وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى - ج ٣

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى - ج ٣

المؤلف:

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي


المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-381-8-0
الصفحات: ٢٤٦

كما رحمتني ورحمت أصحابي ، وأخبره جبريل بأن الله مرسل عليهم ريحا ، فبشر أصحابه بذلك.

قلت : فينبغي أن يدعى بذلك كله هناك ، فيقول : اللهم يا صريخ المستصرخين والمكروبين ، ويا غياث المستغيثين ، ويا مفرج كرب المكروبين ، ويا مجيب دعوة المضطرين ، صلّ على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم ، واكشف عني كربي وغمي وحزني وهمي ، كما كشفت عن حبيبك ورسولك صلى‌الله‌عليه‌وسلم كربه وحزنه وغمه وهمه في هذا المقام ، وأنا أتشفع إليك به صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك ، يا حنان يا منان يا ذا الجود والإحسان.

ويقدم عليه ما في الصحيح من حديث ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كان يدعو عند الكرب لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لا إله إلا الله رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله ربّ السموات ورب الأرضين رب العرش الكريم». وكذلك دعاء الشافعي رحمه‌الله تعالى الذي دعا به عند دخوله على الرشيد في محنته فقد روى أبو نعيم بإسناد من طريق الشافعي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا به في يوم الأحزاب ، ورفعه غير صحيح كما قال البيهقي ، لكنه دعاء عظيم ، وفي ألفاظه اختلاف ، وقد جمعت بينها وهو «شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط ، لا إله إلا هو العزيز الحكيم» ثم قال «وأنا أشهد بما شهد الله به ، وأستودع الله هذه الشهادة ، وهي وديعة لي عند الله يؤدّيها إلى يوم القيامة ، اللهم إني أعوذ بنور قدسك وعظمة طهارتك وبركة جلالك من كل آفة وعاهة ومن طوارق الليل والنهار ، وطارق الجن والإنس ، إلا طارقا يطرق بخير ، اللهم أنت غياثي فبك أغوث ، وأنت ملاذي فبك ألوذ ، وأنت عياذي فبك أعوذ ، يا من ذلّت له رقاب الجبابرة ، وخضعت له أعناق الفراعنة ، أعوذ بجمال وجهك وكرم جلالك من خزيك وكشف سترك ، ومن نسيان ذكرك ، والاضراب عن شكرك ، أنا في حرزك وكنفك وكلاءتك في ليلي ونهاري ، ونومي وقراري ، وظعني وأسفاري ، وحياتي ومماتي ، ذكرك شعاري ، وثناؤك دثاري ، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ، تنزيها لاسمك وعظمتك ، وتكريما لسبحات وجهك ، أجرني من خزيك ومن شر عبادك ، واضرب عليّ سرادقات حفظك ، وقني سيئات عذابك ، وجد علي ، وعدني منك بخير يا أرحم الراحمين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم الكريم ، والصلاة على النبي المرتضى محمد وآله وصحبه وسلم».

قلت : ومما يدل على اشتهار الاستجابة بهذا المسجد في يوم الأربعاء وقصد السلف له في ذلك اليوم حتى النساء ما حكاه الأديب شهاب الدين أبو الثناء محمود في كتابه «منازل الأحباب» من رؤية عتبة بن الحباب بن المنذر بن الجموع امرأة ممن يزور هذا المسجد في يوم الأربعاء مع نسوة المرة بعد الأخرى وذكر قصته في تزوجه بها ، وإنشاده :

٤١

يا للرّجال ليوم الأربعاء أما

ينفكّ يحدث لي بعد النهي طربا

ما إن يزال غزال فيه يظلمني

يهوى إلى مسجد الأحزاب منتقبا

يخبّر الناس أنّ الأجر همّته

وما أتى طالبا للأجر محتسبا

لو كان يبغي ثوابا ما أتى ظهرا

مضمخا بفتيت المسك مختضبا

وفي كلام الزبير بن بكار ما يقتضي نسبة هذه الأبيات مع زيادة فيها لعبد الله بن مسلم بن جندب الهذلي ، وأنه كان إمام المسجد المذكور فإنه قال : ولما ولي الحسن بن زيد المدينة منع عبد الله بن مسلم بن جندب الهذلي أن يؤمّ الناس في مسجد الأحزاب ، فقال له : أصلح الله الأمير لم منعتني مقامي ومقام آبائي وأجدادي قبلي؟ قال : ما منعك منه إلا يوم الأربعاء ، يريد قوله :

يا للرّجال ليوم الأربعاء

وذكر الأبيات الأربعة المتقدمة وزاد عقبها أربعة أخرى ، وهي :

فإن فيه لمن يبغي فواضله

فضلا وللطالب المرتاد مطلبا

كم حرّة درّة قد كنت آلفها

تسدّ من دونها الأبواب والحجبا

قد ساغ فيه لها مشي النهار كما

ساغ الشراق لعطشان إذا شربا

اخرجن فيه ولا ترعين ذا كذب

قد أبطل الله فيه قول من كذبا

قال المجد : وأما تسميته يعني المسجد الأعلى بمسجد الفتح فمحتمل أنه سمّي به لأنه أجيبت فيه دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الأحزاب ، فكان فتحا على الإسلام أو أنزل الله عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة الفتح هناك ، انتهى.

قلت : وبالثاني جزم ابن جبير في رحلته ، لكن جاء في خبر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كان قد تقنّع بثوبه يوم الخندق واضطجع لما أتاه أصحابه بخبر بني قريظة ، ثم إنه رفع رأسه فقال : بشروا بفتح الله ونصره» كما في مغازي ابن عقبة ، فلعل ذلك كان في موضع هذا المسجد ، فسمي بذلك لوقوع البشارة بالفتح فيه.

وأيضا فقد روى القرطبي ما يقتضي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أرسل حذيفة ليأتيه بخبر الأحزاب كان بمحل هذا المسجد.

وقد قال ابن عقبة : إن حذيفة لما رجع وجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائما يصلي ، ثم انصرف إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره الخبر ، فأصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون قد فتح الله عزوجل لهم وأقر أعينهم ، اه.

وروى ابن شبة عن أسيد بن أبي أسيد عن أشياخهم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «دعا على الجبل الذي عليه مسجد الفتح ، وصلّى في المسجد الصغير الذي بأصل الجبل على الطريق حين يصعد الجبل». وروى ابن زبالة عن معاوية ابن عبد الله بن زيد ، نحوه.

٤٢

وعن معاذ بن سعد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «صلّى في مسجد الفتح الذي على الجبل وفي المساجد التي حوله».

المساجد التي حول مسجد الفتح

قلت : وظاهره أن المساجد حوله ثلاثة لأنه أقل الجمع ، وهو ما صرح به ابن النجار فقال : إن مسجد الفتح على رأس جبل يصعد إليه بدرج ، وقد عمر عمارة جديدة ، أي عمارة ابن أبي الهيجاء الآتية فإنه أدركها.

قال : وعن يمينه في الوادي نخل كثير ، ويعرف ذلك الموضع بالسيحي ، أي بالياء آخر الحروف. ومساجد حوله وهي ثلاثة ـ قبلة الأول منها خراب ، وقد هدم وأخذت حجارته ، والآخران معموران بالحجارة والجص ، وهما في الوادي عند النخل ، انتهى.

وقال المطري : إن المسجدين اللّذين في قبلة مسجد الفتح تحته يعرف الأول منهما يعني الذي يلي مسجد الفتح بمسجد سلمان الفارسي ، والثاني الذي يلي القبلة ـ يعني في قبلة مسجد سلمان ـ يعرف بمسجد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، ثم ذكر ما تقدم عن ابن النجار من أنه كان معهما مسجد ثالث ، ثم قال : وهذا لم يبق له أثر.

قلت : وفي قبلة المسجد المعروف بأمير المؤمنين جانحا إلى جهة المشرق يلحق طرف جبل سلع الذي في قبلة المساجد رضم من حجارة رأينا الناس يتبركون بالصلاة بينها. وقد تأملتها فوجدت في طرفها مما يلي المشرق حجرا من المقام الذي يجعل منه الأساطين ، وهو مثبت في الأرض بالجص ، فترجح عندي أنه أثر أسطوان ، وأن ذلك هو المسجد الذي يشير إليه ابن النجار ، وما ذكره المطري من نسبة المسجدين المذكورين لسلمان وعلي رضي الله تعالى عنهما شائع على ألسنة الناس ، ويزعمون أن الثالث الذي ذكر المطري أنه لم يبق له أثر مسجد أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، وبعض العامة يسمى مسجد سلمان بمسجد أبي بكر رضي‌الله‌عنه ، ولم أقف في ذلك كله على أصل.

قال المطري : ويصعد إلى مسجد الفتح بدرجتين شمالية وشرقية ، وكان فيه ثلاث أسطوانات من بناء عمر بن عبد العزيز ، فلذلك قال في الحديث «موضع الأسطوانة الوسطى».

قلت : والمراد أنها ثلاث أساطين بين المشرق والمغرب فمسقفه رواق واحد فقط كما هو عليه اليوم ، قال المطري : لكنه تهدّم على طول الزمان فجدّده الأمير سيف الدين الحسين بن أبي الهيجاء أحد وزراء العبيديّين ملوك مصر في سنة خمس وسبعين وخمسمائة ، وكذلك جدد بناء المسجدين اللذين تحته من جهة القبلة في سنة سبع وسبعين وخمسمائة.

قلت : واسمه اليوم مرسوم على مسن في أعلى قبلة مسجد الفتح ، وفي أعلى قبلة المسجد الذي يليه. وفيه ذكر العمارة في التاريخ المذكور.

٤٣

وأما المسجد الآخر ـ وهو الذي في قبلتهما ، المنسوب لأمير المؤمنين عليّ ـ فتهدّم بناؤه ، فجدّده الأمير زين الدين ضغيم بن حشرم المنصوري أمير المدينة الشريفة في سنة ست وسبعين وثمانمائة ، وكان سقفه عقدا ، وفيه مسن عليه اسم ابن أبي الهيجاء كالمسجدين الآخرين ، فجعل سقفه خشبا على أسطوان واحد ، وسقف كل من مسجد الفتح والذي في قبلته رواق واحد مقبوّ قبوا محكما ، وفي كل منهما ثلاث قناطر آخذة من المشرق إلى المغرب ، والظاهر أن الرحبة التي خف الرواق المذكور لم تغير عن حالها القديم. وذرع المسجد الأعلى من القبلة إلى الشام عشرون ذراعا ينقص يسيرا ، ومن المشرق إلى المغرب مما يلي القبلة سبعة عشر ذراعا. وذرع المسجد الأسفل المنسوب لسلمان رضي الله تعالى عنه من القبلة إلى الشام أربعة عشر ذراعا شافة ، ومن المشرق إلى المغرب مما يلي القبلة سبعة عشر ذراعا. وذرع المسجد الذي يليه ـ وهو المنسوب لعلي رضي‌الله‌عنه ـ من القبلة إلى الشام ثلاثة عشر ذراعا شافة ، ومن المشرق إلى المغرب مما يلي القبلة ستة عشر ذراعا شافة.

مسجد بني حرام الكبير

وينبغي لقاصد مساجد الفتح أن يزور مسجد بني حرام الكبير ، وهو غير مسجدهم الصغير الآتي ذكره ، وهذا المسجد هو الذي اتخذوه لشعبهم من سلع لما تحوّلوا إليه على ما قدمناه في ذكر المنازل ؛ لما فيه مما يقتضي أنهم تخلوا إليه بإذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم.

وقد روى رزين عن يحيى بن قتادة بن أبي قتادة عن مشيخة من قومه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كان يأتي دور الأنصار فيصلي في مساجدهم».

وقدمنا هناك أيضا أن عمر بن عبد العزيز زاد فيه على بناء أهله له مدماكين من أعلاه ، وطابق سقفه ، وكان أولا بخشب وجريد ، وجعل فيه زيت مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فهذا يقتضي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى فيه ، لكن تقدم أيضا ما يقتضي أن بنى حرام إنما انتقلوا للشعب المذكور في زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.

وروى ابن شبة في ذكر المساجد التي يقال إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى فيها ، ويقال إنه لم يصل فيها ، عن حرام بن عثمان أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يصلّ في مسجد بني حرام الأكبر ، ثم روى ما قدمناه من الاختلاف في وقت تحوّلهم إلى ذلك المحل.

فيتلخص من ذلك أنه مما اختلف في صلاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه ، ولذلك لم يفرده بالذكر ، وقد ظهر لي محله في قرية بني حرام بشعبهم غربي جبل سلع على يمين السالك إلى مساجد الفتح من الطريق القبلية ، وعلى يسار السالك إلى المدينة من مساجد الفتح ، فإذا جاوزت البطن الذي فيه مساجد الفتح وأنت قاصد المدينة يلقاك بعد ذلك بطن متسع من سلع فيه آثار قرية هي قرية بني حرام ، وذلك شعبهم ، وقد انهدم المسجد بأجمعه ، وبقي أساسه وآثار

٤٤

أساطينه من الخزر المكسر ، وفيها آثار الرصاص وعمد الحديد وآثار الرمل بأرضه ، ولعل الله تعالى يبعث له من يحييه.

كهف بني حرام

وينبغي لقاصد المسجد المذكور أن يزور كهف بني حرام قرب شعبهم المذكور ؛ لما سيأتي في ذكر عين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن عبد الملك بن جابر بن عتيك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «توضّأ من العيينة التي عند كهف بني حرام» قال : وسمعت بعض مشيختنا يقول : قد دخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك الكهف.

وفي رواية أنهم كانوا ـ يعني الصحابة ـ يخرجون مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويخافون البيات ، فيدخلونه كهف بني حرام فيبيت فيه ، حتى إذا أصبح هبط ، وإنه نقر العيينة التي عند الكهف.

ولما روى ابن شبة عن يحيى بن النصر الأنصاري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «جلس في كهف سلع» والمراد به كف بني حرام.

ولما روى الطبراني في الأوسط والصغير عن أبي قتادة قال : خرج معاذ بن جبل فطلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يجده ، فطلبه في بيوته فلم يجده ، فاتّبعه في سكة سكة حتى دلّ عليه في جبل ثواب ، فخرج حتى رقي جبل ثواب فنظر يمينا وشمالا فبصر به في الكهف الذي اتخذ الناس إليه طريقا إلى مسجد الفتح ، قال معاذ : فإذا هو ساجد ، فهبطت من رأس الجبل وهو ساجد فلم يرفع حتى أسأت به الظن ، فظننته أنه قد قبضت روحه ، فقال : جاءني جبريل بهذا الموضع فقال : إن الله تبارك وتعالى يقرؤك السلام ويقول لك : ما تحبّ أن أصنع بأمتك؟ قلت : الله أعلم ، فذهب ثم جاء إلي فقال : إنه يقول : لا أسوأك في أمتك ، فسجدت فأفضل ما تقرب به إلى الله عزوجل السجود.

قلت : وجبل ثواب لم أقف له على ذكر ، ولكن يؤخذ من قوله في هذا الكهف إنه الذي اتخذ الناس إليه طريقا إلى مسجد الفتح أنه جبل سلع ، والمراد اتخذ الناس إلى الكهف طريقا إلى طريق مسجد الفتح ، فهو كهف بني حرام بقرينة ما سبق ، والكهف كما في الصحاح : شبه البيت المنقور في الجبل ، وهذا الكهف يظهر أنه الذي على يمين المتوجّه من المدينة إلى مساجد الفتح من الطريق القبلية أيضا إذا قرب من البطن الذي هو شعب بني حرام في مقابلة الحديقة المعروفة اليوم بالنقيبية عن يساره.

وكذلك الحصن المعروف بحصن حمل يكون في جهة يساره فهناك مجرى سائلة تسيل من سلع إلى بطحان ، فإذا دخل في تلك السائلة وصعد يسيرا من سلع طالبا جهة المشرق كان الكهف المذكور على يمينه ، وعنده أثر نقر ممتد في الجبل هو مجرى السائلة المذكورة ، وإذا صعد

٤٥

الإنسان من ذلك المجرى وكان في أعلاه وجد كهفا آخر ، لكنه صغير جدّا ، والأول أقرب إلى كونه المراد ، ولعل ذلك النقر هو المراد فيما يتعلق بالعيينة ، وإذا حصل المطر بسلع سالت تلك السائلة ، ويبقى هناك مواضع يتحصل فيها الماء ثم يجري منها ؛ فينبغي التبرك بها ، والله أعلم.

مسجد القبلتين

ومنها : مسجد القبلتين ، قال رزين : وهو مسجد بني حرام بالقاع ، وتبعه ابن النجار فمن بعده ، وزاد المطري وتبعه من بعده أنه الذي رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم النخامة في قبلته فحكّها بعرجون كان في يده ، ثم دعا بخلوق فجعله على راس العرجون ثم جعله في موضع النخامة ، فكان أوّل مسجد خلّق ، وهذا كله مردود ؛ لأن ابن زبالة قال كما قدمناه في المنازل : إن بني سواد بن غنم بن كعب نزلوا عند مسجد القبلتين ، ولهم مسجد القبلتين ونزل بنو عبي بن عدي بن غنم بن كعب عند مسجد الخربة ، ونزل بنو حرام بن كعب بن غنم بن كعب عند مسجد بني حرام الصغير الذي بالقاع ، وابتنوا أطمأ يقال له جاعص كان في السهل بين الأرض التي كانت لجابر بن عتيك وبين العين التي عملها معاوية بن أبي سفيان ، وحينئذ فلا يصح كون مسجد بني حرام الصغير هو مسجد القبلتين. وكان هؤلاء الجماعة فهموا من وصف مسجدهم هذا بالصغير أن مسجدهم الكبير هو مسجد القبلتين ، وليس كذلك ؛ لما قدمناه من أن مسجدهم الكبير نقل أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يصلّ فيه ، وأنه الذي بشعب سلع ، وأيضا فقد صرح ابن زبالة بأن مسجد القبلتين لبني سواد ، وأيضا فاسم القاع إنما يناسب ما قدمناه في بيان منازل بني حرام في غربي مساجد الفتح ، فمسجد بني حرام هذا من المساجد التي لا تعلم اليوم عينها ، ولكن تعلم جهتها. ومما يوضح المغايرة بين مسجد بني حرام وبين مسجد القبلتين ، ويصرح بخطإ ما ذهب إليه من جعلهما متحدين أن ابن شبة روى عن جابر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى في مسجد الخربة ، وفي مسجد القبلتين ، وفي مسجد بني حرام الذي بالقاع. ورواه أيضا ابن زبالة عن جابر بلفظ «صلّى في مسجد القبلتين وفي مسجد بني حرام بالقاع» ولم يذكر مسجد الخربة ؛ فاتّضح بذلك ما قلناه ، وتعين اجتناب ما عداه ، وما ذكره المطري من كون مسجد القبلتين أول مسجد خلّق أخذه من ورود ذلك في مسجد بني حرام لظنه اتحادهما ؛ فاجتنبه.

وقال ابن زبالة : وحدثني موسى بن إبراهيم عن غير واحد من مشيخة بني سلمة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «صلّى في مسجد القبلتين» وقد قدمناه في الفصل الثالث من الباب الرابع الاختلاف في تعيين المسجد الذي وقع فيه تحويل القبلة وسنته والصلاة التي وقع ذلك فيها ، وفي بعض تلك الروايات أن ذلك كان بمسجد القبلتين ، وأن الواقديّ قال : إن ذلك هو الثابت عنده.

٤٦

وروى يحيى عن عثمان بن محمد بن الأخنس قال : زار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم امرأة ـ وهي أم بشر من بني سلمة ـ في بني سلمة ، فصنعت له طعاما ، قالت أم بشر : فهم يأكلون من ذلك الطعام إلى أن سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الأرواح ، فذكر حديثها في أرواح المؤمنين والكافرين ، ثم قال : فجاءت الظهر فصلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأصحابه في مسجد القبلتين الظهر ، فلما أن صلى ركعتين أمر أن يوجه إلى الكعبة ، فاستدار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الكعبة واستقبل الميزاب ؛ فهي القبلة التي قال الله تعالى «فلنولينك قبلة ترضاها» فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين.

وفي رواية له : فلما صلى ركعتين أمر أن يولي وجهه إلى الكعبة ، فاستدار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الكعبة والمسجد مسجد القبلتين ، وكان الظهر يومئذ أربعا منها اثنتان إلى بيت المقدس وثنتان إلى الكعبة.

قلت : وهذا ما أشار إليه ابن سعد بقوله : ويقال إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم زار أم بشر بن البراء بن معرور في بني سلمة ، فصنعت له طعاما وحانت الظهر ، فصلى بأصحابه ركعتين ، ثم أمر أن يوجّه إلى الكعبة ، فاستداروا إلى الكعبة ، فسمي المسجد مسجد القبلتين.

وتقدم ما قاله الزمخشري من صرف القبلة في هذا المسجد في صلاة الظهر ، وإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الله عليه وسلم تحول في الصلاة وحوّل الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال.

وروى ابن زبالة عن محمد بن جابر قال : صرفت القبلة ونفر من بني سلمة يصلون الظهر في المسجد الذي يقال له مسجد القبلتين ، فأتاهم آت فأخبرهم وقد صلوا ركعتين فاستداروا حتى جعلوا وجوههم إلى الكعبة ، فبذلك سمّي مسجد القبلتين.

قال المجد : فعلى هذا كان مسجد قباء أولى بهذه التسمية ؛ لما ثبت في الصحيحين من وقوع نحو ذلك به.

وقد أطنب المجد هنا فيما جاء في تخليق القبلة لتوهمه أن مسجد القبلتين هو المراد ، وذلك وهم لما أسلفناه ، وهذا المسجد ـ كما قال المطري ـ بعيد من مساجد الفتح من جهة المغرب على رابية على شفير وادي العقيق ، يعني العقيق الصغير.

قلت : وهو مرتفع عن شفير وادي العقيق كثيرا ، وكأنه أراد بذلك بيان مناسبة ما ادّعاه من تسمية موضعه بالقاع ، وقد جدد سقف هذا المسجد وأصلحه الشجاعي شاهين الجمالي شيخ الخدامين عام ثلاث وتسعين وثمانمائة ، والله أعلم.

مسجد السقيا

ومنها : مسجد السقيا ، سقيا سعد الآتي ذكرها في الآبار ، في شامي البئر المذكورة

٤٧

قريبا منها جانحا إلى المغرب يسيرا في طريق المار إلى الرقيقين من طريق العقيق ، وهذا المسجد ذكره أبو عبد الله الأسدي من المتقدمين في منسكه في المساجد التي تزار بالمدينة.

وروى ابن شبة في ترجمة المواضع التي صلّى فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومساجده عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ، قال : عرض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين بالسقيا التي بالحرة متوجها إلى بدر وصلّى بها.

وقد قدمنا في الفصل الرابع من الباب الثاني ما رواه الترمذي وقال حسن صحيح عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى إذا كنا بحرّة السقيا التي كانت لسعد بن أبي وقاص فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ائتوني بوضوء ، فتوضأ ثم قام فاستقبل القبلة فقال : اللهم إن إبراهيم كان عبدك وخليلك ودعاك لأهل مكة بالبركة ، وأنا عبدك ورسولك أدعوك لأهل المدينة أن تبارك لهم في مدّهم وصاعهم مثل ما باركت لأهل مكة مع البركة بركتين.

وقدمنا أيضا أن ابن شبة رواه بنحوه إلا أنه قال : حتى إذا كنا بالحرة بالسقيا التي كانت لسعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ائتوني بوضوء ، فلما توضأ قام فاستقبل القبلة ثم كبر ثم قال ، الحديث بنحوه.

وتقدم أيضا رواية الطبراني له بسند جيد ، وأن أحمد روى برجال الصحيح عن أبي قتادة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «صلّى بأرض سعد بأصل الحرّة عند بيوت السقيا ، ثم قال : إن إبراهيم خليلك وعبدك ونبيك دعاك لأهل مكة ، وأنا محمد عبدك ورسولك أدعوك لأهل المدينة مثلي ما دعاك به إبراهيم لمكة ، أن تبارك لهم في صاعهم ومدّهم وثمارهم ، اللهم حبّب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة ، واجعل ما بها من وباء بخم ، اللهم إني حرّمت ما بين لابتيها كما حرمت على لسان إبراهيم الحرم».

وقال الواقدي في غزوة بدر : لما نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند بيوت السّقيا ، فحدثني ابن أبي ذئب عن المقبري عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى عند بيوت السّقيا ودعا يومئذ لأهل المدينة : اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك ، الحديث.

وروى أيضا عن سعد بن أبي وقّاص قال : خرجنا إلى بدر مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعنا سبعون بعيرا ، وكانوا يتعاقبون الثلاثة والأربعة والاثنان على بعير ، وكنت أنا من أعظم أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غنّى وأرجلهم رجلة وأرماهم بسهم لم أركب خطوة ذاهبا ولا راجعا.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين فصل من يثرب للسقيا : اللهم إنهم حفاة فاحملهم ، وعراة فاكسهم ، وجياع فأشبعهم ، وعالة فأغنهم من فضلك ، قال : فما رجع أحد منهم يريد أن يركب إلا وجد ظهرا للرجل البعير والبعيران ، واكتسى من كان عاريا ، وأصابوا طعاما من أزوادهم ، وأصابوا فداء الأسرى فأغنى به كل عائل.

٤٨

وروى ابن زبالة عن عمر بن عبد الله الديا ناري وعمار بن حفص أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرض جيش بدر بالسقيا ، وصلّى في مسجدها ، ودعا هنالك لأهل المدينة أن يبارك لهم في صاعهم ومدّهم ، وأن يأتيهم بالرزق من ها وهنا. قال : واسم البئر السقيا ، واسم أرضها الفلجان.

قلت : ولم يكن هذا المسجد معروفا ، ولم يذكره المطري ، بل تردد في البئر بين البئر التي في المحل المذكور وبين البئر المعروفة بزمزم ، ومال إلى ترجيح أنها التي في المحل المذكور ، فاتفق أني جئت إلى ذلك المحل وتطلبت المسجد ، فرأيت محله رضما ، فأرسلت إليه بعض المعلمين وأمرته أن يتتبع الأساس بالحفر من داخله فظهر محراب المسجد وتربيعه وبناؤه بالحجارة المطابقة بالجص ، وقد بقي منه في الأرض أزيد من نصف ذراع فيه بياض المسجد بالقصّة بحيث يعلم الناظر أنه من البناء العمري ، وخرج الناس أفواجا لرؤيته والتبرك به ، ثم بنى ولله الحمد على أساسه الأول ، وهو مربع ، مساحته نحو سبعة أذرع في مثلها.

مسجد ذباب (الراية)

ومنها : مسجد ذباب ، ويعرف اليوم بمسجد الراية ، ولما لم يعرفه المطري قال : وليس بالمدينة مسجد يعرف غير ما ذكر إلّا مسجدّا أعلى ثنية الوداع عن يسار الداخل إلى المدينة من طريق الشام ، ومسجدّا آخر على طريق السافلة ، ولم يرد فيهما نقل يعتمد عليه.

قال الزين المراغي في بيان المسجد الأول : وكأنه يريد به المسجد المعروف بمسجد الراية.

قلت : هو مراده ؛ لوجوده في زمنه ، ولم يعدّه في المساجد وأطلق على محل ثنية الوداع لقربه منها ، وهو مبني بالحجارة المطابقة على صفة المساجد العمرية ، وكان قد تهدم فجدده الأمير جانبك النيروزي رحمه‌الله تعالى سنة خمس أو ست وأربعين وثمانمائة ، وقد اتضح لنا ما جاء في هذا المسجد بحمد الله تعالى لأن الإمام أبا عبد الله الأسدي في المتقدمين لما عدد في كتابه الأماكن التي تزار في المدينة الشريفة قال : مسجد الفتح على الجبل ، ومسجد ذباب على الجبل ، انتهى. وذباب : اسم الجبل الذي عليه المسجد المذكور كما سنوضحه.

وقد روى ابن زبالة وابن شبة عن عبد الرحمن الأعرج أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى على ذباب.

وروى الثاني عن ربيع بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري قال : ضرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبّته على ذباب.

وعن الحارث بن عبد الرحمن قال : بعثت عائشة رضي الله تعالى عنها إلى مروان بن الحكم حين قتل ذبابا وصلبه على ذباب تقول : موقف صلى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واتخذته مصلبا.

قال أبو غسان : وذباب رجل من أهل اليمن عدا على رجل من الأنصار ، وكان عاملا

٤٩

لمروان على بعض مساعي اليمن ، وكان الأنصاري عدا على رجل فأخذ منه بقرة ليست عليه ، فتبع ذباب الأنصاريّ حتى قدم المدينة ، ثم جلس له في المسجد حتى قتله ، فقال له مروان : ما حملك على قتله؟ قال : ظلمني بقرة لي ، وكنت امرأ خبيث النفس فقتلته ، فقتله مروان وصلبه على ذباب.

وتقدم من رواية ابن شبة في اتخاذ المقصورة في المسجد ما يقتضي أن الرجل الذي ظلمه ساعي مروان اسمه دب ، وأنه إنما همّ بقتل مروان ، فأخذه مروان ، فذكر له السبب المتقدم وأنه حبسه ثم أمر به فقتل.

وقال ابن شبة : قال أبو غسان : وأخبرني بعض مشايخنا أن السلاطين كانوا يصلبون على ذباب ، فقال هشام بن عروة لزياد بن عبيد الله الحارثي : يا عجبا ، يصلبون على مضرب قبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكفّ عن ذلك زياد وكفت الولاة بعده عنه.

قلت : وقد جعل المطري في الكلام على الخندق مضرب قبّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو محل مسجد الفتح من سلع ؛ لظنه أن الخندق لم يكن إلا في غربي سلع ، وكأنه لم يطلع على ما هنا. ولم أر لما ذكره أصلا في كلام غيره ، وقد غاير أبو عبد الله الأسدي بين مسجد الفتح ومسجد ذباب كما قدمناه ، وسيأتي ما يؤخذ منه أن الخندق كان شامي المدينة بين حرّتيها الشرقية والغربية.

وفي اتخاذ المسجد على هذا الجبل رد لما أوّل به الطبراني الصلاة عليه بالدعاء فإنه روى بسند فيه عبد المهيمن بن عباس بن سهل عن سهل بن سعد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى على ذباب ، قال الطبراني عقبه : بلغني أن ذبابا جبل بالحجاز وقوله «صلى» أي : بارك عليه.

قلت : صرح ابن الأثير بأنه جبل بالمدينة ، وفي الاكتفاء في غزوة تبوك ما لفظه : فلما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع وضرب عبد الله بن أبي معه على حدة عسكره أسفل منه نحو ذباب.

وقد قال الكمال الدميري : إن في كتب الغريب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلب رجلا على جبل يقال له ذباب ، وإن البكري قال : هو جبل بجبّانة المدينة.

وتقدم في منازل بني الديل حول ثنية الوداع ذكر الجبّانة ، وكذا في ذكر البلاط.

وقال الواقدي في كتاب الحرة : إنهم لما اصطفّوا لقتال جيش الحرّة على الخندق ، وكان يزيد بن هرمز في موضع ذباب إلى مربد النّعم معه الدهم من الموالي ، وهو يحمل رايتهم ، وهو أميرهم ، وقد صف أصحابه كراديس بعضها خلف بعض إلى رأس الثنية أي : ثنية الوداع.

وهذا كله صريح في أن ذبابا هو الجبل المذكور ، ولعل السبب في اشتهار مسجده بمسجد الراية ما ذكره الواقدي من أن يزيد بن هرمز كان في موضعه ومعه راية الموالي.

٥٠

وقد تقدم في منازل يهود قول ابن زبالة : وكان لأهل الشوط الأطم الذي يقال له السرعي ، وهو الأطم الذي دون ذباب ، وسيأتي في ترجمة الشوط أنه قريب من منازل بني ساعدة ، وقد رأيت لذباب ذكرا في أماكن كثيرة جدّا ، وكلها متفقة على وصفه بما يدل على أنه الجبل الذي عليه مسجد الراية ، بحيث زال الشك عندي في ذلك.

ويؤخذ مما سيأتي في ترجمة الخندق أن الصخرة ـ التي خرجت ـ من بطن الخندق وهم يحفرونه ، وضربها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمعول الحديث كانت تحته ، لكنه سمي في تلك الرواية ذو باب بزيادة واو ، والله أعلم.

مسجد القبيح

ومنها : المسجد اللاصق بجبل أحد على يمينك وأنت ذاهب إلى الشعب الذي فيه المهراس ، وهو صغير قد تهدم بناؤه.

قال الزين المراغي : ويقال : إنه يسمّى مسجد القبيح.

قلت : وهو مشهور بذلك اليوم ، ويزعمون أن قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ) الآية [المجادلة : ١١] نزلت فيه ، ولم أقف على أصل لذلك.

وقال المطري : يقال : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى فيه الظهر والعصر يوم أحد ، بعد انقضاء القتال ، وكأنه لم يقف فيه على شيء.

وقد روى ابن شبة بسند جيد عن رافع بن خديج أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى في المسجد الصغير الذي بأحد في شعب الحرار على يمينك لازق بالجبل.

مسجد في ركن جبل عينين

ومنها : مسجد في ركن جبل عينين الشرقي على قطعة منه ، وهذا الجيل كان عليه الرّماة يوم أحد ، وهو في قبلة مشهد سيدنا حمزة رضي الله تعالى عنه ، وقد تهدم غالب هذا المسجد.

قال المطري : يقال : إنه هو الموضع الذي طعن فيه حمزة رضي الله تعالى عنه.

قلت : وكذا هو مشهور اليوم ، وقد ذكر المجد هذا المسجد والذي بعده وقال : ينبغي اغتنام الصلاة فيهما ؛ لأنهما لم يبنيا إلا علما للزائرين ، ومشهدا للقاصدين ، وقول من قال إن الأول طعن مكانه حمزة والثاني صرع فيه فوقع لم يثبت فيه أثر ، وإنما هو قول مستفيض.

ثم قال : ويذكر بعض الناس أن المسجد الأول ـ يعني هذا ـ كسر في مكانه ثنيّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان ما كان من ابتلاء الله تعالى صفيه وخليله عليه الصلاة والسلام ، كل ذلك مقالات يذكرها أهل المدينة لم يرد بها نقل.

قلت : وكلامه وكلام المطري صريح في أنهما لم يقفا على ما جاء فيه.

٥١

وسيأتي في قبر حمزة رضي الله تعالى عنه ما رواه ابن شبة من أنه لما قتل أقام في موضعه تحت جبل الرّماة وهو الجبل المذكور ، ثم أمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحمل عن بطن الوادي ، وهذا هو محل المسجد الثاني.

وأما هذا المسجد فقد روى ابن شبة فيه عن جابر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى الظهر يوم أحد على عينين الظرب الذي بأحد عند القنطرة ، وكأنه يعني بالقنطرة قنطرة العين التي كانت قديما هناك. وأشار إليها المطري بقوله عقب ذكر هذا المسجد : وقد تجدّدت هناك عين ماء ، جدّدها الأمير بدر الدين ودي بن جماز صاحب المد ، مفيضها بالقرب من هذا المسجد ، انتهى.

والعين اليوم دائرة ، وقد تقدم في غزوة أحد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذهابه إلى أحد بات بالشيخان (١) وأدلج في السحر فانتهى إلى موضع القنطرة ، فحانت الصلاة فصلّى بأصحابه الصبح صفوفا عليهم السلاح ؛ فيحتمل : أن المراد بذلك هذا المسجد ، ويحتمل ـ وهو الأظهر ـ : أن يراد به المسجد الآتي ذكره عقبه ؛ لأن في رواية ابن شبة ذكر صلاة الظهر وأن الموضع من نفس الجبل عند القنطرة ، وفي هذه الرواية صلاة الصبح وأن ذلك في موضع القنطرة ، والله أعلم.

مسجد العسكر

ومنها : مسجد في شمالي المسجد المذكور قبله قرب عينين أيضا ، على شفير الوادي ، قد تهدم أكثره ، وكان مبنيا بالحجارة المنقوشة المطابقة على هيئة البناء العمري ، وفيه بقايا آثار الأساطين ، ولم أقف فيه على شيء سوى ما قدمته من الاحتمال الثاني في الرواية المتقدمة.

وذكر المطري أنه يقال : إنه مصرع حمزة رضي الله تعالى عنه ، وإنه مشى بطعنته من الموضع الأول إلى هناك فصرع رضي الله تعالى عنه.

وقد أشرنا فيما سبق إلى أصل ما جاء في أن الموضع الثاني مكان مقتله ، وإنما أثبتّه في المساجد ـ مع ما قدمته من أني لم أقف فيه على شيء صريح ـ لأن ابن شبة قال ما لفظه : قال أبو غسان : وقال لي غير واحد من أهل العلم من أهل البلد : إن كل مسجد من مساجد المدينة ونواحيها مبنيّ بالحجارة المنقوشة المطابقة فقد صلى فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك أن عمر بن عبد العزيز حين بنى مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل والناس يومئذ متوافرون عن المساجد التي صلّى فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم بناها بالحجارة المنقوشة المطابقة ، انتهى.

وقد ذكر هذا المسجد أبو عبد الله الأسدي من المتقدمين ، وسماه مسجد العسكر ، فقال

__________________

(١) الشيخان : موضع بالمدينة ، وهو معسكر الرسول عليه الصلاة والسلام ، يوم أحد.

٥٢

في تعديد المساجد : ومسجد العسكر ، ومسجد يمين هذا في أصل الجبل ، انتهى ؛ فيتأيد ذلك الاحتمال الثاني المذكور في الرواية المتقدمة لتسميته بمسجد العسكر ، على أنه قد ورد من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقف على حمزة وقد قتل ومثّل به فلم ير منظرا كان أوجع لقبله منه ، فقال : رحمك الله أي عمّ ، فلقد كنت وصولا للرحم ، فعولا للخيرات ، فو الله لئن أظفرني الله بالقوم لأمثّلنّ بسبعين منهم ، فما برح حتى نزل : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) [النحل : ١٢٦] فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بلى نصبر. وروى أيضا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقف على حمزة وصلّى عليه حينئذ.

قلت : فهذا ما جاء في أن الموضع المذكور مقتل حمزة كاف في إثباته في المساجد ، وسيأتي في بيان المشاهد الخارجة عن البقيع عند ذكر مشهد حمزة رضي الله تعالى عنه بيان أن الحجر المثبت على قبره اليوم أخطأ واضعه ، وأنه إنما نقل من هذا المسجد عند تهدّمه ، وفيه مكتوب بعد البسملة (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ) [التوبة : ١٨] الآية هذا مصرع حمزة بن عبد المطلب ومصلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عمره حسين بن أبي الهيجاء سنة ثمانين وخمسمائة ، وكأنه جدده فلما تهدم وسقط ذلك المسن نقل إلى المشهد المذكور كما سنوضحه.

وأما المسجد المقابل لمشهد سيدنا حمزة في شرقيه وعند بابه فمحدث ، لم يذكره المطري ولا غيره ، وليس له أصل في المساجد المنسوبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

مسجد أبي ذر الغفاري

ومنها : مسجد صغير جدّا طوله ثمانية أذرع في ثمانية أذرع على يمين طريق السالك إلى أحد من طريق الأسواق ، فإذا جاوز البقيع المعروف ببقيع الأسواق قليلا كان على يمينه طريق إذا مشى فيها يسيرا وجد هذا المسجد عند النخيل المعروفة بالبحير ، وهو ثاني المسجدين اللذين ذكرهما المطري بقوله : وليس بالمدينة مسجد يعرف غير ما ذكر إلا مسجدّا على ثنية الوداع ومسجدّا آخر صغيرا جدّا على طريق السابلة ، وهي الطريق اليمنى الشرقية إلى مشهد حمزة رضي الله تعالى عنه ، يقال : إنه مسجد أبي ذرّ الغفاري رضي‌الله‌عنه ، ولم يرد فيهما نقل يعتمد عليه.

قلت : روى البيهقي في شعب الإيمان عن مولى لعبد الرحمن بن عوف قال : قال عبد الرحمن : كنت نائما في رحبة المسجد ، فرأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خارجا من الباب الذي يلي المقبرة ، قال : فلبثت شيئا ثم خرجت على أثره فوجدته قد دخل حائطا من الأسواق ، فتوضأ ثم صلى ركعتين فسجد سجدة أطال فيها ، فلما تشهد تبدأت له ، فقلت : بأبي وأمي حين سجدت أشفقت أن يكون الله قد توفّاك من طولها ، فقال : إن جبريل عليه‌السلام بشّرني أنه من صلّى عليّ صلى الله عليه ، ومن سلم عليّ سلم الله عليه. قال البيهقي : وقد رويناه من

٥٣

وجه آخر عن محمد بن جبير عن عبد الرحمن ، ومن وجه آخر عن عبد الواحد بن محمد بن عبد الرحمن بن عوف عن عبد الرحمن لم يذكر فيه الركعتين ، بل ذكر السجود فقط ، فزاد عبد الواحد في حديثه : فسجدت لله شكرا. ورواه ابن زبالة بالطريق الأولى بلفظها ، إلا أنه قال : فقلت بأبي وأمي لقد سجدت سجدة أشفقت إلى آخره. ورواه ابن أبي الدنيا وأبو يعلى والبزار ، إلا أن في روايتهم : فجئته وقد خرج ، فاتبعته فدخل حائطا من حيطان الأسواق ، فصلى فأطال السجود ، فقلت : قبض الله روح رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا أراه أبدا ، فحزنت وبكيت ، فرفع رأسه ، فدعاني فقال : ما الذي بك؟ أو ما الذي وراءك؟ فقلت : يا رسول الله أطلت السجود فقلت قبض الله رسوله لا أراه أبدا ، فحزنت وبكيت ، قال : سجدت هذه السجدة شكرا لربي فيما أبلاني في أمتي أنه قال : من صلّى عليك منهم صلاة كتب له عشر حسنات ، وهذا اللفظ للبزار.

قلت : والأسواق قريبة من موضع هذا المسجد جدّا ، ويحتمل أن محل السجدة المذكورة ، بل هو الظاهر ؛ فلذلك أثبتناه. وحديث عبد الرحمن هذا أخرجه الإمام أحمد بلفظ : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتوجّه نحو صدقته فدخل فاستقبل القبلة ، فخر ساجدا فأطال السجود حتى ظننت أن الله قبض نفسه فيها ، فدنوت منه ، فرفع رأسه وقال : من هذا؟قلت : عبد الرحمن ، قال : ما شأنك؟ قلت : يا رسول الله سجدت سجدة ظننت أن يكون الله قد قبض نفسك فيها ، فقال : إن جبريل أتاني فبشرني فقال : إن الله عزوجل يقول : من صلّى عليك صليت عليه ، ومن سلم عليك

سلمت عليه ، قال البيهقي في الخلافيات عن الحاكم قال : هذا صحيح ، ولا أعلم في سجدة الشكر أصح من هذا الحديث ، انتهى.

وقوله «نحو صدقته» ينبغي حمله على الرواية المتقدمة ، ولا يمتنع أن يكون بعض حوائط الأسواق كان من صدقة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مع أن بالقرب منه موضعا يعرف قديما وحديثا بالصدقة ، أو أن القصة متعددة ، والله أعلم.

مسجد أبيّ بن كعب (بني جديلة) (البقيع)

ومنها : مسجد على يمين الخارج من درب البقيع على ما ذكره البرهان بن فرحون فإنه قال عقب ذكر المسجد المتقدم قبل هذا : إنه لم يرد فيه شيء يعتمد ، ثم قال : وكذلك المسجد في أول البقيع على يمين الخارج من درب الجمعة ، انتهى.

قلت : يعني الموضع الذي في غربي مشهد عقيل وأمهات المؤمنين ، وبه اليوم أسطوان قائمة ، وبلغني أنه كان به عقدان سقطا ، وبقاياه شاهدة بأنه كان مبنيا بالحجارة المنقوشة

٥٤

والقصّة كالبناء العمري ، وقد اتخذ بعض الأشراف الوحاحدة رحبته التي في شامي الأسطوان مقبرة.

وقد ذكر المرجاني أيضا مسجدّا بالبقيع ، وذكر من عند نفسه أنه موضع مصلّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم العيد بالبقيع ، ولعله يعني هذا المسجد ، وقد قدمنا في ذكر المصلى ما يرده.

والذي ظهر لي : أن هذا المسجد هو مسجد أبي بن كعب رضي‌الله‌عنه ، ويقال له : مسجد بني جديلة ؛ لأنا قدمنا في منازل بني النجار أن بني جديلة ابتنوا اطما يقال له مشعط كان في غربي مسجدهم الذي يقال له مسجد أبي ، وفي موضع الأطم بيت يقال له بيت أبي نبيه ، وسيأتي في ذكر قبور أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وابنته الزهراء رضي الله تعالى عنهن بالبقيع ما يقتضي أن في أوله مما يلي هذه الجهة زقاقا يعرف بزقاق نبيه ، وخوخة تعرف بخوخة آل نبيه. وفي كلام ابن شبة ما يقتضي مجاورة البقيع لبني جديلة واتصالهم به ؛ فنرجّح عندي أنه مسجد أبيّ رضي الله تعالى عنه ، وسيأتي عن المطري ذكر مسجد أبي فيما علمت جهته ولم تعلم عينه من المساجد.

وروى عمر بن شبة عن يحيى بن سعيد قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يختلف إلى مسجد أبي فيصلي فيه غير مرة ولا مرتين ، وقال : لو لا أن يميل الناس ، إليه لأكثرت الصلاة فيه.

وعن أبي بكر بن يحيى بن النضر الأنصاري عن أبيه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يصلّ في مسجد مما حوته المدينة إلا مسجد أبيّ بن كعب ، ثم ذكر مساجد ستأتي.

وروى ابن زبالة عن يوسف الأعرج وربيعة بن عثمان أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى في مسجد بني جديلة ، وهو مسجد أبيّ بن كعب.

وفي شامي مشهد عقيل أسفل الكومة مسجد صغير طريقه من بين الترب التي هناك أسفل محرابه موجود ، ولم يتعرض لذكره في المساجد وليس هو على هيئات البناء العمري ، والله أعلم.

مساجد المصلى

ومنها : مساجد المصلّى الثلاثة التي ذكرناها في الفصل الأول فراجعه.

مسجد ذي الحليفة

ومنها : مسجد ذي الحليفة ميقات أهل المدينة ، والمسجد الذي في قبلته ، وسيأتيان في المساجد التي صلى فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الحرمين مع بيان محلهما من وادي العقيق الكبير.

مسجد مقمل

ومنها مسجد مقمل ، ذكره المجد هنا ، والصواب ذكره في المساجد الخارجة عن المدينة ؛ لأنه كما سيأتي على يومين منها ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

٥٥

الفصل الرابع

في المساجد التي علمت جهتها ، ولم تعلم عينها بالمدينة الشريفة

مسجد أبيّ بن كعب

منها : مسجد أبيّ بن كعب ببني جديلة ، ويقال : مسجد بني جديلة من بني النجار ، على ما تقدم في المسجد الذي بالبقيع عن المطري من أن هذا المسجد لا تعرف عينه ، قال :ومنازل بني جديلة عند بئر ماء شامي سور المدينة.

مسجد بني حرام

ومنها : مسجد بني حرام من بني سلمة من الخزرج ، قد تقدم في مسجد القبلتين توهيم من جعله إياه ، وما ورد من صلاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكل منهما. وروى ابن زبالة عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى في مسجد بني حرام الذي بالقاع ، وأنه رأى في قبلته نخامة ، وكان لا يفارقه عرجون ابن طاب يتخصّر به ، فحكّه ثم دعا بخلوق فجعله على رأس العرجون ، ثم جعله على موضع النخامة ، فكان أول مسجد خلّق. ومنازل بني حرام بالقاع في غربي مساجد الفتح ووادي بطحان عند جبل بني عبيد والعين التي أجراها معاوية رضي الله تعالى عنه.

مسجد الخربة

ومنها : مسجد الخربة لبني عبيد من بني سلمة ، وتقدم أن منازلهم كانت عند مسجدهم هذا إلى الجبل الذي يقال له جبل الدويخل جبل بني عبيد ، وذلك قرب منازل بني حرام في المغرب ، والقاصد إلى مسجد القبلتين من جهة مساجد الفتح يمر بمنازلهما ، وقد تقدم في مسجد القبلتين ما روى من صلاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا المسجد. وروى ابن زبالة عن يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة عن مشيخته أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يأتي السلافة أم البراء بن معرور في المسجد الذي يقال له مسجد الخربة دبر القرصة ، وصلى فيه مرارا.

قلت : وسيأتي أن هناك نخل جابر بن عبد الله المذكورة قصته في قضاء دينه هناك ، ولم يتعرض المطري ومن تبعه لذكر هذا المسجد. وقد روى يحيى بن الحسن في كتابه خبر ابن زبالة المذكور ، ورأيته في النسخة التي رواها طاهر بن يحيى عن أبيه يحيى لفظ : دبر القرصة ، ثم قال عقبة ما لفظه : قال لنا طاهر بن يحيى : هذا في بني حارثة ، وكانت القرصة ضيعة ، وهي عند بيت سعد بن معاذ ، انتهى. وهو مخالف لما تقدم عن ابن زبالة في المنازل ، والله أعلم.

مسجد جهينة

ومنها : مسجد جهينة وبلى ، وروى ابن شبة عن معاذ بن عبد الله بن أبي مريم الجهني

٥٦

وغيره أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى في مسجد جهينة ، وعن يحيى بن النضر الأنصاري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يصل في مسجد مما حوته المدينة إلا مسجد أبيّ ، ثم قال : ومسجد جهينة ، إلى آخر ما ذكره ، وعن جابر بن أسامة الجهني قال : لقيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أصحابه بالسوق فقلت : أين تريدون ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قالوا : نخطّ لقومك مسجدّا ، فرجعت فإذا قومي قيام وإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد خطّ لهم مسجدّا وغرز في القبلة خشبة أقامها فيها ، وعنه أيضا قال : خطّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسجد جهينة لبلّى. وروى ابن زبالة عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطّ المسجد الذي لجهينة ولمن هاجر من بلّي ، ولم يصل فيه. وعن خارجة بن الحارث بن رافع بن مكيث الجهني عن أبيه عن جده قال : جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعود رجلا من أصحابه من جهينة من بني الربعة يقال له أبو مريم ، فعاده بين منزل بني قيس العطار الذي فيه الأراكة وبين منزلهم الآخر الذي يلي دار الأنصار ، فصلى في ذلك المنزل ، قال : فقال نفر من جهينة لأبي مريم : لو لحقت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألته أن يخطّ لنا مسجدّا ، فقال : احملوني ، فحملوه فلحق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : مالك يا أبا مريم؟ فقال : يا رسول الله لو خططت لقومي مسجدّا ، قال : فجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسجد جهينة ، وفيه خيام لبلّي ، فأخذ ضلعا أو محجنا فخطّ لهم ، قال : فالمنزل لبلّي ، والخطة لجهينة.

قال الجمال المطري : وهذه الناحية اليوم معروفة غربي حصن صاحب المدينة ، والسور القديم بينها وبين جبل سلع ، وعنده آثار باب من أبواب المدينة خراب ، ويعرف على تاريخه وهو سنة أربعين وسبعمائة ـ بدرب جهينة ، والناحية من داخل السور بينه وبين حصن صاحب المدينة ، انتهى.

قلت : قوله «من داخل السور» إن أراد به السور الموجود اليوم فليس بصحيح ؛ لأن ما كان داخل هذا السور فيما بينه وبين حصن صاحب المدينة فهو من السوق كما تقدم بيانه ومنازل هؤلاء كانت في غربي السوق قبلي ثنية عثمث المنسوبة إلى سليع ـ وهو الجبل الذي عليه حصن أمير المدينة ويمتد في جهة المغرب إلى بني سلمة ـ وإن أراد أن الناحية المذكورة من داخل السور القديم فصحيح ، غير أن الداخل فيه بعضها لا كلها.

مسجد بني غفار

ومنها : المسجد الذي عند بيوت المطرفي ، وهو المتقدم ذكره في منازل بني غفار.

روى ابن زبالة عن أنس بن عياض عن غير واحد من أهل العلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى في المسجد الذي عند بيوت المطرفي ، عند خيام بني غفار ، وأن تلك المنازل كانت منازل آل أبي رهم كلثوم بن الحصين الغفاري صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال المطري : وليست الناحية معروفة اليوم.

٥٧

قلت : عرف مما تقدم في منازل بني غفار وفي دار السوق أنها في غربي سوق المدينة بالقرب من منزل جهينة الذي يلي ثنية عثعث من جهة القبلة.

مسجد بني زريق

ومنها : مسجد بني زريق ـ بتقديم الزاي كزبير ـ من الخزرج.

روى ابن زبالة عن عمر بن حنظلة أن مسجد بني زريق أول مسجد قرئ فيه القرآن ، وأن رافع بن مالك الزّرقي لما لقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعقبة أعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أنزل عليه في العشر سنين التي خلت ، قال : فقدم به رافع المدينة ، ثم جمع قومه فقرأه عليهم في موضعه ، وهو يومئذ كوم ، قال : وعجب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اعتدال قبلته.

وعن مروان بن عثمان بن المعلى قال : أول مسجد قرئ فيه القرآن مسجد بني زريق.

وعن يحيى بن عبد الله بن رفاعة قال : توضأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه ، وعجب من اعتدال قبلته ، ولم يصل فيه.

وروى ابن شبة عن معاذ بن رفاعة الزّرقي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل في مسجد بني زريق ، وتوضأ فيه ، وعجب من قبلته ، ولم يصل فيه ، وكان أول مسجد قرئ فيه القرآن.

قلت : تقدم في المنازل أن محل قرية بني زريق في قبلة المصلى وما والاها في المشرق داخل السور وخارجه ، وتقدم في ذكر الدور المحيطة بالبلاط الممتدّ من باب المدينة المعروف بدرب سويقة إلى باب السلام ما يبين أن هذا المسجد كان في قبلة الدور التي عن يمين السالك من درب سويقة المذكور قريبا منه وهو المذكور في حديث السباق بين الخيل التي لم تضمر ، قال عياض : وبينه وبين ثنية الوداع ميل أو نحوه.

قلت : وبين ثنيّة الوداع وبين الموضع الذي ذكرناه نحو الميل ، وهو قريب من جهة محاذاة ثنية الوداع في جهة القبلة.

وقد حدث في جهة قبلة المصلّى مما يلي المغرب مسجدان ، أحدثهما شمس الدين محمد بن أحمد السلاوي بعد الخمسين وثمانمائة : الأول منهما على شفير وادي بطحن على عدوته الشرقية ، والثاني بعده في جهة القبلة على رابية مرتفعة من الوادي أيضا في غربيه في مقابلة المطرية ، وكان موضعه في تلك الرابية فكان يطبخ فيه الآجرّ ، وإنما نبهت على ذلك لئلا يتقادم العهد بهما فيظن أن أحدهما مسجد بني زريق ؛ لكون ذلك بالناحية المذكورة ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

مسجدان لبني ساعدة

ومنها : مسجدان لبني ساعدة من الخزرج ، وسقيفتهم.

روى ابن شبة عن المطلب بن عبد الله أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى في مسجد بني ساعدة ،

٥٨

وجلس في سقيفتهم القصوى. وعن العباس بن سهل أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى في مسجد بني ساعدة في جوف المدينة. وعن سعد بن إسحاق بن كعب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى في مسجد بني ساعدة الخارج من بيوت المدينة. وعن سهل بن سعد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جلس في سقيفة بني ساعدة القصوى. وعن عبد المنعم بن عباس عن أبيه عن جده أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جلس في السّقيفة التي في بني ساعدة ، وسقاه سهل بن سعد في قدح.

وروى ابن زبالة حديث سهل بن سعد المتقدم ، ثم روى عن عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد عن أبيه عن جده قال : جلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سقيفته التي عند المسجد ، ثم استسقاني فخضت له وطبة ، فشرب ثم قال : زدني ، فخضت له أخرى فشرب ، ثم قال : كانت الأولى أطيب من الآخرة ، فقلت : هما يا رسول الله من شيء واحد.

قوله : «فخضت له» كذا هو في نسخة ابن زبالة. ورواه المطري كذلك ، وكذا كان في خط الزين المراغي ، ثم رأيته مصلحا «فمخضت له» وكأن الذي ألحق الميم أخذ ذلك من كون الوطب سقاء اللبن ؛ فالمناسب له المخض ، ولا مانع من إطلاق الخوض على المخض.

وقد تلخص من ذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى في مسجدي بني ساعدة ، وجلس في سقيفتهم ، والجلوس في سقيفتهم مذكور في الصحيح ، وهي السقيفة التي وقعت بيعة أبي بكر رضي الله تعالى عنه فيها ، والظاهر أنها كانت عند دار سعد بن عبادة ، ويدل على ذلك ما في الصحيح من حديث الجوينية ـ وهي العائذة ـ من حديث سهل بن سعد حيث ذكر دخول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليها ، وخروجه من عندها ، ثم قال : فأقبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ حتى جلس في سقيفة بني ساعدة هو وأصحابه ، ثم قال : اسقنا يا سهل ، فخرجت لهم بهذا القدح فسقيتهم فيه ، الحديث. فطلبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سهل بن سعد أن يسقيه وقد جلس في سقيفتهم دالّ على قرب منزله منها ، ويدل لذلك أيضا اجتماع الأنصار بها عند سعد رضي الله تعالى عنه يوم السقيفة ، وكان سعد مريضا ، وقد أسلفنا في منازل بني ساعدة أنهم افترقوا في أربعة منازل ؛ فمنزلهم الأول في شرقي سوف المدينة وفيه بئر بضاعة هو المراد بحديث الصلاة في مسجدهم الذي في جوف المدينة.

وأما مسجدهم الخارج عن بيوت المدينة فيظهر أنه في منزلهم الرابع ، وأنه في شامي ذباب الجبل الذي عليه مسجد الراية ؛ لما سيأتي في ترجمة الشوط من أن في رواية لابن سعد أن الجوينية أنزلت بالشوط من وراء ذباب في أطم. وفي رواية أخرى : «فنزلت في أجم بني ساعدة».

سقيفة بني ساعدة

وأما سقيفة بني ساعدة فيظهر أنها في منزلهم الثالث ، وهو منزل بني أبي خزيمة بن

٥٩

ثعلبة بن طريف ؛ لأنهم رهط سعد ، ولأن جراره التي كان يسقي فيها الماء بعد وفاة أمه كانت لها ، وهو قريب من منزلهم الرابع ، كما يؤخذ مما قدمناه في المنازل ، وذلك في شامي سوق المدينة قرب ذباب.

وقد ترجّح عندي الآن خطأ ما قدمته هناك من احتمال أن تكون جرار سعد عند الموضع المعروف اليوم بسقيفة بني ساعدة قرب مقعد الأشراف الوحاحدة من سويقة. وقد قدمنا قول المطري إن قرية بني ساعدة عند بئر بضاعة ، والبئر وسط بيوتهم ، قال : وشمالي البئر اليوم إلى جهة المغرب بقية أطم من آطام المدينة نقل أنه في دار أبي دجانة الصغرى التي عند بئر بضاعة ، وأبو دجانة من بني ساعدة ، ذكر ذلك في بيان مسجد بني ساعدة وسقيفتهم مقتصرا على مسجد واحد ، وقال : إنه مسجد بني ساعدة رهط سعد بن عبادة ، وليس ما ذكره منزل رهط سعد ؛ لما قدمناه.

وأغرب رزين العبدري فزعم أن سقيفة بني ساعدة معروفة بقباء ، وهو وهم

وروى ابن زبالة عن هند ابنة زياد زوجة سهل بن سعد الساعدي قالت : لما دخلت على سهل رأيت المسجد في وسط البيت فقلت : ألا إلى العريش أو إلى الجدار ، فقال : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جلس هاهنا ، وهو البيت الذي صار لابن حمران.

مسجد بني خدارة

ومنها : مسجد بني خدارة إخوة بني خدرة من الخزرج.

روى ابن شبة عن شيخ من الأنصار أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى في مسجد بني خدارة ، وحلق رأسه فيه. وعن هشام بن عروة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى به. وعن عمرو بن شرحبيل أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وضع يده على الحجر الذي في أجم سعد بن عبادة عند جرار سعد ، وصلّى في مسجد بني خدارة.

قلت : قد تقدم ذكر جرار سعد في منزل بني ساعدة الثالث ، وبيان أنها كانت حدّ سوق المدينة من جهة الشام قرب ثنية الوداع ، وأن منازل بني خدارة كانت بجرار سعد

وقال المطري : هذه الدار قبلي دار بني ساعدة وبئر بضاعة مما يلي سوق المدينة.

وإذا تأملت ما قدمناه في منازل بني ساعدة علمت أن هذه هي دارهم الثالثة التي بها رهط سعد ، وعندها السقيفة ، وليس بها لبني ساعدة مسجد ، وينبغي أن لا يغافل عما قدمناه من حدوث مسجد في منزلة الحاج الشامي قبليّ المنهل الذي عند مشهد النفس الزكية ، أنشأه قاضي الحرمين العلامة محيي الدين الحنبلي هناك ؛ فلا يتوّهم أنه أحد هذه المساجد ، والله أعلم.

مسجد راتج

ومنها : مسجد راتج ؛ لم يتعرض المطري ومن تبعه لذكره.

٦٠