وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى - ج ٣

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى - ج ٣

المؤلف:

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي


المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-381-8-0
الصفحات: ٢٤٦

ومن قريات حمص وبعلبك

لو أنّي كنت أجعل بالخيار

وفيهما وفي العقيق يقول الوليد بن زيد :

لم أنس بالعرصتين مجلسنا

بالسفح بين العقيق والسند

وقال عبد الله بن مصعب في ذلك وفي الصلصل :

أشرف على ظهر القديمة هل ترى

برقا سرى في عارض متهلل

نضح العقيق فبطن طيبة موهنا

ثم استمر يؤم فضل الصلصل

فكأنما ولعت مخائل برقه

بمعالم الأحباب ليست تأتلي

فالعرصتين فسفح عير فالربا

من بطن خاخ ذي المحل الأشهل

وقال سعيد المساحقي في ذلك وهو ببغداد ، وذكر أنه ابتلى بعد أخيه بمحادثة غلامه زاهر :

أرى زاهرا لما رأى من توحّشي

وأن ليس لي من أهل ودي زائر

فظل يعاطيني الحديث وإننا

لمختلفان حين تبلى السرائر

يحدثني مما يجمّع عقله

أحاديث منها مستقيم وجائر

وما كنت أخشى أن أراني راضيا

يعلّلني بعد الأحبة زاهر

وبعد المصلى والبلاط وأهله

وبعد العقيق حيث يحلو التزاور

إذا اعشوشبت قريانه وتزينت

عراص بها نبت أنيق وزاهر

وقال أيضا :

ألا قل لعبد الله إما لقيته

وقل لابن صفوان على النأي والبعد

ألم تعلما أن المصلى مكانه

وأن العقيق ذا الظلال وذا الورد

وأن رياض العرصتين تزينت

بنوارها المصفر والأشكل الوردي

وأن بها لو تعلمان أصائلا

وليلا رقيقا مثل حاشية البرد

وأن غدير اللابتين مكانه

وأن طريق المسجدين على العهد

فهل منكما مستأذن فمسلم

على وطن أو جاذب لذوي الود

فما العيش إلا ما يسر به الفتى

إذا لم يجد يوما سبيل ذوي الرشد

فأجابه عبد الأعلى بن عبد الله بن محمد بن صفوان :

أتاني كتاب من سعيد فشاقني

وزاد غرام القلب جهدا على جهد

وأذري دموع العين حتى كأنما

بها رمد عنه المراود لا تجدي

بأن رياض العرصتين تزينت

وأن المصلى والبلاط على العهد

وأن غدير اللابتين ونبته

له أرج كالمسك في عنبر الهند

٢٠١

فكدت لما أضمرت من لاعج الهوى

ووجد بما قد قال أقضى من الوجد

وقال إبراهيم بن موسى الزبيري :

ليت شعري هل العقيق فسلع

فقصور الجماء فالعرصتان

فإلى مسجد الرسول فما حا

ز المصلى فجانبا بطحان

فبنو مازن على العهد أم ليس كعندي في سالف الأزمان وأنشد عبد السلام بن يوسف وهو في غاية العذوبة :

على ساكني بطن العقيق سلام

وإن أسهروني بالفراق وناموا

حظرتم عليّ النوم وهو محلل

وحللتم التعذيب وهو حرام

إذا بنتم عن حاجر وحجرتم

على السمع أن يدنو إليه كلام

فلا ميّلت ريح الصبا فرع بانة

ولا سجعت فوق الغصون حمام

ولا قهقهت فيه الرعود ، ولا بكى

على حافتيه بالعشيّ غمام

فمالي وما للربع قد بان أهله

وقد قوضت من ساكنيه خيام

ألا ليت شعري هل إلى الرمل عودة

وهل لي بتلك البانتين لمام

وهل نهلة من بئر عروة عذبة

أداوي بها قلبا براه أوام

ألا يا حمامات الأراك إليكم

فما لي في تغريد كن مرام

فوجدي وشوقي مسعد ومؤانس

ونوحي ودمعي مطرب ومدام

وقال أعرابي :

أيا سرحتي وأدي العقيق سقيتما

حيا غضة الأنفاس طيبة الورد

ترويكما مج الثرى ، وتغلغلت

عروقكما تحت الندى في ثرى جعد

ولا يهنين ظلاكما أن تباعدت

بي الدار من يرجو ظلالكما بعدي

وعن محمد الزهري قال : ركب عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز وعبد الله بن حسن بن حسن ومحمد بن جعفر بن محمد على بغلات لهم ، حتى إذا كانوا بالعقيق أصابهم المطر ، وهنالك سرحة عظيمة ، فدخلوا تحتها ، فقال عبد العزيز بن عمر :

خبرينا يا سرح خصصت بالغيث

بصدق فالصدق فيه شفاء

هل يموت المحب من لاعج الحب

ويشفي من الحبيب اللقاء

ثم إن السماء أقلعت ، فساروا ساعة ، ثم رجعوا للسّرحة فإذا في أصلها كتاب فيه :

إن جهلا سؤالك السرح عما

ليس يوما به عليك خفاء

فاستمع تخبر اليقين وهل

يشفي من الشك نفسك الأنباء

ليس للعاشق المحب من الحب

سوى رؤية الحبيب شفاء

٢٠٢

وعن رجل من الأنصار أنه كان نازلا تحت سرحة ببطن العقيق إذ وقف عليه ابن عمر ، فسلم ، ثم قال : من دلّك عليها؟ قال : الذي دلّك عليها ، قال ابن عمر : فهل تدري لم يستحب ظلال السرح : قال الرجل : إنه ظليل ، وليس له شوك ، قال ابن عمر : ولغيره ، أرأيت إذا كنت بين الأخشبين من منى فإن بينك وبين مطلع الشمس واديا يقال له وادي سرر ، سرّ به سبعون نبيا ، وقد سر نبي منهم تحت سرحة فدعا للسرح ، فهي لا تقيل كما يقيل الشجر.

وعن محمد بن معن الغفاري قال : أراد محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان أن يخرج إلى مكة ، فذكر ذلك لعبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ، قال له عبد العزيز : هل لك أن تقيل عندي أنت وأصحابك ثم تروحون من عندنا وهو بالبطحان في قصر عمر بن عبد العزيز؟ فقال محمد : نعم ، فهيأ لهم نزلا ، فقال محمد : ما بقي شيء يبر به أحد أحدا إلا وقد أنزلتناه إلا طعام البادية ، قال : وما هو؟ قال : التمر والزبد ، قال : أما الغنم فإنها لعاصم بنت سفيان بن عاصم بن عبد العزيز ، يعني امرأته ، ولست مقدما على شيء منها إلا بإذنها ، ولكني سأستطعمها لكم ، وكتب إليها :

إن عندي فدتك نفسي ضيوفا

واجب حقّهم كهولا ومردا

عمدوا جارك الذي كان قدما

لا يرى من كرامة الضيف بدا

فلديه أضيافه قد قراهم

وهمو يشتهون تمرا وزبدا

فلهذا جرى الحديث ، ولكن

قد جعلنا بعض المزاحة جدّا

فقال له محمد : ما زال هذا العيش بينكما ، قال : نعم والله ما مسست غيرها ، ولا احتلمت بغيرها قط ، ولا خالفتها في شيء هويته قط ، فبعثت إليهم بتمر وزبد.

وعن عبد العزيز بن أبي حازم قال : كان عروة بن الزبير قائما بفناء قصره نصف النهار ، إذ أقبل شيخ من أهل المدينة معه حمام ، فوقف عند الميل ، فمسح حمامه ، وسوّى ريشه ثم أرسله ، ثم أقبل على بئر عروة فشرب من مائها ، فقال له عروة : جئت في مثل هذه الساعة كأنك صبي ، فأرسلت حماما ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «شيطان يتبعه شيطان» فقال الشيخ :

يا خليلي لا تكلم

ليس فيه من ملام

وعن عبد العزيز بن عبد الله قال : بينا أنا بالعقيق إذ أقبل رجل له موضع يحمل حماما ، فقلت له : مثلك يحمل هذا الحمام؟ ولا أراك إلا قد راهنت به ، قال : أجل ، وما في ذلك؟ قلت : إنه حرام ، قال : فهذه الخيل يراهن بها ، قلت : تلك سنة ، قال : وهذه رعلة ، ثم انصرف ، انتهى.

٢٠٣

والرعلة : نوع من تمر المدينة ، وكذا السنة ، فحمل السنة على ذلك.

الفصل الرابع

في جماواته ، وأرض الشجرة ، وثنية الشريد وغيرها من جهاته

نقل ابن زبالة وغيره أن الجماوات ثلاثة :

الأولى : جماء تضارع التي تسيل على قصر عاصم وبئر عروة ، وقال الهجري : أول الجماوات جماء تضارع التي تسيل على قصر عاصم وهو منزل أبي القاسم طاهر بن يحيى وولده ، وفيها يقول أحيحة بن الجلاح :

إني والمشعر الحرام وما

حجّت قريش له وما نحروا

لا آخذ الخطة الدنيّة ما

دام يرى من تضارع حجر

وتحته المكيمن مكيمن الجماء.

وعن محمد بن إبراهيم مرفوعا : إذا سألت تضارع فهو عام ربيع.

وروى ابن شبة حديث «لا تسيل تضارع إلا عام ربيع» قال : وتضارع الجبل الذي بسفحه قصر ابن بكير العثماني ، وقصور عبد العزيز بن عبد الله العثماني على ثلاثة أميال من المدينة ، على يمين الذاهب إلى مكة.

قلت : هذا الجبل هو الذي يقابلك وأنت بالمدرج تريد مكة ، فإذا استبطنت العقيق صار عن يمينك ، والجبل المعروف بمكيمن الجماء متصل به ، آخذ منه على يمين الذاهب أيضا.

جماء أم خالد

الثانية : جماء أم خالد التي تسيل على قصر محمد بن عيسى الجعفري وما والاه ، وفي أصلها بيوت الأشعث ، وقصر يزيد بن عبد الملك بن المغيرة النوفلي ، وفيفاء الخبار من جماء أم خالد ، قاله الزبير.

ونقل ابن شبة عن عبد العزيز بن عمران نحوه ، إلا أنه قال : في أصلها بيوت الأشعث وفيفاء الخبار ، وبينها وبين جماء العاقر طريق من ناحية بئر رومة وفيفاء الخبار من جماء أم خالد في مهبّ الشمال من الأولى مما يلي مسيل وادي العقيق منحدرا ، وفيفاء الخبار منهما.

وقال المجد : في أصل جماء أم خالد جبل يقال له سفر كما سيأتي في ترجمته.

روى الزبير عن موسى بن محمد عن أبيه قال : وجد قبر آدمي على رأس جماء أم خالد مكتوب فيه : أنا أسود بن سوادة رسول رسول الله عيسى بن مريم إلى أهل هذه القرية.

وعن ابن شهاب قال : وجد قبر على جماء أم خالد أربعون ذراعا في أربعين ذراعا ، مكتوب في حجر فيه : أنا عبد الله من أل نينوى رسول رسول الله عيسى بن مريم عليه‌السلام إلى أهل هذه القرية ، فأدركني الموت ، فأوصيت أن أدفن في جماء أم خالد.

٢٠٤

قال عبد العزيز بن عمران : نينوى موضعان : أحدهما من أرض السواد بالطف حيث قتل الحسين رضي الله تعالى عنه. والآخر قرية بالموصل ، وهي التي فيها يونس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولسنا ندري أي الموضعين عنى. وتقدم في أوائل الباب الثالث روايتان جاءتا في ذلك قال في إحداهما : فإذا فيه «أنا عبد الله الأسود رسول رسول الله عيسى بن مريم عليه‌السلام إلى أهل قرى عرينة» وقال في الأخرى» وإذا فيه أنا عبد الله رسول نبي الله سليمان بن داود إلى أهل يثرب ، وأنا يومئذ على الشمال».

جماء العاقر (العاقل)

الثالثة : جماء العاقر ـ بالراء كما في كتاب ابن شبة وغيره ، وفي بعض نسخ ابن زبالة والهجري ومعارف العقيق للزبير باللام ـ قال ابن شبة ، عقب ما تقدم عنه : وجماء العاقر الجبل الذي خلفه المشاش ، وإليه قصور جعفر بن سليمان بن علي بالعرصة ، وقال الهجري : الثالثة جماء العاقل ، فيها طريق إلى جماء أم خالد ، تسيل على قصور جعفر بن سليمان ، خلفها المشاش وهو واد يصبّ في العرصة ، وقال الزبير : جماء العاقل طريق بينها وبين جماء أم خالد خلفها المشاش.

وفي المشاش يقول عروة بن أذينة :

إذ جرى شعب المشاش بهم

ومضيف تلمة الرحمة

ومن البطحاء قد نزلوا

دار زيد فوقها العجمة

وأورد ابن زبالة هنا حديث «لا تقوم الساعة حتى يقتل رجلان موضع فسطاطيها في قبل الجماء» وحديث «نعم الجماء المنزل لو لا كثرة الأساود». وقد قدمنا في الفصل الأول نحوه في العرصة ، وقدمنا ما جاء في ذي الحليفة وبطحانها والمعرس ومسجد الشجرة ، وروى البيهقي في المعرفة عن الشافعي قال : كان سعيد بن زيد وأبو هريرة يكونان بالسحر على أقل من ستة أميال فيشهدان الجمعة ويدعانها.

وروى الزبير عن نافع أنه لما استصرخ على سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل يوم الجمعة بعد ما ارتفع الضحى أتاه ابن عمر بالعقيق ، وترك الجمعة.

وعن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه أن أروى بنت أويس أسعدت مروان بن الحكم على سعيد بن زيد في أرضه بالشجرة ، فقالت : إنه أدخل ضفيرتي في أرضه ، فقال : كيف أظلمها وقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «من اقتطع شبرا من الأرض طوّقه من سبع أرضين يوم القيامة»؟ وترك لها سعيد ما أدّعت ، وقال : اللهم إن كانت أروى ظلمتني فأعم بصرها ، واجعل قبرها في بئرها ، فعميت أروى ، وجاء سيل فأبدي عن ضفيرتها خارجا عن حق سعيد ، فأقسم سعيد على مروان ليركبنّ معه وينظر إلى ضفيرتها ، فركب والناس حتى نظروا إليها ، ثم إن أروى خرجت لبعض حاجتها فوقعت في البئر فماتت.

٢٠٥

وفي رواية أنها سألت سعيدا أن يدعو لها ، وقالت : إني ظلمتك ، فقال : لا أردّ على الله شيئا أعطانيه.

قال إبراهيم بن حمزة : وكان أهل المدينة يدعو بعضهم على بعض فيقول : أعماك الله كما أعمى أروى ، يريدونها ، ثم صار الجهال يقولون : أعماك الله كما أعمى الأروى ، يعني أروى الجبل ، يظنونها شديدة العمى.

وفي رواية أن سعيدا قال : اللهم إن كانت أروى كاذبة فلا تخرجها من الدنيا حتى تعمى ، وتجعل منيتها في بئرها ، فعميت ، فكانت لها جارية تخرج بها تقودها ، فتقول لها : أخبريني ما يعمل العمال ، فتخبرها ، فتقول لهم : أنتم تفعلون كذا وكذا ، وتصيح عليهم ، فغفلت الجارية عنها يوما ، فخرجت إلى العمال فوقعت في بئرها فماتت ، فلذلك يقولون : عمى أروى.

و عن يحيى بن موسى قال : كان أبو هريرة نزل الشجرة قبل أن تكون مزدرعا ، فمرّ به مروان وقد استعمله معاوية على المدينة فقال : مالي أراك هاهنا؟ قال : نزلت هذه البرية مع أبي أصلي في مسجد رسول الله صلى اللّه عليه وسلم بذي الحليفة ، فأقطعه مروان أرضه وضفرها له ، فتصدق بها أبو هريرة على ولده ، ولم يزل العقيق نخلا حتى عملت العيون.

ثنية الشريد

ونقل ابن زبالة أن ثنية الشريد كانت لرجل من بني سليم كان بقية أهل بيته ، فقيل له : الشريد ، وكانت أعنابا ونخلا لم ير مثلها ، فقدم معاوية المدينة ، فطلبها منه ، فأبى ، ثم ركب يوما فوجد عماله في الشمس ، فقال : مالكم؟ فقالوا : نسجم البئار ، فركب إلى معاوية فقال : يا أمير المؤمنين إنه لم يزل في نفسي منعي إياك ما طلبت مني ، فهو لك بما أردت ، فكتب إلى ابن أبي أحمد أن يدفع إليه الثمن ، قال : وسمعتهم يكثرونه جدّا ، فقال له ابن أبي أحمد : إن أمير المؤمنين لم يسمك بها وهي على هذه الحال ، فقال : إني رجوت حين صار أمري إليك التيسير علي ، فدفع إليه الثمن.

ومزارع ثنية الشريد من أرض المحرمين إلى أرض المنصور بن إبراهيم ، وقال الهجري : إن سيل العقيق يفضي إلى ثنية الشريد ، ومنها منازل وبئار كثيرة ، وهي ذات عضاه وآكام ، تنبت ضروبا من الكلأ ، صالحة للمال ، تحف الثنية شرقي عير الوادي وغربي جبل يقال له الفراء ، ثم يفضي إلى الشجرة التي بها المحرم والمعرس.

وقال ابن النجار عن أهل السير : إن النبي صلى اللّه عليه وسلم ولى العقيق لرجل اسمه هيصم المزني ، وأن ولاة المدينة لم يزالوا يولّون عليه ، حتى كان داود بن عيسى فتركه في سنة ثمان وتسعين ومائة.

٢٠٦

قلت : هذا إنما ذكره ابن زبالة والزبير في حمى النقيع كما سيأتي.

وروى ابن زبالة عن يحيى بن سعيد أن رجلا كان لا يعرف والده كان يوما بالعقيق ، فنهاه عمر بن عبد العزيز.

وفي رواية : كان يصلي لهم الجمعة بالشجرة ، فنهاه عمر بن عبد العزيز أن يؤمهم لأنه لا يعرف له أب ، وهو يقتضي أن الجمعة كانت تقام بالعقيق ، فآثار أبنية مكان العقيق موجودة إلى اليوم ، وهي دالة على ما كان به من القصور الفائقة ، والمناظر الرائقة ، والآبار العذبة إحسان ، والحدائق الملتفّة الأغصان ، دثرت على طول الزمان ، وتكرر الحدثان ، وبقي هناك بعض الآبار ، وبقايا الآثار ، فترتاح النفوس برؤيتها ، وتنتعش الأرواح بانتشاق نسمتها ، فهي كما قال حبيب بن أوس :

ما ربع ميّة معمورا يطيف به

غيلان أبهى ربا من ربعها الخرب

ولا الخدود وإن أدمين من نظر

أشهى إلى ناظر من خدها الترب

وقال أعرابي :

ألا أيها الركب المحنّون هل لكم

بأهل عقيق والمنازل من علم

فقالوا : نعم تلك الطلول كعهدها

تلوح ، وما يغنى سؤالك عن علم

خاتمة

في سرد ما يدفع في العقيق من الأودية ، وما به من الغدران

قال في جزيرة العرب لأبي عبيدة رواية أبي عبد الله المازني عنه ما لفظه : والعقيق يشق من قبل الطائف ، ثم يمر بالمدينة ، ثم يلقى في إضم البحر ، انتهى.

وسيأتي في وادي قناة أنه من وجّ الطائف أيضا ، ولكن قال الزبير وغيره : أعلى أودية العقيق النقيع ، ثم ذو العش ، ثم ذو الضرورة ، ثم ذو القرى ، ثم ذو الميت ، ثم ذو المكبر ، ثم ذات القطب ، ثم حد المولى ، ثم حد الأباني ، ثم ذو تنقية ، ثم القويع ، ثم ذو الصواير ، ثم الفلجة ، ثم الوشيحة ، ثم مخايل الوغائر ، ثم مخايل الرمضة ، وكلاهما يصب في حصين ، ثم ذو العشيرة ، ثم الرتاحة ، ثم ذو سمر ، ثم مرخى الحرة اليماني والشامي محتذيان جميعا ، ثم يجتمع ذو سمر ومرخان فيقال لمجتمعهن : المجتمعة ، ثم ذات السليم ، ثم ذو الغصين ، ثم شوظى ، ثم خاخ ، ثم المناصفة ، ثم شعاب الحمري والفراء وعيرين.

وقال الزبير : وأوديته مما يلي القبلة في المغرب أعلاها ذات الرابوقة ثم نفعا.

وعن مشيخة مربية أن صدور العقيق ما يبلغ في النقيع من قدس وما قبل من الحرة وما دبر من النقيع وثنية عمق ، فهو يصب في الفرع ، وما قبل من الحرة مما يدفع في العقيق يقال له بطاويح ، قال : ثم فرش موزد ، ثم راية الأعمى ، ثم راية الغراب ، ثم الخائع ، ثم ذو

٢٠٧

عاصم ، ثم بلغة السرح ، ثم بلغة برام ، ثم بلغة رماد ، ثم بلغة المعيرا ، ثم بلغة الرمس ، ثم نبعة العشرة ، ثم نبعة الطوى ، ثم الحنينة ، ثم النبعة ، ثم ضاف ، ثم بلغة التمر ، ثم نبع الأضاة ، ثم الأتمة أتمة عبد الله بن الزبير ، ثم ذات الحماط ، وفي حديث تقدم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «صلّى في مسجد بالضيقة مخرجه من ذات الحماط» ثم هاوان ، ثم فريقان ، ثم الساهية ، ثم أعشار ، وتقدم في حديث نزوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكهف أعشار وصلاته فيه ، ثم ريم ، ثم لاي ، ثم ذو سلم النظيم ، ثم ذو بدوم ، ثم حفية ، ثم قسبان ، ثم الصهوة ، ثم بقرة ، ثم ذو سنية ، وسنية : قوم من مزينة ، ثم الرمامية ، ثم الموقية ، ثم ضبع ، ثم مهر ، ثم الملحاء ، ثم المليحة ، ثم النخيل ، ثم الرديهة ، ثم أنفة ، ثم المنتقبة ، ثم مراح الصحرة ، ثم سائلة أبي يسار التي تسيل على قصر المخرمي ، ثم شعاب الفراء ، ثم ذات الجيش ، وتقدم حديث الأعلام في حرم المدينة على شرف ذات الجيش ، ثم وادي أبي كبير بن سعيد بن وهب بن عبد بن قصي ، وذات الجيش يدفع فيه ، وبه قصر الرماد لآل أبي كبير ، وكانت لهم بئر بطرف الفراء يوردون عليها سبعين أو ثمانين بعيرا لهم ، قال الزبير : وأنا رأيت بئر أحد طرف الفراء مكبوسة ، وما قبل من الصلصلين يدفع إلى بئر أبي عاصية ، ثم يدفع في ذات الجيش ، ثم يدفع في وادي أبي كبير ، وما دبر منهما يدفع في البطحاء ، فطرف عظيم الغربي يدفع في ذات الجيش ، وطرفه الشامي يدفع في البطحاء بين الجبلين في وادي العقيق ، ثم الجماوات ثلاث ، وتفصيل مسائلها كما قدمناه فيها.

ثم ذكر مجتمع سيول المدينة بزغابة ، وذلك أعلى وادي إضم ، قال : وأعلى غدر مسيلات العقيق التي في درج الوادي مما يلي الحرة موكلان من أعلى ذي العش ، ثم غدير سليم ، ثم ذو التحاميم ، ثم الأعوج ، ثم غدير الجبال ، ثم يماحم ، ثم غدير الذباب ، ثم غدير الحمير ، ثم غدير فليج الأعلى ، ثم غدير فليج الأسفل ، وهذه الثلاثة تعرف بمنحنيات فليج الزبيري ، ثم غدير السيالة ، ثم الطويل ، ويعد من منحنيات فليج أيضا ، ثم غدير البيوت بيوت عبد الله العمري ، ثم غدير رتيجة ، ثم بكين ، ثم غدير سلافة ، ثم غدير الرعاء ، ثم غدير الأحمى مقصورا والأحمى : طرب العدس في أصله ، ثم غدير حصير ، ثم الندبة من أسفل حصير ، ثم العرابة على أعلى مرج ، ثم مرج ، ثم غدير السدر ، ثم غدير الخم ، ثم المستوجبة ، ثم حليف ، ثم حليف ، ثم الحقن ، ثم ذو الطفيتين ، ثم ذو اللحيين ، ثم ذو الابنة ، ثم غدير مريم ، ثم غدير المجاز ، ثم غدير المرس ، ثم رابوع ، وقلما يفارقه ماء وإذا قل ماؤه احتسى ، وهو أسفل شيء من غدران درج العقيق إلا غدير أسفل منه يقال له غدير السيالة ، هذا كلام الزبير.

ونقل ابن شبة أن سيل العقيق يأتي من موضع يقال له بطاويح ، وهو حرس من الحرة ،

٢٠٨

وغربي شطاي حتى مضيا جميعا في النقيع وهو قاع كبير الدر ، وهو من المدينة على أربعة برد في يمانيها ، ثم يصب في غدير يلبن وبرام ، ويدفع فيه وادي البقاع ، ويصب فيه نقعا فيلتقين جميعا بأسفل من موضع يقال له نقع ، ثم يذهب السيل مشرقا فيصب على رواوتين يعترضهما يسارا ، ويدفع عليه واد يقال له هلوان ، ثم يستجمعن فيلقاهن بوادي دبر بأسفل الحليفة العليا ، ثم يصب على الأتمة وعلى الجام ، ثم يفضي إلى وادي الحميراء فيستبطن واديها ويدفع عليه الحرتان شرقيا وغربيا حتى ينتهي إلى ثنية الشريد إلى أن يفضي إلى الوادي فيأخذ في ذي الحليفة حتى يصب بين أرض أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وبين أرض عاصم بن عدي بن العجلان ، ثم يستبطن الوادي فيصب عليه شعاب الجماء ونمير حتى يفضي إلى أرض عروة بن الزبير وبئره ، ثم يستبطن بطن الوادي فيأخذ منه شطيب إلى خليج عثمان بن عفان الذي حفر إلى أسفل العرصة التي يقال لها خليج بنات نائلة وهن بنات عثمان منها ، وكان عثمان ساقه إلى أرض اعتملها بالعرصة ، ثم يفترش سيل العقيق إذا خرج من حوافر عبد الله بن عنبسة بن سعيد يمنة ويسرة ، ويقطعه نهر الوادي ، ثم يستجمع حتى يصب في زغابة ، انتهى.

ونقل الهجري أن سيل العقيق إذا أفضى من النقيع أفضى إلى قراره أسفل قاع لا شجر فيه ، وأسفل منه حصير ، ثم يفضي إلى مرج ، ثم إلى المستوجبة ، ثم إلى غدير يقال له ديوا الضرس ، ثم إلى غدير المجاز ، ثم إلى غدير يقال له رواوة ، ثم إلى غدير الطفيتين ، ثم الابنة ، ثم أسفل من ذلك رابوع ، ثم يلقاه وادي بريم فإذا التقيا دفعا في الحليفة حليفة عبد الله بن أبي أحمد بن جحش ، ثم سطح سيول النقيع والصحرة ومراج وأنفة عند جبل يقال له واسطة المسطح ، ثم يفضي إلى الجبخانة صدقة عباد الزبيري ، وله دوافع من الحرة مشهورة منها شوظي وروضة الجام ، ثم يفضي إلى حمراء الأسد ، ثم إلى ثنية الشريد ، ثم إلى الشجرة التي بها المحرم ، اه.

الفصل الخامس

في بقية أودية المدينة ، وصدورها ، ومجتمعها ، ومغايضها

وادي بطحاء

فمنها وادي بطحان ـ روى ابن شبة والبزار عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إن بطحان على ترعة من ترع الجنة» قال ابن شبة : وأما سيل بطحان ـ وهو الوادي المتوسط بيوت المدينة ، أي في زمنه ـ فإنه يأخذ من ذي الحدر ، والحدر قرارة في الحرة يمانية من حلبات الحرة العليا حرة معصم ، وهو سيل يفترش في الحرة حتى يصب على شرقي ابن الزبير وعلى جفاف ومرفية والحساة حتى يفضي إلى فضاء بني خطمة والأعرس ، ثم يستنّ حتى يرد الجسر ، ثم يستبطن وادي بطحان حتى يصب في زغابة.

٢٠٩

وسيأتي في مذينب من رواية ابن زبالة أن بطحان يأتي من الحلابين حلابي مصعب على سبعة أميال من المدينة أو نحو ذلك ، وفي رواية له أن بطحان يأتي من صدر جفاف.

فيتلخص أنه يأتي من الحلابين فيصل أولا إلى وادي جفاف ، ثم إلى بطحان ، ولهذا استغنى ابن زبالة وغيره ببطحان عن إفراد جفاف بالذكر ، وجعل المطري ومن تبعه الترجمة لجفاف ، قالوا : ووادي جفاف على موضع في العوالي شرقي مسجد قباء ، اه.

ويفهم من أطراف كلام ابن شبة : أن ابتداء وادي بطحان من جسر بطحان ، وذلك بقرب الماجشونية وآخره في غربي مساجد الفتح ، ويشاركه رانونا في المجرى من الموضع الذي في غربي المصلى وما والاه من القبلة ، لأنها تصبّ فيه كما سيأتي ، والذي يقتضيه كلام غيره أن الماجشونية وتربة صعيب من بطحان.

وادي رانونا

ومنها : رانونا ، ويقال : رانون ـ قال ابن شبة : وأما سيل رانون فإنه يأتي من مقمة في جبل في يماني عير ومن حرس شرقي الحرة ، ثم يصب على قرين صريحه ثم سد عبد الله بن عمرو بن عثمان ، ثم يفترق في الصفاصف فيصب في أرض إسماعيل ومحمد ابني الوليد بالقصبة ، ثم يستبطن القصبة حتى يعترض قباء يمينا ، ثم يدخل غوسا ثم بطن ذي خصب ، ثم يجتمع ما جاء من الحرة وما جاء من ذي خصب ، ثم يقترن بذي صلب ، ثم يستبطن السرارة حتى يمر على قعر البركة ثم يفترق فرقتين ؛ فتمر فرقة على بئر جشم تصب على سكة الخليج حتى تفرغ في وادي بطحان ، وتصب الأخرى في وادي بطحان ، اه.

وفي رواية لابن زبالة عن عبد الله بن السائب قال : رانونا تأتي من بين سد عبد الله بن عمرو بن عثمان وبين الحرة وتلقى هي وواد آخر عند الجبل الذي يقال له مقمن أو مكمن.

وقال ابن زبالة : وأما ذو صلب فيأتي من السد ، وأما ذو ريش فيأتي من جوف الحرة ، ثم قال في رواية أخرى : إن صدر سيل ذي صلب من رانونا ، وصدر رانونا يأتي من التجنيب ، ثم يسكب ذو صلب ورانونا في سد عبد الله بن عمرو بن عثمان ، ثم في ساخطة وأموال العصبة ، ثم في غوسا ، ثم في بطحان ، ثم يلتقي هو وبطحان عند دار الشواترة ، وهي عداد بني زريق ، ويزعمون أنهم من عاملة ، اه.

والسد موجود في تلك الجهة ، ولكنه لا يضاف اليوم لعبد الله المذكور ، قال المراغي : والسد لا يعرف اليوم بهذا الاسم ، ولعله المعروف بسد عنتر ؛ لانطباق الوصف عليه ، وساخطة لا تعرف ، ولعلها مزرعة السد ، وغوسا غير معروفة ، ولعله أراد حوسا ـ بالحاء المهملة ـ وهي معروفة بقباء ، ويشرب من رانونا ، ووقع في الاسم تغيير ، اه. وقال نصر : عوسا قريب قباء.

٢١٠

قلت : وقرين صريحه ينطبق وصفه على القرين المعروف اليوم بقرين الصرطة ، وقال المطري : إن رانونا ينتهي إلى مسجد الجمعة ببني سالم ، ثم يصب في بطحان. قال المراغي : الذي رواه ابن زبالة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى ببني سالم في ذي صلب ، لا رانونا ، وأن كلام ابن زبالة السابق يدل على المغايرة بينهما.

قلت : هما وإن افترقا في بعض الأماكن فينتهيان إلى مجتمع واحد ، ولذا قال ابن شبة : ثم يقترن بذي صلب ، كما سبق ، فيسمى برانونا لمرورها عليه ، ولذا قال ابن إسحاق في أمر الجمعة : فأدركته في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي وادي رانونا ، فعبر به عن ذي صلب ، بل فيما تقدم عن ابن زبالة أنه يأتي من جوف الحرة ، فلعله المعنيّ بقول ابن شبة : ثم يجتمع ما جاء من الحرة ـ ويعني بالحرة حرة بني بياضة لما تقدم في منازلهم من أن حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن عضب بن جشم ابتني الأطم الذي في أدنى بيوت بني بياضة الذي دونه الجسر الذي عند ذي ريش.

وأما السرارة المذكورة في كلام ابن شبة فتقدم ذكرها أيضا في منازل بني بياضة ، فليست هي الحديقة المعروفة اليوم بالسرارة.

وأما بئر جشم فغير معروفة اليوم ، ولعلها مضافة إلى جشم بن الخزرج الأكبر ، كما حدثني مالك بن عضب ، وهم ببني بياضة ، وسأتي ما يرجّحه ، ويحتمل أن تكون مضافة إلى جشم بن الحارث ، ومنازلهم بالسنح ، وهو بعيد.

وادي قناة

ومنها : وادي قناة سمي بذلك لأن تبّعا لما غزا المدينة نزل به ، فلما شخص عن منزله قال : هذه قناة الأرض ، فسميت قناة ، وتسمى الشظاة ، وفي القاموس أن هذا الوادي عند المدينة ، أي ما حاذاها منه تسمى قناة ، ومن أعلى منها عند السد أي الذي أحدثته نار الحرة تسمى بالشظاة.

وقال ابن شبة : وادي قناة يأتي من وج أي وج الطائف.

وعن شريح بن هانئ الشيباني أنه قدم على عمر بن الخطاب ومعه امرأته أم الغمر فأسلمت ، ففرق بينهما عمر ، فقال : يا أمير المؤمنين اردد عليّ زوجتي ، فقال : إنها لا تحل لك إلا أن تسلم ، فنزل شريح بقناة وقال :

ألا يا صاحبيّ ببطن وجّ

روادف لا أرى لكم مقاما

ألا تريان أم الغمر أمست

قريبا لا أطيق لها كلاما

فجعل بطن قناة بطن وج لأن السيل يأتي منه.

وقال المدائني : قناة واد يأتي من الطائف ، ويصب في الأرخصية وقرقرة الكدر ، ثم يأتي بئر معاوية ، ثم يمر على طرق القدوم في أصل قبور الشهداء بأحد.

٢١١

وقال ابن زبالة : إن سيول قناة إذا استجمعت تأتي من الطائف ، قالوا : ومحول أودية العرب قناة وإضم ، أي اللاتي في مجتمع السيول ووادي نخلة ، وإنما سميت محولا لبعد صدورها وكثرة دوافعها ، ويأتي وادي قناة من المشرق حتى يصل السد الذي أحدثته نار الحجاز المتقدم ذكرها آخر الباب الثاني ، وتقدم هناك أن هذا الوادي كان قد انقطع بسبب ذلك ، وانحبس السيل حتى صار بحرا مدّ البصر عرضا وطولا ، كأنه نيل مصر عند زيادته ، قال المطرطي : شاهدته كذلك سنة سبع وعشرين وسبعمائة ، وتقدم أنه انخرق من تحته سنة تسعين وستمائة ، فجرى الوادي سنة ، فملأ ما بين الجانبين ، وسنة أخرى دون ذلك ، ثم انخرق بعد السبعمائة فجرى سنة أو أزيد ، ثم انخرق سنة أربع وثلاثين وسبعمائة بعد تواتر الأمطار فكثر الماء وجاء سيل لا يوصف كثرة ، ومجراه على مشهد سيدنا حمزة ، وحفر واديا آخر قبلى الوادي والمشهد. وقبلى حبل عينين في وسط السيل ، ومكثا نحو أربعة أشهر لا يقدر أحد على الوصول إليهما إلا بمشقة ، ولو زاد مقدار ذراع في الارتفاع وصل إلى المدينة ، ثم استقر في الواديين القبلي والشمالي قريبا من سنة ، وكشف عن عين قديمة قبلى الوادي جدّدها الأمير ودي ، وهذا الوادي هو المراد بقوله في حديث الاستنشاق من رواية الصحيح «وسال وادي قناة شهرا» وينتهي سيل قناة إلى مجتمع السيول ترعا أيضا.

وادي مذينب

ومنها : وادي مذينب ، ويقال : مذينيب ـ قال ابن زبالة عن غير واحد من الأنصار : مذينب شعبة من سيل بطحان ، يأتي مذينب إلى الروضة روضة بني أمية ، ثم ينشعب من الروضة نحوا من خمسة عشر جزءا في أموال بني أمية ، ثم يخرج من أموالهم حتى يدخل بطحان وصدير ، مذينب وبطحان يأتيان من الحلابين حلابي صعب على سبعة أميال من المدينة أو نحو ذلك ، ومصبهما في زغابة حيث تلتقي السيول ، اه.

وقوله «من سيل بطحان» يعني من أصله من الحلابين كما بينه أخيرا ، وسبق بيان منازل بني أمية وأن من أموالهم بئر العهن.

وسيأتي عن ابن شبة ما ظاهره المخالفة لهذا ، حيث قال في مهزور : حتى حلاة بني قريظة ، ثم يسلك منه شعيب فيأخذ على بني أمية بن زيد بين البيوت في واد يقال له مذينب ، ثم يلتقي هو وسيل بني قريظة بالمشارف فضاء بني خطمة ، ثم يجتمع الواديان مهزور ومذينب ، فمقتضاه أن مذينب من أصل مهزور ، ولهذا قال المجد : قال أحمد بن جابر : ومن مهزور إلى مذينب شعبة تصبّ فيه.

قلت : لكن أعلى صدر سيل بطحان ومذينب ومهزور من حرة واحدة ، فيصح تشعب مذينب من كل منهما.

٢١٢

ولهذا نقل المجد عن أبي عبيدة أن اليهود لما نزلوا المدينة نزلوا بالسافلة ، فاستوبئوها ، فبعثوا رائدا إلى العالية ، فرأى بطحان ومهزورا يهبطان من حرة ينصبّ منها مياه عذبة ، فرجع فقال : وجدت بلدا طيبا وأودية تنصب إلى حرة عذبة ، فتحولوا ؛ فنزل بنو النضير على بطحان ، وقريظة على مهزور ، اه. مع أن الذي تقدم في المنازل أن بني النضير نزلوا بمذينب ، ومنازلهم النواعم ، فمن أطلق نزولهم على بطحان راعى اتحاد الأصل وأن مذينب يصب في بطحان أيضا ، كان في زماننا يشق في الحرة الشرقية قبلى بني قريظة ، ويمر في وسط قرية قديمة كانت شرق العهن والنواعم ، ويتشعب في تلك الأموال ، ويخرج ما فضل منه من الموضع المعروف بنقيع الرديدي ومن الناصرية ، فيصب في الوادي الذي يأتي من ضفاف شرقي مسجد الفضيخ ، حتى يأتي الفضاء الذي عند بؤور النورة خلف الماجشونية فتلقاه هناك شعبة من مهزور ، ثم يصبان جميعا في بطحان.

وقال المطري : مذينب شرقي جفاف ، يلتقي هو وجفاف فوق مسجد الشمس ، ثم يصبان في بطحان ، ويلتقيان مع رانونا ببطحان ، فيمران بالمدينة غربي المصلى ، اه. ومراده جفاف أصل مسيل بطحان.

وادي مهزور

ومنها : مهزور ـ نقل ابن زبالة أنه يأتي من بني قريظة ، ثم قال في هذه الرواية ما لفظه : وأما معجب فيأتي سيله ، وكان يمر في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالت الأنصار : إنما الذي يمر في المسجد مهزور ، ولم يبين أصل سيل معجب ، وكذا ابن شبة ، فقال : وأما بطن مهزور فهو الذي يتخوف منه الغرق على أهل المدينة فيما حدثنا به بعض أهل العلم ، ثم ذكر رواية ابن زبالة السابقة.

وقال ابن زبالة عقب ما تقدم عنه في مذينب ، ما لفظه : وسيل مهزور وصدره من حرة سوران ، وهو يصب في أموال بني قريظة ، ثم يأتي بالمدينة فيسقيها ، وهو السيل الذي يمر في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم يسكب في زغابة ، ويلتقي هو وبطحان بزغابة حيث تلتقي السيول ، اه.

واجتماعه في بطحان بزغابة من مجرى قناة ، ولهذا قال ابن شبة : وسيل مهزور يأخذ من الحرة من شرقيها ومن هكر ، وحرة صفة ، حتى يأتي أعلى حلاة بني قريظة ، ثم يسلك منه شعيب فيأخذ على بني أمية بن زيد بين البيوت في واد يقال له مذينب ، ثم يلتقي وسيل بني قريظة بفضاء بني خطمة ، ثم يجتمع الواديان جميعا مهزور ومذينب فيتفرقان في الأموال ويدخلان في صدقات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلها إلا مشربة أم إبراهيم ، ثم يفضي إلى السورين على قصر مروان بن الحكم ، ثم يأخذ بطن الوادي على قصر بني يوسف ، ثم يأخذ في البقيع

٢١٣

حتى يخرج على بني حديلة ، والمسجد ببطن مهزور ، وآخره كومة أبي الحمرة ، ثم يمضي فيصبّ في وادي قناة ، انتهى.

ومقتضاه أن الشعبة التي تجتمع من مهزور بمذينب بالفضاء المذكور تسقى بعد ذلك ، فكأنها صرفت عن جهة الصدقات إلى بطحان ، أو أن كلامه مؤوّل ؛ لأن المعروف اليوم أن الشعبة التي تلق مذينب من مهزور تصبّ بعد اجتماعهما في بطحان كما سبق ، والذي يسقي ما ذكر من الصدقات ويمر بالبقيع إنما هو شعبة أخرى من مهزور ، ولا تجتمع بمذينب ، بل تمر على الصافية وما يليها من الصدقات ، ثم تغشى بقيع الغرقد والنخيل التي حوله خصوصا الجزع المعروف بالحضاري ، فاتخذ لذلك شيخ الحرم الزيني مرجان التقوى حفظه الله تعالى طريقا إلى بطحان ، وحفر له مجرى من ناحية الصدقات ، فصارت الشعبة المذكورة تصب أيضا في بطحان ، ولا تمر بالبقيع ، ولم يتعرض ابن شبة للشعبة التي تشق من مهزور إلى العريض وهو معظمه بسبب السد المبني هناك ، وقد اقتصر عليها المطري فقال : مهزور شرقي العوالي ، شمالي مذينب ، ويشق في الحرة الشرقية إلى العريض ، ثم يصب في وادي الشظاة.

قال الزين المراغي عقب نقله : وكأن حرّة شوران أي المذكورة في كلام ابن زبالة هي الحرة الشرقية.

وقال ابن شبة : وكان مهزور سال في ولاية عثمان رضي الله تعالى عنه سيلا عظيما على المدينة خيف على المدينة منه الغرق ، فعمل عثمان الردم الذي عند بئر مدري ليرد به السيل عن المسجد وعن المدينة.

وذكره ابن زبالة فقال : وأما الدلال والصافية فيشربان من سرح عثمان بن عفان الذي يقال له مدري الذي يشق من مهزور في أمواله ويأتي على أريس وأسفل منه حتى يتبطن الصورين ، فصرفه مخالفة على المسجد في بئر أريس ، ثم في عقد أريم ثم في بلحارث بن الخزرج ، ثم صرفه إلى بطحان ، انتهى.

وقال ابن شبة عقب ما تقدم : ثم سال وعبد الصمد بن علي وال على المدينة في خلافة المنصور سنة ست وخمسين ومائة ، فخيف منه على المسجد فبعث إليه عبد الصمد عبيد الله بن أبي سلمة العمري ، وهو على قضائه ، وندب الناس فخرجوا إليه بعد العصر ـ وقد طغي وملأ صدقات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فدلوا على مصرفه ، فحفروا في برقة صدقة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأبدوا عن حجارة منقوشة ففتحوها فانصرف الماء فيها وغاض إلى بطحان. دلهم على ذلك عجوز مسنة من أهل العالية ، قالت : إني كنت أسمع الناس يقولون : إذا خيف على القبر من سيل مهزور فاهدموا من هذه الناحية ، وأشارت إلى القبلة ، فهدمها الناس فأبدوا عن تلك الحجارة ، انتهى.

٢١٤

وذكره ابن زبالة مع مخالفة في التاريخ فقال : وفي ليلة الأربعاء هلال المحرم سنة ثمان وخمسين ومائة في إمارة عبد الصمد لما أصيب المسجد بتلك الغرقة استغاث الناس على سيل مهزور مخافة على القبر ، فعمل الناس بالمساحي والمكاتل والماء في برقة إلى أنصاف النخل ، فطلعت عجوز من أهل العالية فقالت : أدركت الناس يقولون : إذا خيف على القبر فاهدموا من هذه الناحية ، يعني القبلة ، فدار الناس إليها فهدموا وأبدوا عن حجارة منقوشة ، فعدل الماء إلى هذا الموضع اليوم وأمنوا ، وهي الليلة التي هدمت فيها بيوت بطحان وبني جشم ، انتهى.

ونقله المراغي إلا أنه قال كما رأيته بخطه : وأبدوا حجارة منقوشة ، وضبط الباء بالتشديد ، والذي في كلام ابن زبالة وابن شبة ما قدمته ، قال المراغي عقبه : وبنو جشم لا تعرف ، وإنما المعروف دشم ـ بالدال ـ بستان شامي مسجد الفعلة على نحو رميتي سهم منه ، فلعلها منازلهم ، ووقع في الاسم تغيير.

قلت : والظاهر أن المراد منازل بني جشم بن الحارث بالسنح لقربها من بطحان ، فطغى الماء إليها لما صرفوه.

تتمة

فيما قضى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الأودية

قضاؤه بين رجل من الأنصار والزبير

روينا في الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن الزبير أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير في شراج الحرة التي يسقون بها النخل ، فقال الأنصاري : سرح الماء يمر ، فأبى عليه ، فاختصما عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للزبير : اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك ، فغضب الأنصاريّ ، فقال : أن كان ابن عمتك؟ فتلوّن وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر.

وفي رواية للبخاري : حتى يرجع الماء إلى الجدر ، فكان ذلك إلى الكعبين ، وفي أخرى له : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشار على الزبير برأي فيه سعة ، فلما أحفظ الأنصاري النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أي أغضبه ـ استوفى للزبير حقه في صريح الحكم.

والجدر قيل : أصل الشجرة ، وقيل : جدور المشارب التي يجتمع فيها الماء في أصول النخل ، وقيل : المسحاء وهو ما وقع حول المزرعة كالجدار ، وقال ابن شهاب : قدرت الأنصار والناس ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان ذلك إلى الكعبين.

وفي سنن أبي داود عن ثعلبة بن أبي مالك أنه سمع كبراءهم يذكرون أن رجلا من قريش كان له سهم من بني قريظة ، فخاصم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مهزور السيل الذي يقسمون ماءه ، فقضى بينهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الماء إلى الكعبين لا يحبس الأعلى على الأسفل.

٢١٥

وفي رواية له : قضى في السيل المهزور أن يمسك حتى يبلغ الكعبين ، ثم يرسل الأعلى على الأسفل ، كذا قال في «السيل المهزور» والمشهور كما قال السبكي «في سيل المهزور».

وفي الموطأ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في سيل مهزور ومذينب : يمسك حتى الكعبين ، ثم يرسل الأعلى على الأسفل.

وروى ابن شبة : قضى في سيل مهزور أن يمسك الأعلى على الأسفل حتى يبلغ الكعبين والجدر ، ثم يرسل الأعلى على الأسفل ، وكان يسقي الحوائط.

وعن جعفر قال : قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سيل مهزور أن لأهل النخيل إلى العقيق ، ولأهل الزرع إلى الشراكين ، ثم يرسلون الماء إلى من هو أسفل منهم.

وهو صريح فيما قاله المتولي والماوردي من أن التقدير بالكعبين ليس على عموم الأزمان والبلدان والزرع والشجر ؛ لأن الحاجة تختلف ، ولم يقف السبكي على هذه الرواية فقال : وهو قوي ، والحديث واقعة حال ، ولو لا هيبة الحديث لكنت أختاره.

خاتمة

في مجتمع الأودية ومغائضها

مجتمع سيول العالية

قال الزبير : ثم يلتقي سيل العقيق ورانونا بواد آخر وذي صلب وذي ريش وبطحان ومعجف ومهزور وقناة بزغابة ، وسيول العوالي هذه يلتقي بعضها ببعض قبل أن يلتقي العقيق ثم يجتمع ، فيلتقي العقيق بزغابة.

قلت : والحاصل أن سيول العالية ترجع إلى بطحان وقناة ، ثم تجتمع مع العقيق بزغابة عند أرض سعد بن أبي وقاص كما صرح ابن زبالة.

قال الزبير : وذلك أعلى وادي إضم ، وفيه يقول إسحاق الأعرج :

غشيت ديارا بأعلى إضم

محاها البلى واختلاف الدّيم

قال الهجري : سمى إضم لانضمام السيول به واجتماعها فيه ، وقال ابن شبة : تجتمع هذه الأودية بزغابة ، وهو بطرف وادي إضم ، سمي بإضم لانضمام السيول به.

قلت : ويسمى اليوم بالضيقة ، ويسمى زغابة بمجتمع السيول ، ولهذا أورد الزبير هنا حديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ركب إلى مجتمع السيول فقال : ألا أخبركم بمنزل الدجال من المدينة»؟ الحديث.

قال الزبير : ثم تمضي هذه السيول إذا اجتمعت فتنحدر على عين أبي زياد والصورين في أدنى الغابة ، ثم تلتقي هذه السيول في وادي نقمى ووادي نعمان أسفل من عين زياد ، ثم تنحدر هذه السيول فتلقاها سيول الشعاب من كنفيها ، ثم يلقاها وادي ملك بذي خشب

٢١٦

وظلم والجنينة ، ثم يلقاها وادي ذي أوان ودوافعه من الشرق ، ويلقاها من الغرب واد يقال له بواط والحزار ، ويلقاها من الشرق وادي الأئمة ، ثم تمضي في وادي إضم حتى يلقاها وادي برمة الذي يقال له ذو البيضة من الشام ، ويلقاها وادي ترعة من القبلة ، ثم يلتقي هو ووادي العيص من القبلة ، ثم يلقاه دوافع واد يقال له حجر ووادي الجزل الذي به السقيا والرحبة في نخيل ذي المروة مغربا ، ثم يلقاه وادي عمودان في أسفل ذي المروة ، ثم يلقاه واد يقال له سفيان حين يفضي إلى البحر عند جبل يقال له أراك ، ثم يدفع في البحر من ثلاثة أودية يقال لها اليعبوب والنتيجة وحقيب ، وذكر ابن شبة نحوه ، وكذا الهجري.

وقال المطري : إن السيول تجتمع بدومة سيل بطحان والعقيق والزغابة النقمى وسيل غراب من جهة الغابة فيصير سيلا واحدا ويأخذ في وادي الضيقة إلى إضم جبل معروف ، ثم إلى كرى من طريق مصر ويصب في البحر ، انتهى.

وفيه أمور : الأول : جعله مجتمع السيول برومة ، وإنما مجتمعها بزغابة كما سبق ، وذلك أسفل من رومة غربي مشهد سيدنا حمزة كما قاله الهجري ، وهو أعلى وادي إضم ، ومأخذ المطري قول ابن إسحاق في غزوة الخندق : أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع السيول من رومة بين الجرف وزغابة ، وهو مخالف لما سبق.

الثاني : جعله لزغابة سيلا ينصب لرومة ، ورومة هي التي تنصب إلى زغابة.

الثالث : جعله النقمى مما يجتمع مع السيول برومة ، مع أنه المعبر عنه فيما سبق بنقمى ، وإنه يجتمع مع السيول بالغابة.

الرابع : جعله لغراب سيلا يجتمع برومة ، ولم أقف له على مستند ، وغراب جبل في تلك الجهة على طريق الشام.

الخامس : جعله إضم اسم جبل ، ومغايرته بينه وبين وادي الضيقة ، خلاف ما تقدم ، واختلف اللغويون في أن إضم اسم لموضع أو جبل هناك ، والظاهر أنه اسم للجبل وواديه.

الفصل السادس

فيما سمي من الأحماء ، ومن حماها ، وشرح حال حمى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

معنى الحمى

والحمى ، لغة : الموضع الذي فيه كلأ يحمي ممن يرعاه ، وشرعا : موضع من الموات يمنع من التعرض له ليتوفر فيه الكلأ فترعاه مواش مخصوصة. وهو بالقصر ، وقد يمد ، ويكتب المقصور بالألف والياء ، قال الأصمعي : الحما حميان : حمى ضريّة ، وحمى الربذة ، وكأنه أراد المشهور من الحمى بنجد ، قال صاحب المعجم : ووجدت أنا حمى فيد ، وحمى النير ، وحمى ذي الشرى ، وحمى النقيع.

٢١٧

حمى النقيع

قلت : وهي عدا النقيع بنجد ، وهي متقاربة ، بل سيأتي ما يؤخذ منه دخول النير في حمى ضرية. والنقيع بالنون المفتوحة والقاف المكسورة والياء التحتية الساكنة والعين المهملة على الصحيح المشهور ، وهو كل موضع يستنقع فيه الماء ، وبه سمي هذا الوادي. وحكى عياض عن أبي عبيد البكري أنه بالباء كبقيع الغرقد ، قال : ومتى ذكر دون إضافة فهو هذا.

قلت : الذي نقله السهيلي عن أبي عبيد أنه بالنون ، قال عياض : وأما الحمى الذي حماه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم الخلفاء الأربعة فهو الذي يضاف إليه غور النقيع ، وفي حديث آخر «أتى بقدح لبن من النقيع». وحمى النقيع على عشرين فرسخا من المدينة ، وهو صدر وادي العقيق ، وهو أخصب موضع هناك ، وهو ميل في بريد ، فيه شجر ، ويستأجم حتى يغيب فيه الراكب ، فاختلف الرواة وأهل المعرفة في ضبطه : فوقع عند أكثر رواة البخاري بالنون ، وذكر نحو ما تقدم ، وهو موافق في ذكر المسافة لأبي علي الهجري ، وقد تقدم عنه أنه ينتهي إلى حضير ، وأن العقيق يبتدئ من حضير ، ولعل المراد من رواية ابن شبة في أن النقيع على أربعة برد من المدينة طرفه الأقرب إليها ، ومراد الهجري طرفه الأقصى.

وقال نصر : النقيع قرب المدينة كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حماه ، وهو من ديار مزينة ، وهو غير نقيع الخضمات ، وكلاهما بالنون ، وأما الباء فيهما فخطأ صراح.

وقال الهجري : الطريق إلى الفرع وسيارة وسنانة والصابرة والقرنين جند والأكحل وأموال تهامة ؛ تعترض النقيع يسارا للخارج من المدينة ، وبعض الناس يجعلها إلى مكة ، وهي طريق التهمة.

ونقل أيضا أن أول الأحماء وأفضلها وأشرفها ما أحمى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من النقيع ، أحماه لخيل المسلمين وركابهم ، فلما صلّى الصبح أمر رجلا صيّتا فأوفى على عسيب وصاح بأعلى صوته ، فكان مدى صوته بريدا ، ثم جعل ذلك حمى طوله بريد وعرضه الميل في بعض ذلك وأقل ، وذلك في قاع مدر طيب ينبت أحرار البقل والطرائف ويستأجم ـ أي : يستأصل أصله ويغلظ نبته حتى يعود كالأجمة ـ يغيب فيه الراكب إذا أحيا ، وفيه مع ذلك كثير من العضاه والغرقد والسّدر والسّيال والسّلم والطّلح والسّمر والعوسج ، ويحف ذلك القاع الحرة حرة بني سليم شرقا ، وفيها رياض وقيعان ، ويحف ذلك القاع من غربيه الصخرة ، وفي غربيه أيضا أعلام مشهورة مذكورة : منها برام ، والوائدة ، وضاف ، والشقراء ، وببطن قاع النقيع في صير الجبل غدر تضيف ، فأعلاها يراحم ، ثم ألبن ، وبعضهم يقول : يلبن ، وهو أعظمهما وأذكرهما.

وفي سنن أبي داود بسند حسن عن الصّعب بن جثامة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حمى النقيع وقال «لا حمى إلا الله».

٢١٨

وفي رواية له : «لا حمى إلا لله ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» من غير ذكر حمى النقيع كما في الصحيح ، ورواه الزبير بلفظ الرواية ، وزاد «ولرسوله» وسنده حسن.

وروى أحمد بسند فيه عبد الله العمري ـ وهو ثقة ، وإن ضعّفه جماعة ، وقال الذهبي : إنه حسن الحديث ـ عن ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حمى النقيع للخيل ، فقلت له : لخيله؟ قال : لخيل المسلمين.

وفي رواية لابن شبة عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حمى قاع النقيع لخيل المسلمين.

وفي رواية أخرى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حمى النقيع للخيل ، وحمى الربذة للصدقة ، وفي الكبير للطبراني برجال الصحيح عن ابن عمر قال : حمى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الربذة لإبل الصدقة.

وروى ابن شبة في ترجمة ما جاء في النقيع بسند جيد عن رجاء بن جميل أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حمى وادي نخيل للخيل المضمّرة ، وهي تقضي أن النقيع تسمى بذلك ، ولم أر من صرح به ، نعم تقدم في الفصل الثالث قول ذؤيب الأسلمي في عرصة العقيق :

طاف من وادي دجيل

الأبيات وهو بالدال في عدة نسخ ، والذي في نسخة ابن شبة بالباء بدل الدال ، ولعله تصحيف ، فيكون ذلك اسما للنقيع ، ويؤيده قول مصعب الزبيري بتشوق إلى رومة من العقيق في أبيات :

أعرني نظرة بقرى دجيل

نخائلها ظلاما أو نهارا

فقال : أرى برومة أو بسلع

منازلها معطّلة قفارا

وروى الزبير بن بكار عن مراوح المزني قال : نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنقيع على مقمل وصليب ، وقال في حمى النقيع : «نعم مرتفع الأفراس ، يحمى لهن ، ويجاهد بهن في سبيل الله» وحماه ، واستعملني عليه.

وعن غير واحد من الثقات عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه «صلّى على مقمل ، وحماه وما حوله من قاع النقيع لخيول المسلمين» ثم زادت بنو أمية بعد والأمراء أضعاف ما حمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنقيع.

وعن محمد بن هيصم المزني عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أشرف على مقمل طرف وسط النقيع ، فصلى عليه ، فمسجده هنالك».

قال ابن هيصم عن أبيه : فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبي ، وقال : إني مستعملك في هذا الوادي ، فما جاء من هاهنا وهاهنا ـ يشير نحو مطلع الشمس ومغربها ـ فامنعه ، فقال : إني رجل ليس لي إلا بنات ، وليس معي أحد يعاونني ، قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله عزوجل سيرزقك ولدا ، ويجعل لك وليا» قال : فعمل عليه ، وكان له بعد ذلك ولد ، فلم تزل

٢١٩

الولاة يولون عليه واليا منذ عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يستعمله والي المدينة ، حتى كان داود بن عيسى فنزله سنة ثمان وتسعين ومائة ، وإنما تركه داود لأن الناس جلوا عنه للخوف ذلك الزمان ، فلم يبق فيه أحد يستعمله عليه ، قال الزبير : وربما كتب إلى عبد الله بن القاسم وهو في ماله بنعف النقيع يقول لي : إن ناسا عندنا بالنقيع قد عاثوا في حمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكلم الأمير يكتب في التشديد فيه.

وفي رواية أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «صلّى في موضع مسجده على موضع مقمل ثم بعده إلى ما بينه وبين يلبن من قاع النقيع».

وقال : فحمى لأفراس تغدو وتروح في سبيل الله ، ومد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يديه ، وقارب بينهما ، ولم يضمهما ، وحماه ، واستعمل عليه جد أبي الحليس ، فقال : يا رسول الله ، أولادي النساء ، وليس معي غناء ، قال : فقم بهن معك فاردد ما جاء من الحرة في الحرة ، واردد ما جاء من الصحرة في الصحرة ، قال يعقوب المزني : ثم تزايد الناس بعد في الحمى ، فحموا ما بين تراجم إلى يلبن ، واتخذوا المرابد يحبسون فيها ما رعى الحمى من الإبل ، حتى رأيت بعضها يأكل دبر بعض ، قال الزبير : وقال لي : لقد رأيت لأبيك أكثر من ثلاثة آلاف شاة بالنقيع ، وهو إذ ذاك أمير المدينة ، ما يرعى رعاؤه منها شيئا في الحمى ، حتى يكتمل العشب ويبلغ نهايته ، فيرسل عامل الحمى صائحا يصيح في الناس يؤذنهم باليوم الذي يأذن لهم يرعون الحمى ، فيسرع فيه رعاء أبيك والناس بدأ واحدة كفرسي رهان.

حكم الحمى

قلت : مقتضاه جواز رعي الحمى للناس إذا استووا فيه ، وهو مخالف لمذهبنا ؛ إذ لا يدخله سوى العاجز عن النّجعة من الناس.

قال الشافعي : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا حمى إلا لله ورسوله» يحتمل معنيين :

أحدهما : ليس لأحد أن يحمى للمسلمين غير ما حمى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فلا يكون لوال أن يحمى.

والثاني : أنه لا يحمى إلا على مثل ما حمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فللخليفة أن يحمى على مثل ما حمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والثاني هو أظهر القولين ، وهو قول الأزهري ، وقال : يعني للخيل التي تركب في سبيل الله ، وقيل : معناه ليس لأحد أن يحمى لنفسه إلا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن ذلك من خصائصه ، وإن لم يقع منه ، ولو وقع لكان من مصالح المسلمين ؛ لأن مصلحته مصلحتهم.

وقال في الأم : كان الرجل العزيز من العرب إذا استنجع بلدا مخصبا أوفى بكلب على جبل إن كان أو نشز إن لم يكن جبل ، ثم استعواه ووقف له من يسمع منتهى صوته ، فحيث بلغ صوته حماه من كل ناحية ، ويرعى من العامة فيما سواه ، ويمنع هذا من غيره لضعفي

٢٢٠