الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٠

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٠

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-192-0
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٥

وروى البيهقي عن ابن عقبة ، قال : «قدم يعلى بن أمية على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بخبر أهل مؤتة ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : إن شئت أخبرني ، وإن شئت أخبرك بخبرهم.

قال : بل أخبرني يا رسول الله ، فأخبره رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» خبرهم كله.

فقال : والذي بعثك بالحق ، ما تركت من حديثهم حرفا واحدا لم تذكره ، وإن أمرهم لكما ذكرت.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «إن الله عزوجل رفع لي الأرض حتى رأيت معتركهم ، ورأيتهم في المنام على سرر من ذهب ، فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سريري صاحبيه ، فقلت : عم هذا؟.

فقيل لي : مضيا ، وتردد بعض التردد ، ثم مضى» (١).

ونقول :

١ ـ قد يكون النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أخبر كلا الرجلين يعلى بن أمية ، وعبد الرحمن بن سمرة ، بما جرى في مؤتة ..

٢ ـ إن ما ورد في رواية الزهري من أن زيدا كان أول من أخذ اللواء لا

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٣ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٤٧ و (ط دار إحياء التراث العربي) ص ٢٨٠ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١٦٠ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٨ و ٦٩ وراجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٣ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٦٩ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٨ ص ١٢١ وأسد الغابة ج ٣ ص ١٥٩ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٨٣٤ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٦٨ والسيرة النبوية ج ٣ ص ٤٦٣.

١٢١

يصح .. بل كان جعفر بن أبي طالب هو الأول كما تقدم.

٣ ـ قد تضافرت الروايات : في أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد نعى لأهل المدينة القادة الثلاثة ووصف لهم ما جرى قبل وصول الخبر إليهم (١) ، لأن الله تعالى قد رفع له الأرض حتى رأى معتركهم كما في حديث يعلى بن أمية ..

وعن الإمام الصادق «عليه‌السلام» قال : بينا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في المسجد إذ خفض له كل رفيع ، ورفع له كل خفيض حتى نظر إلى جعفر «عليه‌السلام» وهو يقاتل الكفار ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : قتل جعفر. وأخذه المغص (٢).

__________________

(١) إعلام الورى ص ١١١ و (ط مؤسسة آل البيت) ج ١ ص ٢١٣ عن صحيح البخاري ، والبحار ج ٢١ ص ٥٦ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٤ ص ٧٠ وج ٨ ص ١٥٤ وعن مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٧٧ وعن ذخائر العقبى ص ٢١٨ وعن صحيح البخاري (ط دار الفكر) ج ٤ ص ١٨٤ والسنن الكبرى للنسائي ج ١ ص ٦١٦ وج ٤ ص ٢٦ والمعجم الكبير ج ٢ ص ٢٠٥ ودلائل النبوة للأصبهاني ص ٩٠ وراجع : شرح الأخبار ج ٣ ص ٢٠٦ والغدير ج ٦ ص ١٦٢ ومسند أبي يعلى ج ٧ ص ٢٠٥ وكنز العمال ج ١٠ ص ٥٦٢ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٤ ص ٣٩ والكامل لابن عدي ج ٢ ص ٢٧٦ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ١٨ وج ١٦ ص ٢٣٧ وج ٢٨ ص ١٢٧ وتهذيب الكمال ج ١٤ ص ٥٠٨ وعن البداية والنهاية (وط دار إحياء التراث) ج ٤ ص ٢٨١ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٦٣ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٣.

(٢) الكافي ج ٨ ص ٣٠٨ الحديث رقم ٥٦٥ و (ط دار الكتب الإسلامية) ص ٣٧٦ والبحار ج ٢١ ص ٥٨ وشرح أصول الكافي ج ١٢ ص ٥٣٨ والأنوار العلوية ص ١٩.

١٢٢

والذي نريد أن نقرره هنا : هو أن رؤية النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لأهل مؤتة ، ورفع كل خفيض ، وخفض كل رفيع من الأرض له ليس بالأمر الخارج عن سياق الحركة الطبيعية بالنسبة إليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. بل هو جار وفق ما رسمه الله تعالى لنبيه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من وظائف ، وقرره من مهمات ، وهيأ له كافة القدرات والوسائل التي تمنحه القدره على إنجازها .. فإن مقام الشاهدية على الأمة وعلى الأنبياء السابقين «عليهم‌السلام» الذي نطق به القرآن وهو من شؤون النبوة الخاتمة يقضي بتحقق هذا الشهود النبوي المباشر لما جرى في مؤتة ..

فأما شاهديته على هذه الأمة فقد أشير إليه في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ، وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) (١).

وقال سبحانه : إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا (٢).

وعن شاهديته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على الأنبياء «عليهم‌السلام» قال تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (٣).

وقال سبحانه : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) (٤).

وهذه الشاهدية تعني رؤية «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأعمال العباد ، وبكل ما يقع في دائرة مسؤولياته ، على مستوى الحضور والشهود وقد يسرها الله

__________________

(١) الآية ٤٥ و ٤٦ من سورة الأحزاب.

(٢) الآية ٨ من سورة الفتح.

(٣) الآية ٤١ من سورة النساء.

(٤) الآية ٨٩ من سورة النحل.

١٢٣

له حين جعله يرى من خلفه ، وتنام عيناه ولا ينام قلبه ، إذ لولا ذلك لم يتمكن من الشهادة على الناس في حال نومه ، أو حين يكونون خلف ظهره.

ولا بد أن يكون من وسائل ذلك أيضا : أن يرفع له الخفيض من الأرض ، ويخفض الرفيع ، بمعنى أن لا تمنعه الحواجز من مشاهدة أعمالهم ، وأن يتمكن من رؤية نواياهم ، ويطّلع على حالاتهم النفسية ، فيرى الحب والبغض ، والغبطة والحسد ، والفرح والحزن ، وما إلى ذلك ، وأن يكون مجهزا بما يمكنه من الإحاطة بذلك كله بالنسبة إلى الأمة بأسرها ، حتى بعد استشهاده «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

بل لا بد أن يكون له درجة أو نوع من الحضور والشهود بالنسبة للأنبياء السابقين «عليهم‌السلام» ، ليتمكن من أن يشهد على أعمالهم في يوم القيامة ، وفق ما دلت عليه الآيات المشار إليها ..

وهذا معناه : أن له حياة من نوع ما ، حتى في تلك الأحقاب والأزمان ، يمكن أن يصدق معها قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أو «كنت نبيا (أو نبئت) وآدم بين الروح والجسد» (١).

__________________

(١) الإحتجاج ج ٢ ص ٢٤٨ والفضائل لابن شاذان ص ٣٤ والبحار ج ١٥ ص ٣٥٣ وج ٥٠ ص ٨٢ والغدير ج ٧ ص ٣٨ وج ٩ ص ٢٨٧ ومسند أحمد ج ٤ ص ٦٦ وج ٥ ص ٥٩ و ٣٧٩ وسنن الترمذي ج ٥ ص ٢٤٥ ومستدرك الحاكم ج ٢ ص ٦٠٩ ومجمع الزوائد ج ٨ ص ٢٢٣ وتحفة الأحوذي ج ٧ ص ١١١ وج ١٠ ص ٥٦ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٨ ص ٤٣٨ والآحاد والمثاني ج ٥ ص ٣٤٧ وكتاب السنة لابن أبي عاصم ص ١٧٩ والمعجم الأوسط ج ٤ ص ٢٧٢ والمعجم الكبير ج ١٢ ص ٧٣ وج ٢٠ ص ٣٥٣ والجامع الصغير ج ٢ ص ٢٩٦ وكنز

١٢٤

٤ ـ وآخر ما نحب الإشارة إليه هنا : هو أن النبي الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يريد أن يحفظ إيمان الناس ، وأن يربط على قلوبهم ، ويقوي من عزيمتهم من خلال ربطهم بالغيب ، وإفهامهم أنهم في موضع رعاية الله ، وفي محل عنايته .. وأن تضييع النصر الأكبر على يد خالد لا يعني أن يهيمن عليهم الشعور بالخيبة ، وأن يستسلموا لمشاعر الفشل. فإن الله الذي يرفع كل وضيع ، ويخفض كل رفيع من الأرض لنبيه «صلى‌الله‌عليه‌وآله»

__________________

العمال ج ١١ ص ٤٠٩ و ٤٥٠ وتذكرة الموضوعات للفتني ص ٨٦ وكشف الخفاء ج ٢ ص ١٢٩ وخلاصة عبقات الأنوار ج ٩ ص ٢٦٤ عن ابن سعد ، ومستدرك سفينة البحار ج ٢ ص ٣٩٢ و ٥٢٢ عن كتاب النكاح ، وعن فيض القدير ج ٥ ص ٦٩ وعن الدر المنثور ج ٥ ص ١٨٤ وفتح القدير ج ٤ ص ٢٦٧ والطبقات الكبرى ج ١ ص ١٤٨ وج ٧ ص ٥٩ والتاريخ الكبير للبخاري ج ٧ ص ٢٧٤ وضعفاء العقيلي ج ٤ ص ٣٠٠ والكامل لابن عدي ج ٤ ص ١٦٩ وج ٧ ص ٣٧ وعن أسد الغابة ج ٣ ص ١٣٢ وج ٤ ص ٤٢٦ وج ٥ ص ٣٧٧ وتهذيب الكمال ج ١٤ ص ٣٦٠ وسير أعلام النبلاء ج ٧ ص ٣٨٤ وج ١١ ص ١١٠ وج ١٣ ص ٤٥١ ومن له رواية في مسند أحمد ص ٤٢٨ وتهذيب التهذيب ج ٥ ص ١٤٨ وعن الإصابة ج ٦ ص ١٨١ والمنتخب من ذيل المذيل ص ٦٦ وتاريخ جرجان ص ٣٩٢ وذكر أخبار إصبهان ج ٢ ص ٢٢٦ وعن البداية والنهاية ج ٢ ص ٢٧٥ و ٢٧٦ وص ٣٩٢ وعن الشفا بتعريف حقوق المصطفى ج ١ ص ١٦٦ وعن عيون الأثر ج ١ ص ١١٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ١ ص ٢٨٨ و ٢٨٩ و ٣١٧ و ٣١٨ ودفع الشبه عن الرسول ص ١٢٠ وسبل الهدى والرشاد ج ١ ص ٧٩ و ٨١ و ٨٣ وج ٢ ص ٢٣٩ وعن ينابيع المودة ج ١ ص ٤٥ وج ٢ ص ٩٩ و ٢٦١.

١٢٥

قادر على إسقاط جبروت الملوك ، وتحطيم كبريائهم الظالم ..

يا فرّار!! :

وعلى كل حال ، فإن الهاربين بقيادة خالد حين اقتربوا من المدينة لقيهم الصبيان يشتدون ، ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مقبل مع القوم على دابة ، فقال : خذوا الصبيان فاحملوهم ، واعطوني ابن جعفر ، فإتي بعبد الله بن جعفر ، فأخذه فحمله بين يديه (١).

وروى إسحاق ، عن عروة ، قال : لما أقبل أصحاب مؤتة ، تلقاهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والمسلمون معه (٢).

قال : وجعل الناس يحثون على الجيش التراب ، ويقولون : يا فرار ، فررتم في سبيل الله!!

قال : فيقول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «ليسوا بالفرّار ولكنهم

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٩ وعن تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٢٣ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٨٣ و ٢٨٩ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٨٣٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٦٩ و ٤٧٩.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٥ و ١٥٦ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٩ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٢ والبحار ج ٢١ ص ٥٤ وعن تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٢٣ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٨٣ و ٢٨٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٦٩ و ٤٧٨ وإعلام الورى ص ١١١ و ١١٢ و (ط مؤسسة آل البيت لإحياء التراث) ج ١ ص ٢١٥ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٨٣٦.

١٢٦

الكرّار إن شاء الله تعالى» (١).

وروي نحو ذلك : عن أبي سعيد الخدري (٢).

وروى أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجة عن عبد الله بن عمر قال : «كنت في سرية من سرايا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فحاص الناس وكنت فيمن حاص (٣).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٥ و ١٥٦ والطبقات لابن سعد ج ٢ ق ١ ص ٩٣ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٩ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٢ والبحار ج ٢١ ص ٥٧ عن إعلام الورى ص ١١١ و ١١٢ و (ط مؤسسة آل البيت) ج ١ ص ٢١٥ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٦٤ و ٧٦٥ وعن تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٢٣ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٨٣ و ٢٨٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٦٩ و ٤٧٩ وعن مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٧٧ والبحار ج ٢١ ص ٥٧ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٨٣٦.

(٢) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٦٤ و ٧٦٥.

(٣) كتاب الأم للشافعي ج ٤ ص ١٨٠ والمجموع للنووي ج ١٩ ص ٢٩١ ونيل الأوطار ج ٨ ص ٧٩ والمسند للشافعي ص ٢٠٧ وعن مسند احمد ج ٢ ص ٧٠ وسنن أبي داود ج ١ ص ٥٩٦ وسنن الترمذي ج ٣ ص ١٣٠ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ٧٦ وتحفة الأحوذي ج ٥ ص ٣٠٩ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٧ ص ٧٣٣ والأدب المفرد ص ٢٠٩ ومسند أبي يعلى ج ١٠ ص ١٢٨ والمنتقى من السنن المسندة ص ٢٦٣ وتفسير الميزان ج ٩ ص ٥٨ وعن تفسير القرآن العظيم ج ٢ ص ٣٠٦ وعن الدر المنثور ج ٣ ص ١٧٤ وفتح القدير ج ٢ ص ٢٩٥ وتاريخ مدينة دمشق ج ٥١ ص ٢٦٦ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٨٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٧٠ وسبل الهدى والرشاد ج ١ ص ٤٩٦ وج ٦ ص ١٥٦ وج ٧ ص ١٥١.

١٢٧

وفي رواية : فلما لقينا العدو في أول غادية ، فأردنا أن نركب البحر ، فقلنا : كيف نصنع وقد فررنا من الزحف؟

ثم قلنا : لو دخلنا المدينة (قتلنا) ، فقدمنا المدينة في نفر ليلا ، فاختفينا.

ثم قلنا : لو عرضنا أنفسنا على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فاعتذرنا إليه ، فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا.

فأتيناه قبل صلاة الغداة ، فخرج فقال : «من القوم»؟

قلنا : نحن الفرارون.

قال : «بل أنتم الكرارون ، وأنا فئتكم ..».

أو قال : «وأنا فئة كل مسلم».

قال : فقبلنا يده (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٧ ص ١٥١ وج ٦ ص ١٥٦ وقال في هامشه : أخرجه أبو داود ج ٢ ص ٥٢ ح ٢٦٤٧ والترمذي ج ٤ ص ١٨٦ ح ١٧١٦ وأحمد في المسند ج ٢ ص ١١١ والبيهقي في السنن ج ٩ ص ٧٨ وأبو نعيم في الحلية ج ٩ ص ٥٧ وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٩ وراجع : الأحكام ليحيى بن الحسين ج ٢ ص ٥٠٢ والمجموع للنووي ج ١٩ ص ٢٩١ ونيل الأوطار ج ٨ ص ٧٩ و ٨٠ وفقه السنة ج ٢ ص ٦٥٣ وعن مسند أحمد ج ٢ ص ٧٠ و ١١١ وسنن أبي داود ج ١ ص ٥٩٦ وسنن الترمذي ج ٣ ص ١٣٠ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ٧٦ و ٧٧ وتفة الأحوذي ج ٧ ص ٤٣٧ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٧ ص ٧٣٣ والأدب المفرد للبخاري ص ٢٠٩ وتفسير مجمع البيان ج ٩ ص ٥٨ والجامع لأحكام القرآن ج ٧ ص ٣٨٣ وعن تفسير القرآن العظيم ج ٢ ص ٣٠٦ وعن الدر المنثور ج ٣ ص ١٧٤ وفتح القدير ج ٢ ص ٢٩٦ وتاريخ مدينة دمشق ج ٥١ ص ٢٦٦ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٨٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٧٠.

١٢٨

حدثني داود بن سنان قال : سمعت ثعلبة بن أبي مالك يقول : انكشف خالد بن الوليد يومئذ ، حتى عيروا بالفرار ، وتشاءم الناس به (١).

قال الواقدي أيضا : حدثني خالد بن إلياس ، عن أبي بكر بن عبد الله بن عتبة ، يقول : ما لقي جيش بعثوا معنا ما لقي أصحاب مؤتة من أهل المدينة ، لقيهم أهل المدينة بالشر ، حتى إن الرجل لينصرف إلى بيته وأهله ، فيدق عليهم الباب ، فيأبون أن يفتحوا له ، يقولون : ألا تقدمت مع أصحابك؟

فأما من كان كبيرا من أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فجلس في بيته استحياء ، حتى جعل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يرسل إليهم رجلا رجلا ، يقول : أنتم الكرار في سبيل الله! فخرجوا (٢).

حدثني مصعب بن ثابت ، عن عامر بن عبد الله بن الزبير ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، قال :

كان في ذلك البعث سلمة بن هشام بن المغيرة ، فدخلت امرأته على أم سلمة زوج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فقالت أم سلمة : ما لي لا أرى سلمة بن هشام؟ أشتكى شيئا؟

قالت امرأته : لا والله ، ولكنه لا يستطيع الخروج. إذا خرج صاحوا به وبأصحابه : «يا فرار ، أفررتم في سبيل الله؟ حتى قعد في البيت.

فذكرت ذلك أم سلمة لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال رسول

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٦٤ والبحار ج ٢١ ص ٦٢ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٧٠.

(٢) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٦٤ و ٧٦٥ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٢٣ والبحار ج ٢١ ص ٥٩ وشرح النهج ج ١٥ ص ٧٠.

١٢٩

الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بل هم الكرار في سبيل الله ، فليخرج! فخرج (١).

حدثني خالد بن إلياس ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، قال : كنا نخرج ونسمع ما نكره من الناس ، لقد كان بيني وبين ابن عم لي كلام ، فقال : إلا فرارك يوم مؤتة! فما دريت أي شيء أقوله له.

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : رؤوف رحيم :

ونقول تعليقا على ما تقدم :

لقد عرف الناس كلهم هذا النبي الكريم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالرحمة والرأفة بالمؤمنين ، وبمناهضة التعدي والظلم ، من أي إنسان على أي كان من الناس ..

وقد نوه القرآن الكريم بهذه الخصال فيه ، ومدحه عليها ، بل أظهر بما لا يقبل الشك أنها متجذرة في أعماق أعماقه ، حتى ليكاد يظن بعض الناس من ذوي الأفهام القاصرة : أنها قد تجاوزت حدود ما هو مطلوب ..

قال تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (٢).

__________________

(١) عن السيرة النبوية ج ٤ ص ٣٠ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٢٣ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٦٤ وراجع : سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٦ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٢ وعن أسد الغابة ج ٥ ص ٦٢٥ وعن الإصابة ج ٣ ص ١٣١ وعن تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٢٣ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٨٤ وعن السيرة النبوية لابن هشام ص ٨٣٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٧١.

(٢) الآية ٥٩ من سورة آل عمران.

١٣٠

وقال سبحانه : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١).

غير أننا نلاحظ : أن أهل المدينة يخرجون لاستقبال الجيش العائد ، بقيادة خالد ، ثم يحثون التراب في وجه العائدين ، ويصيحون في وجوههم : يا فرار ، فررتم في سبيل الله .. ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حاضر وناظر ، لا يلوم أحدا على فعله ، ولا يظهر تغيظا ، ولا يعاقب ، ولا يطالب .. مع أنه نصير كل مظلوم ، وإنما يكتفي بالتفوه بكلمات يسيرة على سبيل تطييب الخاطر ، والسعي لإعادة المعنويات المنهارة ..

بل إن هؤلاء العائدين بالفشل لا يجرؤون على شكوى أحد من الناس الذين يواجهونهم بالتأنيب واللوم إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بل يكتفون بالاختباء في بيوتهم ، رغم أنهم لم يقترفوا ذنبا ، ولا ارتكبوا خطيئة ، لا عند الشرع ، ولا بنظر العرف.

كما أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نفسه لا يسأل عن أحد منهم ، ولا يتساءل عن سبب غيبتهم عن جماعته ، وعن مجلسه ، وعن جميع المنتديات والمجالس.

ويتأكد مضمون هذا السؤال إذا لاحظنا أن المختبئين في البيوت هم أصحاب الشأن ، والأعيان منهم ، حسبما صرحت به الروايات ..

هل ظلم الفارون؟!

وإنما قلنا : أنهم لم يرتكبوا ذنبا بنظر الشرع ، لأن الفقهاء قد ذكروا : أنه

__________________

(١) الآية ١٢٨ من سورة التوبة.

١٣١

يجوز الهرب في الجهاد في أحوال ثلاثة :

الأولى : أن يزيد عدد الكفار على ضعف عدد المسلمين ، والدليل على الجواز :

١ ـ قوله تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (١).

٢ ـ ما رواه العامة عن ابن عباس ، قال : «من فر من اثنين فقد فر ، ومن فر من ثلاثة فما فر» (٢).

٣ ـ ما روي من طريق الخاصة : عن الصادق «عليه‌السلام» : «من فر من رجلين في القتال من الزحف فقد فر ، ومن فر من ثلاثة في القتال من الزحف فلم يفر» (٣).

__________________

(١) الآية ٦٦ من سورة الأنفال.

(٢) سنن البيهقي ج ٩ ص ٧٦ والحاوي الكبير ج ١٤ ص ١٨٢ والمغني ج ١٠ ص ٥٤٣ والعزيز شرح الوجيز ج ١١ ص ٤٠٥ ومنهى المطلب (ط ق) ج ٢ ص ٩٠٧ وتذكرة الفقهاء (ط ق) ج ٢ ص ٤١١ و (ط ج) ج ٩ ص ٥٨ والمجموع للنووي ج ١٩ ص ٢٩١ والمغني لابن قدامة ج ١٠ ص ٥٥١ والشرح الكبير ج ١٠ ص ٣٨٦ وكشف القناع ج ٣ ص ٥٠ ونيل الأوطار ج ٨ ص ٨٠ والمعجم الكبير ج ١١ ص ٧٧ وكنز العمال ج ٤ ص ٤٣٣ وعن أحكام القرآن للجصاص ج ٢ ص ٦١٢ وعن الدر المنثور ج ٣ ص ١٧٤.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٣٤ ح ١ والتهذيب ج ٦ ص ١٧٤ ومنتهى المطلب (ط ق) ج ٢ ص ٩٠٧ وتذكرة الفقهاء (ط ق) ج ١ ص ٤١١ و (ط ج) ج ٩ ص ٥٨ ودعائم ـ

١٣٢

الحالة الثانية : أن يترك القتال ، ولكن لا بنية الهرب ، بل لأجل أن ينصرف ليمكن في موضع ، ثم يهجم.

الحالة الثالثة : أن يتحيز إلى فئة ، وهو : أن ينصرف على قصد أن يذهب إلى طائفة ليستنجد بها في القتال (١).

وعلى هذا فإنه إذا كان عدد الفارين ثلاثة آلاف ، والجيش الذي يواجههم يعد بمئات الألوف ، فلما ذا يلامون على الفرار؟ ولماذا يطردون؟ ولماذا يعيرون؟! ولماذا؟! ولماذا؟!

التخفيف والتلطيف :

وأما قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للذين اعترفوا أمامه بالفرار من الزحف : «بل أنتم الكرارون ، وأنا فئتكم ، أو قال : وأنا فئة كل مسلم» فأراد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» به أن يؤيد اعترافهم بالفرار ، ثم يخفف من وطأة ذلك على نفوسهم حين يقرر أن فرارهم يدخل في سياق التحيز إلى فئة ، وبذلك

__________________

الإسلام ج ١ ص ٣٧٠ ومستدرك الوسائل ج ١١ ص ٦٩ ومختلف الشيعة ج ٤ ص ٣٨٩ وإيضاح الفوائد ج ١ ص ٣٥٦ ومسالك الأفهام ج ٣ ص ٢٥ وجواهر الكلام ج ٢١ ص ٥٨ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١٥ ص ٨٤ و (ط دار الإسلامية) ج ١١ ص ٦٣ والبحار ج ٩٤ ص ٣٤ وتفسير العياشي ج ٢ ص ٣١٣ والتفسير الأصفى ج ١ ص ٤٤٧ ونور الثقلين ج ٢ ص ١٣٩ و ١٦٦.

(١) راجع ما تقدم في تذكرة الفقهاء للعلامة الحلي (ط ق) ج ١ ص ٤١١ و (ط ج) ج ٩ ص ٦١ وجواهر الكلام ج ٢١ ص ٥٨ والمهذب لابن البراج ج ١ ص ٣٠٤ وجامع المقاصد ج ٣ ص ٣٨٢ والتحفة السنية (مخطوط) للجزائري ص ١٩٩.

١٣٣

يكون قد خفف عنهم بعض الألم الذي كان يعتصر قلوبهم ..

وبتعبير آخر أوضح وأصرح :

إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إنما قال ذلك لهم على سبيل التشبيه والتنزيل والمجاز ، لا على سبيل الحقيقة ، إذ ليس في ظاهر حالهم حين فرارهم ما يدل على أنهم كانوا يقصدون بهذا الفرار التحيز إلى فئة. بل كان همهم النجاة بأنفسهم وحسب.

ولكن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ كما قلنا ـ قد أراد معالجة سلبيات الهزيمة بهذا النحو من التخفيف والتلطيف ، واعتبارهم كأنهم قد تحيزوا إلى فئة ، حتى قال لهم : وأنا فئتكم.

ولو كان كلامه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» جار على سبيل الحقيقة ، لم يحتج إلى بيان من هو الفئة لهم ..

لو دخلنا المدينة قتلنا!!

والأمر الأكثر إثارة ، والأشد غرابة والأوضح دلالة ، أن يبلغ الخوف بالفارين من الزحف حدا يجعلهم يصرحون بأنهم لو دخلوا المدينة قتلوا ..

فإن هذا الخوف لا يكون لمجرد تحيزهم إلى فئة ، بل هو فرارهم من الزحف ..

إن لم نقل : إن ذلك قد يثير احتمال ظهور تواطؤ أو خيانة منهم اكتشفها المسلمون ، فأثارت لدى مرتكبيها احتمالات القتل ..

ويتأكد هذا الذي ذكرناه مع علم الجميع : بأن الفرار من وجه جيش يزيدهم عشرات الأضعاف ، لا يوجب للفارين أية مجازاة أو عقوبة. أو لوم.

١٣٤

الحر تكفيه الإشارة :

عن الزهري : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لما أخبر الناس بقتل القادة الثلاثة «بكى أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وهم حوله ، فقال لهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «وما يبكيكم»؟

فقالوا : وما لنا لا نبكي ، وقد ذهب خيارنا وأشرافنا ، وأهل الفضل منا؟!

فقال لهم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : لا تبكوا ، فإنما مثل أمتي مثل حديقة قام عليها صاحبها ، فأصلح رواكبها ، وبنى مساكنها ، وحلق سعفها ، فأطعمت عاما فوجا ، ثم عاما فوجا ، ثم عاما فوجا.

فلعل آخرها طعما أن يكون أجودها قنوانا ، وأقومها شمراخا!!

والذي بعثني بالحق نبيا ، ليجدن عيسى بن مريم في أمتي خلفا من حواريه» (١).

ونقول :

إن كلام رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هنا يكاد يكون صريحا في أنه يدين ما صدر من الفارين في مؤتة ، فإنه أشار إلى قتل الخيار لا بد أن يعقبه أن تنجب الأمة فوجا آخر من هؤلاء الخيار.

ولعل الفوج الأخير ـ الذي هو من أنصار المهدي «عليه‌السلام» ـ سوف يكون خيرا من حواري عيسى «عليه‌السلام» نفسهم .. وسيلمس عيسى «عليه‌السلام» ذلك حينما يظهر مع الإمام «عليه‌السلام» ، ليقيم

__________________

(١) البحار ج ٢١ ص ٥١ والأمالي للطوسي ص ٨٨ ومقاتل الطالبيين ص ٧ و ٨ وبشارة المصطفى ص ٤٣٢ وكنز العمال ج ١٢ ص ١٨١.

١٣٥

الحجة على النصارى في أمر بشريته ، وتابعيته لوصي محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حيث يصلي خلفه ، ويكون من أعوانه ..

فيلاحظ : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يشر بشيء إلى أي نصر أنجزه خالد ومن معه ، فضلا عن تحقيق ما يستحق أن يسمى فتحا .. بل هو «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قبل بأن المقتولين هم خيار أصحابه ، وأشرافهم ، وأهل الفضل فيهم .. ولا يرى في الذين سلموا في مؤتة خلفا من الذين قتلوا ، بل لا بد من انتظار ظهور فوج جديد من الأخيار ، والأشراف ، وأهل الفضل.

النصر الضائع :

ونستطيع بعد كل هذا الذي ذكرناه وقررناه ، أن نؤكد على أن كل الدلائل تشير إلى أن الفارين كانوا عارفين بعظيم جرمهم ، وقبح جنايتهم ، كما أن أهل المدينة كانوا عارفين بذلك ، وكذلك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

وقد كان واضحا للجميع : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أرسلهم لإنجاز مهمة كبرى كان يعرف حجمها ، ولا بد ان يكون قد رسم لهم معالم حركتهم فيها ، وحدد كل تفاصيلها ، ولا بد أن يكون عارفا بجموع قيصر ونواياه وخططه ، وكيف لا يكون كذلك ، وهو قد اثبت أن لديه قدرة فائقة على رصد حركة أعدائه في مختلف البقاع والأصقاع مهما اختلفت الفئات والأنواع.

وكانت هذه المهمة من الخطورة بحيث تستحق أن يضحي من أجلها بمثل جعفر ، وزيد ، وابن رواحة ، ولعلها كانت ستنتهي بالانتصار على

١٣٦

جيوش قيصر ، وربما بأسره ، وإسلام البلاد التي يحكمها أو كان له نفوذ فيها .. ولعل هذا النصر كان سيتحقق بعد استشهاد القادة بيسر ، ولكن الفرار قلب الأمور ، فوقع المحذور.

ولذلك لم يتمكن الفارون من تقديم أي عذر أو تأويل ، بل ربما كانوا خائفين من وصول الأمور إلى حد اتخاذ القرار بقتلهم.

ولذلك لم يتساهل أهل المدينة معهم ، بل حثوا التراب في وجوههم وطردوهم ، ولم يفتحوا لهم أبواب بيوتهم ، كما أن النبي الكريم ، والرؤوف الرحيم بالمؤمنين لم يعترض على أحد من أهل المدينة فيما يفعل ، ولم يردعهم عن شيء من تصرفاتهم التي تدخل في سياق الإهانة والتحقير لهذا الجيش ..

وقد قلنا آنفا : أن الفرار من جيش يفوق عدده عدد جيش المسلمين بعشرات الأضعاف ليس جرما ولا حراما ..

وهذا يدلنا : على أن القضية لم تكن قضية فرار وحسب ، وإنما هي أدهى وأكبر ، وأعظم ، وأمر وأخطر ، لأنها قضية تضييع أعظم نصر عرفه تاريخ البشرية.

واقتصر الأمر على مجرد تراجع جيش الروم عن تصميمه بمهاجمة المسلمين في عمق بلادهم ، وفي عقر دارهم ، في المدينة نفسها ..

إذ إننا نرى : أن هرقل بعد أن انتصر على كسرى ، طمع بالإستيلاء على الحجاز ليؤكد شوكته ، وليعزز سلطانه ..

فجاء بالجيوش بحجة المشي إلى بيت المقدس وفاء بنذره ، فبادر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لمباغتته بخطة تبطل كيده ، وتمزق جنده ، فضيع ذلك خالد بهزيمته النكراء تلك. وإلا فكيف نفسر وجود هذه الجيوش

١٣٧

الهائلة التي تعد بمئات الألوف في منطقة الأردن القريبة من الحجاز ، بل هي على مشارفه ، وقد ظهر مصداق هذا النصر في الحرب التي لم تسفر رغم امتدادها أياما سوى عن ثمانية ، وقيل : اثني عشر قتيلا على أبعد التقادير.

مع أن العادة تقضي بأن جيشا ، قد يصل عدده إلى نصف مليون مقاتل لا يحتاج إلى استئصال ثلاثة آلاف مقاتل إلى أكثر من نهار.

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .. وعائلة جعفر :

عن أسماء بنت عميس رحمها الله قالت : دخل علي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يوم أصيب جعفر وأصحابه ، فقال : «إيتيني ببني جعفر».

فأتيته بهم فضمهم ، وشمهم ، وذرفت عيناه ، فقلت : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شئ؟

قال : «نعم أصيبوا هذا اليوم».

قالت : فقمت أصيح. واجتمع إليّ النساء (١).

زاد الواقدي وابن سعد : فجعل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقول : يا أسماء ، لا تقولي هجرا ، ولا تضربي صدرا.

قالت : فخرج رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حتى دخل على ابنته فاطمة «عليها‌السلام» وهي تقول : وا عماه.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٣ والبحار ج ٧٩ ص ٩٢ وتهذيب الكمال ج ٥ ص ٦٠ و ٦١ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٨٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٧٤ ومسند ابن راهويه ج ٥ ص ٤١ والمعجم الكبير ج ٢٤ ص ٤٤ وعن أسد الغابة ج ١ ص ٢٨٩ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٨٣٥.

١٣٨

فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : على مثل جعفر فلتبكي الباكية ، ثم قال : اصنعوا لآل جعفر طعاما ، قد شغلوا عن أنفسهم اليوم (١).

وقال الواقدي : حدثني محمد بن مسلم ، عن يحيى بن أبى يعلى ، قال : سمعت عبد الله بن جعفر يقول : أنا أحفظ حين دخل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على أمي ، فنعى لها أبي ، فأنظر إليه وهو يمسح على رأسي ورأس أخي ، وعيناه تهراقان الدموع حتى تقطر لحيته. ثم قال : اللهم إن جعفرا قد قدم إلى أحسن الثواب ، فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحدا من عبادك في ذريته.

ثم قال : يا أسماء ، ألا أبشرك؟

قالت : بلى ، بأبى وأمى.

قال : فإن الله عزوجل جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة.

قالت : بأبى وأمى يا رسول الله ، فأعلم الناس ذلك!

فقام رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وأخذ بيدى ، يمسح بيده رأسي

__________________

(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٣ وعن أحمد ، وابن ماجة ، والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٦٦ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٨ والبحار ج ٢١ ص ٦٣ عن المعتزلي والطبقات الكبرى ج ٨ ص ٢٨٢ وشرح أصول الكافي ج ٧ ص ١٩٠ والإحتجاج ج ١ ص ١٧٣ وعن ذخائر العقبى ص ٢١٨ والنص والإجتهاد ص ٢٩٦ والمصنف للصنعاني ج ٣ ص ٥٥٠ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٧١ والدرجات الرفيعة ص ٧٦ وعن أسد الغابة ج ١ ص ٢٨٩ وتهذيب الكمال ج ٥ ص ٦١ وج ٣٥ ص ٣٧٤ وسير أعلام النبلاء ج ١ ص ٢١١ وأنساب الاشراف ص ٤٣.

١٣٩

حتى رقي على المنبر ، وأجلسني أمامه على الدرجة السفلى ، والحزن ، يعرف عليه ، فتكلم فقال : إن المرء كثير بأخيه وابن عمه. ألا إن جعفرا قد استشهد ، وقد جعل الله له جناحين يطير بهما في الجنة.

ثم نزل «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فدخل بيته ، وأدخلني ، وأمر بطعام فصنع لأهلي ، وأرسل إلى أخى فتغدينا عنده ـ والله ـ غداء طيبا مباركا ، عمدت سلمى خادمته إلى شعير فطحنته ، ثم نسفته ، ثم أنضجته ، وأدمته بزيت ، وجعلت عليه فلفلا. فتغديت أنا وأخي معه ،

فأقمنا عنده ثلاثة أيام في بيته ، ندور معه كلما صار في إحدى بيوت نسائه ، ثم رجعنا إلى بيتنا ، فأتى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعد ذلك وأنا أساوم بشاة أخ لي ، فقال : اللهم بارك في صفقته.

فقال عبد الله : فما بعت شيئا ولا اشتريت إلا بورك فيه (١).

وعن الإمام الصادق «عليه‌السلام» قال : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين جاءته وفاة جعفر بن أبي طالب ، وزيد بن حارثة كان إذا دخل بيته كثر بكاؤه عليهما جدا ، ويقول : كانا يحدثاني ويؤنساني ، فذهبا جميعا (٢).

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٦٦ و ٧٦٧ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٨ والبحار ج ٧٩ ص ٩٢ وج ٢١ ص ٥٦ و ٥٧ عن إعلام الورى ص ١١١ و ١١٢ ومسكّن الفؤاد ص ٦٩ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٧١ والدرجات الرفيعة ص ٧٦ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٧ ص ٢٥٧ وكنز العمال ج ١٣ ص ٤٧٧ وشجرة طوبى ج ٢ ص ٣٠٠.

(٢) البحار ج ٢١ ص ٥٥ وج ٧٩ ص ١٠٤ عن من لا يحضره الفقيه ج ١ ص ١٢٧ ومنهى المطلب (ط ق) ج ١ ص ٤٦٦ وتذكرة الفقهاء (ط ج) ص ٢ ص ١١٨ ـ

١٤٠