى عليها الطرفان ، وقد أخذ عوف حقه الذي جعل له ..

ثم إننا لا ندري لما ذا يسألاه عن شأن ذلك اللحم قبل طبخه ، أو قبل أو حتى أثناء أكله؟!

بل أخرا السؤال إلى أن أكلا وشبعا ..

ولا ندري كذلك كيف يقفان عند شبهة لا حقيقة لها هنا ، ثم يقدمان على اغتصاب إرث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من ابنته فاطمة «عليها

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٧١ وقال في هامشه : أخرجه البيهقي في الدلائل ج ٤ ص ٤٠٢ عن طريق ابن إسحاق ، وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق ج ١ ص ٥٠.

وراجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٧٣ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٩١ وكنز العمال ج ٣ ص ٩٢٣ و ٩٢٤ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٣١٣ و ٣١٤ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٠٤٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٢٠.

١٩٥

السلام» ، وعلى اغتصاب فدك منها أيضا.

يضاف إلى ذلك : أنهما كانا يرتزقان من بيت المال ، الذي كان يحوي أموال مانعي الزكاة الذين قتلوهم ، وغنموا أموالهم مثل مالك بن نويرة وأضرابه؟!

ألا يرون في ذلك كله أية شبهة توجب تقيؤ ما يأكلانه من هذا وذاك؟! ولو بمقدار الشبهة في اللحم الذي كان لعوف بن مالك أجرة له على عمل قام به؟!

هذا كله ، عدا عن الشبهة في اغتصاب خلافة علي ، وفي ضرب الزهراء «عليهما‌السلام» ، وفي إسقاط جنينها ، وغير ذلك من أمور!

جنابة ، وصلاة :

وذكروا : أن جنابة أصابت عمروا في طريق العودة ، فتيمم وصلى بأصحابه (١) ، وقد حاول بعضهم أن يثير الإشكال في صحة الجماعة إذا كانت صلاة الإمام بالتيمم.

ولكن الصحيح هو : أنه يجوز للمتوضي أن يأتم بالجنب المتيمم فلا إشكال!

__________________

(١) راجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٧٣ و ٧٧٤ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٩١ وسنن الدار قطني ج ١ ص ١٧٨ والمستدرك للحاكم ج ١ ص ١١٧ والسنن الكبرى للبيهقي ج ١ ص ٢٢٥ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٧٠ وفي هامشه عن بعض من تقدم وعن مسند أحمد ج ٤ ص ٢٠٣ وعن أبي داود ج ١ ص ٣٣٤ و ٤٩٢ وتذكرة الفقهاء (ط ج) ج ٢ ص ١٥٧ والحدائق الناضرة ج ٤ ص ٣٢٥ وعوالي اللآلي ج ٢ ص ٢٠٩ وإيضاح الفوائد ج ١ ص ٦٦.

١٩٦

رواياتهم مزيفة :

قد ظهر مما تقدم : أن رواياتهم لما جرى في سرية ذات السلاسل مليئة بالأكاذيب ، حافلة بالادعاءات الباطلة ، التي تكذبها الوقائع ، ويدحضها المنطق السليم ، والاعتبار العقلائي القويم ..

غير أن بعض ما ذكروه ليس مكذوبا من أساسه ، بل هو صحيح في حد ذاته ، ولكنه حرّف وزيّف بصورة كبيرة.

الصورة الأوضح والأصرح :

ولكن ما لم يكن يدور في خلدنا هو أن يسقط هؤلاء الناس عمدة وأهم أحداث هذه السرية. وهو ذلك الجانب الذي يظهر أن ثمة أحداثا فريدة ومتميزة من شأنها أن تسوق الفكر إلى استقدام صور لأحداث مشابهة ، على سبيل تداعي المعاني ، ليتكون ـ من ثم ـ انطباع في غاية السلبية عن شخصيات كان لها أثر عظيم ، ولا يزال في تصورات وفي اعتقادات طائفة كبيرة من المسلمين ، مع مزيد من الاحترام والتقديس منقطع النظير ..

إن الصورة الحقيقية لما حدث تبين أن ما جرى في خيبر ، وفي فدك ، وفي قريظة ، قد تكرر في سرية ذات السلاسل أيضا ، حيث أرسل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» جيشه إلى ذات السلاسل ، وعلى رأسه قيادات لم تستطع أن تحقق نصرا ، فعادت تجر أذيال الخيبة ، حتى أرسل عليا «عليه‌السلام» ، ففتح الله على يديه ، وعاد بالخبر الأكيد ، والنصر الفريد ، والخبر السعيد .. فظهر بذلك فضله على من سواه. والله متم نوره ، ولو كره المشركون ، والكافرون ،

١٩٧

والحاقدون ، والشانئون ..

ونحن نذكر النصوص التي ذكرت ذلك ، ثم نشير إلى بعض ما يرتبط بها ، وذلك فيما يأتي من مطالب.

١٩٨

الفصل السادس :

الصورة الحقيقية لغزوة ذات السلاسل

١٩٩
٢٠٠