وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى - ج ٤

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى - ج ٤

المؤلف:

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي


المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٤

فقال لي : يا أحمد ، جئت؟ قلت : نعم ، وأنا جائع وأنا في ضيافتك ، قال : افتح كفيك ، ففتحتهما فملأهما دراهم ، فانتهت وهما مملوءتان ، وقمت فاشتريت خبزا حواريا وفالوذجا ، وأكلت ، وقمت للوقت ودخلت البادية.

وذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر في تاريخه بسنده إلى أبي القاسم ثابت بن أحمد البغدادي ، قال : إنه رأى رجلا بمدينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أذن للصبح عند قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال فيه : الصلاة خير من النوم ، فجاءه خادم من خدم المسجد فلطمه حين سمع ذلك ، فبكى الرجل ، وقال : يا رسول الله في حضرتك يفعل بي هذا الفعل؟ ففلج الخادم ، وحمل إلى داره فمكث ثلاثة أيام ومات.

قلت : والواقعة التي نقلها ابن النعمان عن أبي بكر المقرئ رواها ابن الجوزي في كتابه الوفاء بإسناده إلى أبي بكر المقري ، وبقية الوقائع المذكورة ذكرها غيره أيضا.

ومن ذلك ما ذكر ابن النعمان أنه سمعه ممن وقع له أو عنه بواسطة فقال : سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن سعيد يقول : كنت بمدينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعي ثلاثة من الفقراء فأصابتنا فاقة ، فجئت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلت : يا رسول الله ليس لنا شيء ، ويكفينا ثلاثة أمداد من أي شيء كان ، فتلقاني رجل فدفع إليّ ثلاثة أمداد من التمر الطيب.

وسمعت الشريف أبا محمد عبد السلام بن عبد الرحمن الحسيني الفاسي يقول : أقمت بمدينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة أيام لم أستطعم فيها ، فأتيت عند منبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم فركعت ركعتين وقلت : يا جدي جعت وأتمنى عليك ثردة ، ثم غلبتني عيني فنمت ، فبينا أنا نائم وإذا برجل يوقظني ، فانتبهت فرأيت معه قدحا من خشب وفيه ثريد وسمن ولحم وأفاويه ، فقال لي : كل ، فقلت له : من أين هذا؟ فقال : إن صغاري لهم ثلاثة أيام يتمنون هذا الطعام ، فلما كان اليوم فتح الله لي بشيء عملت به هذا ، ثم نمت فرأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النوم وهو يقول : إن أحد إخوانك تمنى على هذا الطعام فأطعمه منه.

وسمعت الشيخ أبا عبد الله محمد بن أبي الأمان يقول : كنت بمدينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلف محراب فاطمة رضي الله تعالى عنها ، وكان الشريف مكثر القاسمي قائما خلف المحراب المذكور ، فانتبه فجاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعاد علينا متبسما ، فقال له شمس الدين صواب خادم الضريح النبوي : فيم تبسمت؟ فقال : كانت بي فاقة ، فخرجت من بيتي فأتيت بيت فاطمة رضي الله تعالى عنها ، فاستغثت بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقلت : إني جائع ، فنمت فرأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعطاني قدح لبن فشربت حتى رويت ، وهذا هو فبصق اللبن من فيه في كفي ، وشاهدناه من فيه.

٢٠١

وسمعت عبد الله بن الحسن الدمياطي يقول : حكى لي الشيخ الصالح عبد القادر التنيسي بثغر دمياط قال : كنت أمشي على قاعدة الفقير ، فدخلت إلى مدينة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وسلمت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشكوت له ضرري من الجوع ، واشتهيت عليه الطعام من البر واللحم والتمر ، وتقدمت بعد الزيارة للروضة فصليت فيها ، وبت فيها ، فإذا شخص يوقظني من النوم ، فانتبهت ومضيت معه ، وكان شابا جميلا خلقا وخلقا ، فقدم إلى جفنة تريد وعليها شاة وأطباق من أنواع التمر صيحاني وغيره وخبزا كثيرا من جملته خبز أقراص سويق النبق ، فأكلت فملأ لي جرابي لحما وخبزا وتمرا ، وقال : كنت نائما بعد صلاة الضحى فرأيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في المنام وأمرني أن أفعل لك هذا ، ودلّني عليك ، وعرفني مكانك بالروضة ، وقال لي : إنك اشتهيت هذا وأردته.

وسمعت صديقي علي بن إبراهيم البوصيري يقول : سمعت عبد السلام بن أبي القاسم الصقلي يقول : حدثني رجل ثقة نسي اسمه ، قال : كنت بمدينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يكن لي شيء ، فضعفت ، فأتيت إلى الحجرة وقلت : يا سيد الأولين والآخرين ، أنا رجل من أهل مصر ولي خمسة أشهر في جوارك ، وقد ضعفت ، فقلت : أسأل الله وأسألك يا رسول الله أن يسخر لي من يشبعني أو يخرجني ، ثم دعوت عند الحجرة بدعوات ، وجلست عند المنبر فإذا برجل قد دخل الحجرة فوقف يتكلم بكلام ، ويقول : يا جداه يا جداه ، ثم جاء إلي وقبض على يدي وقال لي : قم ، فقمت وصحبته ، فخرج بي من باب جبريل ، وعدا إلى البقيع وخرج منه فإذا بخيمة مضروبة وجارية وعبد ، فقال لهما : قوما فاصنعا لضيفكما عيشه فقام العبد وجمع الحطب وأوقد النار ، وقامت الجارية وطحنت وصنعت ملة ، وشاغلني بالحديث حتى أتت الجارية بالملة فقسمها نصفين وأتت الجارية بعكّة فيهما سمن فصبّ على الملة وأتت بتمر صيحاني فصنعها جيدا ، وقال لي : كل ، فأكلت شيئا قليلا ، فصدرت ، فقال لي : كل ، فأكلت ، ثم قال لي : كل ، فقلت : يا سيدي لي أشهر لم آكل فيها حنطه ، ولا أريد شيئا ، فأخذ النصف الثاني وضم ما فضل مني من الملة وأتى بمزود وصاعين من تمر فوضعهما في المزود ، وقال لي : ما اسمك؟ فقلت :فلان ، فقال : بالله عليك لا تعد تشكو إلى جدي فإنه يعز عليه ذلك ، ومن الساعة متى جعت يأتيك رزقك حتى يسبب الله لك من يخرجك ، وقال للغلام : خذه وأوصله إلى حجرة جدي ، فغدوت مع الغلام إلى البقيع ، فقلت له : ارجع قد وصلت ، فقال : يا سيدي الله الأحد ما أقدر أفارقك حتى أوصلك إلى الحجرة لئلا يعلم النبي صلى الله

٢٠٢

تعالى عليه وسلم سيدي بذلك ، فأوصلني إلى الحجرة ، وودعني ورجع ، فمكثت آكل من الذي أعطاني أربعة أيام ، ثم جعت بعد ذلك ، فإذا بالغلام قد أتاني بطعام ، ثم لم أزل كذلك كلما جعت أتاني بطعام حتى سبب الله لي جماعة خرجت معهم إلى ينبع.

وروى ابن النعمان أيضا بسنده إلى أبي العباس بن نفيس المقرئ الضرير قال : جعت بالمدينة ثلاثة أيام ، فجئت إلى القبر وقلت : يا رسول الله ، جعت ، ثم نمت ضعيفا ، فركضتني جارية برجلها ، فقمت إليها فقالت : أعزم ، فقمت معها إلى دارها ، فقدمت إلي خبز برّ وتمرا وسمنا وقالت : كل يا أبا العباس ، قد أمرني بهذا جدي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومتى جعت فأت إلينا.

قال أبو سليمان داود في مصنفه في الزيارة بعد روايته لذلك كله : إنه قد وقع في كثير مما ذكر وأمثاله أن الذي يأمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك إنما يكون من الذرية الشريفة ، لا سيما إذا كان المتناول طعاما ؛ لأن من تمام جميل أخلاق الكرام إذا سئلوا القرى البداءة بأنفسهم ، ثم بمن يكون منهم ، فاقتضى خلقه الكريم أن إعطاء سائل القرى يكون منه ومن ذريته الكريمة.

قلت : والحكايات في هذا الباب كثيرة ، بل وقع لي شيء منها : أني كنت بالمسجد النبوي عند قدوم الحاج المصري للزيارة ، وفي يدي مفتاح الخلوة التي فيها كتبي بالمسجد : فمر بي بعض علماء المصريين ممن كان يقرأ على بعض مشايخي ، فسلمت عليه ، فسألني أن أمشي معه إلى الروضة الشريفة وأقف معه بين يدي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، ففعلت ، ثم رجعت فلم أجد المفتاح ، وتطلبته في الأماكن التي مشيت إليها فلم أجده ، وشق علي ذهابه في ذلك الوقت الضيق مع حاجتي إليه ، فجئت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقلت : يا سيدي يا رسول الله ، ذهب مفتاح الخلوة ، وأنا محتاج إليه وأريده من بابك ، ثم رجعت فرأيت شخصا قاصدا الخلوة ، فظننته بعض من أعرفه ، فمشيت إليه ، فلم أجده إياه ، ووجدت صغيرا لا أعرفه بقرب الخلوة بيده المفتاح ، فقلت له : من أين لك هذا؟ فقال : وجدته عند الوجه الشريف ، فأخذته منه.

ومن هذا النوع ما اتفق لي في سكناي تلك الخلوة في ابتداء الأمر وغير ذلك مما يطول ذكره.

وأنشدت مرة بين يديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قضية أوذيت فيها قصيدة أولها :

يضام بحيكم يا عرب رامه

نزيل أنتم صرتم مرامه

ويعدو من أعاديه عليه

عداة صار قصدهم اهتضامه

٢٠٣

وأنتم عز من ينمي إليكم

ومن أبوابكم حاز احترامه

وفي حرم بساحتكم مقيم

فلا يبغي العراق ولا شامه

وحبكم تحكم في حشاه

وحبكم لذا أضحى غرامه

وليس له ملاذ أو نصير

يجرد دون نصرته حسامه

سواكم آل غالب الموالي

حماة الجار إن لحقته ضامه

ليوث الحرب إن مدت حراب

غيوث المحل إن يخلب غمامه

بحقكم وذاك أجل حقّ

له انتصروا فأنتم من تهامه

كرام مكرمون بخير رسل

عظيم الجار موفيه ذمامه

وهي طويلة تزيد على ستين بيتا ، ومنها :

له حرم به كرم مفاض

لساكنه فقد حاز الكرامة

به قد صار عندكم نزيلا

ويرجو نصركم فيما أضامه

جواركم عدت فيه الأعادي

عليه إذ رأوا منه الإقامة

بحضرتكم فلا يبغي انتقالا

ولكن قد أطال لها التزامه

وكادوه بما لم يخف عنكم

ليقصوا عن عراصكم خيامه

فأنجز لي رسول الله نصري

لتهنأ لي بذا الحرم الإقامه

ويكبت من عداتي شامتوهم

وتعظم في قلوبهم الندامة

فقد أملت جاهك يا ملاذي

لذا ولكل هول في القيامة

وحاشا أن تخيب لي رجاء

وأنت الغوث من عرب برامه

كريم إن أضيم له نزيل

فنصر الله يقدمه أمامه

ومن عاداته نصري وجبري

وعادة مثله أبدا مدامه

فرأيت عقب ذلك مناما يؤذن بالنصر العظيم ، ثم رأيته في اليقظة ، ولله الحمد والمنة.

وقال الفقيه أبو محمد الإشبيلي في مؤلفه في فضل الحج : إنه نزل برجل من أهل غرناطة علة عجز عنها الأطباء وأيسوا من برتها ، فكتب عنه الوزير أبو عبد الله محمد بن أبي الخصال كتابا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يسأله فيه الشفاء لدائه والبرء مما نزل به ، وضمنه شعرا ، وهو :

كتاب وقيذ من زمانة مستشف

بقبر رسول الله أحمد يستشفي

لقد قدم قد قيّد الدهر خطوها

فلم يستطع إلا الإشارة بالكف

ولما رأى الزوار يبتدرونه

وقد عاقه عن ظعنه عائق الضعف

٢٠٤

بكى أسفا واستودع الركب إذ غدا

تحية صدق تفعم الركب بالعرف

فيا خاتم الرسل الشفيع لربه

دعاء مهيض خاشع القلب والطرف

عتيقك عبد الله ناداك ضارعا

وقد أخلص النجوى وأيقن بالعطف

رجاك لضر أعجز الناس كشفه

ليصدر داعيه بما جاء من كشف

لرجل رمى فيها الزمان فقصرت

خطاه عن الصف المقدم في الزحف

وإني لأرجو أن تعود سوية

بقدرة من يحيي العظام ومن يشفي

فأنت الذي نرجو حيا وميتا

لصرف خطوب لا تريم إلى صرف

عليك سلام الله عدة خلقه

وما يقتضيه من مزيد ومن ضعف

قال : فما هو إلا أن وصل الركب إلى المدينة ، وقرئ على قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم هذا الشعر ، وبرأ الرجل في مكانه ، فلما قدم الذي استودعه إياه وجده كأنه لم يصبه ضر قط.

الفصل الرابع

في آداب الزيارة والمجاورة ، وهي كثيرة

منها الآداب المتعلقة بسفرها ، وهي كما في سائر الأسفار : من الاستخارة ، وتجديد التوبة ، والخروج من المظالم ، واستحلال المعاملين ، والتوصية ، وإرضاء من يتوجه إرضاؤه ، وإطابة النفقة ، والتوسعة في الزاد على نفسه ورفيقه وجماله ، وعدم المشاركة فيه ، وتوديع الأهل والإخوان والتماس أدعيتهم ، وتوديع المنزل بركعتين ، ويقرأ بعد السلام آية الكرسي ولإيلاف قريش ، ثم يدعو ويسأل الإعانة والتوفيق في سائر أموره ، ويقول : اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل ، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب ، اللهم اقبض لنا الأرض وهون علينا السفر ، فإذا نهض من جلوسه قال : اللهم بك انتشرت ، وإليك توجهت ، وبك اعتصمت ، اللهم أنت ثقتي وأنت رجائي ، اللهم اكفني ما أهمني ، وما أهتم له ، وما أنت أعلم به مني ، اللهم زودني التقوى ، واغفر لي ذنبي ، ووجهني للخير حيثما توجهت.

ويستحب أن يتصدق عند الخروج من منزله بشيء وإن قل ، وأن يحرص على رفيق موافق ، راغب في الخير ، كاره للشر ، إن نسي ذكره ، وإن ذكر أعانه ، إلى غير ذلك من آداب السفر.

ومنها : إخلاص النية ، وخلوص الطوية ، فإنما الأعمال بالنيات ، فينوي التقرب إلى الله تعالى بزيارة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم.

٢٠٥

ويستحب أن ينوي مع ذلك التقرب بالمسافرة إلى مسجده صلى الله تعالى عليه وسلم ، وشد الرحل إليه ، والصلاة فيه ، كما قاله أصحابنا منهم ابن الصلاح والنووي ، قال ابن الصلاح : ولا يلزم من هذا خلل في زيارته على ما لا يخفى.

ونقل شيخ الحنفية الكمال بن الهمام من مشايخهم أنه ينوي مع زيارة القبر زيارة المسجد ، ثم قال : إن الأولى عنده تجريد النية لزيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم إن حصل له إذا قدم زيارة المسجد أو يستفتح فضل الله في مرة أخرى ينويهما فيها ؛ لأن ذلك زيادة تعظيمه وإجلاله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وليوافق ظاهر قوله صلى الله تعالى عليه وسلم «لا تحمله حاجة إلا زيارتي» انتهى.

وفيه نظر ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حث أيضا على قصد مسجده ، ففي امتثاله تعظيمه أيضا.

وقوله «لا تحمله حاجة» أي لم يحث الشرع عليها ، وقد لا يسمح له الزمان بزيارة المسجد ، فليغتنم قصد ذلك مع الزيارة ، بل ينوي أيضا الاعتكاف فيه ولو ساعة ، وأن يعلّم فيه خيرا أو يتعلمه ، وأن يذكر الله فيه ويذكر به.

ويستحب إكثار الصلاة والتسليم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وختم القرآن إن تيسر ، والصدقة على جيرانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وغير ذلك مما يستحب للزائر فعله ؛ فينوي به التقرب أولا ليثاب على القصد ، فنية المؤمن خير من عمله ، وينوي اجتناب المعاصي والمكروهات حياء من الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم.

ومنها : أن يكون دائم الأشواق إلى زيارة الحبيب الشفيع كل عام بالوصول إلى ذلك الجناب الرفيع ؛ فالشوق إلى لقائه وطلب الوصول إلى فنائه من أظهر علامات الإيمان.

وأكثر وسائل الفوز يوم الفزع الأكبر بالأمن والأمان ، وليزدد شوقا وصبابة وتوقا ، وكلما ازداد دنوا ازداد غراما وحنوا.

ومنها : أن يقول إذا خرج من بيته : بسم الله ، وتوكلت على الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، اللهم إليك خرجت وأنت أخرجتني ، اللهم سلمني وسلم مني ، وردّني سالما في ديني كما أخرجتني ، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضلّ ، أو أزل أو أزل ، أو أظلم أو أظلم ، أو أجهل أو يجهل عليّ ، عزّ جارك وجل ثناؤك وتبارك اسمك ولا إله غيرك ، وكذا يقول الدعاء المستحب لقاصد المسجد.

ومنها : الإكثار في المسير من الصلاة والتسليم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، بل يستغرق أوقات فراغه في ذلك وغيره من القربات.

ومنها : أن يتتبع ما في طريقه من المساجد والآثار المنسوبة إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، فيحييها بالزيارة ، ويتبرك بالصلاة فيها ، وقد استقصيناها فيما سبق.

٢٠٦

ومنها : إذا دنا من حرم المدينة وشاهد أعلامها ورباها وآكامها فليستحضر وظائف الخضوع والخشوع مستبشرا بالهنا وبلوغ المنى ، وإن كان على دابة حرّكها أو بعير أوضعه تباشرا بالمدينة ، ولله در القائل :

قرب الديار يزيد شوق الواله

لا سيما إن لاح نور جماله

أو بشّر الحادي بأن لاح النّقا

وبدت على بعد رءوس جباله

فهناك عيل الصّبر من ذي صبوة

وبدا الذي يخفيه من أحواله

وليجتهد حينئذ في مزيد الصلاة والسلام ، وترديد ذلك كلما دنا من الربا والأعلام.

ولا بأس بالترجّل والمشي عند رؤية ذلك المحلّ الشريف والقرب منه ، كما يفعله بعضهم ؛ لأن وفد عبد القيس لما رأوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزلوا عن الرواحل ، ولم ينكر عليهم ، وتعظيمه بعد الوفاة كتعظيمه في الحياة.

وقال أبو سليمان داود المالكي في الانتصار : إن ذلك يتأكد فعله لمن أمكنه من الرجال ، وإنه يستحب تواضعا لله تعالى وإجلالا لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم.

وحكى عياض في الشفاء أن أبا الفضل الجوهري لما ورد المدينة زائرا وقرب من بيوتها ترجّل باكيا منشدا :

ولمّا رأينا رسم من لم يدع لنا

فؤادا لعرفان الرسوم ولا لبّا

نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة

لمن بان عنه أن نلمّ به ركبا

ومنها : إذا بلغ حرم المدينة الشريفة فليقل بعد الصلاة والتسليم : اللهم هذا حرم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذي حرمته على لسانه ، ودعاك أن تجعل فيه من الخير والبركة مثلي ما هو في حرم البيت الحرام ، فحرمني على النار ، وآمنّي من عذابك يوم تبعث عبادك ، وارزقني من بركاته ما رزقته أولياءك وأهل طاعتك ، ووفقني لحسن الأدب وفعل الخيرات وترك المنكرات. ثم تشتغل بالصلاة والتسليم. وإن كان طريقه على ذي الحليفة فلا يجاوز المعرس حتى ينيخ به ، وهو مستحب ، كما قاله أبو بكر الخفاف في كتاب الأقسام والخصال والنووي وغيرهما.

وقال صاحب الطراز من المالكية : من آداب الزائر الغسل ، ولباس أنظف الثياب.

وقال أبو عبد الله السامري الحنبلي في باب الزيارة من المستوعب : وإذا قدم مدينة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم استحبّ له أن يغتسل لدخولها.

وقال في الإحياء : وليغتسل قبل الدخول من بئر الحرة ، وليتطيب ، وليلبس أحسن ثيابه.

٢٠٧

وقال الكرماني من الحنفية : فإن لم يغتسل خارج المدينة فليغتسل بعد دخولها.

وفي حديث قيس بن عاصم أنه لما قدم مع وفده أسرعوا هم بالدخول ، وثبت هو حتى أزال مهنته وآثار سفره ولبس ثيابه ، وجاء على تؤدة ووقار ، ثم أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، فرضي له ذلك وأثنى عليه بقوله «إن فيك لخصلتين يحبهما الله : الحلم ، والأناة».

وفي حديث المنذر بن ساوي التميمي أنه وفد من البحرين مع أناس ، فذهبوا مع سلاحهم فسلموا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، ووضع المنذر سلاحه ولبس ثيابا كانت معه ومسح لحيته بدهن ، فأتى نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحديث.

ويتجنب ما يفعله بعض الجهلة ، من التجرد عن المخيط تشبها بحال الإحرام.

ومنها : إذا شاهد القبة المنيفة ، وشارف المدينة الشريفة ، فيلزم الخشوع والخضوع مستحضرا عظمتها ، وأنها البقعة التي اختارها الله تعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وحبيبه وصفيه ، ويمثل في نفسه مواقع أقدام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عند ترداده فيها ، وأنه ما من موضع يطؤه إلا وهو موضع قدمه العزيزة ، فلا يضع قدمه عليه إلا مع الهيبة والسكينة ، متصوّرا خشوعه صلى الله تعالى عليه وسلم وسكينته في المشي وتعظيم الله عزوجل له حتى قرن ذكره بذكره وأحبط عمل من انتهك شيئا من حرمته ، ولو برفع صوته فوق صوته ، ويتأسف على فوت رؤيته في الدنيا ، وأنه من رؤيته في الآخرة على خطر لسوء صنعه وقبح فعله ، ثم يستغفر لذنوبه ، ويلتزم سلوك سبيله ، ليفوز بالإقبال عند اللقاء ويحظى بتحية المقبول من ذوي البقاء.

ومنها : أن لا يخل بشيء مما أمكنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والغضب عند انتهاك حرمة من حرمه أو تضييع شيء من حقوقه صلى الله تعالى عليه وسلم ، فإن من علامات المحبة غيرة المحبّ لمحبوبه ، وأقوى الناس ديانة أعظمهم غيرة ، وإذا خلا القلب من الغيرة فهو من المحبة أخلى ، وإن زعم المحبة فهو كاذب.

ومنها : أن يقول عند دخوله من باب البلد : بسم الله ، ما شاء الله ، لا قوة إلا بالله ، رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق ، واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ، حسبي الله ، آمنت بالله ، توكلت على الله ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك ، وبحق ممشاي هذا إليك ، فإني لم أخرج بطرا ولا أشرا ولا رياء ولا سمعة ، خرجت اتقاء سخطك ، وابتغاء مرضاتك ، أسألك أن تنقذني من النار ، وأن تغفر لي ذنوبي ؛ إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.

٢٠٨

وليحرص على ذلك كلما قصد المسجد ؛ ففي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه مرفوعا أن من قال ذلك في مسيره إلى المسجد وكّل الله به سبعين ألف ملك يستغفرون له ، ويقبل الله عليه بوجهه. ثم ليقو في قلبه شرف المدينة وأنها حوت أفضل بقاع الأرض بالإجماع ، وأن بعض العلماء قال : إن المدينة أفضل أمكنة الدنيا.

أرض مشى جبريل في عرصاتها

والله شرّف أرضها وسماءها

ومنها : أن يقدم صدقة بين يدي نجواه ، ويبدأ بالمسجد الشريف قبل أن يقدم على أمر من الأمور ، أو شيء هو إلى مباشرته في ذلك الوقت غير مضطر أو مضرور ؛ فإذا شاهد المسجد النبوي والحرم الشريف المحمدي فليستحضر أنه آت مهبط أبي الفتوح جبريل ، ومنزل أبي الغنائم ميكائيل ، والموضع الذي خصه الله بالوحي والتنزيل ، فليزدد خضوعا وخشوعا يليق بهذا المقام ، ويقتضيه هذا المحلّ الذي ترتعد دونه الأقدام ، ويجتهد في أن يوفى للمقام حقه من التعظيم والقيام.

ومنها : ما قاله القاضي فضل الدين بن النصير الغوري من أن دخول الزائر من باب جبريل أفضل أيضا ، أي لما سبق فيه عند ذكر الأبواب ، وجرت عادة القادمين من ناحية باب السلام بالدخول منه ، فإذا أراد الدخول فليفرغ قلبه ، وليصف ضميره ، ويقدم رجله اليمنى ، ويقول : أعوذ بالله العظيم ، وبوجهه الكريم ، وبنوره القديم ، من الشيطان الرجيم ، بسم الله ، والحمد لله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ما شاء الله ، لا قوة إلا بالله ، اللهم صل على سيدنا محمد عبدك ورسولك وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ، اللهم اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك ، رب وفّقني وسددني وأصلحني وأعنّي على ما يرضيك عني ، ومنّ عليّ بحسن الأدب في هذه الحضرة الشريفة ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله تعالى وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. ولا يترك ذلك كلما دخل المسجد أو خرج منه ، إلا أنه يقول عند خروجه : وافتح لي أبواب فضلك ، بدل قوله «أبواب رحمتك».

ومنها : إذا صار في المسجد فلينو الاعتكاف مدة لبثه به وإن قلّ على مذهب الشافعي ؛ ليحوز ما فيه من الفضل ، ثم ليتوجه إلى الروضة المقدسة ، وإن دخل من باب جبريل فليقصدها من خلف الحجرة الشريفة مع ملازمة الهيبة والوقار ، وملابسة الخشية والانكسار ، والخضوع والافتقار ، ثم ليقف في مصلّى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إن كان خاليا ، وإلا ففيما يلي المنبر من الروضة وإلا ففي غيرهما ، فيصلي تحية المسجد ركعتين خفيفتين ، قال الكرماني : يقرأ في الأولى بعد الفاتحة (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) وفي

٢٠٩

الثانية الإخلاص ، فإن أقيمت مكتوبة أو خاف فوتها بدأ بها ، وحصلت التحية بها ، فإذا فرغ حمد الله ، وأثنى عليه على ما منحه من هذه النعمة العظيمة ، والمنة الجسيمة.

قال الكرماني وصاحب الاختيار من الحنفية : إنه يسجد بعد الركعتين شكرا لله تعالى ، ويبتهل إليه في أن يتمم له ما قصد من الزيارة مع القبول ، وأن يهب له من مهمات الدارين نهاية السّول.

ونقل الزين المراغي عن بعض مشايخه أن محل تقديم التحية على الزيارة إذا لم يكن مروره قبالة الوجه الشريف ، فإن كان ذلك استحبت الزيارة أولا ، مع أن بعض المالكية رخّص في تقديم الزيارة على الصلاة ، وقال : كل ذلك واسع.

والحجة في استحباب تقديم التحية ما نقله البرهان ابن فرحون عن ابن حبيب أنه قال في كتاب الصلاة : حدثني مطرف عن مالك عن يحيى بن سعيد عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال : قدمت من سفر ، فجئت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أسلم عليه وهو بفناء المسجد ، فقال : أدخلت المسجد فصليت فيه؟ قلت : لا ، قال : فاذهب فادخل المسجد وصل فيه ثم ائت فسلم علي.

وقال اللخمي في التبصرة في باب من جاء مكة ليلا : ويبتدئ في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتحية المسجد قبل أن يأتي القبر ويسلم ، هذا قول مالك. وقال ابن حبيب : يقول إذا دخل : بسم الله ، والسلام على رسول الله ، يريد أن يبتدئ بالسلام من موضعه ، ثم يركع ، ولو كان دخوله من الباب الذي بناحية القبر ومروره عليه فوقف فسلم ثم عاد إلى موضع يصلي فيه لم يكن ضيقا ، انتهى.

قلت : وليس في كلام ابن حبيب مخالفة لما ذكره مالك ؛ إذ مراده أن الداخل من باب المسجد يستحب له الصلاة عليه ؛ لما روى ابن خزيمة في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا «إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وليصل ، وليقل : اللهم أجرني من الشيطان الرجيم» ولأن ابن حبيب ذكر بعد ذلك صلاة التحية ، ثم الوقوف بالقبر ، والسلام ، والله تعالى أعلم.

ومنها : أن يتوجه بعد ذلك إلى القبر الكريم ، مستعينا بالله تعالى في رعاية الأدب في هذا الموقف العظيم ، فيقف بخشوع وخضوع تامين تجاه مسمار الفضة الذي بجدار الحجرة المتقدم بيانه في محله لجعله في موضع محاذاة الوجه الشريف ، وربما منع باب المقصورة التي حول الحجرة الشريفة الواقف للزيارة خارجها من مشاهدة ذلك المسمار إلا بتأمل يشغل القلب ويذهب الخشوع فليقصد المصرعة الثانية من باب المقصورة القبلي

٢١٠

الذي على يمين مستقبل القبر الشريف ، فإذا استقبلها كان محاذيا له ، والزيارة من داخل المقصورة أولى ؛ لأنه موقف السلف.

والمنقول أن الزائر يقف على نحو أربعة أذرع من رأس القبر ، وقال ابن عبد السلام : على نحو ثلاثة أذرع ، وعلى كل حال فذلك من داخل المقصورة بلا شك. وقال ابن حبيب في الواضحة : واقصد القبر الشريف من وجاه القبلة وادن منه. وقال في الإحياء بعد بيان موقف الزائر بنحو ما قدمناه : فينبغي أن تقف بين يديه كما وصفنا ، وتزوره ميتا كما كنت تزوره حيا ، ولا تقرب من قبره إلا ما كنت تقرب من شخصه الكريم لو كان حيا ، اه.

ولينظر الزائر في حال وقوفه إلى أسفل ما يتقبل من جدار الحجرة الشريفة ، ملتزما للحياء والأدب التام في ظاهره وباطنه ، قال الكرماني من الحنفية : ويضع يمينه على شماله كما في الصلاة.

وقال في الإحياء : واعلم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عالم بحضورك وقيامك وزيارتك ، وأنه يبلغه سلامك وصلاتك ، فمثل صورته الكريمة في خيالك ، وأخطر عظيم رتبته في قلبك ؛ فقد روى عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أن الله تعالى وكّل بقبره ملكا يبلغه السلام ممن يسلم عليه من أمته ، هذا في حق من لم يحضر قبره ، فكيف بمن فارق الوطن وقطع البوادي شوقا إليه واكتفى بمشاهدة مشهده الكريم إذ فاته مشاهدة غرته الكريمة؟ انتهى.

ثم يسلم الزائر ، ولا يرفع صوته ولا يخفيه ، بل يقتصد فيقول : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا نبي الله ، السلام عليك يا خيرة الله ، السلام عليك يا حبيب الله ، السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبيين ، السلام عليك يا خير الخلائق أجمعين ، السلام عليك يا قائد الغر المحجلين ، السلام عليك وعلى آلك وأهل بيتك وأزواجك وأصحابك أجمعين ، السلام عليك وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وجميع عباد الله الصالحين ، جزى لك الله عنا يا رسول الله أفضل ما جزى به نبيا ورسولا عن أمته ، وصلّى عليك كلما ذكرك الذاكرون وغفل عن ذكرك الغافلون أفضل وأكمل ما صلي على أحد من الخلق أجمعين ، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنك عبده ورسوله وخيرته من خلقه ، وأشهد أنك بلغت الرسالة ، وأديت الأمانة ، ونصحت الأمة ، وكشفت الغمّة ، وجاهدت في الله حق جهاده ، اللهم آته الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته وآته نهاية ما ينبغي أن يسأله السائلون ، اللهم صلّ على سيدنا محمد نبيك ورسولك النبي الأمي وعلى آل سيدنا محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم

٢١١

وعلى آل إبراهيم ، وبارك على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

ومن عجز عن حفظ هذا أو ضاق الوقت عنه اقتصر على بعضه كما قاله النووي ، قال : وأقله السلام عليك يا رسول الله صلى الله عليك وسلم ، وجاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وغيره من السلف الاقتصار جدا ، وعن مالك «يقول : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته».

ونقل البرهان ابن فرحون عن أبي سعيد الهندي من المالكية قال فيمن وقف بالقبر :ولا يقف عنده طويلا ، ثم ذكر سلام ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ، ثم قال : وهذه طريقة ابن عمر ، وتبعه مالك في ترك تطويل القيام ، واختار بعضهم التطويل في السلام ، وعليه الأكثرون.

وقال ابن حبيب فيما نقل عياض : ثم تقف بالقبر متواضعا متوافرا ، فتصلي عليه صلى الله تعالى عليه وسلم ، وتثني بما يحضرك ، قال ابن فرحون : وقال ابن حبيب : يقول السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، صلى الله عليك وسلم يا رسول الله أفضل وأزكى وأعلى وأنمى صلاة صلاها على أحد من أنبيائه وأصفيائه أشهد يا رسول الله أنك قد بلغت ما أرسلت به ، ونصحت الأمة ، وعبدت ربك حتى أتاك اليقين ، وكنت كما نعتك الله في كتابه حيث قال (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ١٢٨] فصلوات الله وملائكته وجميع خلقه في سماواته وأرضه عليك يا رسول الله ، السلام عليكما يا صاحبي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يا أبا بكر ويا عمر ، جزاكما الله عن الإسلام وأهله أفضل ما جزى وزيري نبي على وزارته في حياته وعلى حسن خلافته إياه في أمته بعد وفاته ؛ فقد كنتما لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزيري صدق في حياته ، وخلفتماه بالعدل والإحسان في أمته بعد وفاته ، فجزاكما الله على ذلك مرافقته في جنته وإيانا معكم برحمته ، انتهى.

وذكر المطري والمجد تسليما يشتمل على أوصاف كثيرة ، وأوصافه صلى الله تعالى عليه وسلم غير منحصرة ، وهي شهيرة ، والحال يضيق عن الاستقصاء ؛ فلذلك اقتصرنا على ما قدمناه.

وقال النووي عقب ما تقدم عنه : ثم إن كان قد أوصاه أحد بالسلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فليقل : السلام عليك يا رسول الله من فلان بن فلان ، أو فلان بن فلان يسلم عليك يا رسول الله ، ونحوه من العبارات ، ثم يتأخر إلى صوب يمينه قدر ذراع فيصير تجاه أبي بكر

٢١٢

رضي الله تعالى عنه فيقول : السلام عليك يا أبا بكر صفيّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وثانيه في الغار ، ورفيقه في الأسفار ، جزى لك الله عن أمة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خير الجزاء ، ثم يتأخر إلى صوب يمينه قدر ذراع فيقول : السلام عليك يا عمر الفاروق ، الذي أعز الله به الإسلام ، جزاك الله عن أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خير الجزاء.

هذا ما ذكره النووي وغيره من أصحابنا وغيرهم. ولعل ابن حبيب ـ حيث ذكر التسليم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى ضجيعيه جملة يرى اصطفاف القبور سواء كما هو إحدى الروايات المتقدمة.

قال النووي وغيره : ثم يرجع الزائر إلى موقفه الأول قبالة وجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فيتوسل به في حق نفسه ، ويستشفع إلى ربه سبحانه وتعالى. قال : ومن أحسن ما يقول ما حكاه أصحابنا عن العتبي مستحسنين له ، وسبق له ذكر في الفصل الثاني.

قلت : وليجدد التوبة في ذلك الموقف ، ويسأل الله تعالى أن يجعلها توبة نصوحا ، ويستشفع به صلى الله تعالى عليه وسلم إلى ربه في قبولها ، ويكثر الاستغفار والتضرع بعد تلاوة قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) إلى قوله (رَحِيماً) [النساء : ٦٤] مع ما سبق في حكاية العتبي ، ويقول : نحن وفدك يا رسول الله وزوّارك ، جئناك لقضاء حقك ، والتبرك بزيارتك ، والاستشفاع بك إلى ربك تعالى ، فإن الخطايا قد أثقلت ظهورنا ، وأنت الشافع المشفع الموعود بالشفاعة العظمى والمقام المحمود ، وقد جئناك ظالمين لأنفسنا ، مستغفرين لذنوبنا ، سائلين منك أن تستغفر لنا إلى ربك ، فأنت نبينا وشفيعنا فاشفع لنا إلى ربك ، واسأله أن يميتنا على سنتك ومحبتك ، ويحشرنا في زمرتك ، وأن يوردنا حوضك غير خزايا ولا نادمين.

وروى يحيى الحسيني وغيره عن ابن أبي فديك قال : سمعت بعض من أدركت يقول : بلغنا أنه من وقف عند قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب : ٥٦] صلى الله تعالى على محمد وسلم ، وفي رواية : صلى الله عليك يا محمد ، يقولها سبعين مرة ، ناداه ملك ، صلى الله عليك يا فلان ، لم تسقط لك اليوم حاجة.

قلت : فينبغي تقديم ذلك على الدعاء والتوسل ، قال بعضهم : لكن الأولى أن يقول : صلى الله وسلم عليك يا رسول الله ، وإن كانت الرواية «يا محمد» تأدبا ؛ أي لأن من خصائصه صلى الله تعالى عليه وسلم أن لا ينادى باسمه ، بل يقال : يا رسول الله ، يا نبي الله ، ونحوه ، والذي يظهر أن هذا في نداء لا يقترن به الصلاة والسلام.

٢١٣

قال المجد : وروينا عن الأصمعي قال : وقف أعرابي مقابل قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : اللهم إن هذا حبيبك وأنا عبدك والشيطان عدوك ، فإن غفرت لي سرّ حبيبك وفاز عبدك وغضب عدوك ، وإن لم تغفر لي غضب حبيبك ورضي عدوك وهلك عبدك ، وأنت أكرم من أن تغضب حبيبك وترضي عدوك وتهلك عبدك ، اللهم إن العرب الكرام إذا مات فيهم سيد أعتقوا على قبره ، وإن هذا سيد العالمين فأعتقني على قبره ، قال الأصمعي فقلت : يا أخا العرب إن الله قد غفر لك وأعتقك بحسن هذا السؤال.

قال المجد : ويجلس إن طال القيام به ، فيكثر من الصلاة والتسليم.

ونقل في شرح المهذب عن كتاب آداب زيارة القبور لأبي موسى الأصفهاني أن الزائر بالخيار ، إن شاء زار قائما ، وإن شاء قعد كما يزور الرجل أخاه في الحياة ، فربما جلس عنده وربما زار قائما ومارا ، انتهى.

قال المجد : ويأتي بأتم أنواع الصلاة وأكمل كيفياتها ، والاختلاف في ذلك مشهور ، قال : والذي اختاره لنفسي : اللهم صل على سيدنا محمد وآله وصحبه وأزواجه ، الصلاة المأثورة ، أي التي أخبر بها السائل عن كيفية الصلاة عليه : عدد ما خلقت وعدد ما أنت خالق ، وزنة ما خلقت وزنة ما أنت خالق ، وملء ما خلقت وملء ما أنت خالق ، وملء سماواتك وملء أرضك ، ومثل ذلك ، وأضعاف ذلك ، وعدد خلقك ، وزنة عرشك ، ومنتهى رحمتك ، ومداد كلماتك ، ومبلغ رضاك ، وحتى ترضى ، وعدد ما ذكرك به خلقك في جميع ما مضى ، وعدد ما هم ذاكروك فيما بقي في كل سنة وشهر وجمعة ويوم وليلة وساعة من الساعات ونسم ونفس ولمحة وطرفة من الأبد إلى الأبد أبد الدنيا والآخرة وأكثر من ذلك ، لا ينقطع أوله ولا ينفد آخره ، ثم يقول ذلك مرة أو ثلاث مرات ، ثم يقول : اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كذلك ، ثم يتلو بين يدي سيدنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما تيسر من القرآن المجيد ، ويقصد الآي والسور الجامعة لصفات الإيمان ولمعاني التوحيد ، انتهى.

وقال النووي عقب ما تقدم عنه : ثم يتقدم يعني بعد فراغ الدعاء والتوسل قبالة الوجه الشريف إلى رأس القبر ، فيقف بين القبر والأسطوانة التي هناك ، ويستقبل القبلة ، ويحمد الله تعالى ويمجده ، ويدعو لنفسه بما أهمه وما أحبه ، ولوالديه ، ولمن شاء من أقاربه وأشياخه وإخوانه وسائر المسلمين. وفي كتب الحنفية وغيرهم نحو هذا.

وقال العز بن جماعة : وما ذكروه من العود إلى قبالة الوجه الشريف ومن التقدم إلى رأس القبر المقدس للدعاء عقب الزيارة لم ينقل عن فعل الصحابة رضي الله تعالى عنهم والتابعين رحمهم‌الله تعالى.

٢١٤

قلت : أما الدعاء والتوسل هناك فله أصل عنهم ، والذي لم ينقل إنما هو هذا الترتيب المخصوص والظاهر أن المراد بذلك تأخير الدعاء عن السلام على الشيخين والجمع بين موقفي السلف : الأول الذي كان قبل إدخال الحجر ، والثاني الذي كان بعده ، وهو حسن ، بل سبق أوائل سادس فصول الباب الخامس من رواية ابن شبة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حين فرغ من دفن ابنه إبراهيم قال عند رأسه : السلام عليكم ، وهو ظاهر في السلام من جهة الرأس.

ومنها : أن يأتي المنبر الشريف ، ويقف عنده ، ويدعو الله تعالى ، ويحمده على ما يسّر له ، ويصلي على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويسأل الله سبحانه وتعالى من الخير أجمع ، ويستعيذ به ، كما قاله ابن عساكر ، زاد الأقشهري عقبه : كما كانت الصحابة تفعل. يشير إلى ما رواه عن يزيد بن عبد الله بن قسيط قال : رأيت رجالا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا خلا المسجد يأخذون برمانة المنبر الصلعاء التي كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمسكها بيده ، ثم يستقبلون القبلة ويدعون.

وفي الشفاء لعياض عن أبي قسيط والعتبي رحمهما‌الله : كان أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ورضي الله تعالى عنهم إذا خلا المسجد حبسوا رمانة المنبر التي تلي القبر بميامنهم ، ثم استقبلوا القبلة يدعون.

وقال النووي عقب ما تقدم عنه : ثم يأتي الروضة فيكثر فيها من الدعاء والصلاة ، ويقف عند القبر ويدعو.

قلت : ويقف أيضا ويدعو عند أسطوان المهاجرين ، ويتبرك بالصلاة عندها وكذا أسطوان أبي لبابة ، وأسطوان المحرس ، وأسطوان الوفود ، وأسطوان التهجد بعد أن يسلم على فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها عند المحراب الذي في بيتها داخل المقصورة ؛ للقول بدفنها هناك كما سبق.

ومنها : أن يجتنب لمس الجدار ، وتقبيله ، والطواف به ، والصلاة إليه ، قال النووي : لا يجوز أن يطاف بقبره صلى الله تعالى عليه وسلم ، ويكره إلصاق البطن والظهر بجدار القبر ، قاله الحليمي وغيره ، قال : ويكره مسحه باليد وتقبيله ، بل الأدب أن يبعد منه كما يبعد منه لو حضر في حياته ، هذا هو الصواب ، وهو الذي قاله العلماء وأطبقوا عليه ، ومن خطر بباله أن المسح باليد ونحوه أبلغ في البركة فهو من جهالته وغفلته ؛ لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع وأقوال العلماء ، انتهى.

وفي الإحياء : مسّ المشاهد وتقبيلها عادة النصارى واليهود ، وقال الأقشهري : قال الزعفراني في كتابه : وضع اليد على القبر ومسّه وتقبيله من البدع التي تنكر شرعا.

٢١٥

وروي أن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه رأى رجلا وضع يده على قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، فنهاه ، وقال : ما كنا نعرف هذا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد أنكره مالك والشافعي وأحمد أشدّ الإنكار.

وقال بعض العلماء : إنه إن قصد بوضع اليد مصافحة الميت يرجى أن لا يكون به حرج ، ومتابعة الجمهور أحق ، انتهى.

وفي تحفة ابن عساكر : ليس من السنة أن يمس جدار القبر المقدس ، ولا أن يقبّله ، ولا يطوف به كما يفعله الجهال ، بل يكره ذلك ، ولا يجوز ، والوقوف من بعد أقرب إلى الاحترام ، ثم روى من طريق أبي نعيم قال : أنبأنا عبد الله بن جعفر بن فارس حدثنا أبو جعفر محمد بن عاصم حدثنا أبو أسامة عن عبيد الله بن نافع أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان يكره أن يكثر مس قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.

قال البرهان بن فرحون بعد ذكره : وهذا تقييد لما تقدم ، وهو عن ابن عمر في القبر نفسه ، فالجدر الظاهرة أخف ، إذا لم يكثر منه ، قال : وهو دال على قرب موقف الزائر ، ويفسر معنى الدنو الذي عبر به مالك ، انتهى.

وقال أبو بكر الأثرم : قلت لأبي عبد الله يعني أحمد بن حنبل ـ قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يلمس ويتمسح به؟ قال : لا أعرف هذا ، قلت : فالمنبر ، قال : أما المنبر فنعم ، قد جاء فيه شيء يروونه عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه مسح المنبر ، ويروونه عن سعيد بن المسيب في الرمانة ، أي رمانة المنبر قبل احتراقه.

ويروى عن يحيى بن سعيد شيخ مالك أنه حيث أراد الخروج إلى العراق جاء إلى المنبر فمسحه ودعا ، فرأيته استحسن ذلك ، قلت لأبي عبد الله : إنهم يلصقون بطونهم بجدار القبر ، وقلت له : ورأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يمسونه ، ويقومون ناحيته ، ويسلمون ، فقال أبو عبد الله : نعم ، وهكذا كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يفعل ذلك ، نقله ابن عبد الهادي عن تأليف ابن تيمية.

وقال العز بن جماعة بعد ذكر ما سبق عن النووي : وقال السروجي الحنفي : لا يلصق بطنه بالجدار ، ولا يمسه بيده ، وقال عياض في الشفاء : ومن كتاب أحمد بن سعيد الهندي فيمن وقف بالقبر : لا يلصق به ولا يمسه ولا يقف عنده طويلا ، وقال ابن قدامة من الحنابلة في المغني : ولا يستحب التمسح بحائط قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولا يقبله ، قال أحمد : ما أعرف هذا ، قال الأثرم : رأيت أهل العلم من أهل المدينة لا

٢١٦

يمسون قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل يقومون من ناحيته فيسلمون ، قال أبو عبد الله : وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يفعل ذلك ، انتهى. قال العز : في كتاب العلل والسؤالات لعبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه رواية أبي علي بن الصوف عنه ، قال عبد الله : سألت أبي عن الرجل يمسّ منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويتبرك بمسه ، ويقبله ، ويفعل بالقبر مثل ذلك رجاء ثواب الله تعالى ، قال : لا بأس به ، قال العز بن جماعة : وهذا يبطل ما نقل عن النووي من الإجماع.

قلت : النووي لم يصرح بنقل الإجماع ، لكن قوة كلامه تفهمه.

وقال السبكي في الرد على ابن تيمية في مسألة الزيارة : إن عدم التمسّح بالقبر ليس مما قام الإجماع عليه ؛ فقد روى أبو الحسين يحيى بن الحسين بن جعفر بن عبيد الله الحسيني في أخبار المدينة قال : حدثني عمر بن خالد حدثنا أبو نباتة عن كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال : أقبل مروان بن الحكم. فإذا رجل ملتزم القبر ، فأخذ مروان برقبته ثم قال : هل تدري ما تصنع؟ فأقبل عليه فقال : نعم ، إني لم آت الحجر ، ولم آت اللّبن ، إنما جئت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله ، قال المطلب : وذلك الرجل أبو أيوب الأنصاري. قال السبكي : وأبو نباتة يونس بن يحيى ، ومن فوقه ثقات ، وعمر بن خالد لم أعرفه ، فإن صح هذا الإسناد لم يكره مس جدار القبر ، وإنما أردنا بذكره القدح في القطع بكراهة ذلك ، انتهى.

قلت : سبق في الفصل قبله أن أحمد رواه بأتم من ذلك عن عبد الملك بن عمرو وهو ثقة عن كثير بن زيد ، وقد حكم السبكي بتوثيقه ، فإنه الذي فوق أبى نباتة في إسناد يحيى ، وقد وثقه جماعة ، لكن ضعفه النسائي كما سبق.

وتقدم أيضا أن بلالا رضي الله تعالى عنه لما قدم من الشام لزيارة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أتى القبر ، فجعل يبكي عنده ، ويمرغ وجهه عليه ، وإسناده جيد كما سبق.

وفي تحفة ابن عساكر من طريق طاهر بن يحيى الحسيني قال : حدثني أبي عن جدي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي رضي الله تعالى عنه قال : لما رمس رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جاءت فاطمة رضي الله تعالى عنها ، فوقفت على قبره صلى الله تعالى عليه وسلم ، وأخذت قبضة من تراب القبر ووضعت على عينيها وبكت ، وأنشأت تقول :

٢١٧

ما ذا على من شمّ تربة أحمد

أن لا يشمّ مدى الزمان غواليا

صبّت عليّ مصائب لو أنها

صبّت على الأيام عدن لياليا

ذكر الخطيب بن حملة أنّ ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان يضع يده اليمنى على القبر الشريف ، وأن بلالا رضي الله تعالى عنه وضع خديه عليه أيضا ، ثم قال : ورأيت في كتاب السؤالات لعبد الله بن الإمام أحمد ، وذكر ما تقدم عن ابن جماعة نقله عنه ، ثم قال : ولا شك أن الاستغراق في المحبة يحمل على الإذن في ذلك ، والمقصود من ذلك كله الاحترام والتعظيم ، والناس تختلف مراتبهم في ذلك كما كانت تختلف في حياته ، فأناس حين يرونه لا يملكون أنفسهم بل يبادرون إليه ، وأناس فيهم أنة يتأخرون ، والكل محل خير ، انتهى.

وقال الحافظ ابن حجر : استنبط بعضهم من مشروعية تقبيل الحجر الأسود جواز تقبيل كل من يستحق التعظيم من آدمي وغيره ، فأما تقبيل يد الآدمي فسبق في الأدب ، وأما غيره فنقل عن أحمد أنه سئل عن تقبيل منبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقبره ، فلم ير به بأسا ، واستبعد بعض أتباعه صحته عنه. ونقل عن ابن أبي الصيف اليماني أحد علماء مكة من الشافعية جواز تقبيل المصحف وأجزاء الحديث وقبور الصالحين.

ونقل الطيب الناشري عن المحب الطبري أنه يجوز تقبيل القبر ومسه؟ قال : وعليه عمل العلماء الصالحين ، وأنشد :

لو رأينا لسليمى أثرا

لسجدنا ألف ألف للأثر

وقال آخر :

أمرّ على الديار ديار ليلى

أقبل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حب الديار شغفن قلبي

ولكن حب من سكن الديارا

ونقل بعضهم عن أبي خيثمة قال : حدثنا مصعب بن عبد الله حدثنا إسماعيل بن يعقوب التيمي قال : كان ابن المنكدر يجلس مع أصحابه ، قال : وكان يصيبه الصمات ، فكان يقوم كما هو يضع خده على قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم يرجع ، فعوتب في ذلك ، فقال : إنه يصيبني خطرة ، فإذا وجدت ذلك استشفيت بقبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وكان يأتي موضعا من المسجد في الصحن فيتمرغ فيه ويضطجع ، فقبل له في ذلك ، فقال : إني رأيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في هذا الموضع ، أراه قال «في النوم» انتهى.

ومنها : اجتناب الانحناء للقبر عند التسليم ، قال ابن جماعة : قال بعض العلماء : إنه من البدع ، ويظن من لا علم له أنه من شعار التعظيم ، وأقبح منه تقبيل الأرض للقبر ، لم

٢١٨

يفعله السلف الصالح ، والخير كله في اتباعه ، ومن خطر بباله أن تقبيل الأرض أبلغ في البركة فهو من جهالته وغفلته ؛ لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع وأقوال السلف وعملهم ، قال : وليس عجبي ممن جهل ذلك فارتكبه ، بل عجبي ممن أفتى بتحسينه مع علمه بقبحه ومخالفته لعمل السلف ، واستشهد لذلك بالشعر ، انتهى.

قلت : وقد شاهدت بعض جهال القضاة فعل ذلك بحضرة الملأ ، وزاد عليه وضع الجبهة كهيئة الساجد ، فتبعه العوام ، ولا قوة إلا بالله.

ومنها : أن لا يمر بقبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يقف ويسلم عليه ، سواء مر من داخل المسجد أو من خارجه ، ويكثر من قصده وزيارته.

روى الأقشهري بسنده لابن أبي الدنيا قال : حدثني الحسين بن عبد العزيز قال : حدثنا الحارث بن سليمان قال : أنبأنا ابن وهب قال : أنبأنا عبد الرحمن بن زيد أن أبا حازم حدثه أن رجلا أتاه فحدثه أنه رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لأبي حازم : أنت المارّ بي معرضا لا تقف تسلم عليّ؟ فلم يدع ذلك أبو حازم منذ بلغته هذه الرؤيا.

وفي كتاب الجامع من البيان لابن رشد شرح العتبية ، ما لفظه : وسئل ـ يعني مالكا عن المار بقبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أترى أن يسلم كلما مر؟ قال : نعم ، أرى ذلك ، عليه أن يسلم كلما مر به ، وقد أكثر الناس من ذلك ، فإذا لم يمر به فلا أرى ذلك ، وذكر حديث «اللهم لا تجعل قبري وثنا» الحديث.

قال : فقد أكثر الناس من هذا ، فإذا لم يمر عليه فهو في سعة من ذلك ، قال : وسئل عن الغريب يأتي قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل يوم ، فقال : ما هذا من الأمر ، ولكن إذا أراد الخروج ، قال ابن رشد : المعنى في ذلك أنه يلزمه أن يسلم عليه كلما مر به متى ما مر ، وليس عليه أن يأتي ليسلم عليه إلا للوداع عند الخروج ، ويكره أن يكثر المرور به ، والسلام عليه ، والإتيان كل يوم إليه ؛ لئلا يجعل القبر بفعله ذلك كالمسجد الذي يؤتى كل يوم للصلاة فيه ، وقد نهى صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك بقوله «اللهم لا تجعل قبري وثنا» الحديث.

وقال عياض في الشفاء : قال مالك في كتاب محمد : ويسلم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إذا دخل وخرج ، يعني في المدينة ، وفيما بين ذلك ، وقال مالك في المبسوط : وليس يلزم من دخل المسجد وخرج منه من أهل المدينة الوقوف بالقبر ، وإنما ذلك للغرباء ، وقال فيه أيضا : لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، فيصلي عليه ، ويدعو له ولأبي بكر وعمر رضي الله

٢١٩

تعالى عنهما ، فقيل له : إن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه ويفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر ، وربما وقفوا في الجمعة أو في الأيام المرة أو المرتين أو أكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة ، فقال : لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا ، وتركه واسع ، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك ، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده.

قال الباجي : ففرق بين أهل المدينة والغرباء ؛ لأن الغرباء قصدوا لذلك ، وأهل المدينة مقيمون بها لم يقصدوها من أجل القبر والتسليم.

قال السبكي : والمتلخّص من مذهب مالك أن الزيارة قربة ، ولكنه على عادته في سد الذرائع يكره منها الإكثار الذي قد يفضي إلى محذور ، والمذاهب الثلاثة يقولون باستحبابها واستحباب الإكثار منها ؛ لأن الإكثار من الخير خير.

وقال النووي في زيارة القبور من الأذكار : ويستحب الإكثار من الزيارة ، وأن يكثر الوقوف عند قبور أهل الخير والفضل. وسبق في الفصل العشرين من الباب الرابع قول عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في خبر هدم جدار الحجرة : كنت أخرج كل ليلة من آخر الليل حتى آتي المسجد فأبدأ بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأسلم عليه ، ثم آتي مصلاي فأجلس به حتى أصلي الصبح.

وروى ابن زبالة عن عبد العزيز بن محمد قال : رأيت رجلا من أهل المدينة يقال له محمد بن كيسان يأتي إذا صلّى العصر من يوم الجمعة ـ ونحن جلوس مع ربيعة بن أبي عبد الرحمن فيقوم عند القبر فيسلم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، ويدعو حتى يمسي ، فيقول جلساء ربيعة : انظروا إلى ما يصنع هذا؟ فيقول : دعوه فإنما للمرء ما نوى.

وقال ابن عبد الحكم : سمعت الشافعي يقول : قال ابن عجلان لبعض الأمراء : إنك تطيل ثيابك ، وتطيل الخطبة ، وتكثر المجيء إلى قبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فلو كان فيه العجلان ما أتيته.

ومنها : إكثار الصلاة والتسليم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وإيثار ذلك على سائر الأذكار ، ما دام هناك.

ومنها : اغتنام ما أمكن من الصيام ولو يسيرا من الأيام.

ومنها : الحرص على فعل الصلوات الخمس بالمسجد النبوي في الجماعة ، والإكثار من النافلة فيه ، مع تحري المسجد الذي كان في زمنه صلى الله تعالى عليه وسلم ، إلا أن يكون الصفّ الأول خارجه فهو أولى ، وإن أمكنه ملازمة المسجد ، وأن لا يفارقه إلا

٢٢٠