الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٠

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٠

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-192-0
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٥

فقال عمرو : «لا ، أنتم مدد لنا».

فلما رأى أبو عبيدة الاختلاف ، وكان رجلا لينا حسن الخلق سهلا ، هينا عليه أمر الدنيا ، يسعى لأمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وعهده ، قال : «يا عمرو ، تعلمن أن آخر شيء عهد إليّ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن قال : «إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا ولا تختلفا. وإنك والله إن عصيتني لأطيعنك».

وأطاع أبو عبيدة عمروا. فكان عمرو يصلي بالناس.

وقال عمرو : «فإني الأمير عليك وأنت مددي».

قال : «فدونك» (١).

وعن الشعبي مرسلا قال : «انطلق المغيرة بن شعبة إلى أبي عبيدة فقال :

إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد استعملك علينا ، وإن ابن فلان قد اتبع أمير القوم ، فليس لك معه أمر».

فقال أبو عبيدة : «إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أمرنا أن نتطاوع ، فأنا أطيع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وإن عصاه عمرو».

فأطاع أبو عبيدة عمروا ، فكان عمرو يصلي بالناس ، وصار معه خمسمائة.

فسار حتى نزل قريبا منهم ، وهم شاتون. فجمع أصحابه الحطب

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٦٧ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٧٠ و ٧٧١ وراجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٥ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٩٠ و ١٩١ وراجع : تاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ٢٢ و ٢٥ و ٢٦ وج ٢٥ ص ٤٤٩ وعن الإصابة ج ٣ ص ٤٧٧ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٣١٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥١٦ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٩٩.

١٦١

يريدون أن يوقدوا نارا ليصطلوا عليها من البرد ، فمنعهم ، فشق عليهم ذلك ، حتى كلمه في ذلك بعض المهاجرين ، فغالظه.

فقال له عمرو : «قد أمرت أن تسمع لي».

قال : نعم.

قال : فافعل (١).

وروى ابن حبان ، والطبراني برجال الصحيح ، عن عمرو بن العاص : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعثه في غزوة ذات السلاسل ، فسأله أصحابه : أن يوقدوا نارا ، فمنعهم. فكلموا أبا بكر ، فكلمه ، فقال : «لا يوقد أحد منهم نارا إلا قذفته فيها» (٢).

وروى الحاكم (٣) عن بريدة قال : «بعث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عمرو بن العاص في سرية فيهم أبو بكر ، وعمر بن الخطاب ، فلما انتهوا إلى مكان الحرب أمرهم عمرو ألا يوقدوا نارا ، فغضب عمر بن الخطاب ، وهمّ أن يأتيه ، فنهاه أبو بكر ، وأخبره أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٦٨ عن أحمد والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٧٠ و ٧٧١ وراجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٥ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ٢٢.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٦٨ وفي هامشه : عن الهيثمي في المجمع ج ٥ ص ٣٢٣ ، وقال : رواه الطبراني بإسنادين ، ورجال الأول رجال الصحيح.

والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٩١ وصحيح ابن حبان ج ١٠ ص ٤٠٤ وموارد الظمآن ص ٤٠٠ تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٧٥.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٦٨ وفي هامشه قال : أخرجه الحاكم ج ٣ ص ٤٢ في كتاب المغازي وقال : هذا الحديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي.

١٦٢

يستعمله إلا لعلمه بالحرب. فهدأ عنه (١).

وفي حديث بريدة : أن عمر أراد أن يكلم عمروا لما منع الناس أن يوقدوا نارا.

وفي حديث عمرو : أن أبا بكر كلم عمروا في ذلك.

ويجمع بين الحديثين : بأن أبا بكر سلم لعمرو أمره ، ومنع عمر بن الخطاب من كلامه ، فلما ألح الناس على أبي بكر في سؤاله سأله حينئذ فلم يجبه. ويحتمل أن منع أبي بكر لعمر بن الخطاب كان بعد سؤال أبي بكر لعمرو (٢).

وروى ابن حبان ، والطبراني عن عمرو بن العاص : أن الجيش لما رجعوا ذكروا لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» منعي لهم من إيقاد النار ، ومن اتباعهم العدو ، فقلت : يا رسول الله ، إني كرهت أن يوقدوا نارا فيرى عدوهم قلتهم ، وكرهت أن يتبعوهم ، فيكون لهم مدد ، فيعطفوا عليهم.

فحمد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أمره (٣).

فسار عمرو الليل ، وكمن النهار ، حتى وطئ بلاد العدو ودوخها

__________________

(١) وراجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٧٠ و ٧٧١ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٩١ وعن فتح الباري ج ٨ ص ٥٩ والنص والإجتهاد ص ٣٣٧ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ٤١ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٦ ص ١٤٦.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٧٣ وعن فتح الباري ج ٨ ص ٥٩

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٧١ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٩١ وعن فتح الباري ج ٨ ص ٥٩ وصحيح ابن حبان ج ١٠ ص ٤٠٤ وموارد الظمآن ص ٤٠٠ وكنز العمال ج ١٢ ص ٥٠١ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ٢٧ وج ٤٦ ص ١٤٤.

١٦٣

كلها ، حتى انتهى إلى موضع بلغه أنه قد كان به جمع ، فلما سمعوا به تفرقوا.

فسار حتى إذا انتهى إلى أقصى بلادهم ، ولقي في آخر ذلك جمعا ليسوا بالكثير ، فاقتتلوا ساعة ، وحمل المسلمون عليهم فهزموهم ، وتفرقوا (ورمي يومئذ عامر بن ربيعة بسهم ، فأصيب ذراعه).

ودوخ عمرو ما هنالك ، وأقام أياما لا يسمع لهم بجمع ولا مكان صاروا فيه [إلا قاتلهم].

وكان يبعث أصحاب الخيل فيأتون بالشاء والنعم ، فكانوا ينحرون ويأكلون ، ولم يكن أكثر من ذلك ، لم يكن في ذلك غنائم تقسم. كذا قال جماعة (١).

قال البلاذري : فلقي العدو من قضاعة ، وعاملة ، ولخم ، وجذام ـ وكانوا مجتمعين ـ ففضهم ، وقتل منهم مقتلة عظيمة ، وغنم.

وروى ابن حبان ، والطبراني ، عن عمرو : أنهم لقوا العدو ، فأراد المسلمون أن يتبعوهم فمنعهم.

وبعث عمرو عوف بن مالك الأشجعي بشيرا إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بقفولهم وسلامتهم ، وما كان في غزاتهم (٢).

__________________

(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٦٨ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ٢٣ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٣١٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥١٧ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٧١ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٣١.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٦٨ وراجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٧٠ و ٧٧١ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٣١ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٧٢.

١٦٤

ونقول :

إن لنا مع ما تقدم وقفات ، نجملها في ما يلي من مطالب :

تاريخ غزوة ذات السلاسل :

قالوا : إن غزوة ذات السلاسل كانت في جمادى الآخرة سنة ثمان (١).

وقيل : كانت سنة سبع ، وبه جزم ابن أبي خالد في صحيح التاريخ (٢).

ونقل ابن عساكر الاتفاق : على أنها كانت بعد غزوة مؤتة إلا أن ابن إسحاق قال قبلها (٣).

والظاهر : أن ذلك في غير رواية زياد البكائي ، التي نقلها ابن هشام في

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٦٧ و ١٧٢ عن ابن سعد ، وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٥ والمجموع ج ٢ ص ٢٨٤ ونيل الأوطار ج ١ ص ٣٢٤ ومستدرك سفينة البحار ج ٧ ص ٥٧٦ والديباج على مسلم ج ٥ ص ٣٧٣ وتاج العروس ج ٧ ص ٣٨٠ وعون المعبود ج ١ ص ٣٦٥ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٣١ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٧١ والقاموس المحيط ج ٣ ص ٣٩٧.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٧٢ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٥ والنص والإجتهاد ص ٣٣٦ عن السيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٢٧٢ و ٢٧٤ وعن الكامل لابن الأثير ج ٢ ص ١٥٦ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٩٠ وراجع : معجم قبائل العرب ج ٣ ص ٩٧٤ وعن فتح الباري ج ٨ ص ٥٨.

(٣) راجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٥ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٧٢ وقد نقل هذا الإتفاق عن ابن عسكر النووي في تهذيبه ، وابن حجر في فتح الباري ، وراجع : تاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ٢١ وشرح مسلم للنووي ج ١٥ ص ١٥٣ وعن فتح الباري ج ٨ ص ٥٨.

١٦٥

تهذيبه .. أما رواية زياد فذكرت ذات السلاسل بعد غزوة مؤتة (١).

مقصد السرية :

هل المقصود بذات السلاسل ، ماء وراء ذات القرى ، وذلك من المدينة على عشرة أيام؟ أو هو موضع بناحية الشام في أرض بني عذرة.

وفي سيرة ابن هشام : ماء بأرض جذام؟ (٢).

سراة المهاجرين والأنصار مع عمرو :

وقد زعموا : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد بعث عمروا في سراة المهاجرين والأنصار ، ثم ذكروا بعض أسماء هؤلاء. ثم لما استمد عمرو النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعث أبا عبيدة مددا له ، ومعه سراة المهاجرين ، وعدة من الأنصار (٣).

__________________

(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٧٢ عن تهذيب ابن هشام.

(٢) راجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٥ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٧٢ و ١٦٨ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٧٠ والمجموع ج ٢ ص ٢٨٤ ومستدرك سفينة البحار ج ٥ ص ٩٦ وشرح مسلم للنووي ج ١٥ ص ١٥٣ وعن عون المعبود ج ١ ص ٣٦٤ ومعجم البلدان ج ٣ ص ٢٣٣ و ٢٣٦ وعن البداية والنهاية ج ٥ ص ٢٣٨ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٧١ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤٣٥ والنهاية في غريب الحديث ج ٢ ص ٣٨٩ وعن فتح الباري ج ٨ ص ٥٨ وعون المعبود ج ١ ص ٣٦٤ ولسان العرب ج ١١ ص ٣٤٥ وتارج العروس ج ٧ ص ٣٨٠.

(٣) تقدم مصادر ذلك.

١٦٦

ونقول :

١ ـ إن ظاهر عباراتهم أن الثلاث مئة كانوا جميعا من سراة المهاجرين والأنصار ..

ولا ندري إن كان في المهاجرين والأنصار هذا المقدار من السراة؟! وإن كان ذلك فيهم ، فهل كانوا جميعا يستطيعون المشاركة في الحرب؟!

٢ ـ لماذا تخيّر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» خصوص السراة ليرسلهم مع عمرو؟! ..

مع أننا لم نجده قد فعل مثل ذلك مع غيره في أية غزوة أخرى ، لا قبل ذلك ولا بعده.

٣ ـ إن الذين عدوّهم من السراة ، والذين كانوا مع عمرو أيضا إنما كانوا باستثناء سعد بن عبادة من الذين يدورون في فلك غاصبي الخلافة بعد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أو من أقرب أعوانهم على هذا الأمر ، أو من مؤيديهم فيه ..

أما سعد بن عبادة ، فإن سعيه للاستئثار بهذا الأمر لنفسه .. يجعله في الجهة المناوئة لعلي «عليه‌السلام» ، فهم يقدرون له موقفه هذا ، وإن كانوا يكرهونه لأجل أنه لم يسلم بالخلافة لأبي بكر ، بل نافسه فيها ، ونابذه ، ولم يبايعه حتى اغتاله خالد بن الوليد بالشام .. ثم زعموا : أن الجن قتلته (١).

__________________

(١) راجع : الغدير ج ٧ ص ١٥٠ وج ٩ ص ٣٧٩ وطرائف المقال للبروجوردي ج ٢ ص ٨٦ عن البلاذري في تاريخه ، وحياة الإمام الحسين «عليه‌السلام» للقرشي ج ١ ص ٢٣٨ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٣٢١ وحاشية رد المحتار ج ١ ص ٣٧١ ومعجم رجال الحديث ج ٩ ص ٧٦ وإكمال الكمال ج ٣ ص ١٤١ وتاريخ مدينة

١٦٧

٤ ـ إن اللافت : أنهم حين ذكروا الذين كانوا مع أبي عبيدة قالوا : «بعث معه سراة المهاجرين ، كأبي بكر ، وعمر بن الخطاب ، وعدة من الأنصار» كما تقدم .. فالسراة حسب تعبيرهم هذا هم في المهاجرين فقط .. مثل أبي بكر وعمر .. أما الأنصار فلا سراة فيهم ، ولذلك جاء التعبير ليقول : «وعدة من الأنصار» ، فهل السبب في هذه المفارقة : أنه لم يكن في هؤلاء الأنصار من كان يظهر النصرة والتأييد والحماس لهم ، ولمشروعهم الرامي إلى غصب الخلافة من صاحبها الشرعي؟!

لا ندري!! ولعل الفطن الذكي يدري!!

علم عمرو بن العاص بالحرب :

وقد ذكروا : أن أبا بكر قال : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يستعمل عمروا إلا لعلمه بالحرب.

ونقول :

١ ـ إننا لم نعرف عن عمرو علما يذكر له بالحرب سوى أنه كان إذا دهمه أمر لا يقدر على دفعه ، اتقاه بعورته ، كما صنع في صفين ، فإنه خلّص نفسه من سيف علي «عليه‌السلام» بأن كشف عن عورته ، فأعرض عنه

__________________

دمشق ج ٢٠ ص ٢٤٣ وتهذيب التهذيب ج ٣ ص ٤١٢ والعبر وديوان لمبتدأ والخبر ج ٢ ق ٢ ص ٦٤ ومجمع الزوائد ج ١ ص ٢٠٦ وبغية الباحث ص ٣٨ والمعجم الكبير ج ٦ ص ١٦ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٠ ص ١١١ وعن أسد الغابة ج ٢ ص ٢٨٤ والبحار ج ٦ ص ٢٩٨.

١٦٨

علي ، فنجا عمرو بنفسه (١).

كما أنه لم يظهر منه في غزوة ذات السلاسل ما يدل على هذه المعرفة ، ولا على الشجاعة التي تحتاجها الحروب ، بل ظهر منه خلافها. وسنرى أنه لا صحة لما يدّعونه له من إنجازات فيها. وليس له في عهد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أثر آخر يستحق الذكر في حروبه في صفوف المسلمين. كما أنه لم يظهر له ما يشير إلى شيء من ذلك ، حين كان يقاتل في صفوف المشركين ..

٣ ـ إذا كان علم عمرو بن العاص بالحرب هو السبب في تأمير النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» له على السرية ، فلما ذا لم يؤمر من هم أعرف منه بأمر الحرب ، وأظهر شجاعة ، وأكثر مراسا؟!

ولا نريد أن نذكر : المقداد ، وأبا دجانة وأمثالهما ، بل نريد أن نخص بالذكر من يحبونهم .. وينسبون لهم البطولات في المواقف المختلفة ، مثل الزبير ، وخالد ، ومحمد بن مسلمة وسواهم ، ممن يزعمون : أن لهم سوابق مشهورة ومشهودة ، وآثار محمودة في هذا السبيل ..

٤ ـ من أين علم أبو بكر : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد ولى عمروا هذه السرية لعلمه بالحرب .. فلعله ولاه تألفا له؟! بل لعله ولاه ليفضح أمره فيما يدّعيه لنفسه من بطولات ، أو من إخلاص يدّعي أنه قد بلغ فيه حدا يجعله على استعداد للتضحية بكل غال ونفيس في سبيل هذا الدين؟!

__________________

(١) الغدير ج ٢ ص ١٦١ والبحار ج ٣٢ ص ٥١٢ و ٥٨٥ وصفين للمنقري ص ٤٠٧ وكتاب سليم بن قيس (بتحقيق المحمودي) ص ٣٣٩ وشرح النهج للمعتزلي ج ٨ ص ٦٠ والأخبار الطوال للدينوري ص ١٧٧ والمناقب للخوارزمي ص ٢٣٦ وعن مناقب آل أبي طالب ج ٢ ص ٣٦٠ والصراط المستقيم ج ٣ ص ٥٢.

١٦٩

فجاءت هذه القضية لتفضحه ، ولتكون بمثابة تحذير للناس من أن يخدعوا بكلامه ، ويصدقوه فيما يحاول أن يدلسه عليهم.

ورطة تأمير عمرو على الشيخين :

قال الصالحي الشامي :

«ليس في تأمير رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عمروا على أبي بكر وعمر تفضيله عليهما ، بل السبب في ذلك معرفته بالحرب ، كما ذكر ذلك أبو بكر لعمر ، كما في حديث بريدة ، فإن عمروا كان أحد دهاة العرب ، وكون العرب الذين أمره رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يستعين بهم أخوال أبيه ، كما ذكر في القصة ، فهم أقرب إجابة إليه من غيره».

وروى البيهقي ، عن أبي معشر ، عن بعض شيوخه : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : «إني لأؤمر الرجل على القوم ، وفيهم من هو خير منه ؛ لأنه أيقظ عينا ، وأبصر بالحرب» (١).

وعن أبي عثمان النهدي قال : سمعت عمرو بن العاص يقول : بعثني رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على جيش ذي السلاسل ، وفي القوم أبو بكر ، وعمر ، فحدثت نفسي أنه لم يبعثني على أبي بكر وعمر إلا لمنزلة عنده.

قال : فأتيته حتى قعدت بين يديه ، وقلت : يا رسول الله من أحب الناس؟

قال : «عائشة».

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٧٢ وفي هامشه عن دلائل النبوة للبيهقي ج ٤ ص ٤٠٠ وراجع : كنز العمال ج ٦ ص ٧٨ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ٢٤ وج ٤٦ ص ١٤٦.

١٧٠

قلت : إني لست أسألك عن أهلك.

قال : «فأبوها».

قلت : ثم من؟

قال : «عمر».

قلت : ثم من؟ حتى عد رهطا.

قلت في نفسي : لا أعود أسأل عن هذا ،

وفي رواية الشيخين : فسكتّ مخافة أن يجعلني في آخرهم (١).

ونقول :

١ ـ قد اتضح : أن المشكلة عند هؤلاء هو أن يتأمر عمرو بن العاص على أبي بكر وعمر ، فلا بد من إيجاد مخرج من هذه الورطة ، التي ربما تلقي بظلال غير مرغوب فيها على الهالة التي ينسجونها حول الشيخين ، وما لهما من مقام عند الله ورسوله ، وما لهما من ميزات وفضل في أنفسهما.

٢ ـ لقد أكد الحاجة إلى هذا المخرج ما يعرفونه في عمرو بن العاص ـ وهو من دهاة العرب ـ من قدرة على الاستفادة من هذا الأمر في خدمة طموحاته ورغباته .. وربما يكون غضب عمر السريع ، وبلا مبرر ظاهر ، في قضية المنع من إيقاد النار حتى احتاج إلى تهدئة إبي بكر ، ـ إن غضبه هذا

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٧١ وقال في هامشه : أخرجه البخاري ج ٥ ص ٦ ومسلم ، كتاب الفضائل ، وأحمد في المسند ج ٤ ص ٢٠٤ والسنن الكبرى ج ٦ ص ١٧٠ وراجع : تاريخ مدينة دمشق ج ٤٤ ص ٢٢٠ وج ٤٦ ص ٢٤٧ وعن فتح الباري ج ٧ ص ١٩ وتحفة الأحوذي ج ١٠ ص ٢٦٠ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٣١٤.

١٧١

قد جاء قبل أن يظهر له المخرج المناسب من هذه الورطة ، فلما أظهره أبو بكر له هدأ!!

ولو صحت قصة أبي عثمان النهدي (المحرفة) فإنها تكون شاهدا على هذا أيضا.

وقد جاء هذا المخرج على لسان أبي بكر تارة ، ثم جاء منسوبا إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تارة أخرى ..

وملخصه : أن الأمارة في السرايا لا تخضع لعنوان الفضل والمقام والكرامة عند الله تعالى.

بل ليس ميزانها هو الشجاعة والإقدام أيضا ، وإنما ميزانها العلم والبصر بالحرب ، ويقظة العين.

ولا مانع من التنازل عن هذه الأمور ، مع الاحتفاظ بعناوين الأفضلية في سائر الجهات ، التي يريدون تسويقها ، لكي ترشّح أبا بكر وعمر لمقام الخلافة بعد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

ولذلك هدأ عمر عند ما وجد لدى أبي بكر الرد الكافي ، والدواء الشافي. وهو قوله : إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يول عمروا إلا لعلمه بالحرب ..

ثم نسب أبو معشر إلى بعض شيوخه أنه زعم : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : «إني لأؤمر الرجل على القوم ، وفيهم من هو خير منه ، لأنه أيقظ عينا ، وأبصر بالحرب».

ثم سعوا إلى تضعيف مقولة علم عمرو بالحرب ، بمقولة أخرى ، لا تعطيه أية مزية ، سوى أن له أخوالا يحتاج الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى

١٧٢

الاستعانة بهم.

ولذلك زعموا : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إنما ولى عمروا في تلك الغزوة لأنه أراد منه وأمره أن يستعين بالعرب الذين هم أخوال أبيه ، وهم بنو بلي (١).

ونظن : أن موضوع الاستعانة بالأخوال قد اختلق في وقت متأخر ، ولعله لأجل تعمية الأمور على الأجيال الآتية .. وذلك لأن الناس الذين حضروا الواقعة لا يفيدهم هذا التوجيه ؛ إذ لا أساس له من الصحة ، فلا مجال للإعتذار به لهم ..

وأما حديث علم عمرو بالحرب ، فيمكن معالجته بادعاءات أو بأساليب أخرى ، بحسب ما يناسب كل فريق.

٣ ـ أما حديث أبي عثمان النهدي فهو يرويه عن ابن العاص نفسه ، وقد صاغه ابن العاص وفق هواه السياسي ، وقد ظهرت على هذا النص معالم التجني والافتراء.

ولكننا لا نستطيع أن نقطع : بأن عمروا هو الذي كذب هذا الحديث ، حيث إننا لا نملك الدليل القاطع على ذلك ..

بل نريد أن نقول : إننا نرجح أن يكون عمرو نفسه قد اصطنع هذا الحديث ، وذلك حين احتاج إلى التزلف للشيخين ، من أجل أن يحصل منهما

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٧٢ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ٢٧ وج ٤٦ ص ١٣٠ وعن أسد الغابة ج ٤ ص ١١٦ والنزاع والتخاصم للمقريزي ص ٧٦ وعن البداية والنهاية ج ٥ ص ٣٢٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤٣٥ وج ٣ ص ٥١٦ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٠٤٠.

١٧٣

على بعض ما يطمح إليه من مناصب وولايات .. وغنائم وإقطاعات.

٤ ـ إن حديث عمرو قد تضمن : أن أحب الناس إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عائشة ، فلما قال له : إني لست أسألك عن أهلك .. أخبره : أن أحب الناس إليه أبو بكر ، ثم عمر.

وروي عن عائشة وابن العاص : أنهما سألا رسول الله أي الناس أحب إليك؟

فقال : أبو بكر.

قالا : ثم من؟

قال : عمر.

فقال فتى من الأنصار : يا رسول الله ، فما بال علي؟

فقال له النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : ما ظننت أن أحدا يسأل عن نفسه (١).

مع أن عائشة تروي عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أن أحب الناس إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فاطمة «عليها‌السلام» من النساء ، وعلي «عليه‌السلام» من الرجال (٢). فأيهما نصدق؟ عائشة؟ أم عمرو بن العاص؟!

__________________

(١) شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني ج ٢ ص ٢٧٢ عن : السيوطي في كتاب اللآلي (ط ١) ج ١ ص ١٩٨ بطرق ثلاثة أو أربعة وروى بعضها أيضا تحت الرقم : (٣٦١) من باب فضائل علي «عليه‌السلام» من كنز العمال (ط ٢) ج ١٥ ص ١٢٥.

(٢) راجع المصادر التالية : المسترشد للطبري ص ٤٤٩ و ٤٥٠ وشرح الأخبار ج ١ ص ١٤٠ و ٤٢٩ وج ٣ ص ٥٥ ومناقب آل أبي طالب ج ٣ ص ١١١ والفضائل ص ١٦٩ والطرائف ص ١٥٧ وذخائر العقبى ص ٣٥ ص ٦٢ والبحار ج ٣٢ ص ٢٧٢ وج ٣٧ ص ٧٨ وج ٣٨ ص ٣١٣ وج ٤٣ ص ٣٨ و ٥٣ ومناقب أهل

١٧٤

وعن شريح بن هاني عن أبيه ، عن عائشة قالت : ما خلق الله خلقا كان أحب إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من علي بن أبي طالب (١).

ونبادر إلى القول : إننا لا بد أن نصدق عائشة ، لأن إجابة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لها قد فرضت عليها فرضا ، وجاءت على خلاف هواها ، لأنها في حق أناس تبغضهم ، وقد ظهر هذا البغض في حروب طاحنة أثارتها ضدهم.

أما عمرو بن العاص فقد جاء كلامه منسجما مع أهوائه ، وقد كان يرى : أن له مصلحة في تحريف الحقائق ، وإنكار فضائل علي «عليه‌السلام» ؛

__________________

البيت «عليهم‌السلام» للشيرواني ص ١٤٥ و ١٤٦ و ١٥١ و ٢٣٣ وخلاصة عبقات الأنوار ج ٢ ص ٣٠٢ والغدير ج ١٠ ص ٨٦ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٦٧٢ وسنن الترمذي ج ٥ ص ٣٦٢ والمستدرك للحاكم ج ٣ ص ١٥٧ ونظم درر السمطين ص ١٠٢ وخصائص أمير المؤمنين للنسائي ص ١٠٩ وتاريخ بغداد ج ١١ ص ٤٢٨ والمناقب للخوارزمي ص ٧٩ والبحار ج ٣ ص ١٥٧ وكنز العمال ج ١٣ ص ١٤٥ وتاريخ بغداد ج ١١ ص ٤٢٨ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٢ ص ٢٦١ و ٢٦٣ و ٢٦٤ وتهذيب الكمال ج ٥ ص ١٢٦ وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ١٢٥ و ١٣١ والجوهرة في نسب الإمام علي وآله «عليهم‌السلام» للبري ص ١٧ وإعلام الورى ج ١ ص ٢٩٥ والمناقب للخوارزمي ص ٧٩ وكشف الغمة ج ١ ص ٩٤ وج ٢ ص ٩٠ وجواهر المطالب في مناقب الإمام علي «عليه‌السلام» ج ١ ص ٥٣ وينابيع المودة للقندوزي الحنفي ج ٢ ص ٣٩ و ٥٥ و ١٥١ و ٣٢٠ واللمعة البيضاء للتبريزي ص ١٧٩ والنصائح الكافية لمحمد بن عقيل ص ٥٠.

(١) راجع : تاريخ مدينة دمشق ج ٤٢ ص ٢٦٠ وعن كفاية الطالب ص ١٨٤ وقال : هذا حديث حسن رواه ابن جرير في مناقبه ، وأخرجه ابن عساكر في ترجمته.

١٧٥

وكان يهمه أيضا منح الفضائل لأبي بكر وعمر ، لأن في ذلك إيذاء لعلي وأهل بيته «عليهم‌السلام» ، الذين شن هو ومعاوية الحروب الطاحنة عليهم ، ولأن ذلك يجلب له المنافع والمناصب ، وقد كان يملك مفاتيحها ، أبو بكر وعمر ، ومحبوهما.

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يتألف الناس بعمرو ، ويستنفر العرب :

وذكروا : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعث عمرو بن العاص في ثلاث مئة يستنفر العرب للشام ، وأمره أن يستعين بمن مر به من العرب من بليّ ، وعذره ، وبلقين. لأنه كان ذا رحم فيه لأن أم العاص كانت بلوية (١).

ونقول :

أولا : إننا لم نجد ما يدل على أن البلويين ، وعذرة ، وبلقين قد أعانوا عمروا في مهمته تلك. ولم يزد عدد من معه في سريته سوى أولئك الذين التحقوا به ممن جاؤوا من المدينة مع أبي عبيدة.

ثانيا : إن الكثيرين بين المسلمين كانوا ذوي رحم في تلك القبائل التي كانوا يسيرون لحربها بين الفينة والأخرى ، أو كانوا يمرون عليها في مسيرهم إلى حروبهم. فلما ذا لم يكن يوليهم أمارة الجيوش ليستميل بهم تلك القبائل ، ويستعين بها في حروبه تلك.

ثالثا : إن هذا النص يقول : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إنما بعث عمروا ليستنفر العرب إلى الشام ، ولم يبعثه ليحارب .. فهل تعدى أمر رسول الله

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٦٧ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ٢٢.

١٧٦

«صلى‌الله‌عليه‌وآله» وحارب من دون أن يكون مأمورا بذلك؟!.

رابعا : لماذا لم يستجب لعمرو أحد من العرب؟ فبقي في الثلاث مئة الذين جهزهم معه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ثم أضيف إليهم مئتان جهزهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إليه أيضا ، بقيادة أبي عبيدة؟!.

خامسا : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أرسل إلى مؤتة ثلاثة آلاف مقاتل ، وإلى خيبر ألفا وخمس مئة مقاتل ، وكان معه في الحديبية ، نحو ذلك أيضا ، ولم نسمع أنه أرسل يستنفر العرب لأي من هذه الوقائع ، وليس فيما بين أيدينا ما يشير إلى أن لدى قضاعة في بلاد الشام ما يخيف إلى هذا الحد ..

على أن الذين ذهبوا مع عمرو هم خمس مئة مقاتل فقط ، وقد زعموا : أنه دوخ بهم البلاد ، وجال في بلادهم حتى بلغ أقصاها .. ولم يحتج في سفره ذاك لأكثر من العدد الذي جهزه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. فلما ذا بعثه يستنفر العرب إلى الشام. إذا كان ذلك يكفيه ، ولا يحتاج على أحد ..

اللواء .. والراية :

قد ذكروا : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين أرسل عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل «عقد له لواء أبيض ، وجعل معه راية سوداء» (١).

ولا ندري لماذا كان ذلك؟! أي لما ذا أعطاه الإثنين معا؟

ولماذا اختلفت ألوانهما ، هذا أبيض ، وتلك سوداء؟!

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٩٠ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٣١ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ٢٢ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٧١ و ٣١٤ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٦٧.

١٧٧

فإن المفروض هو : أن تكون لمثل هذه الأفعال دلالاتها المفيدة لمعنى ظاهر ، إذ ليس ذلك من الأمور التعبدية .. ولا هو من الرسوم أو العادات المتبعة في الحروب ..

ونحن لم نفهم لضم الراية السوداء إلى اللواء الأبيض أي معنى ، لا بالنسبة للذين أرسلهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. ولا بالنسبة لقائدهم ، ولا فيما يرتبط بالتأثير على العدو في ميادين الحرب ، أو نحو ذلك.

غير أننا نظن أن ذلك من تفننات محبي عمرو بن العاص ، بهدف الإيحاء بأن له خصوصية مّا ، ولو بهذا المقدار الذي لا معنى له ، ولا طائل تحته.

هذا كله .. على فرض أن يكون ثمة اختلاف بين اللواء والراية ، مع أنه قد تقدم في غزوة أحد وفي غيرها : أنهما واحد ، وإن حاول بعضهم أن يدّعي خلاف ذلك ..

سراة المهاجرين والأنصار :

ويلفت نظرنا قولهم : «بعثه في ثلاث مئة من سراة المهاجرين والأنصار». ثم طلب منه عمرو المدد ، «فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح في ماءتين من سراة المهاجرين والأنصار ، وبينهم أبو بكر وعمر» (١).

وقد راجعنا كتب الحديث والسيرة والتاريخ ، فلم نجدهم ذكروا أسماء أحد من الصحابة ، تستطيع أن تبرر إطلاق وصف السراة ـ خصوصا بنظر

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٩٠ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٣١ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ٢٢ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٧١ و ٣١٤ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٦٧.

١٧٨

هؤلاء ـ سوى اسم رجلين كانوا وما زالوا يهتمون بهما ، ويحاولون تعظيمهما ، وهما أبو بكر ، وعمر ، الذين كانا مع أبي عبيدة ، الذي أرسله النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مددا لعمرو ، ولا نرى أن ذلك يبرر إطلاق هذا التعبير بهذه الطريقة التهويلية ، إلا على قاعدة : «من أجل عين ألف عين تكرم». كما أن التعبير ب «السراة» فيه تعظيم وتفخيم لعمرو وأبي عبيدة.

خصوصا مع علمنا : بأن مجموع عدد الصحابة قليل وليس فيهم هذا العدد الضخم من السراة ، فإن السرى هو العظيم في قومه.

ووجود خمس مئة سري إنما يتوقع في أمة تعد بعشرات الألوف ، وقد قلنا : إن عدد المسلمين كان قليلا وضئيلا جدا كما هو معلوم ..

الإختلاف على الصلاة؟ أم على الإمارة؟!

١ ـ إن من الواضح : أن صلاة الجماعة منوطة في مذهب أهل البيت «عليهم‌السلام» بثقة المأموم بعدالة الإمام ، وليست منوطة بالإمارة على الجند ، ولا على غيرهم ، ولا بأي منصب آخر .. فمن وثق به الناس جاز لهم أن يأتموا به في الجماعة .. وقد يأتمون اليوم بشخص ، ثم يأتمون غدا بغيره ..

كما أن أغلب أهل السنة والجماعة يجيزون إمامة الفاسق : استنادا إلى ما رووه عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : صلوا خلف كل بر وفاجر (١).

__________________

(١) راجع : سنن أبي داود كتاب الصلاة : الباب ٦٣ وجامع الخلاف والوفاق ص ٨٤ وفتح العزيز للرافعي ج ٤ ص ٣٣١ والمجموع للنووي ج ٥ ص ٢٦٨ ومغني المحتاج للشربيني ج ٣ ص ٧٥ والمبسوط السرخسي ج ١ ص ٤٠ وتحفة الفقهاء للسمرقندي ج ١ ص ٢٢٩ وبدائع الصنائع لأبي بكر الكاشاني ج ١ ص ١٥٦ ـ

١٧٩

فلا مكان للاختلاف والتنازع في هذا الأمر ، فما معنى تنازع أبي عبيدة ، وعمرو بن العاص فيه؟ كما لا مجال للاستدلال على الأحقية بإمامة الصلاة بأن هذا أمير ، وذاك ليس بأمير ، كما أن هذا لا يدخل في باب التشاح إمامة الصلاة لأجل الحصول على الثواب ، لأن اختلافهم إنما هو على الأحقية بها ، حيث إن كلا منهما يدّعيها لنفسه دون الآخر ، ولأجل هذا وذاك نقول :

ألا يدل ذلك على انهم إنما يتنازعون على أمر يرون فيه مكسبا دنيويا؟!

٢ ـ إننا حين نتأمل في النصوص التي نقلت لنا هذا الحدث نلاحظ : أن موضوع الإمامة في الصلاة كان هو الواجهة ، وأن مصبّ الاختلاف كان أمرا آخر ، سرعان ما ظهرت دلائله ، ونشرت أعلامه ، ألا وهو الإمارة على السرية نفسها ، حيث فهم عمرو بن العاص : أن تصدي أبي عبيدة لإمامة

__________________

والجوهر النقي للمارديني ج ٤ ص ١٩ والبحر الرائق لابن نجيم المصري ج ١ ص ٦١٠ وتلخيص الحبير ج ٤ ص ٣٣١ ونيل الأوطار ج ١ ص ٤٢٩ وشرح أصول الكافي ج ٥ ص ٢٥٤ والمسترشد للطبري والإفصاح للشيخ المفيد ص ٢٠٢ والمسائل العكبرية للشيخ المفيد ص ٥٤ والطرائف لابن طاووس ص ٢٣٢ وعوالي اللآلي ج ١ ص ٣٧ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٤ ص ١٩ وعمدة القاري للعيني ج ١١ ص ٤٨ وتأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص ١٤٥ وسنن الدار قطني ج ٢ ص ٤٤ وتنقيح التحقيق في أحاديث التعليق للذهبي ج ١ ص ٢٥٦ و ٢٥٧ ونصب الراية ج ٢ ص ٣٣ و ٣٤ والدراية في تخريج أحاديث الهداية ج ١ ص ١٦٨ والجامع الصغير للسيوطي ج ٢ ص ٩٧ وكنز العمال ج ٦ ص ٥٤ وكشف الخفاء للعجلوني ج ٢ ص ٢٩ و ٣٢ وشرح السير الكبير للسرخسي ج ١ ص ١٥٦.

١٨٠