وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى - ج ٣

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى - ج ٣

المؤلف:

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي


المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-381-8-0
الصفحات: ٢٤٦

تعالى عنه جاءهم بقباء نصف النهار ، فدخل مسجد قباء ، فأمر رجلا يأتيه بجريدة رطبة ، الخبر بنحوه.

وروى ابن زبالة عن زيد بن أسلم قال : الحمد لله الذي قرّب منا مسجد قباء ، ولو كان بأفق من الآفاق لضربنا إليه أكباد الإبل.

وفي صحيح البخاري : كان سالم مولى أبي حذيفة رضي الله تعالى عنهما يؤم المهاجرين الأولين من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مسجد قباء ، فيهم أبو بكر وعمر.

ورواه ابن شبة عن ابن عمر ، ولفظه : وكان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين الأولين وأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأنصار في مسجد قباء ، فيهم أبو بكر وعمر وأبو سلمة وزيد وعامر بن ربيعة رضوان الله عليهم.

وروى أيضا عن أبي هاشم قال : جاء تميم بن زيد الأنصاري إلى مسجد قباء وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر معاذا أن يصلي بهم ، فجاء صلاة الفجر وقد أسفر فقال : ما يمنعكم أن تصلوا؟ ما لكم قد حبستم ملائكة الليل وملائكة النهار؟ قالوا : يمنعنا أنا ننتظر صاحبنا ، قال : فما يمنعكم إذا احتبس أن يصلي أحدكم؟ قالوا : فأنت أحقّ من يصلي بنا ، قال : أترضون بذا؟ قالوا : نعم ، فصلى بهم ، فجاء معاذ فقال : ما حملك يا تميم على أن دخلت عليّ في سربال سربلنيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال : ما أنا بتاركك حتى أذهب بك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله إن هذا تميم دخل في سربال سربلتنيه ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما تقول يا تميم؟ فقال مثل الذي قال لأهل المسجد ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هكذا فاصنعوا مثل الذي صنع تميم بهم ، إذا احتبس الإمام.

وروى ابن زبالة عن عويم بن ساعدة أن سعد بن عويم بن قيس بن النعمان كان يصلي في مسجد قباء في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي زمان عمر بن الخطاب فأمر عمر مجمع بن حارثة أن يصلي بهم بعد أن ردّه ، وقال له : كنت إمام مسجد الضّرار ، فقال يا أمير المؤمنين كنت غلاما حدثا ، وكنت أرى أن أمرهم على أحسن ذلك ، وقدّموني لما معي من القرآن ، فأمره فصلّى بهم.

المكان الذي كان الرسول يصلي فيه بمسجد قباء

ما جاء في تعيين مصلّاه صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه ، وصفته وذرعه.

روى ابن زبالة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى إلى الأسطوان الثالثة في مسجد قباء التي في الرحبة.

ونقل ابن شبة عن الواقدي أنه قال : عن مجمع بن يعقوب عن سعيد بن عبد الرحمن بن رقيش قال : كان المسجد في موضع الأسطوان المخلّقة الخارجة في رحبة المسجد.

وعن ابن رقيش قال : بنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسجد قباء ، وقدّم القبلة إلى موضعها اليوم ،

٢١

وقال : جبريل يؤم بي البيت. قال ابن رقيش : فحدثني نافع أن ابن عمر كان بعد إذا جاء مسجد قباء صلى إلى الأسطوان المخلّقة يقصد بذلك مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأول.

قال ابن شبة : قال أبو غسان : وأخبرني من أثق به من الأنصار من أهل قباء أن موضع قبلة مسجد قباء قبل صرف القبلة أن القائم كان يقوم في القبلة الشامية فيكون موضع الأسطوان الشارعة في رحبة مسجد قباء التي في صف الأسطوان المخلقة المقدمة التي يقال لها إن مصلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى حرفها.

قال : وأخبرني أيضا أن مصلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مسجد قباء بعد صرف القبلة كان إلى حرف الأسطوان المخلّق كثير منها المقدمة إلى حرفها الشرقي ، وهي دون محراب مسجد قباء عن يمين المصلى فيه.

وروى ابن زبالة عن عبد الملك بن بكر بن أبي ليلى عن أبيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى في مسجد قباء إلى الأسطوان الثالثة في الرحبة إذا دخلت من الباب الذي بفناء دار سعد بن خيثمة.

قلت : والباب المذكور هو المسدود اليوم يظهر رسمه من خارج المسجد في جهة المغرب ، وكان شارعا في الرواق الذي يلي الرحبة من المسقف القبلي ؛ فالأسطوان الثالثة في الرحبة هي الأسطوان التي عندها اليوم محراب في رحبة المسجد ؛ لانطباق الوصف المذكور عليها ؛ فهي المراد بقول الواقدي «كان المسجد في موضع الأسطوان المخلقة الخارجة في رحبة المسجد وهي التي كان ابن عمر يصلي إليها. ومقتضى ما تقدم عن أبي غسان أن هذه الأسطوانة عندها مصلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأول قبل تحويل القبلة ، وأن مصلاه بعد التحويل كان إلى الأسطوانة التي في صفّ هذه الأسطوانة مما يلي القبلة ، وهي الثالثة من أسطوان الرحبة المذكورة ؛ فإنها الموصوفة بما ذكره من كونها دون المحراب على يمين المصلى فيه ، والمصلى إلى حرفها الشرقي يكون محاذيا لمحراب المسجد ؛ فالرواق القبلي مزيد في المسجد ، وجعلوا المحراب به في محاذاة المصلى الشريف من الأسطوان المذكورة. لكن قوله في الرواية الأخرى «وقدم القبلة إلى موضعها اليوم» يقتضي أنه لم يزد أحد في جهة القبلة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فينبغي أن ينبرك بالصلاة عند محراب القبلة ، وعند المحلين من الأسطوانتين المذكورتين.

وقد اقتصر يحيى في بيان مصلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الأسطوان التي في الرحبة ؛ فذكر رواية ابن زبالة ، ثم روى عن معاذ بن رفاعة قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي إلى الأسطوان الخارجة ، وهي في صفّ المخلقة ، وإنما كان موضعها يومئذ كهيئة العريش. ثم ذكر أن موسى بن سلمة حدثه أنه رأى أبا الحسن علي بن موسى الرضي يصلي إلى هذه الأسطوانة

٢٢

الخارجة. ثم قال يحيى : ورأيت غير واحد من أهل بيتي منهم عبد الله وإسحاق ابنا موسى بن جعفر وحسين بن عبد الله بن عبد الله بن حسين يصلون إلى هذه الأسطوانة الخارجة إذا جاءوا قباء ، ويذكرون أنه مصلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : ورأيت من أهل بيتي من يأتي قباء فيصلي إليها ممن يقتدى به ممن لا أبالي أن لا أرى غيره في الفقه والعلم ، انتهى.

وعن يمين مستقبل الأسطوانة المذكورة هيئة محاريب في رحبة المسجد لم أعلم أصلها ، وبالرواق الذي يلي الرحبة قريبا من محاذاة محراب المسجد دكّة مرتفعة عن أرض المسجد يسيرا أمامها محراب فيه حجر منقوش فيه قوله تعالى : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) [التوبة : ١٠٨] الآية ، وبعدها ما لفظه : هذا مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، جدّد هذا المسجد في تاريخ سنة إحدى وسبعين وستمائة ، ولم يتبين اسم من جدد المسجد. وظاهر حال من صنع ذلك في هذا المحل أنه محلّ المصلّى الشريف ، وفيما قدمناه ما يرده ، وقد اغترّ المجد بذلك فجزم بأن تلك الدكة هي أول موضع صلّى فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكأنه حين ألّف كتابه كان غائبا عن المدينة ، فوصف تلك الدكة بقوله : وفي صحنه مما يلي القبلة شبه محراب على مصطبة هو أول موضع ركع فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكأنه وصفها بأنها في صحن المسجد ليجامع ما تقدم عن المؤرخين في وصف المصلى الشريف. ولا يصح القول بأنها كانت أولا في رحبة المسجد ؛ لاحتمال أنه زيد بعده في المسقف القبلي رواق ؛ لما سنبينه من أن أروقة المسجد ورحبته كانت على ما هي عليه اليوم ، لم يزد فيها شيء بعد ما ذكره المؤرخون.

ثم رأيت ما ذكره المجد بحدوثه في رحلة ابن جبير ، وكانت عام ثمان وسبعين وخمسمائة ، فتلك الدكة التي يعنيها ابن جبير كانت في صحن المسجد عند الأسطوانة التي إليها اليوم المحراب في رحبة المسجد ، فيوافق ما أطبق عليه الناس وكأنها دثرت على طول الزمان ، ثم أعيدت في غير محلها فإنه ذكر أنها بصحن المسجد مما يلي القبلة ، ووصف أروقة المسجد بما هي عليه اليوم ؛ فليست الدكة الموجودة اليوم لحدوثها بعده.

وأما الحظيرة التي بصحن المسجد فلم أر في كلام المتقدمين تعرضا لذكرها ، والشائع على ألسنة أهل المدينة أنها مبرك ناقة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبه جزم المجد تبعا لابن جبير في رحلته ؛ فقال : وفي وسط المسجد مبرك الناقة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعليه حظيرة قصيرة شبه روضة صغيرة يتبرك بالصلاة فيه ، انتهى.

وهو محتمل ؛ لأن أصل مسجد قباء كان مربدا لكلثوم بن الهدم ، وعليه نزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما أسلفناه ، فأعطاه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسّسه مسجدّا. وقيل فيه غير هذا مما قدمناه.

وقال ابن زبالة : حدثنا عاصم بن سويد عن أبيه قال : وكان مسجد قباء على سبع أساطين ، وكانت له درجة لها قبة يؤذن فيها يقال لها النعامة ، حتى زاد فيه الوليد بن عبد الملك بن مروان بعد ذلك.

٢٣

قلت : وعدد كل صف من أساطينه اليوم بين المشرق والمغرب سبع أيضا.

وقال الزين المراغي عقب نقل ذلك عن ابن زبالة : فيحتمل أن هذه ـ يعني الصفة المذكورة في كلام ابن زبالة ـ صفة بناته عليه الصلاة والسلام ، ويؤكده قولهم «ولم يزل مسجد قباء على ما بناه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أن بناه عمر بن عبد العزيز» أي زمن الوليد.

قلت : وما أيد به الاحتمال المذكور لم أره في كلام أحد من المؤرخين غير المطري ومن تبعه.

وقد روى ابن شبة ما يصرح بخلافه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، قال : إن ما بين الصومعة إلى القبلة زيادة زادها عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه.

قلت : والصومعة هي المنارة التي في ركنه الغربي مما يلي الشام ، وسيأتي في ترجمة غرة أنه اسم أطم لبني عمرو بن عوف ابتنيت المنارة في موضعه.

وقال ابن النجار : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزل بقباء في منزل كلثوم بن الهدم ، وأخذ مربده فأسسه مسجدّا وصلى فيه ، ولم يزل ذلك المسجد يزوره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويصلي فيه أهل قباء ، فلما توفي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم تزل الصحابة تزوره وتعظمه.

تجديد مسجد قباء

ولما بنى عمر بن عبد العزيز مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنى مسجد قباء ووسّعه ، وبناه بالحجارة والجص ، وأقام فيه الأساطين من الحجارة بينها عواميد الحديد والرصاص ، ونقشه بالفسيفساء ، وعمل له منارة ، وسقفه بالساج ، وجعله أروقة ، وفي وسطه رحبة ، وتهدّم على طول الزمان حتى جدّد عمارته جمال الدين الأصفهاني وزير بني زنكي الملوك ببلاد الموصل.

قلت : وكان تجديد الجواد لمسجد قباء في سنة خمس وخمسين وخمسمائة ، كما قاله المطري.

وفيما قدمناه من صورة ما كتب في محراب الدكة التي بالرواق الذي يلي الرحبة ما يقتضي أنه جدد بعد ذلك في سنة إحدى وسبعين وستمائة.

وبالمسجد منقوش أيضا ما يقتضي أن الناصر بن قلاوون جدّد فيه شيئا سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة ، وجدد غالب سقفه الموجود اليوم الأشرف برسباي على يد ابن قاسم المحلى أحد مشايخ الخدّام سنة أربعين وثمانمائة.

وقد سقطت منارته سنة سبع وسبعين وثمانمائة ، فجدّدها متولي العمارة في زماننا الجناب الخواجكي الشمسي بن الزمن ـ عامله الله بلطفه ـ في سنة إحدى وثمانين وثمانمائة في أثناء عمارته السابقة بالمسجد النبوي بعد هدمها إلى الأساس ، وهدم الأسطوانة التي كانت لاصقة بها ، وكانت تلك الأسطوانة محكمة بالرصاص ، وأعيدت بغير رصاص ،

٢٤

وأبدلوا من أحجارها ما قدمنا أنهم أدخلوه في أسطوان الصندوق التي في جهة الرأس الشريف بالمسجد النبوي.

وهدم متولى العمارة أيضا ما يلي المنارة المذكورة من سور المسجد إلى آخر بابه الذي يليها في المغرب ، وأعاد بناء ذلك ، وجدد بعض سقفه ، وبنى السبيل والبركة المقابلين للمسجد في المغرب بالحديقة المعروفة بالسراج العيني الموقوفة على قرابته ، وقد كانت المنارة الأولى ألطف من هذه فزاد في طولها ؛ فإن ابن النجار قال : وطول منارته من سطحه إلى رأسها اثنان وعشرون ذراعا ، وعلى رأسها قبة طولها نحو عشرة أذرع ، قال : وعرض المنارة من جهة القبلة عشرة أذرع شافّة ، ومن المغرب ثمانية ، وذكر قبل ذلك أن ارتفاع المسجد في السماء عشرون ذراعا ؛ فيكون جملة طول المنارة الأولى اثنين وخمسين ذراعا من أعلاها إلى أسفل الأرض ، وهو يقرب لما نقله ابن شبة في وصف المنارة المذكورة ، فإنه قال : وطول منارته خمسون ذراعا ، وعرضها تسعة أذرع وشبر في تسعة أذرع ، انتهى. وذرع هذه المنارة المجددة اليوم من الأرض الخارجة عن المسجد إلى أعلى قبتها أحد وستون ذراعا ، وعرضها تسعة أذرع في المشرق والقبلة ، وهناك بابها.

ونقل ابن شبة عن أبي غسان أن طول مسجد قباء وعرضه سواء ، وهو ست وستون ذراعا. قال : وطول ذرعه في السماء تسعة عشر ذراعا ، وطول رحبته التي في جوفه ـ يعني صحنه ـ خمسون ذراعا ، وعرضها ستة وعشرون ذراعا. وذكر ابن النجار نحوه ، فقال : طول ثمانية وستون ذراعا تشف قليلا ، وعرضه كذلك.

قلت : وقد اختبرت ذلك فكان ذرع طوله من المشرق إلى المغرب مما يلي الشام ثمانية وستين ذراعا ونصفا ، وكان عرضه من القبلة إلى الشام تسعة وسبعين ذراعا ، وذرع طوله بين المشرق والمغرب مما يلي جدار القبلة أرجح من سبعين ذراعا بيسير ، وطول ذرعه في السماء من أرض المسجد إلى سقفه تسعة عشر ذراعا ، وطوله من خارجه من البلاط الذي في غربيه إلى أعلى شراريفه أربعة وعشرون ذراعا ، وذرع طول صحنه من المشرق إلى المغرب أحد وخمسون ذراعا ، وعرض صحنه من القبلة إلى الشام ستة وعشرون ذراعا وربع ، وهذا الصحن هو الذي عبر عنه أبو غسان بالرحبة في جوفه ؛ فصح بذلك أن رحبة المسجد اليوم على ما كانت عليه في زمن أبي غسان وغيره من المؤرخين الذين قدمنا كلامهم ، وأن ما قدمناه في بيان مصلّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكونه عند المحراب الذي بجانب الأسطوانة التي في رحبة المسجد اليوم صحيح ، وأن ما قاله المجد من كون تلك الدكة المتقدم وصفها بصحن المسجد غير صحيح.

وقال ابن جبير في رحلته : إن مسجد قباء سبع بلاطات ، يعني أروقة كما هو في

٢٥

زماننا ، وبيانه أن المسقف القبلي ثلاثة أروقة ، والشامي اثنان ، وفي المغرب رواق واحد يلي باب المسجد اليوم ، وفي المشرق في مقابلته رواق واحد أيضا.

وذكر ابن النجار في عدد أساطينه ما يوافق كونه على سبعة أروقة أيضا ؛ فقال : وفي المسجد تسعة وثلاثون أسطوانا ، بين كل أسطوان وأسطوان سبعة أذرع شافّة.

قلت : وعددها اليوم كذلك ؛ لأن جهة القبلة ثلاثة صفوف كل صف سبعة أساطين بين المشرق والمغرب ، وجهة الشام صفان كل صف سبعة أيضا ، وفيما يلي الرحبة من المغرب أسطوانتان ، وفيما يليها من المشرق أسطوانتان ، وجملة ذلك ما ذكره.

ووقع فيما نقله ابن شبة عن ابن عساكر في النسخة التي وقعنا عليها تصحيف في عدد الأساطين ، وما قدمناه هو الصواب.

قال ابن النجار : وفي جدرانه طاقات نافذة إلى خارج في كل جانب ثمان طاقات ، إلا الجانب الذي يلي الشام فإن الثامنة فيها المنارة.

قلت : ولما أعادوا بناء ما هدموه مما حول المنارة المذكورة في زماننا سدّوا من الجهة الشامية طاقة أخرى مما يلي المنارة المذكورة ، وسدّوا مما يليها من جهة المغرب ثلاث طاقات أيضا ، فإنهم جعلوا الجدار في بنائهم مصمتا كله ، والله أعلم.

بيان ما ينبغي أن يزار بقباء من الآثار تتميما للفائدة

دار سعد بن خيثمة

منها : دار سعد بن خيثمة ، وقد تقدم أن باب مسجد قباء المسدود في المغرب بفناء دار سعد بن خيثمة ، وهي في قبلة مسجد قباء ، والجانب الذي يلي هذا الباب المسدود منها يدخله الناس للزيارة ويسمونه مسجد علي رضي الله تعالى عنه ، وكأنه المراد بما سيأتي في الفصل الرابع في مسجد دار سعد بن خيثمة.

وروى ابن شبة عن أبي أمامة عن أبيه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اضطجع في البيت الذي في دار سعد بن خيثمة بقباء» وعن ابن وقش أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «دخل بيت سعد بن خيثمة بقباء ، وجلس فيه» وروى ابن زبالة عنه أنه قال : يزعمون أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم توضأ من المهراس الذي يلي دار سعد بن خيثمة بقباء.

دار كلثوم بن الهدم

ومنها : دار كلثوم بن الهدم ، وهي إحدى الدور التي قبلى المسجد أيضا ، يدخلها الناس للزيارة والتبرك. وقد قدمنا نزوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على كلثوم بن الهدم بداره لمّا قدم قباء ، وكذلك أهله وأهل أبي بكر حين قدموا.

٢٦

بئر أريس

ومنها بئر أريس ، وسيأتي ما جاء فيها في الآثار ، قال ابن جبير في رحلته : وبإزائها دار عمر ، ودار فاطمة ، ودار أبي بكر ، رضي الله تعالى عنهم. ولعله يريد أماكن نزولهم قبل التحوّل إلى المدينة ، والله أعلم.

ما جاء في بيان طريقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قباء ذاهبا وراجعا

طريق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلي قباء ذاهبا وراجعا

قال أبو غسان فيما نقله ابن شبة : أخبرني الحارث بن إسحاق قال : كان إسحاق بن أبي بكر بن إسحاق يحدث أن مبدأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مركبه إلى قباء أن يمر على المصلى ، ثم يسلك في موضع الزقاق بين دار كثير بن الصّلت ودار معاوية بالمصلى ، ثم يرجع راجعا على طريق دار صفوان بن سلمة التي عند سقيفة محرق ، ثم يمر على مسجد بني زريق من كتّاب عروة حتى يخرج إلى البلاط ، قال : فذكر إسحاق أنه رأى الوليد بن عبد الملك سلك هذه الطريق على هذه الصفة في مبدئه ورجعته من قباء.

قلت : وهو يقتضي أن طريقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت من جهة الدّرب المعروف اليوم بدرب سويقة في الذهاب والرجوع ؛ لأن المصلى ومسجد بني زريق في جهته ، وقد سبق في المصلى أن دار كثير بن الصّلت كان قبلة المصلى ، وسبق ما يؤخذ منه أن دار معاوية رضي‌الله‌عنه كانت مقابلها.

وقوله «حتى يخرج إلى البلاط» أي الآخذ من باب السلام إلى جهة درب سويقة ؛ لما سبق في الكلام على المصلي من رجوعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مسجد بني زريق من كتّاب عروة حتى يخرج إلى البلاط من زقاق دار عبد الرحمن بن الحارث المتقدم بيانه في الدور التي في ميمنة البلاط المذكور ، وكثير من الناس اليوم يسلكون إلى قباء من طريق درب البقيع ؛ لكونها أقصد يسيرا.

ذرع الطريق

وقد ذرعت الطريق من هذه الجهة فكان بين عتبة باب المسجد النبوي المعروف بباب جبريل وعتبة باب مسجد قباء سبعة آلاف ذراع ومائتا ذراع بذراع اليد المتقدم تحريره يشفّ يسيرا ، وذلك ميلان وخمسا سبع ميل. وسيأتي في ترجمة قباء ما وقع للناس من الخبط في بيان هذه المسافة ، فإن أسقطت حصة ما بين باب جبريل وباب درب البقيع من ذلك كانت المسافة بين باب سور المدينة المذكور وباب مسجد قباء ميلين إلا مائتي ذراع وثلاثا وثلاثين ذراعا ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

٢٧

ما جاء في مسجد الضّرار مما ينوّه بقدر مسجد قباء

بناة مسجد الضرار

روى البيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً) [التوبة : ١٠٧] هم أناس من الأنصار ابتنوا مسجدّا فقال لهم أبو عامر : ابنوا مسجدكم ، واستعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح ، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فات بجند من الروم ، فأخرج محمدا وأصحابه ، فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : إنا فرغنا من بناء مسجدنا فنحبّ أن تصلي فيه وتدعو بالبركة فأنزل الله عزوجل :(لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) [التوبة : ١٠٨] يعني مسجد قباء (أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) إلى قوله : (عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ) يعني قواعده (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [التوبة : ١٠٩].

وروى ابن شبة عن هشام بن عروة عن أبيه قال : كان موضع مسجد قباء لامرأة يقال لها لية ، كانت تربط حمارا لها فيه ، فابتنى سعد بن خيثمة مسجدّا ، فقال أهل مسجد الضرار : أنحن نصلي في مربط حمار لية؟ لا ، لعمر الله ، لكنّا نبني مسجدّا فنصلي فيه حتى يجئ أبو عامر فيؤمّنا فيه ، وكان أبو عامر فرّ من الله ورسوله فلحق بمكة ، ثم لحق بعد ذلك بالشام فتنصر فمات بها ، فأنزل الله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً) الآيات.

وعن سعيد بن جبير أن بنى عمرو بن عوف ابتنوا مسجدّا ، وأرسلوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدعوه ليصلي فيه ، ففعل فأتاهم فصلّى فيه ، فحسدهم إخوتهم بنو فلان بن عمرو بن عوف ، يشك ، فقالوا : لا ، نبني نحن مسجدّا وندعو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيصلي فيه كما صلى في مسجد إخوتنا ، ولعل أبا عامر يصلي فيه ، وكان بالشام ، فابتنوا مسجدّا ، وأرسلوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليصلي ، فقام ليأتيهم ، وأنزل القرآن (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) ١٠٧ (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) ١٠٨ (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ١٠٩ (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) [التوبة : ١٠٧ ـ ١١٠] ، قال : قال عكرمة : إلى أن تقطع قلوبهم (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [التوبة : ١١٠].

حرق مسجد الضرار

وأسند الطبري فيما قاله ابن عطية عن ابن إسحاق عن الزهري وغيره أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أقبل من غزوة تبوك حتى نزل بذي أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار ، وكان

٢٨

أصحاب مسجد الضّرار قد كانوا أتوه وهو يتجهّز إلى تبوك فقالوا : يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدّا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة ، وإنا نحبّ أن تأتينا فتصلي لنا فيه ، فقال : إني على جناح سفر وحال شغل ، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه ، فلما قفل ونزل بذي أوان نزل عليه القرآن في شأن مسجد الضرار ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مالك ابن الدخشم ومعن بن عدي ، أو أخا عاصم بن عدي ، فقال : انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه واحرقاه ، فانطلقا مسرعين ففعلا وحرقاه بنار في سعف.

وفي رواية ذكرها البغوي أن الذين أمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهدمه وإحراقه انطلقوا سريعا حتى أتوا سالم بن عوف ، وهم رهط مالك بن الدخشم فقال مالك : انظروني حتى أخرج إليكم بنار من أهالي ، فدخل أهله فأخذ سعفا من النخيل ، فأشعل فيه نارا ثم خرجوا يشتدّون حتى دخلوا المسجد وفيه أهله فحرقوه وهدموه ، وتفرق عنه أهله وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتخذ ذلك كناسة تلقي فيها الجيف والنتن والقمامة.

وقال ابن النجار : هذا المسجد بناه المنافقون مضاهاة لمسجد قباء ، وكانوا يجتمعون فيه ويعيبون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويستهزءون به.

أسماء بناة مسجد الضرار

قال ابن إسحاق : وكان الذين بنوه اثنى عشر رجلا : خدام بن خالد ، وهو من بني عبيد بن زيد بن مالك ومن داره أخرجه ، وثعلبة بن حاطب من بني أمية بن زيد أي أحد بني عمرو بن عوف ، ومعتّب بن قشير من بني ضبيعة بن زيد ، وأبو حبيبة بن الأذعر ، وعياد بن حنيف من بني عمرو بن عوف ، وجار بن عامر ، وابناه مجمع وزيد ، ونبتل بن الحارث ، ومخرج ومجاد بن عثمان ، سبعتهم من بني ضبيعة ، ووديعة بن ثابت من بني أمية بن زيد ، انتهى.

وقال بعضهم : إن رجالا من بني غنم بن عوف وبني سالم بن عوف كان فيهم نفاق حسدوا قومهم بني عمرو بن عوف ، وكان أبو عامر المعروف بالراهب ـ وسماه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفاسق ـ منهم.

قلت : وهو من بني ضبيعة أحد بني عمرو بن عوف من الأوس ، وتقدم أن بني غنم ابن عوف وبني سالم بن عوف من الخزرج وليسوا بقباء ، ففي هذا القول نظر.

قال : فكتب أبو عامر وهو بالشام إلى المنافقين من قومه أن يبنوا مسجدّا مقاومة لمسجد قباء وتحقيرا له ، فإني سآتي بجيش أخرج به محمدا وأصحابه من المدينة فبنوه وقالوا : سيأتي أبو عامر ويصلي فيه ، ونتخذه متعبدا ، وذلك هو المشار إليه بقوله تعالى (وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [التوبة : ١٠٧].

٢٩

وروى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزلت (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) [التوبة : ١٠٨] كان لا يمر بالطريق التي فيها المسجد ، وهذا مما يؤيد ما قدمناه من أن المراد من قوله تعالى (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى) [التوبة : ١٠٨] مسجد قباء.

وقال ابن عطية : روى عن ابن عمر أنه قال : المراد بالمسجد المؤسّس على التقوى هو مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد يعني بقوله تعالى : (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ) [التوبة : ١٠٩] هو مسجد قباء ، وأما البنيان الذي أسّس على شفا جرف هار فهو مسجد الضّرار بالإجماع.

وقوله «فانهار به في نار جهنم» قال ابن عطية : الظاهر منه ومما صح من خبرهم وهدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسجدهم أنه خارج مخرج المثل لهم : أي حالهم كمن ينهار بنيانه في نار جهنم. وقيل : بل ذلك حقيقة ، وأن ذلك المسجد بعينه انهار في نار جهنم ، قاله قتادة وابن جريج. وروى عن جابر بن عبد الله وغيره أنه قال : رأيت الدخان يخرج منه على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وروى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رآه حين انهار حتى بلغ الأرض السابعة ، ففزع لذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وروى أنهم لم يصلّوا فيه أكثر من ثلاثة أيام ، وانهار في الرابع. قال ابن عطية : وهذا كله بإسناد لين ، والأول أصح.

واسند الطبري عن خلف بن يامين أنه قال : رأيت مسجد المنافقين الذين ذكر في القرآن ، ورأيت فيه مكانا يخرج منه الدخان ، وذلك في زمن أبي جعفر المنصور.

وقيل : كان الرجل يدخل فيه سعفة فتخرج سوداء محترقة ، ونقل عن ابن مسعود أنه قال : جهنم في الأرض ، ثم تلا (فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ) [التوبة : ١٠٩].

الخلاف في موضع مسجد الضرار

قال الجمال المطري : وأما مسجد الضّرار فلا أثر له ، ولا يعرف له مكان فيما حول مسجد قباء ، ولا غير ذلك.

قلت : وهو كذلك ، لكن بالنسبة إلى زمنه وزمننا ؛ فقد قال ابن جبير في رحلته : وهذا المسجد مما يتقرب الناس إلى الله برجمه وهدمه وكان مكانه بقباء عارض به اليهود مسجد قباء.

وقوله «اليهود» صوابه المنافقون.

وقال ابن النجار : وهذا المسجد قريب من مسجد قباء ، وهو كبير ، وحيطانه عالية ، وتؤخذ منه الحجارة ، وقد كان بناؤه مليحا ، انتهى.

وهذا يقتضي وجوده في زمن ابن النجار على تلك الحالة ، وقد قال المطري : إنه وهم لا أصل له ، وتعقبه المجد بأنه لا يلزم من وجوده زمان ابن النجار كذلك استمراره ، وقد

٣٠

تبع ابن النجار في ذلك غيره إن لم يكن شاهده ، فهذا البشاري يقول : ومنها مسجد الضّرار يتطوّع العوام بهدمه ، وتبعه ياقوت في معجمه ، وابن جبير في رحلته ، انتهى.

وقال ابن النجار أيضا ، في ذكر المساجد المعروفة في زمنه ما لفظه : واعلم أن بالمدينة مساجد خرابا فيها المحاريب وبقايا الأساطين وتنقض وتؤخذ حجارتها : منها مسجد بقباء قريب من مسجد الضّرار فيه أسطوان قائمة.

قلت : وهذا غير معروف اليوم ، وهو صريح في اشتهار مسجد الضرار في زمنه بقباء حتى عرف به المسجد المذكور.

ووقع في كلام عياض في المشارق ، وتبعه المجد ، ما يقتضي أن مسجد الضّرار بذي أوان ؛ فإنه قال في ذروان : إن روايته بلفظ ذي أوان وهم. قال : وهو موضع خر على ساعة من المدينة ، هو الذي بنى فيه مسجد الضرار ، هذا لفظه.

ولعل مراده هو الذي وقع ذكر بنائه به في حديث مسجد الضرار ؛ لما قدمناه من أن أصحابه جاءوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بذي أوان ، وأخبروه ببنائه ، والله أعلم.

الفصل الثالث

في بقية المساجد المعلومة العين في زماننا بالمدينة الشريفة وما حولها

اعلم أن الاعتناء بهذا الغرض متعين ؛ فقد قال البغوي من الشافعية : المساجد التي ثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى فيها لو نذر أحد الصلاة في شيء منها تعين كما تتعين المساجد الثلاثة ، واعتناء السلف بتتبع آثار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معلوم ـ سيما ما جاء في ذلك عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ـ وقد استفرغنا الوسع في تتبعها.

فمنها : مسجد الجمعة ، ويقال «مسجد الوادي» قد تقدم في الفصل الحادي عشر من الباب الثالث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خرج من قباء مقدمه المدينة أدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في بطن الوادي ، وادي ذي صلب ـ بضم أوله ـ وأن ابن إسحاق قال : إن الجمعة أدركته في وادي رانونا ، يعني ببني سالم ، وكانت أول جمعة صلاها بالمدينة ، وفي رواية لابن زبالة «فمر على بني سالم فصلى فيهم الجمعة في القبيب ببني سالم ، وهو المسجد الذي في بطني الوادي» وفي رواية له «صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أول جمعة بالناس في القبيب» ببني سالم فهو المسجد الذي بناه عبد الصمد».

والمراد أن موضع المسجد يسمى بالقبيب ، وسيأتي في أودية المدينة أن سيل ذي صلب وسيل رانونا يصلان إلى موضع مسجد الجمعة ، فلا مخالفة بين هذه العبارات ، وإن غلب اشتهار اسم رانونا على ذلك الموضع دون بقية الأسماء.

وروى ابن شبة عن كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «جمّع في أول

٣١

جمعة حين قدم المدينة في مسجد بني سالم في مسجد عاتكة» وعن إسماعيل بن أبي فديك عن غير واحد ممن يثق به من أهل البلد أن أول جمعة جمعها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أقبل من قباء إلى المدينة في مسجد بني سالم الذي يقال له مسجد عاتكة.

وقال المطري : في شمالي هذا المسجد أطم خراب يقال له «المزدلف» أطم عتبان بن مالك ، والمسجد في بطن الوادي صغير جدّا ، مبني بحجارة قدر نصف القامة ، وهو الذي كان يحول السبيل بينه وبين عتبان بن مالك إذا سال ؛ لأن منازل بني سالم بن عوف كانت غربيّ هذا الوادي على طرف الحرة ، وآثارهم باقية هناك ، فسأل عتبان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يصلي له في بيته في مكان يتخذه مصلى ، ففعل صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قلت : قصة عتبان المشار إليها مروية في الصحيح بلفظ أن عتبان أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، قد أنكرت بصري ، وأنا أصلي لقومي ، فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم لم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم ، الحديث.

وسيأتي في المساجد التي لا تعلم عينها أن بني سالم لهم مسجد آخر هو مسجدهم الأكبر ؛ فالذي يظهر أنه المراد من حديث عتبان ، وأما هذا فهو مسجدهم الأصغر وقد تهدم بناؤه الذي أشار إليه المطري ، فجرده بعض الأعاجم على هيئته اليوم ، مقدّمه رواق مسقف فيه عقدان بينهما أسطوان ، وخلفه رحبة ، وطوله من القبلة إلى الشام عشرون ذراعا ، وعرضه من الجدار الشرقي إلى الغربي مما يلي محرابه ستة عشر ذراعا ونصف ، وكان سقفه قد خرب فجدده المرحوم الخواجا الرئيس الجواد المفضّل شمس الدين قاوان تغمده الله برحمته.

ومصلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيت غسان ليس في الأطم المذكور ، بل عند أصله كما سيأتي.

مسجد الفضيخ

ومنها : مسجد الفضيح ـ بفتح الفاء وكسر المعجمة بعدها مثناة تحتية وخاء معجمة ـ قال المطري : ويعرف اليوم بمسجد الشمس وهو شرقي مسجد قباء على شفير الوادي ، على نشز من الأرض ، مرضوم بحجارة سود ، وهو مسجد صغير.

وروى ابن شبة وابن زبالة ويحيى في عدة أحاديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «صلى بمسجد الفضيخ».

وروى الأولان ـ واللفظ لابن شبة ـ عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال : حاصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني النضير ، فضرب قبته قريبا من مسجد الفضيخ ، وكان يصلّي في موضع مسجد الفضيخ ستّ ليال ، فلما حرمت الخمر خرج الخبر إلى أبي أيوب في نفر من الأنصار ، وهم يشربون فيه فضيخا ، فحلّوا وكاء السّقاء فهراقوه فيه ؛ فبذلك سمي مسجد الفضيخ.

٣٢

قال الزين المراغي : وذلك قبل اتخاذ الموضع مسجدّا ، أو كان الإعلام بنجاسة الخمر بعد ذلك لكن المشهور تحريم الخمر في شوال سنة ثلاث ، ويقال أربع ، وعليه يتمشى ؛ لأن غزوة بني النّضير سنة أربع على الأصح.

قلت : الحديث إنما تضمّن صلاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك المحل في حصار بني النضير ، ولا يلزم من ذلك اتخاذه مسجدّا حينئذ ؛ فيجوز أن يكون بناؤه مسجدّا تأخر إلى أن حرّمت الخمر ، على أن أحمد روى في مسنده من حديث ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعني أتى بفضيخ في مسجد الفضيخ فشربه ، فلذلك سمي مسجد الفضيخ.

ورواه أبو يعلى ولفظه : أتى بجر فضيخ ينشّ (١) وهو في مسجد الفضيخ فشربه ، فلذلك سمي مسجد الفضيخ ، وفيه عبد الله بن نافع مولى ابن عمر ، ضعّفه الجمهور ، وقيل فيه : يكتب حديثه ، وهو أولى بالاعتماد في سبب تسمية المسجد المذكور بذلك ؛ لأن ابن زبالة ضعيف ، وأما ابن شبة فرواه من طريق عبد العزيز بن عمران وهو متروك ، ولم أر في كلام أحد من المتقدمين تسمية المسجد المذكور بمسجد الشمس.

وقال المجد : لا أدري لم اشتهر بهذا الاسم ، ولعله لكونه على مكان عال في شرقي مسجد قباء أول ما تطلع الشمس عليه ، قال : ولا يظن ظانّ أنه المكان الذي أعيدت الشمس فيه بعد الغروب لعلي رضي الله تعالى عنه ؛ لأن ذلك إنما كان بالصّهباء من خيبر ، قال عياض في الشفاء : كان رأس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حجر علي رضي الله تعالى عنه وهو يوحي إليه ، فغربت الشمس ولم يكن عليّ صلى العصر ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أصلّيت يا علي؟ قال : لا ، فقال : اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك ، فاردد عليه الشمس ، قالت أسماء : فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت ، ووقعت على الجبال والأرض وذلك بالصهباء في خيبر ، قال عياض : خرّجه الطحاوي في مشكل الحديث ، وقال : إن أحمد بن صالح كان يقول : لا ينبغي لمن سبيله العلم التخلف عن حفظ حديث أسماء ؛ لأنه من علامات النبوة.

قال المجد : فهذا المكان أولى بتسميته بمسجد الشمس دون ما سواه ، وصرح ابن حزم بأن الحديث موضوع ، قال : وقصة ردّ الشمس على عليّ رضي الله تعالى عنه باطلة بإجماع العلماء وسفه قائله.

قلت : والحديث رواه الطبراني بأسانيد قال الحافظ نور الدين الهيتمي : رجال أحدها رجال الصحيح ، غير إبراهيم بن حسن ، وهو ثقة ، وفاطمة بنت علي بن أبي طالب لم أعرفها ، انتهى.

وأخرجه ابن منده وابن شاهين من حديث أسماء بنت عميس ، وابن مردويه من

__________________

(١) ينش : يغلي ويفور.

٣٣

حديث أبي هريرة ، وإسنادهما حسن ، وممن صححه الطحاوي وغيره ، وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ، بعد ذكر رواية البيهقي له : وقد أخطأ ابن الجوزي بإيراده له في الموضوعات ، انتهى.

وهذا المسجد مربع ذرعه من المشرق إلى المغرب أحد عشر ذراعا ، ومن القبلة إلى الشام نحوها.

مسجد بني قريظة

ومنها : مسجد بني قريظة ، وهو شرقي مسجد الشمس ، بعيد عنه ، بالقرب من الحرّة الشرقية ، على باب حديقة تعرف بحاجزة هي وقف للفقراء ، قاله المطري وقد قدمنا في منازل يهود أن أطم الزبير بن باطا كان في موضع مسجد بني قريظة وعنده خراب أبيات من دور بني قريظة شمالي باب الحديقة المذكورة ، وبقربه ناس نزول من أهل العالية ، وقد روى ابن شبة من طريق محمد بن عقبة بن مالك عن علي بن رافع وأشياخ قومه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «صلّى في بيت امرأة من الخضر ، فأدخل ذلك البيت في مسجد بني قريظة» فذلك المكان الذي صلى فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شرقي بني قريظة عند موضع المنارة التي هدمت ، هذا لفظ ابن شبة ؛ فينبغي الصلاة في مسجد بني قريظة مما يلي محل المنارة في شرقي المسجد.

وقد روى ذلك ابن زبالة عن محمد بن عقبة ، إلا أنه لم يعين المحل المذكور ، بل قال : فأدخل الوليد بن عبد الملك حين بنى المسجد ذلك البيت في مسجد بني قريظة ، ويحتمل : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى في مقدم المسجد أيضا ، وإلا لجعلوا ما عند المنارة مقدمة.

قلت : الظاهر أن هذا المسجد هو المذكور في حديث الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى قال : نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ ، فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى سعد ، فأتى على حمار ، فلما دنا قريبا من المسجد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للأنصار «قوموا إلى سيّدكم أو خيركم» ثم قال «إن هؤلاء قد نزلوا على حكمك» فقال : تقتل مقاتلتهم وتسبي ذريتهم ، الحديث.

فقوله «قريبا من المسجد» ليس المراد به مسجد المدينة ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن به حينئذ ، ولذا قال الحافظ ابن حجر : وقوله «فلما بلغ قريبا من المسجد» أي الذي أعدّه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيام محاصرته لبني قريظة للصلاة فيه ، وأخطأ من زعم أنه غلط من الراوي لظنه أنه أراد بالمسجد المسجد النبوي بالمدينة فقال : إن الصواب ما وقع عند أبي داود من طريق شعبة بإسناد الصحيح بلفظ «فلما دنا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم» انتهى. وإذا حمل على ما سبق لم يكن بين اللفظين اتفاق ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

قال ابن النجار : وهذا المسجد اليوم باق بالعوالي ، كبير ، وفيه ست عشرة أسطوانة قد

٣٤

سقط بعضها ، وهو بلا سقف ، وحيطانه مهدومة ، وقد كان مبنيّا على شكل بناء مسجد قباء ، وحوله بساتين ومزارع.

وذكر في ذرعه شيئا الظاهر أنه تحريف فإنه قال : طوله نحو العشرين ذراعا وعرضه كذلك ، وهذا لا يطابق ما عليه المسجد اليوم ولا ما قدّمه هو من الوصف ولعله خمن أن ذرعه كذلك في حال غيبته عنه ، فقد قال المطري : إن ذرعه نحو من خمسة وأربعين ذراعا ، وعرضه كذلك.

قال : وكان فيه أساطين وعقود ومنارة في مثل موضع منارة قباء ، فتهدّم على طول الزمان ، ووقعت منارته ، أثرها اليوم باق تعرف به ، وأخذت أحجاره جميعا. قال المطري : وبقي أثره إلى العشر الأول بعد السبعمائة ، فجدّد وبنى عليه حظير مقدار نصف قامة ، وكان قد نسي فمن ذلك التاريخ عرف مكانه.

قلت : وهو اليوم على الهيئة التي ذكرها المطري ، وقد اختبرت ذرعه فكان من القبلة إلى الشام أربعة وأربعين ذراعا وربعا ، ومن المشرق إلى المغرب ثلاثة وأربعين ذراعا ، وقد جدّد بناء جداره الشجاعيّ شاهين الجمالي شيخ الحرم النبوي وناظره عام ثلاث وتسعين وثمانمائة.

مشربة أم إبراهيم

ومنها : المسجد الذي يقال له «مشربة أم إبراهيم عليه‌السلام».

وروى ابن زبالة ويحيى من طريقه وابن شبة من طريق أبي غسان عن ابن أبي يحيى عن يحيى بن محمد بن ثابت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «صلّى في مشربة أم إبراهيم».

وروى ابن شبة فيما جاء في صدقات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ابن شهاب أن تلك الصّدقات كانت أموالا لمخيريق ، كما سيأتي ، وعدّ منها مشربة أم إبراهيم ، ثم قال : وأما مشربة أم إبراهيم فإذا خلفت بيت مدراس اليهود فجئت مال أبي عبيدة بن عبيد الله بن زمعة الأسدي فمشربة أم إبراهيم إلى جنبه ، وإنما سميت مشربة أم إبراهيم لأن أم إبراهيم ابن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولدته فيها ، وتعلّقت حين ضربها المخاض بخشبة من خشب تلك المشربة ، فتلك الخشبة اليوم معروفة ، انتهى ما رواه ابن شبة عن ابن شهاب.

قال ابن النجار : وهذا الموضع بالعوالي من المدينة بين النخيل ، وهو أكمة قد حوّط عليها بلبن ، والمشربة : البستان ، وأظنه قد كان بستانا لمارية القبطية أم إبراهيم ابن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قلت : قال في الصحاح : المشربة بالكسر ـ أي : بكسر الميم ـ إناء يشرب فيه ، والمشربة بالفتح : الغرفة ، وكذلك المشربة بضم الراء ، والمشارب : العلالي ، وليس في كلامه إطلاق ذلك على البستان ، والظاهر أنها كانت عليّة في ذلك البستان ، وهو أحد صدقات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا هو الذي يناسب ما تقدم من رواية ابن شبة في سبب تسميتها بذلك.

٣٥

وقال ابن عبد البر في الاستيعاب : ذكر الزبير أن مارية ولدت إبراهيم عليه‌السلام بالعالية في الماء الذي يقال له اليوم مشربة أم إبراهيم بالقف.

وروت عمرة عن عائشة حديثا فيه ذكر غيرتها من مارية ، وأنها كنت جميلة ، قالت : وأعجب بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان أنزلها أول ما قدم بها في بيت لحارثة بن النعمان ، وكانت جارتنا ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عامة النهار والليل عندها ، حتى قذعنا لها ـ والقذع الشتم ـ فحوّلها إلى العالية ، وكان يختلف إليها هناك ، فكان ذلك أشدّ ، ثم رزقها الله الولد وحرمناه منه.

قال المجد : والمشربة المذكورة مسجد شماليّ بني قريظة قريب من الحرّة الشرقية في موضع يعرف بالدشت ، بين نخل تعرف بالأشراف القواسم ، من بني قاسم بن إدريس بن جعفر أخي الحسن العسكري ، قال : وذرعته فكان طوله نحو عشرة أذرع وعرضه أقل من ذلك بنحو ذراع ، وليس عليه بناء ولا جدار ، وإنما هو عريصة صغيرة على رويبية ، وقد حوّط عليها برضم لطيف من الحجارة السود ، قال : وعلى شمالي المشربة دار متهدّمة لم يبق من معالمها سوى بعض الجدران ، يظن الناس أنه مكان دار أبي سيف القبر. والذي يغلب على ظني أن ذلك بقايا أطم بني زعوراء ، فإن الزبير بن بكار قال ما نصه : وكان بنو زعوراء عند مشربة أم إبراهيم ، ولهم الأطم الذي عندها ، وبنو زعوراء من قبائل اليهود.

قلت : دار أبي سيف القبر التي كان إبراهيم ابن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسترضعا فيها إنما هي في دار بني مازن بن النجار كما سيأتي. وما ذكره في وصف المسجد المذكور قريب مما هو عليه اليوم لكنّ ذرعه من القبلة إلى الشام أحد عشر ذراعا ، ومن المشرق إلى المغرب أربعة عشر ذراعا راجحة ، وفي جهة المشرق منه شقيفة لطيفة ، وبالقرب منه في جهة المغرب نخيل تعرف بالزبيريات وسيأتي أنها المال الذي كان للزبير بن العوّام فتصدق به ، وفيه مسجده الآني ، والله أعلم.

مسجد بني ظفر

ومنها : مسجد بني ظفر من الأوس ، ويعرف اليوم بمسجد البغلة ، وهو بطرف الحرة الشرقية في شرقي البقيع ، طريقه من عند القبة المعروفة بفاطمة بنت أسد أمّ علي رضي‌الله‌عنهما بأقصى البقيع ، وقد روى يحيى عن جعفر بن محمود بن محمد بن مسلمة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «صلّى في مسجد بني معاوية» أي الآني «ومسجد بني ظفر».

وقال ابن زبالة : إن إبراهيم بن جعفر حدثه بذلك عن أبيه جعفر المذكور ، وروى ابن شبة عن الحارث بن سعيد بن عبيد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «صلى في مسجد بني حارثة مسجد بني ظفر».

٣٦

وروى يحيى عن إدريس بن محمد بن يونس بن محمد الظفري عن جده أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «جلس على الحجر الذي في مسجد بني ظفر» وكان زياد بن عبيد الله أن أمر بقلعه حتى جاءته مشيخة بني ظفر وأعلموه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جلس عليه ، فرده ، قال : فقلّ امرأة نزر ولدها تجلس عليه إلا حملت. قال يحيى عقبه : مسجد بني ظفر دون مسجد بني عبد الأشهل ، قال : وأدركت الناس بالمدينة يذهبون بنسائهم حتى ربما ذهبوا بهنّ بالليل فيجلسن على هذا الحجر.

قلت : ولم أزل أتأمل في سر ذلك حتى اتضح لي بما رواه الطبراني برجال ثقات عن محمد بن فضالة الظفري ، وكان ممن صحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أتاهم في مسجد بني ظفر ، فجلس على الصخرة التي في مسجد بني ظفر اليوم ومعه عبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وأناس من أصحابه ، وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قارئا فقرأ حتى أتى على هذه الآية (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١] فبكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى اضطرب لحياه. فقال : «أي ربّ شهيد على من أنا بين ظهر أبيه ، فكيف بمن لم أر»؟

قلت : ولم يزل الناس يصفون الجلوس على ذلك الحجر للمرأة التي لا تلد ، ويقصدون ذلك المسجد لأجله ، غير أني لم أر فيه حجرا يصلح للجلوس عليه ، إلا أن في أسفل كتف بابه عن يسار الداخل حجرا مثبتا من داخله ، فكأنه هو المراد ، والناس اليوم إنما يقصدون حجرا من تلك الصخور التي هي خارجة في غربيه فيجلسون عليه ، وهذا بعيد لأن الرواية المتقدمة مصرّحة بأنه في المسجد.

وقال المطري : وعند هذا المسجد آثار في الحرة من جهة القبلة ، يقال : إنها أثر حافر بغلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي غربيه أي غربي أثر الحافر أثر على حجر كأنه أثر مرفق يذكر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اتّكأ عليه ، ووضع مرفقه الشريف عليه ، وعلى حجر آخر أثر أصابع ، والناي يتبركون بها.

قلت : ولم أقف في ذلك على أصل ، إلا أن ابن النجار قال في المسجد التي أدركها خرابا ما لفظه : ومسجدان قريب البقيع ، وذكر ما سيأتي عنه في مسجد الإجابة ، ثم قال : وآخر يعرف بمسجد البغلة فيه أسطوان واحد ، وهو خراب ، وحوله كثير من الحجارة فيها أثر يقولون : إنه أثر حافري بغلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، انتهى.

وقد بني ما تهدّم منه بعد ابن النجار ، إلا أنه لم يجعل له سقفا ، فليس به شيء من الأساطين. ورأيت فيه حجر رخام عن يمين محرابه قد كتب فيه ما صورته : خلّد الله ملك الإمام أبي جعفر المنصور المستنصر بالله أمير المؤمنين. عمر سنة ثلاثين وستمائة ، وذرعته

٣٧

فكان مربعا ، طوله من القبلة إلى الشام أحد وعشرون ذراعا ، ومن المشرق إلى المغرب مثل ذلك ، والله أعلم.

مسجد الإجابة

ومنها : مسجد الإجابة ، وهو مسجد بني معاوية بن مالك بن عوف من الأوس ، كما قدمناه في المنازل مع بيان ما وقع للمطري ومن تبعه من الوهم في جعلهم من بني مالك بن النجار من الخزرج ، وبيان منشأ الوهم ، وما ناقض المطري به كلامه عند ذكره مسجد بني جديلة ، وهو مسجد أبيّ الآتي في الفصل بعده.

وقد روينا في صحيح مسلم من حديث عامر بن سعد عن أبيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أقبل ذات يوم من العالية ، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع ركعتين ، وصلينا معه ، ودعا ربّه طويلا ، ثم انصرف إلينا فقال : سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ، ومنعني واحدة ، سألته أن لا يهلك أمتي بالسّنة فأعطاني ، وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها ، فسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها ، فهذا سبب تسمية هذا المسجد بمسجد الإجابة.

وروى ابن شبة بسند جيد ، وهو في الموطأ ، عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك قال : جاءنا عبد الله بن عمر في بني معاوية ، وهي قريبة من قرى الأنصار ، فقال : تدرون أين صلّى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مسجدكم هذا؟ فقلت : نعم ، وأشرت له إلى ناحية منه ، قال : فهل تدرون ما الثلاث التي دعا بهن فيه؟ قلت : نعم ، قال : فأخبرني ، قلت دعا أن لا يظهر عليهم عدو من غيرهم ، وأن لا يهلكهم بالسنين ، فأعطيهما ، ودعا أن لا يجعل بأسهم بينهم ، فمنعها ، قال : صدقت ، فلن يزال الهرج إلى يوم القيامة.

وعن سعد بن أبي وقاص أنه كان مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمرّ بمسجد بني معاوية ، فدخل فركع فيه ركعتين ، ثم قام فناجى ربّه ، ثم انصرف.

ونقل ابن شبة أيضا عن أبي غسان عن محمد بن طلحة أنه قال : بلغني أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى في مسجد بني معاوية على يمين المحراب نحوا من ذراعين.

قلت : فينبغي أن يتحرّى بالصلاة ذلك المحل ، وأن يكون الدعاء فيه قائما بعد الصلاة ؛ للرواية المتقدمة.

وهذا المسجد هو المراد بقول ابن النجار في المسجدين اللذين أدركهما خرابا قريب البقيع أحدهما يعرف بمسجد الإجابة وفيه أسطوانات قائمة ومحراب مليح وباقية خراب.

قلت : ليس به اليوم شيء من الأساطين ، وقد رمّم ما تخرب منه ، وهو في شمالي البقيع على يسار السالك إلى العريض ، وسط تلول هي آثار قرية بني معاوية ، وذرّعته فكان من المشرق إلى المغرب خمسة وعشرين ذراعا ينقص يسيرا ، وكان من القبلة إلى الشام عشرين ذراعا ينقص يسيرا.

٣٨

مسجد الفتح

ومنها : مسجد الفتح ، والمساجد التي حوله في قبلته ، وتعرف اليوم كلها بمساجد الفتح ، والأول المرتفع على قطعة من جبل سلع في المغرب غربيه وادي بطحان ، وهو المراد بمسجد الفتح حيث أطلقوه ، ويقال له أيضا «مسجد الأحزاب» و «المسجد الأعلى».

وروينا في مسند أحمد برجال ثقات عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «دعا في مسجد الفتح ثلاثا يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ، فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين ، فعرف البشر في وجهه» قال جابر : فلم ينزل بي أمر مهمّ غليظ إلا توخّيت تلك الساعة فأدعو فيها فأعرف الإجابة ، ورواه ابن زبالة والبزار وغيرهما.

وروينا في مسند أحمد أيضا بإسناد فيه رجل لم يسم عن جابر أيضا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أتى مسجد يعني ، الأحزاب ، فوضع رداءه وقام ، ورفع يديه مدا يدعو عليهم ، ولم يصل ، ثم جاء ودعا عليهم وصلى».

وروى ابن شبة عن جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قعد على موضع مسجد الفتح وحمد الله ودعا عليهم وعرض أصحابه وهو عليه».

وعن سعيد مولى المهديين قال : «أقبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الجرف ، فأدركته صلاة العصر فصلاها في المسجد الأعلى».

وروى ابن زبالة ويحيى وابن النجار من غير طريقهما عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «مرّ بمسجد الفتح الذي على الجبل وقد حضرت صلاة العصر ، فرقي فصلى فيه صلاة العصر».

وروى ابن زبالة عن المطلب مرسلا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «دعا في مسجد الفتح يوم الأحزاب حتى ذهبت الظهر وذهبت العصر وذهبت المغرب ، ولم يصل منهن شيئا ، ثم صلاهن جميعا بعد المغرب».

قلت : وفيه بيان الشغل الذي أخر لأجله تلك الصلاة ؛ فإن المعروف تأخيرها أو تأخير العصر فقط كما في الصحيح من غير بيان هذا السبب ، وذلك كان قبل مشروعية صلاة الخوف.

وروى أيضا عن جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «دخل مسجد الفتح فخطا خطوة ثم الخطوة الثانية ، ثم قام ورفع يديه إلى الله حتى رؤي بياض إبطيه ـ وكان أعفر الإبطين فدعا حتى سقط رداؤه عن ظهره ، فلم يرفعه حتى دعا ودعا كثيرا ، ثم انصرف».

وعن جابر قال : «صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وراء مسجد الفتح نحو المغرب».

ورواه ابن شبة عنه بلفظ «دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الجبل الذي عليه مسجد الفتح من ناحية

المغرب ، وصلى من وراء المسجد» أي في الرحبة.

٣٩

قال ابن شبة : قال أبو غسان : وسمعت غير واحد ممن يوثق به يذكر أن الموضع الذي دعا عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الجبل هو اليوم إلى الأسطوان الوسطى الشارعة في رحبة المسجد.

قلت : ويستفاد منه : أن الصلاة والدعاء هنالك يتحرّى بهما وسط المسجد في الرحبة مما يلي سقفه ، ومقتضى الرواية الأولى أن تكون أقرب إلى جهة المغرب ، وإذا ضممت إلى ذلك الرواية المتقدمة من أن صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خطا خطوة ثم الخطوة الثانية ، ثم قام ورفع يديه» ظهر لك أن طريقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت من جهة الدرجة الشمالية.

وروى يحيى عن هارون بن كثير عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «دعا يوم الخندق على الأحزاب في موضع الأسطوانة الوسطى من مسجد الفتح» قال يحيى : فدخلت مع الحسين بن عبد الله مسجد الفتح ، فلما بلغ الأسطوانة الوسطى من المسجد قال : هذا موضع مصلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي دعا فيه على الأحزاب ، وكان يصلي فيه إذا جاء مسجد الفتح.

وروى ابن شبة عن جابر قال : دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسجد المرتفع ، ورفع يديه مدا.

وعن سالم أبي النصر قال : دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الخندق «اللهمّ منزّل الكتاب ، ومنشئ السحاب ، اهزمهم وانصرنا عليهم».

وروى ابن زبالة من طريق عمر بن الحكم بن ثوبان قال : أخبرني من صلى وراء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مسجد الفتح ثم دعا فقال : «اللهم لك الحمد هديتني من الضلالة ، فلا مكرم لمن أهنت ، ولا مهين لمن أكرمت ، ولا معزّ لمن أذللت : ولا مذلّ لمن أعززت ، ولا ناصر لمن خذلت ، ولا خاذل لمن نصرت ، ولا معطي لما منعت ، ولا مانع لما أعطيت ، ولا رازق لمن حرمت ، ولا حارم لمن رزقت ، ولا رافع لمن خفضت ، ولا خافض لمن رفعت ، ولا خارق لمن سترت ، ولا ساتر لمن خرقت ، ولا مقرب لما باعدت ، ولا مباعد لما قربت».

وذكر القرطبي دعاء آخر في رواية يتضمن أن الدعاء وقع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هناك في الليلة التي أرسل الله فيها الريح على الأحزاب ، ولا مانع من أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا في تلك الليلة أيضا هناك ، ولفظه : ولما اشتد الأمر على المسلمين وطال المقام في الخندق قام عليه الصلاة والسلام على التلّ الذي عليه مسجد الفتح في بعض الليالي وتوقّع ما وعده الله من النصر. وقال : من يذهب ليأتينا بخبرهم؟ قال : فانطلق حذيفة بسلاحه ، ورفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده يقول : «يا صريخ المكروبين ، ويا مجيب المضطرين ، ويا كاشف همي وغمي وكربي ، فقد ترى حالي وحال أصحابي» فنزل جبريل فقال : إن الله سمع دعوتك وكفاك هول عدوك ، فخرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ركبتيه ، وبسط يديه ، وأرخى عينيه ، وهو يقول : شكرا

٤٠