الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٠

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٠

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-192-0
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٥

عن خالد بن الوليد قال : لما أصيب زيد بن حارثة أتاه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فجهشت بنت زيد في وجه رسول الله ، فبكى «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حتى انتحب (أي رفع صوته في البكاء).

فقال له سعد بن عبادة : يا رسول الله ، ما هذا؟!

قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : هذا شوق الحبيب إلى حبيبه (١).

وعن الإمام السجاد «عليه‌السلام» : ما من يوم أشد على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من يوم أحد ، قتل فيه عمه حمزة بن عبد المطلب ، أسد الله ، وأسد رسوله.

وبعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمه جعفر بن أبي طالب.

ثم قال «عليه‌السلام» : لا يوم كيوم الحسين ، ازدلف إليه ثلاثون ألف رجل الخ .. (٢).

__________________

و (ط ق) ج ١ ص ٥٦ والحدائق الناضرة ج ٤ ص ١٦٣ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ٣ ص ٢٨٠ و (ط دار الإسلامية) ج ٢ ص ٩٢٢ ومسكن الفؤاد للشهيد الثاني ص ٦٩ ونهاية الأحكام ج ٢ ص ٢٨٩ والذكرى للشهيد الأول ص ٧٠.

(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٤ مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٤٦٥ ومكارم الأخلاق ص ٢٢ ومسكن الفؤاد للشهبد الثاني ص ٩٦ والبحار ج ١٦ ص ٢٣٥ و ٢٣٦ والإخوان لابن أبي الدنيا ص ١٥٢ وفيض القدير ج ٣ ص ٦٩٥ والدرجات الرفيعة ص ٤٣٩ والطبقات الكبرى ج ٣ ص ٤٧ وتاريخ مدينة دمشق ج ١٩ ص ٣٧١ وسير أعلام النبلاء ج ١ ص ٢٣٠.

(٢) أمالي الصدوق ص ٣٧٤ المجلس السبعون و (ط مؤسسة البعثة) ص ٥٤٧

١٤١

وعن العباس بن موسى بن جعفر قال : سألت أبي «عليه‌السلام» عن المأتم ، فقال : إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لما انتهى إليه قتل جعفر بن أبي طالب دخل على أسماء بنت عميس امرأة جعفر ، فقال : أين بني؟!

فدعت بهم ، وهم ثلاثة : عبد الله ، وعون ، ومحمد. فمسح رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رؤوسهم ، فقالت : إنك تمسح رؤوسهم كأنهم أيتام!

فعجب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من عقلها ، فقال : يا أسماء ، الم تعلمي أن جعفرا رضوان الله عليه استشهد؟!

فبكت ، فقال لها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : لا تبكي ، فإن الله أخبرني أن له جناحين في الجنة من ياقوت أحمر.

فقالت : يا رسول الله ، لو جمعت الناس وأخبرتهم بفضل جعفر ، لا ينسى فضله.

فعجب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من عقلها.

ثم قال : ابعثوا إلى أهل جعفر طعاما فجرت السنة (١).

وقالوا أيضا : لما قتل جعفر بمؤتة ، أمهل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» آل جعفر أن يأتيهم ثلاثة أيام ، فندبوا.

ثم قال : لا تبكوا على أخي بعد اليوم ، وقال : إن له جناحين يطير بهما

__________________

والبحار ج ٢٢ ص ٢٧٤ وج ٤٤ ص ٢٩٨ والعوالم (الإمام الحسين «عليه‌السلام») للبحراني ص ٣٤٨ و ٣٤٩ ومقتل الحسين «عليه‌السلام» لأبي مخنف ص ١٧٦ والأنوار العلوية للنقدي ص ٤٤٢.

(١) البحار ج ٢١ ص ٥٥ وج ٧٦ ص ٨٣ والمحاسن للبرقي ج ٢ ص ٤٢٠ الحديث رقم ١٩٤ وراجع : مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٤٧٣.

١٤٢

حيث شاء من الجنة (١).

لا تقولي هجرا ، ولا تضربي صدرا :

١ ـ إن المصائب التي تحل بالناس ، ولا سيما فقد الأحبة ، قد تخرجهم عن حالة التوازن ، فتصدر منهم بعض التصرفات غير المقبولة ولا المعقولة .. فإذا تركوا ، فقد يتفاقم الأمر ، ليص إلى حد الخروج عن دائرة الشرع وأحكام الدين ..

ولذلك ، كان من المستحسن إذا ظهرت بوادر هذا الاختلال ، المبادرة إلى وضع حد يمنع من الانسياق مع أجواء الانفعال هذه لتبقى الأمور تحت السيطرة ، وفي دائرة الانضباط ..

والظاهر : أن ما ظهر من أسماء بنت عميس في حضرة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حين أخبرها باستشهاد زوجها جعفر بن أبي طالب يدخل في هذا السياق ، فإن صياحها بحضرة الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، واجتماع النساء إليها قد أظهر أنها قد تخرج تحت تأثير الفاجعة عن حدود

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٥ والمجموع للنووي ج ١ ص ٢٩٦ والشرح الكبير لابن قدامة ج ١ ص ١٠٦ ونيل الأوطار ج ١ ص ١٥٥ وذخائر العقبى ص ٢١٩ وعن مسند أحمد ج ١ ص ٢٠٤ وسنن أبي داود ج ٢ ص ٢٨٨ وسنن النسائي ج ٨ ص ١٨٢ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١٥٧ وعن فتح الباري ج ٧ ص ٣٩٤ والسنن الكبرى للنسائي ج ٥ ص ١٨٠ و ٤٠٧ ورياض الصالحين للنووي ص ٦٤٥ والطبقات الكبرى ج ٤ ص ٣٧ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٧ ص ٢٥٥ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٨٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٧٦.

١٤٣

الاتزان المعقول والمقبول في كلامها ، وفي حركتها الإنفعالية التصعيدية ..

فبادر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى وضع حد لهذا التصعيد حين جعل يقول لها : لا تقولي هجرا ، ولا تضربي صدرا .. مع ملاحظة : أن سياق هذا التعبير يعطي أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد كرر قوله هذا لها.

٢ ـ يضاف إلى ما تقدم : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يعلم : أن الناس يتعاملون مع أقواله ، وأفعاله ، وكل ما يفعل بحضرته مع سكوته عنه ، وقدرته على القبول والرد .. على أنه مسنون ومشروع ..

فإذا لطمت أسماء صدرها بحضرته ، وسكت عنها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. فسيفهم الناس أن ذلك مما يشرع أو يسنّ في الشريعة بالنسبة إلى كل بيت ، وقد يدخل ذلك في صميم عادات الناس وممارستهم حين يفقدون أحدا من أعزائهم.

مع أن الشهيد الذي يحسن إظهار الجزع في مأتمه ، ويكون لطم الصدور فيه راجحا هو الإمام الحسين «عليه‌السلام» ، لأن في ذلك قوة للدين ، وترسيخا للإيمان واليقين .. فلا بد من حفظ الخصوصية له صلوات الله وسلامه عليه من أجل ذلك ..

فالنهي عن لطم الصدر هنا لا يعني أنه حرام ، بل هو هنا لأجل أن لا يستفاد من ذلك مطلوبية هذا الأمر ، بالنسبة لكل من مات أو استشهد ..

على مثل جعفر فلتبك البواكي :

١ ـ ثم إن هناك نوعا من الناس يحمل مزايا فريدة ، ويتميز بإنسانية عالية وكاملة ورائدة ، وأمثولة للفضيلة حية ، فإذا مات أو استشهد فلا بد أن

١٤٤

يبكيه الناس كلهم ، لأن فقده يعنيهم كلهم. وخسارة لهم جميعا ..

وقد بين النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مواصفات هؤلاء الناس من خلال النموذج الذي قدمه لهم على أنه يحمل هذه المزايا والمواصفات ، وذلك حين قال : على مثل جعفر فلتبك البواكي (١).

فالبكاء على جعفر إنما هو لأجل ما ذكرناه ، لا لأنه في نسبه قريب أو صاحب أو حبيب.

وقد أوضح نص آخر : أن هذه المزايا لا حد لها ولا حصر لها في شخصية جعفر «عليه‌السلام».

فقد روي أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال لفاطمة «عليها‌السلام» ، حين قتل جعفر بن أبي طالب : لا تدعي بذل ، ولا ثكل ، ولا حرب. وما قلت فيه فقد صدقت (٢).

__________________

(١) قاموس الرجال ج ٢ ص ٦٠٣ وشرح أصول الكافي للمازندراني ج ٧ ص ١٩٠ وعن ذخائر العقبى ص ٢١٨ والبحار ج ٢٢ ص ٢٧٦ وج ٢٣ ص ٥٥٦ والنص والإجتهاد ص ٢٩٦ وعن أسد الغابة ج ١ ص ٢٨٩ وأنساب الأشراف ص ٤٣ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٦٥ و ٦٦ والمصنف للصنعاني ج ٣ ص ٥٥٠ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٧١ والجامع الصغير ج ٢ ص ١٥٩ وكنز العمال ج ١١ ص ٦٦٠ وعن فيض القدير ج ٤ ص ٤٢٧ والطبقات الكبرى ج ٨ ص ٢٨٢ وتهذيب الكمال ج ٥ ص ٦١ وينابيع المودة ج ٢ ص ٩٦.

(٢) من لا يحضره الفقيه ج ١ ص ١٢٦ الحديث رقم ٥٢١ والبحار ج ٢١ ص ٥٧ عن إعلام الورى ص ١١١ و ١١٢ ومن لا يحضره الفقيه ج ١ ص ١٧٦ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ٣ ص ٢٧٢ و (ط الإسلامية) ج ٢ ص ٩١٥ ومجمع ـ

١٤٥

فهذه العبارة الأخيرة قد أفسحت المجال لكل قول يبين سجايا جعفر ومزاياه الفاضلة ، مهما كان نوع ومستوى ما يقال من تلك السجايا والمزايا. لأن كل ما يقال فيه من فضل ، فهو صدق وحق وعدل ..

وهذه المزايا إذا اجتمعت وتكاملت في أي كان من الناس ، فإنه يصبح مثلا أعلى ، وأسوة وقدوة ، يحس الناس كلهم بالحاجة إليه ، ويكون إلحاق الأذى به بمثابة التعدي عليهم ، وإلحاق الأذى بهم كلهم.

فلماذا إذن لا يبكون إذا فقد ، ولا يحنون إليه إذا غاب.

٢ ـ ومن جهة ثانية إن هذه الكلمة وكذا النصوص المصرحة ببكاء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على جعفر «عليه‌السلام» ، وزيد بن حارثة «رحمه‌الله» ، قد جاءت لتؤكد على مشروعية البكاء على الميت ، بل على مطلوبيته بالنسبة لبعض من يموت أو يستشهد ، من الأتقياء الأبرار ، والعلماء الأخيار .. فلا يصح ما يزعمونه من المنع عن ذلك ، وقد أشرنا إلى هذه الحقيقة في أكثر من موضع من هذا الكتاب.

مدى حزن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على جعفر :

وإذا أردنا أن نتصور مدى حزن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على جعفر ، فعلينا أن نتذكر عودة جعفر من الحبشة ، فقد كان سرور النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بقدومه منها يوازي سروره بفتح الله خيبرا على يد أخيه علي «عليه‌السلام» ، أو يزيد عليه ..

__________________

البحرين ج ١ ص ٣١٧ ومنتهى المطلب (ط ق) ج ١ ص ٤٦٧ وتذكرة الفقهاء (ط ق) ج ١ ص ٥٥ و (ط ج) ج ٢ ص ١١٧.

١٤٦

فإن ذلك يعطي انطباعا عن مستوى ، ومقدار حزنه على هذا الرجل الذي أشبه خلقه وخلقه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فإن مقدار الحزن لا بد أن يوازي مقدار السرور هناك ..

وخصوصا إذا كان شرار الخلق قد هتكوا حرمته ، حتى قضى شهيدا ، وبالأخص بعد قطع يديه ، وما جرى عليه ، حتى إن الطعنات التي وجدت في مقدم جسده باتت تعد بالعشرات حسبما تقدم ..

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بدون جعفر وعلي عليهما‌السلام :

قال المسعودي : «وكان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعد أن قتل جعفر بن أبي طالب الطيار ، بمؤتة من أرض الشام ، لا يبعث بعلي في وجه من الوجوه ، إلا ويقول : (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) (١)» (٢).

ونقول :

أما بالنسبة لجعفر فقد ذكرنا في حديثنا عن غزوة خيبر شبهه برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وما كان له من قيمة عند الله ، أما علي فقد صرح القرآن الكريم : بأنه «عليه‌السلام» هو نفس رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حيث قال في آية المباهلة :

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ

__________________

(١) الآية ٨٩ من سورة الأنبياء.

(٢) مروج الذهب للمسعودي ج ٢ ص ٤٣٤.

١٤٧

عَلَى الْكاذِبِينَ) (١).

وقد أكد ذلك النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في عشرات النصوص ، في العديد من المناسبات ، وذلك كله يبين : أن فقد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لجعفر ولعلي «عليهما‌السلام» معناه : أن لا يبقى له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نظير على وجه الأرض ، ولذلك ، كان يظهر شعوره بقيمة علي «عليه‌السلام» ، ويعتبر أن فقده لعلي «عليه‌السلام» سيجعله فردا وحيدا في هذه الحياة ، ولا يعود له وارث في الأرض ..

فكان لا يبعث عليا «عليه‌السلام» في وجه من الوجوه إلا ويقول : (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) (٢).

حديث عائشة في بكاء النساء :

وربما يقال : قد روي في هذه المناسبة ما يدل على عدم صحة البكاء على الأموات ، كما ذكرته عائشة فيما رواه الواقدي عنها ، فقد قالت : لما قدم نعي جعفر عرفنا في وجه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الحزن.

قالت : قديما ما ضرّ الناس التكلف ؛ فأتاه رجل فقال : يا رسول الله ، إن النساء عنّيننا مما يبكين.

قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «ارجع إليهن فأسكتهن ، فإن أبين فاحث في أفواههن التراب».

فقلت في نفسي : أبعدك الله! فو الله ما تركت نفسك ، وما أنت بمطيع

__________________

(١) الآية ٦١ من سورة آل عمران.

(٢) الآية ٧٨ من سورة الأنبياء.

١٤٨

رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وروى الواقدي أيضا عن عائشة : «أنا أطّلع من صير الباب فأسمع هذا» (١).

ونقول :

إنه يمكن قبول هذه الرواية ، إذا كان ذلك الرجل يريد أن يشتكي من أن بكاء النساء قد تجاوز الحدود المعقولة وصار يوجب إلحاق العناء بالناس ، كما صرحت به الرواية.

أو أنه صار كأنه يمثل نوعا من الاعتراض على الله سبحانه ..

أو أنه بلغ حدا من شأنه أن يضر بمعنويات المجتمع الإسلامي ، ويوهن من عزيمته ، ويحد من الإقبال على الجهاد في سبيل الله .. فلا بد من التصدي لهذه المبالغات لتعود الأمور إلى مجراها الطبيعي.

وهذه الاحتمالات معقولة ، ومقبولة ، وتنسجم مع سائر ما دل على جواز البكاء على الأموات.

غير أن في النص أمرا آخر ، لا بد من الوقوف عنده ، وهو أن عائشة تقول : إنها كانت تسمع هذا وهي تطّلع من صير الباب. حيث إننا لا نظن أن يرضى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بهذا العمل منها .. ولو أنه رآها تفعل ذلك ، أو أن أحدا ذكر له ذلك عنها لزجرها وأنبها ، وأعلن عن عدم رضاه

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٦٧ و ٧٦٨ وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٨ والبداية والنهاية لابن كثير ج ٤ ص ٢٨٧ ومسند ابن راهويه ج ٢ ص ٤١٣ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٨٣٥ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٧٥.

١٤٩

بهذه الجرأة ، وبهذا التجسس عليه ، الهادف إلى الإطلاع على ما يريد ستره عنها ، وهو أمر قد نهى عنه القرآن ، وأكدت على رفضه وأدانته كلمات رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في المناسبات المختلفة.

أسماء وتعريف الناس بفضل جعفر :

وقد صرحت الروايات المتقدمة : بأن أسماء قد طلبت من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أن يعلم الناس بما حبا الله تعالى به جعفرا «عليه‌السلام» ، فأجاب طلبها رضوان الله تعالى عليها ، وأخبر الناس من على منبره بذلك.

ونقول :

لقد أظهرت أسماء عقلا راجحا ، واتزانا واضحا ، حين طلبت من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يذكر للناس فضل جعفر ، كما صرحت به الرواية المتقدمة عن الإمام الكاظم «عليه‌السلام» ، لأن هدف أسماء رحمها الله تعالى لم يكن هو الفخر ، والتباهي أمام الناس بهذا العطاء الإلهي لجعفر «عليه‌السلام» ، لتكون قد استغلت دمه الشريف لأهداف دنيوية ، وإثارات فارغة ..

بل كان هدفها :

أولا : أن يستفيد الناس من هذه الأمثولة الرائدة المزيد من الاندفاع للتضحية ، والبذل والعطاء في سبيل الله تعالى. وأن يتضاعف حرصهم على نيل المقامات السامية ، والحصول على المزيد من التطهير والتزكية لنفوسهم وقلوبهم.

ثانيا : إنها أرادت أن تبين للناس : أن ما يثيره الحاقدون من أجواء

١٥٠

تشكيكية بفضل جعفر «عليه‌السلام» ، وبهجرته وجهاده ، ما هو إلا سموم تنضح من أنياب أفاع يلذ لها أن تنهش بأجساد الأخيار والأبرار ، وان ما تظهره تلك الأراقم من لين الجانب ونعومة الملمس إنما يخفي وراءه السم الناقع ، والغدر الذميم والبغيض.

ولأجل ذلك استجاب لها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولم نلاحظ أن لديه أي تحفظ على ما طلبته ، ولو أنه شعر بأنها تسعى لنيل شيء من حطام الدنيا ، حتى لو كان ذرة من حب التفاخر والتباهي لأظهر لها ذلك ، ولكان وعظها وحذّرها ، ولرفض طلبها ، إذ لا يمكن أن يرضى لنفسه أن يكون له أي أثر في تمكينها من تحقيق أهداف من هذا القبيل.

ويعزز هذا الذي نقوله : أن أسماء كانت معروفة بالعقل والإتزان ، وبالالتزام والتقوى. ولم يلاحظ أحد على سلوكها وتصرفاتها أنها ممن كان يسعى لا ستجلاب المنافع الدنيوية لنفسها.

بل الظاهر من حالها وحياتها هو : مراعاة أحكام الشرع ، والاهتمام بما يرضي الله سبحانه ..

ويدل على ذلك : ما روي من شهادة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لها بأنها من أهل الجنة ، أو من المؤمنات (١). وأن نجابة ولدها محمد بن أبي بكر أتت

__________________

(١) تنقيح المقال ج ٣ ص ٦٩ والخصال ص ٣٦٣ وشرح الأخبار للقاضي النعمان ص ٥٧ والبحار ج ٢٢ ص ١٩٥ و ٢٩١ وفضائل الصحابة ص ٨٦ والسنن الكبرى ج ٥ ص ١٠٣ والمعجم الكبير ج ١١ ص ٣٢٨ وج ٢٤ ص ١٣٢ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٢٦٠ والمستدرك للحاكم ج ٤ ص ٣٢ والآحاد والمثاني ج ٥ ص ٤٥٦ والجامع لأحكام القرآن ج ٥ ص ٣٤٦ وكنز العمال ج ١٢ ص ١٣٨ ـ

١٥١

من قبلها (١).

على أن الوقت الذي طلبت فيه أسماء رحمها الله من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يعرف الناس بفضل جعفر ، كان وقت وقوع الصدمة عليها ، وهو الوقت الذي تلتهب فيه المشاعر إلى أقصى مدى ، فلا يبقى مجال للتفكير في أمثال هذه القضايا ، أو الانسياق وراء هذه الأوهام.

إتخاذ الطعام في أيام العزاء سنة :

قال السهيلي معلقا على حديث الطعام لأبناء جعفر «عليه‌السلام» : هو أصل في طعام التعزية ، ويسميه العرب «الوضيمة».

كما تسمي طعام العرس : «الوليمة».

__________________

وتاريخ مدينة دمشق ج ٣ ص ٢٣٤ وأنساب الأشراف ص ٤٤ وعن الإصابة ج ٨ ص ٤٥٠ والطرائف ص ٢٤٩ ومستدرك سفينة البحار ج ١ ص ٧٤ وج ٥ ص ١٧٧ ومعجم رجال الحديث ج ٢٤ ص ١٩٥ واللمعة البيضاء للأنصاري ص ٨٣٩ ومواقف الشيعة ج ٢ ص ٤٠٦ وتهذيب الكمال ج ٣٥ ص ٢٩٨ وتهذيب التهذيب ج ١٢ ص ٣٩٩ والجامع لأحكام القرآن ج ٥ ص ٣٤٦ وجامع الأحاديث والمراسيل ج ٣ ص ٤٤٣ والفتح الكبير ج ١ ص ٥٠٥ وعن الإستيعاب ج ٤ ص ٢٠١.

(١) تنقيح المقال ج ٣ ص ٦٩ والإختصاص (ط مؤسسة النشر الإسلامي) ص ٧٠ وإختيار معرفة الرجال (ط مؤسسة آل البيت) ج ١ ص ٢٨١ والبحار ج ٣٣ ص ٥٨٤ و ٥٨٥ ومجمع البحرين ج ١ ص ٥٧١ والوسائل (ط دار الإسلامية) ج ٢٠ ص ٢٠٩ والإختصاص ص ٧٠ ومستدرك سفينة البحار ج ٥ ص ١٧٧ ومعجم رجال الحديث ج ١٥ ص ٢٤٢.

١٥٢

وطعام القادم من السفر : «النقيعة».

وطعام البناء : «الوكيرة» (١).

والدليل الصحيح والأدق في موضوع طعام التعزية هو ما روي عن الإمام جعفر الصادق «عليه‌السلام» قال : «لما مات جعفر بن أبي طالب أمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فاطمة «عليها‌السلام» أن تتخذ طعاما لأسماء بنت عميس ، وتأتيها ونساؤها ثلاثة أيام ، فجرت بذلك السنة : أن يصنع لأهل الميت ثلاثة أيام طعام» (٢).

زيارة عوائل الشهداء :

وقد أظهرت النصوص المتقدمة : أن سيد الرسل وأفضل الخلق «صلى

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٨

(٢) البحار ج ٢١ ص ٥٤ و ٥٥ وج ٧٦ ص ٧٢ و ٨٢ و ٨٣ عن أمالي الطوسي ص ٥٧ و ٥٨ وعن المحاسن ص ٤١٩ وعن الكافي (الفروع) ج ١ ص ٥٩ والحدائق ج ٤ ص ١٥٨ و ١٦٠ وغنائم الأيام ج ٣ ص ٥٦٠ عن : (الكافي ج ٣ ص ٢١٧ ح ٢١ ومن لا يحضره الفقيه ج ١ ص ١١٦ ح ٥٤٩ والمحاسن ص ٤١٩ ح ١٩١ والوسائل ج ٢ ص ٨٨٨ أبواب الدفن ب ٦٧).

وراجع : تذكرة الفقهاء (ط ق) ج ١ ص ٥٧ ونهاية الحكام ج ٢ ص ٢١٢ والذكرى ص ٧٠ والحبل المتين ص ٧٤ ومن لا يحضره الفقيه ج ١ ص ١١٢ و ١٨٢ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ٣ ص ٢٣٦ وج ٢٤ ص ٣٦٤ و (ط دار الإسلامية) ج ٢ ص ٨٨٨ وج ١٦ ص ٤١٢ وأمالي الطوسي (ط دار الثقافة ـ قم) ص ٦٥٩ وشجرة طوبى ج ٢ ص ٣٠٠ وسنن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للطباطبائي ص ٢٥٤ ومنتهى الجمان ج ١ ص ٣٠٤.

١٥٣

الله عليه وآله» ، الذي كان لا يتعامل مع الأمور بمنطق العشائرية والقبلية ، بل بروح رسالية ، وتوجيه إلهي كان يزور بيوت الشهداء ، ويواسي عوائلهم ، ويجهش بالبكاء ، ويشاركهم فيما يظهرونه من أسى وألم ..

الأمر الذي يجسد رقته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وحنانه ، ورأفته ، كما أنه يؤكد رعايته ، وأبوته لتلك العوائل بصورة عملية وواقعية.

ثم هو يدلل على درجة عالية من الإخاء والمصافاة والوفاء .. بين الناس وبين موقع القيادة ، حتى على مستوى النبوة الخاتمة ، حيث إن هذا النبي الكريم والعظيم يعامل من يقر بنبوته ، ويتبع رسالته بهذه الروح ، بعيدا عن أي حالة تشي بتمييز نفسه عنهم ، أو حتى بأية خصوصية له دونهم ، فهو فيهم كأحدهم ، يفرح لفرحهم ، ويحزن لحزنهم ، وتندمج روحه بأرواحهم حبا ، ويذيبها الحنين إليهم شوقا.

شهداء في قبر واحد ، وإخفاء القبر :

قال ابن عنبة : «دفن جعفر ، وزيد بن حارثة ، وعبد الله بن رواحة في قبر واحد ، وعمي القبر» (١).

ولم تبذل محاولة حقيقية لتحديد موضع دفنهم رضوان الله تعالى عليهم إلا في العصور المتأخرة ..

وقد كان من الطبيعي : أن يعمّى موضع قبور الشهداء ، فإن المنطقة قد بقيت في يد الأعداء ، إلى ظهر الإسلام فيها ، ولكن لم يكن هؤلاء

__________________

(١) عمدة الطالب ص ٣٦.

١٥٤

المسلمون ممن يهتمون بإظهار أمر آل أبي طالب ، بل كان اهتمامهم منصبا على ما يناقض ذلك ..

وقد أخفي قبر علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» حوالي مئة سنة إلى أن أظهره الإمام الصادق «عليه‌السلام» في عهد المنصور العباسي.

كيف وقد نبش الحجاج ثلاثة آلاف قبر من أجل أن يعثر على جسد علي «لكي يحرقه» ، ولا يبقي له أثرا ، فلم يمكنه الله من ذلك (١).

وقد أخفي قبر زيد بن علي ، ثم لما عرف صلبوه سنوات ، ثم أحرقوه (٢).

وعلينا أن لا ننسى قبر الزهراء «عليها‌السلام» الذي لا يزال مجهولا إلى يومنا هذا.

ولعلها حين ارادت إعلان الاحتجاج على الذين آذوها وضربوها ، وأسقطوا جنينها ، واغتصبوا منها فدكا وسواها ..

أرادت أيضا : أن تحفظ جثمانها الطاهر من أن يتعرض للنبش والهتك من قبل من حاول نبش قبر ولدها الإمام الحسين «عليه‌السلام» ، وزوجها علي ، ونبش قبر حفيدها زيد ، كما هو ظاهر.

__________________

(١) روضات الجنات ج ٢ ص ٥٤ وراجع : تفسير القرآن الكريم (تفسير أبي حمزة الثمالي) ص ٧٥.

(٢) شجرة طوبى ج ١ ص ١٤٣ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٣ ص ١٠٠ والإيضاح لابن شاذان هامش ص ٣٩٩ وعن الكامل لابن الأثير ج ٥ ص ٩٠ والكافي ج ٨ ص ٢٥١.

١٥٥
١٥٦

الفصل الخامس :

صورة موهومة لسرية ذات السلاسل

١٥٧
١٥٨

غزوة ذات السلاسل :

قال ابن عقبة ، وابن إسحاق ، وابن سعد ، ومحمد بن عمر ، واللفظ له : «بلغ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن جمعا من قضاعة يريدون أن يدنوا الى أطراف مدينة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فدعا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عمرو بن العاص بعد إسلامه بسنة».

وعند ابن إسحاق : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعث عمروا يستنفر العرب إلى الشام ، فعقد له لواء أبيض ، وجعل معه راية سوداء ، وبعثه في ثلاثمائة من سراة المهاجرين ، (منهم : عامر بن ربيعة ، وصهيب ، وسعيد بن زيد ، وسعد بن أبي وقاص) والأنصار ، (منهم : أسيد بن حضير ، وعباد بن بشر ، وسلمة بن سلامة ، وسعد بن عبادة) وأمره أن يستعين بمن مرّ به من العرب : من بلي ، وعذرة ، وبلقين.

وذلك أن عمروا كان ذا رحم فيهم ، كانت أم العاص بن وائل بلوية ، فأراد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يتألفهم بعمرو (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٦٧ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٧٠ وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٩٠ وعن زاد المعاد ج ١ ص ١١١٨ و ١١٣٩ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٦٧ وعن فتح الباري ج ٨ ص ٥٩ والطبقات الكبرى

١٥٩

وفي حديث بريدة عند إسحاق بن راهويه : أن أبا بكر قال : «إن عمروا لم يستعمله رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلا لعلمه بالحرب». انتهى.

وكان معه ثلاثون فرسا ، فكان يكمن النهار ويسير الليل ، حتى إذا كان على ماء بأرض جذام ، يقال له : السلاسل ـ ويقال : السلسل ، وبذلك سميت الغزوة ذات السلاسل ـ (وقيل : سميت بذلك لأن المشركين ارتبط بعضهم إلى بعض ، مخافة أن يفروا) (١). بلغه أن لهم جمعا كثيرا ، فبعث عمرو رافع بن مكيث الجهني إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يخبره أن لهم جمعا كثيرا ويستمده.

فبعث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أبا عبيدة بن الجراح ، وعقد له لواء ، وبعث معه سراة المهاجرين ، كأبي بكر وعمر بن الخطاب ، وعدة من الأنصار. وأمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أبا عبيدة أن يلحق بعمرو بن العاص ، وأن يكونا جميعا ولا يختلفا.

وكان أبو عبيدة في مائتي رجل حتى لحق بعمرو. فلما قدموا أراد أبو عبيدة أن يؤم الناس ، فقال عمرو : «إنما قدمت عليّ مددا لي ، وليس لك أن تؤمني وأنا الأمير».

فقال المهاجرون : «كلا بل أنت أمير أصحابك وهو أمير أصحابه».

__________________

ج ٢ ص ١٣١ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ٢٢ وتاريخ المدينة لابن أبي شبة ج ١ ص ٣٠١ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٧١ وعمدة القاري ج ١٨ ص ١٢.

(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٥ وعن فتح الباري ج ٨ ص ٥٨ وتاريخ المدينة لابن أبي شبة ج ١ ص ٣٠٢ وسبل الهدى ج ٦ ص ١٧٢ وعمدة القاري ج ١٨ ص ١٢ وج ١٦ ص ٧٠ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ١٩٨.

١٦٠