وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى - ج ٣

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى - ج ٣

المؤلف:

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي


المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-381-8-0
الصفحات: ٢٤٦

وسنتكلم على هذه الأماكن بأوفى من هذا في محلها إن شاء الله تعالى.

مسجد الكديد

ومنها : موضع مصلّاه بنخل ، ومسجد على ميل من الكديد ـ روى ابن زبالة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزل بنخل تحت أثلة لرجل من أشجع من بني نعيم في مزرعة له في وسطها نخل ، وصلى تحتها ، فأضرّ الناس بتلك المزرعة ، فقطع صاحب المزرعة تلك الأثلة ، قال : ثم أصعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بطن نخل حتى جاوز الكديد بميل ، فنزل تحت سرحة وصلّى تحتها ، فموضع مسجده اليوم معروف ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى بالجبل من بلاد أشجع.

قلت : نخل موضع بنجد كما سيأتي في محله ، والكديد : موضع بقربه ، لا الكديد الذي بين خليص وعسفان ، وذكر الأسدي هذا المسجد في وصف الطريق بين فيد والمدينة ، فقال بعد ذكر ذي أمر : إن الكديد واد ، والطريق يقطعه ، فلما يفارقه ماء عذب مستنقع ، وفيه مسجد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبه خيام أعراب من بني كنانة ، والنخيل قريب منها ، وذكر أن بين النخيل وبئر السائب اثنين وأربعين ميلا ؛ فعبر عن نخل بالنخيل مصغرا ، وذلك هو المعروف اليوم قرب الكديد.

مسجد الشجرة بالحديبية

ومنها : مسجد بالحديبية يقال له مسجد الشجرة ـ وهو غير معروف ، بل قال المطري : لم أر في أرض مكة من يعرف اليوم الحديبية إلا الناحية لا غير ، انتهى. وهو الموضع الذي نزل به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عمرة الحديبية يريد مكة فعاقه المشركون.

قال ابن شبة ، فيما نقل عن ابن شهاب : الحديبية واد قريب من بلدح ، وقال صاحب المطالع : هي قرية ليست بالكبيرة ، سميت ببئر هناك عند مسجد الشجرة ، وقال التقي الفاسي : يقال إن الحديبية الموضع الذي فيه البئر المعرف ببئر شميس بطريق جدة.

مسجد ذات عرق

ومنها : مسجد دون ذات عرق بميلين ونصف ـ قال الأسدي في وصف طريق ذات عرق من جهة نجد والعراق : إن بركة أو طاس يسرة عن الطريق بائنة عن المحجة ، وبعدها مسجد يقال إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه ، ودون ذات عرق بملين ونصف مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو ميقات الإحرام ، وهو أول تهامة ، فإذا صرت عند الميل الثامن رأيت هناك بيوتا في الجبل خرابا يمنة عن الطريق ، يقال : إنها ذات عرق الجاهلية ، وأهل ذات عرق يقولون : الجبل كله ذات عرق ، وبعض أهل العلم كان يحب أن يحرم من ذات عرق الجاهلية.

مسجد الجعرانة

ومنها : مسجد بالجعرانة ـ عن محرس الكعبي رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج من الجعرانة ليلا معتمرا ، وجاء مكة ليلا ، فقضى عمرته ، ثم خرج من ليلته وأصبح في

١٨١

الجعرانة كبائت ، فلما زالت الشمس من الغد خرج في بطن شرف حتى جامع الطريق ، فمن أجل ذلك خفيت عمرته على الناس ، رواه أحمد والترمذي وحسّنه.

وذكر الواقدي أن إحرامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الجعرانة كان ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة ، وأنه أحرم من المسجد الأقصى الذي تحت الوادي بالعدوة القصوى ، وكان مصلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا كان بالجعرانة به ، فأما الأدنى فبناه رجل من قريش ، واتخذ الحائط عنده ، ولم يجز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوادي إلا محرما.

وعن مجاهد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحرم من الجعرانة من وراء الوادي حيث الحجارة المنصوبة ، وإني لا أعرف من اتخذ هذا المسجد على الأكمة ، بناه رجل من قريش ، واشترى مالا عنده ونخلا. وبيّن في رواية أخرى أن المسجد الأقصى الذي من وراء الوادي بالعدوة القصوى مصلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كان بالجعرانة ، وأن المسجد الأدنى بناء رجل من قريش ، رواه الأزرق.

مسجد لية

ومنها : مسجد لية ، وبين وادي لية ووادي الطائف نحو ثمانية أميال.

قال ابن إسحاق : سلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين فرغ من حنين متوجها إلى الطائف على نخلة اليمانية ، ثم على قرن وهو مهلّ أهل نجد ، ثم على المليج ، ثم على بحرة الرّغا من لية ، فابتنى بها مسجدّا وصلى فيه.

قال المطري : وهو معروف اليوم وسط وادي لية ، رأيته وعنده أثر في حجر يقال به أثر خف ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال ابن إسحاق عن حديث عمرو بن شعيب له : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقاد يومئذ ببحرة الرّغا ، وحين نزلها ندم ، وهو أول دم أقيد به في الإسلام ، رجل من بني ليث قتل رجلا من هذيل ، فقتله به.

مسجد الطائف

ومنها : مسجد بالطائف ـ قال ابن إسحاق بعد ما تقدم عنه : ثم سلك صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طريق يقال له الضيقة ، وسأل عن اسمها فقيل : الضيقة ، فقال بل هي اليسرى ، ثم خرج منها على نخب ـ وهي عقبة في الجبل ـ حتى نزل تحت سدرة يقال لها الصادرة ، قريبا من مال رجل من ثقيف ، ثم مضى حتى نزل قريبا من الطائف ، فقتل ناس من أصحابه بالنبل لاقتراب عسكره من حائط الطائف ، فوضع عسكره عند مسجده الذي بالطائف اليوم ، فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة ، ومعه امرأتان من نسائه إحداهما أمّ سلمة ، فضرب لهما قبّتين ، ثم صلّى بين القبتين ، فلما أسلمت ثقيف بنى على مصلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمرو بن أمية بن وهب مسجدّا ، وكانت في ذلك المسجد سارية فيما يزعمون لا تطلع الشمس عليها يوما من الدهر إلا سمع لها نقيض ، انتهى.

١٨٢

وذكر الواقدي بناء عمرو بن أمية للمسجد على مصلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : وكان فيه سارية لا تطلع الشمس عليها يوما من الدهر إلا يسمع لها نقيض أكثر من عشر مرار ، فكانوا يرون أن ذلك تسبيح.

قال المطري : وهو جامع كبير ، فيه منبر عال عمل في أيام الناصر أحمد بن المستضيء ، وفي ركنه الأيمن القبلي قبر عبد الله بن عباس بن عبد المطلب في قبة عالية ، ومسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صحن هذا الجامع بين قبتين صغيرتين يقال : أنهما بنيتا في موضع قبتي زوجتيه عائشة وأم سلمة رضي الله تعالى عنهما.

قلت : قال التقي الفاسي : إن المسجد الذي ينسب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هناك في مؤخر المسجد الذي فيه قبر عبد الله بن عباس ؛ لأن في جداره القبلي من خارجه حجرا فيه : أمرت أمّ جعفر بنت أبي الفضل أمّ ولاة عهد المسلمين بعمارة مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالطائف. وفيه أن ذلك سنة اثنتين وسبعين ومائة ، قال : والمسجد الذي فيه قبر ابن عباس أظن أن المستعين العباسي عمره مع ضريح ابن عباس ، انتهى. فإن كان المسجد الذي ذكر الفاسي أنه في مؤخر الجامع المذكور في صحنه فلا مخالفة فيه لما ذكره المطري ، وإلّا فيخالفه.

قال المطري : ورأيت بالطائف شجرات من شجر السّدر يذكر أنهن من عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ينقل ذلك خلف أهل الطائف عن سلفهم ، فمنهن واحدة دور جذرها خمسة وأربعون شبرا ، وأخرى أزيد على الأربعين ، فأخرى سبعة وثلاثون ، وأخرى يذكر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر بها وهو على راحلته فانفرق جذرها نصفين ، وأن ناقته دخلت من بينهما وهو ناعس ، قال : رأيتها قائمة كذلك سنة ست وتسعين ، وأكلت من ثمرها ، وحملت منه للبركة ، ثم في سنة تسع وعشرين وسبعمائة رأيتها وقعت ويبست وجذرها ملقى لا يغيره أحد لحرمته بينهم ، انتهى.

وكأنه بقي منها بقية ؛ فإن التقي الفاسي ذكرها ، وقال : إنها انفرجت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصفين لما اعترضته وهو سائر وسنان ليلا في غزوة الطائف وثقيف على ساقين ، على ما ذكر ابن فورك فيما حكى عنه عياض في الشفاء ، وبعض هذه السّدرة باق إلى الآن ، والناس يتبركون به ، انتهى.

وقال المرجاني : ورأيت بوجّ من قرى الطائف سدرة محاذية للجبر قريبة أيضا يذكر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جلس تحتها حين أتاه عديس بالطبق العنب وأسلم ، وقالوا : سحره محمد ، والقصة مشهورة ، قال : ورأيت في جبل هناك عند آخر الحبرة تحته العين يذكر أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم جلس فيه ، انتهى.

وعن الزبير قال : أقبلنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بلية ـ قال الحميدي : مكان بالطائف ـ

١٨٣

حتى إذا كنا في السدرة وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند طرف القرن الأسود عندها ، فاستقبل نخبا قال الحميدي : مكان بالطائف ببصره ، ثم وقف حتى اتفق الناس ، ثم قال : إن صيدوج وعضاهه حرم محرم لله عزوجل ، وذلك قبل نزوله الطائف وحصاره ثقيفا ، كذا في نسخة العيسوي عن الحميدي ومسند أحمد وسنن أبي داود أيضا ، وضعفه النووي.

وختم ابن زبالة الكلام على المساجد بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا «من بنى لله مسجدّا بنى الله له بيتا في الجنة ، ولو مثل مفحص القطاة» قالت : فقلت : يا رسول الله والمساجد التي بين مكة والمدينة؟ قال : نعم ، ورواه البزار. وفيه كثير بن عبد الرحمن ، ضعفه العقيلي ، وذكره ابن حبان في الثقات ، ولفظه «من بنى لله مسجدّا بنى الله له بيتا في الجنة ، قلت : وهذه المساجد التي في طريق مكة؟ قال : وتلك ، والحديث في الصحيح عن عثمان بدون هذه الرواية ، ولفظه «من بنى مسجدّا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتا في الجنة».

قلت : فينبغي الاعتناء بما دمر من المساجد التي بالمدينة وغيرها وعمارتها ، والله الموفق.

١٨٤

الباب السابع

في أوديتها ، وأحمائها ، وبقاعها ، وجبالها ، وأعمالها ، ومضافاتها ، ومشهور ما في

ذلك من المياه والأودية ، وضبط أسماء الأماكن المتعلقة بذلك ، وفيه ثمانية فصول

الفصل الأول

في فضل وادي العقيق ، وعرصته ، وحدوده

ما ورد من الأحاديث في فضل وادي العقيق

روينا في الصحيح عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول بوادي العقيق : «أتاني الليلة آت فقال : صلّ في هذا الوادي المبارك ، وقل عمرة في حجة».

وتقدم في مسجد المعرس في رواية له «أرى وهو في معرّسه بذي الحليفة ببطن الوادي قيل له : إنك ببطحاء مباركة».

وروى ابن شبة عن عمر رضي الله تعالى عنه مرفوعا «العقيق واد مبارك».

وعن هشام بن عروة قال : اضطجع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعقيق ، فقيل له : إنك في واد مبارك.

وروى ابن زبالة عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نام بالعقيق ، فقام رجل من أصحابه يوقظه ، فحال بينه وبينه رجل من أصحابه آخر ، وقال : لا توقظه فإن الصلاة لم تفته ، فتدارآ حتى أصاب بعض أحدهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأيقظه ، فقلن : ما لكما؟ فأخبراه. فقال : لقد أيقظتماني وإني لأراني بالوادي المبارك» وعن زكريا بن إبراهيم بن مطيع قال : بات رجلان بالعقيق ، ثم أتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أين بتما؟ فقالا : بالعقيق ، فقال : لقد بتّما بواد مبارك.

وتقدم أن عمر رضي الله تعالى عنه قال : احصبوا هذا المسجد ـ يعني مسجد المدينة ـ من هذا الوادي المبارك ، ورواه صاحب الفردوس مرفوعا.

وقال أبو غسان : أخبرني غير واحد من ثقات أهل المدينة أن عمر رضي الله تعالى عنه كان إذا انتهى إليه أن وادي العقيق قد سال قال : اذهبوا بنا إلى هذا الوادي المبارك ، وإلى الماء الذي لو جاءنا جاء من حيث جاء لتمسّحنا به.

وروى ابن زبالة عن عامر بن سعد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ركب إلى العقيق ، ثم رجع فقال : يا عائشة جئنا من هذا العقيق ، فما ألين موطأه ، وأعذب ماءه ، قالت : فقلت : يا رسول الله أفلا ننتقل إليه؟ قال : وكيف وقد ابتنى الناس؟».

وعن خالد العدواني أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في عرصة العقيق «نعم المنزل العرصة لو لا كثرة الهوام».

وعن محمد بن إبراهيم التيمي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خرج في بعض مغازيه ، فأخذ على الشارعة حتى إذا كان بالعرصة قال : هي المنزل لو لا كثرة الهوام».

١٨٥

وروى السيد أبو العباس العراقي في ذيله علي ابن النجار عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى وادي العقيق ، فقال : يا أنس خذ هذه المطهرة املأها من هذا الوادي فإنه يحبنا ونحبه ، فأخذتها فملأتها ، الحديث.

وروى ابن شبة عن سلمة بن الأكوع قال : كنت أصيد الوحش وأهدي لحومها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ففقدني فقال : يا سلمة أين كنت تصيد الوحش؟ فقلت : يا رسول الله تباعد الصيد فأنا أصيد بصدور قناة نحو ثيب ، فقال : لو كنت تصيد بالعقيق لشيّعتك إذا خرجت وتلقيتك إذا جئت ، إني أحب العقيق ، ورواه الطبراني بنحوه ، قال الهيتمي : وإسناده حسن.

وروى ابن زبالة عن جابر قال : كان سلمة يصيد الظباء فيهدي لحومها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جفيفا وطريّا ، فافتقده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا سلمة مالك لا تأتي بما كنت تأتي به؟ فقال : رسول الله تباعد علينا الصيد فإنما نصيد بثيب وصدور قناة ، فقال : أما إنك لو كنت تصيد بالعقيق لشيعتك إذا ذهبت ونلفيتك إذا جئت ، فإني أحب العقيق.

قلت : ومحمله إن صح على ما قبل تحريم المدينة ، أو أن المراد من الصيد بالعقيق طرفه الخارج عن الحرم ، جمعا بين الأدلة.

حد العقيق

ونقل ابن زبالة والزبير بن بكار عن هشام بن عروة أنه كان يقول : العقيق ما بين قصر المراجل فهلم صعدا إلى النقيع ، وما أسفل من ذلك ـ أي من قصر المراجل ـ فمن زغابة.

وعن المنذر بن عبد الله الحمراني أنه سمع من أهل العلم أن الجرف ما بين محجة الشام إلى القصاصين ، أي أصحاب القصة ، وأن وطيف الحمار ما بين سقاية سليمان إلى الزغابة ، وأن العرصة ما بين محجة بين إلى محجة الشام ، وأن العقيق من محجة بين فاذهب به صعدا إلى النقيع.

قلت : محجة بين تباين آخر الجروف ، أي طريقها ، وأظنها طريق درب العصرة ، ومن سلكها مغربا كانت الجماوات عن يساره.

قال : وحدثني آخرون أن العقيق من العرصة أبدا إلى النقيع.

قال الزبير : ولم أزل أسمع أهل العلم والسنن يقولون : إن العقيق الكبير مما يلي الحرة ما بين أرض عروة بن الزبير إلى قصر المراجل ، ومما يلي الجماء ما بين قصور عبد العزيز بن عبد الله العثماني إلى قصر المراجل ، ثم اذهب بالعقيق صعدا إلى منتهى النقيع ، ويقولون لما أسفل من المراجل إلى منتهى العرصة العقيق الصغير ، فأعلى أودية العقيق النقيع.

وقالت الخنساء بنت عمرو بن الحارث بن الشّريد السّلمية تبكي أخاها صخر بن عمرو وقد مات بالنقيع من جراحة فدفن فيه على رأس برام :

١٨٦

أفيقي من دموعك واستفيقي

وصبرا إن أطقت ، ولن تطيقي

وقولي : إن خير بني سليم

وغيرهم ببطحاء العقيق

وروى بنقعاء العقيق.

ونقل أبو علي الهجري أن النقيع يبتدئ أوله من برام ، والعقيق يبتدئ أوله من حضير إلى آخر منتهاه من العقيق الصغير ، ثم يصب في زغابة.

ونقل أيضا أن حضيرا آخر النقيع وأول العقيق ، وآخر العقيق زغابة ، قال : وزغابة مجتمع السيول غربي قبر حمزة رضي الله تعالى عنه ، وهو أعلى وادي إضم.

قلت : فهي منتهى العقيق والعرصة ، ومبتدؤه حضير ، وهي مزارع معروفة بقرب النقيع على أزيد من يوم عن المدينة.

وقال عياض : النقيع صدر العقيق ، والعقيق واد عليه أموال أهل المدينة ، قيل : على ميلين منها ، وقيل : على ثلاثة ، وقيل : ستة أو سبعة ، وهما عقيقان ، أدناهما عقيق المدينة ، وهو أصغر وأكبر ، فالأصغر فيه بئر رومة ، والأكبر فيه بئر عروة. والعقيق الآخر على مقربة منه ، وهو من بلاد مزينة ، وهو الذي أقطعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلال بن الحارث ، وأقطعه عمر الناس ، فعلى هذا تحمل المسافات لا على الخلاف. والعقيق الذي جاء فيه «إنك بواد مبارك» هو الذي ببطن وادي ذي الحليفة ، وهو الأقرب منهما ـ أي من العقيقين ـ المنقسم أحدهما إلى الكبير والصغير فلا ينافي كون ما يلي الحرة من العقيق أقرب. على أنه سيأتي ما يقتضي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقطع بلال بن الحارث كلّ العقيق بعيده وقريبه ، وأن الذي أقطعه عمر الناس هو الأدنى من المدينة ، وهو المنقسم إلى كبير وصغير ، وكلام الزبير وغيره صريح فيّ ذلك ، والصواب أن مهبط الثنية المعروفة بالمدرج أول شاطئ وادي العقيق ، على ميلين من المدينة أيام عمارتها ، كما اقتضاه اختباري لمساحة ما بين المسجد النبوي ومسجد ذي الحليفة ، وبه صرح الأسدي من المتقدمين ، فقال : إن العقيق علي ميلين من المدينة ، الميل الأول خلف أبيات المدينة ، والثاني حين ينحدر من العقبة في آخره يعني المدرج ، وكأنّ من عبّر بالثلاثة اعتبر المسافة من المسجد النبوي إلى أول بطن الوادي بعد القصر المعروف بحصن أبي هشام ، ومن عبر بالستة اعتبرها إلى طرفه الأبعد وهو الذي به ذو الحليفة ، فأدخل بطن الوادي في المسافة ، أو هو مفرع علي القول بأن الميل ألفا ذراع ، والراجح الموافق لاختبارنا أنه ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع.

وقال المطري : وادي العقيق أصل مسيله من النقيع قبلى المدينة الشريفة على طريق المشبان ، وبينه وبين قباء يوم ونصف ، ويصل إلى بئر عليّ العليا المعروفة بالخليفة ـ بالقاف والخاء المعجمة ـ ثم يأتي علي غربي جبل عير ، ويصل إلى بئر علي بذي الحليفة المحرم ، ثم

١٨٧

يأتي مشرقا إلى قريب الحمراء التي يطلع منها إلى المدينة ، ثم يعرج يسارا ، ومن بئر المحرم يسمى العقيق ، فينتهي إلى غربي بئر رومة ، انتهى.

وقوله : «ومن بئر المحرم يسمى العقيق» أي في زمنه كزماننا ، وهو العقيق الأدنى في كلام عياض.

وقال عقب قوله «والعقيق الذي جاء فيه إنك بواد مبارك هو الذي ببطن وادي ذي الحليفة وهو الأقرب

منهما» ما لفظه : وهو الذي جاء فيه أنه مهلّ أهل العراق من ذات عرق ، اه. وهو خطأ ، إلا أن يحمل علي ما ذكره بعضهم من أن عقيق ذات عرق يتصل واديه بعقيق المدينة ، والمعروف قديما امتداده إلى النقيع كما سبق ، قال الزبير : سألت سليمان بن عياش السعدي : لم سمّي العقيق عقيقا؟ قال : لأن سيله عق في الحرة ، وكان سليمان من أففه من رأيت في كلام العرب.

وقوله «عق» أي شقّ وقطع في الحرة ، ولما شخص تبّع عن منزله بقناة ومر بالعرصة وكانت تسمى السليل قال : هذه عرصة الأرض ، فسميت العرصة ، ومر بالعقيق فقال : هذا عقيق الأرض ، فسمي العقيق ، وقيل : سمي بذلك لحمرة موضعه.

الفصل الثاني

في أقطاعه ، وابتناء القصور به ، وطريف أخبارها

رسول الله ص يقطع بلالا العقيق

روى ابن زبالة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقطع بلال بن الحارث العقيق كلّه ، فلما ولي عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقطعكه لتحجره ، وأقطعه عمر الناس.

وقال ابن شبة : حدثنا محمد بن يحيى قال : حدثنا من نثق به من آل حزم وغيرهم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقطع بلال بن الحارث المزني العقيق ، وكتب له فيه كتابا نسخته : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أعطى محمد رسول الله بلال بن الحارث ، أعطاه من العقيق ما أصلح فيه معتملا. وكتب معاوية ، قال : فلم يعمل بلال في العقيق شيئا ، فقال له عمر في ولايته : إن قويت على ما أعطاك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من معتمل العقيق فاعتمله ، فما اعتملت فهو لك كما أعطاكه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن لم تعتمله أقطعته بين الناس ولم تحجره عليهم ، فقال بلال : تأخذ مني ما أعطاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد اشترط عليك فيه شرطا ، فأقطعه عمر رضي تعالى عنه بين الناس ، ولم يعمل فيه بلال شيئا ؛ فلذلك أخذه عمر رضي الله تعالى عنه ، ورواه الزبير بن بكار ، وأسند نسخة القطيعة المذكورة عن هشام بن عروة.

١٨٨

وروى عن محمد بن سلمة المخزومي قال : أقطع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبلال بن الحارث المزني معادن القبلية والعقيق ، فبلغنا أنه باع رومة من عثمان بن عفان ، وانتزع منه عمر بقية العقيق وأقطعه للناس ، وقال : إنما أعطاك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعمر ولم يعطك تحجر.

وعن هشام بن عروة وغيره أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقطع لبلال بن الحارث العقيق ، فلم يزل على ذلك حتى ولي عمر فدعا بلالا فقال : قد علمت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يمنع شيئا سأله ، وإنك سألته أن يعطيك العقيق فأعطاكه ، فالناس يومئذ قليل لا حاجة لهم ، وقد كثر أهل الإسلام واحتاجوا إليه ، فانظر ما ظننت أنك تقوى عليه فأمسكه واردد إلينا ما بقي نقطعه ، فأبى بلال ، فترك عمر بيد بلال بعضه وأقطع ما بقي للناس.

وذكر في رواية مع العقيق «معادن القبلية وحيث يصلح الزرع من قدس» وهي في سنن أبي داود بدون ذكر العقيق.

وروى ابن شبة عن عبد الله بن أبي بكر أن عمر لما ولي قال : يا بلال ، إنك استقطعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرضا طويلة عريضة ، فأقطعها لك ، وإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يمنع شيئا سأله ، وإنك لا تطيق ما في يدك ، فقال : أجل ، فقال : فانظر ما قويت عليه منها فأمسكه ، وما لم تطق فادفعه إلينا نقسمه ، فأبى ، فقال عمر : والله لنفعلنّ ، فأخذ منه ما عجز عن عمارته فقسمه بين المسلمين.

خبر قصر عروة ، وبئره

عن عروة بن الزبير قال : لما أخذ عمر بن الخطاب من بلال بن الحارث ما أخذ من العقيق وقف في موضع بئر عروة بن الزبير التي عليها سقايته ، وقال : أين المستقطعون؟ فنعم موضع الحفيرة ، فاستقطعه ذلك خوّات بن جبير الأنصاري ، ففعل ، قال مصعب بن عثمان : فقرأت كتاب قطيعته أرض عروة بن الزبير بالعقيق في كتب عروة ما بين حرة الوبرة إلى ضفيرة المغيرة بن الأخنس.

وعن هشام بن عروة عن أبيه قال : لما أقطع عمر العقيق فدنا من موضع قصر عروة وقال : أين المستقطعون منذ اليوم؟ فو الله ما مررت بقطيعة شبه هذه القطيعة ، فسألها خوّات ، فأقطعها له ، وكان يقال لموضعها «خيف حرة الوبرة» فلما كانت سنة أحد وأربعين أقطع مروان بن الحكم عبد الله بن عياش بن علقمة ما بين الميل الرابع من المدينة إلى ضفيرة أرض المغيرة بن الأخنس بالعقيق إلى الجبل الأحمر الذي يطلعك على قباء ، قال هشام : فاشترى عروة موضع قصره وأرضه وبثاره من عبد الله بن عياش ، وابتنى واحتفر وحجر وضفر ، وقيل له : إنك لست بموضع مدر ، فقال : يأتي الله به من النقيع ، فجاء سيل فدخل في مزارعه فكساها من خليج كان خلجه ، وكان بناه جنابذ ـ أي جمع جنبذ بضم الجيم ،

١٨٩

وهو ما ارتفع واستدار كالقبة ـ قال : وكان لعبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان الناحية الأخرى المراجل وقصر أمية والمنيف والآبار التي هناك والمزارع ، فاستفتى عبد الله عبد الله ابن عبد الله بن عمرو علي عروة وقال : إنه حمل على حق السلطان ، فهدم عمر بن عبد العزيز جنابذه وضفائره ، وسد بئاره ، فقدم رجل من آل خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية يريد الوليد ، فسأل عن عروة ، فأخبر قصته ، فقدم على الوليد فسأله عن عروة وحاله ، فأخبره ، فكتب إلى عمر بن عبد العزيز ما عروة ممن يتّهم فدعه وما انتقص من حق السلطان ، فبعث إليه عمر وقال : كتبت فيّ إلى أمير المؤمنين؟ فقال : ما فعلت ، فقال : اذهب فاصنع ما بدا لك فقال عروة : جزعوا من جنابذ نبنيها ، والله لأبنينه بناء لا يبلغونه إلا بشقّ الأنفس ، فبنى قصره هذا البناء ، وهيل بثاره ، فقال له ابنه عبد الله : يا أبتاه لو تبدّلت بثارا فاحتفرتها لكان أهون في العزم ، فقال : لا والله إلا هي بأعيانها وأنشأ عروة يقول :

بنيناه فأحسنّا بناه

بحمد الله في خير العقيق

نراهم ينظرون إليه شزرا

يلوح لهم على وضج الطّريق

فساء الكاشحين وكان غيظا

لأعدائي وسرّ به صديقي

يراه كلّ مرتفق وسار

ومعتمر إلى بيت العقيق

وعن مصعب بن عثمان قال : لما كتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز في ذلك ولي عروة عمر بن عبد الله بن عروة بناء قصره ، فلما كثرت النفقة فيه لقيه عمه يحيى بن عروة فقال : يا ابن أخي ، كم أنفقت في القصر؟ قال : كذا وكذا ، قال : هذه نفقة كثيرة لو علم أبي بها لاقتصر في بنائه ، فأخبره بذلك ، فأخبر عمر جده ، فقال : لقيك يحيى؟ قال : نعم ، قال : إنما أراد أن يعوق عليّ بنائي ، أنفق ولا تحسب ، فأنفق ولم يحسب حتى فرغ ، وحفر بئارا إحداهن بئر السقاية ، وبئر يدعى العسيلة ، وبئر القصر.

وقال مصعب : وسبب هدم عمر بن عبد العزيز وتهوره البئر أن عروة أراد أن يرفع في رأس عينه محلا فمنعه عبد الله بن عمرو بن عثمان إلا أن يسأله ذلك ، وكان له حقيق به ، فقال عروة : مثلى يكلّف ذلك؟ وتركها ، فلما بنى عبد الله قصره المراجل وعمل مزارعه عمل له خليجا ، فلما بلغ به مزارع عروة حال بينه وبين ذلك ، فاستفتى عبد الله بن عبد الله عمر بن عبد العزيز على عروة ، وقال : بنى وحفر في غير حقه ، وكانت جنابذه سبعا ، وكانت الركبان ينزلون على بئر مروان ، فلما حفر عروة بئره وأعذب اختاروا السهل والعذوبة فتركوا النزول على بئر مروان وكان في نفس عمر بن عبد العزيز شيء من ذلك ، مع ما كان في نفسه على جميع بني الزبير.

١٩٠

وعن ابن أبي ربيعة أنه مرّ بعروة وهو يبني قصره بالعقيق فقال : أردت الحرب يا أبا عبد الله؟ قال : لا ، ولكن ذكر لي أنه سيصيبها عذاب ، يعني المدينة ، فقلت : إن أصابها كنت منتحيا عنها.

وعن عروة مرفوعا : يكون في آخر أمتي خسف وقذف ومسخ ، وذلك عند ظهور عمل قوم لوط ، قال عروة : فبلغني أنه قد ظهر شيء منه ، فتنحّيت عنها ، وخشيت أن يقع وأنا بها ، وبلغني أنه لا يصيب إلا أهل القصبة قصبة المدينة ، وفي نسخة المجد «القصيبة» مصغرا ، فأوردوه في ترجمة القصيبة ، وهو وهم.

وعن هشام قال : لما اتخذ عروة قصره قال له الناس : قد جفوت مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : إني رأيت مساجدهم لاهية ، وأسواقهم لاغية ، والفاحشة في فجاجهم عالية ، فكان فيما هناك عما هم فيه عافية.

وتصدق عروة بقصره وأرضه وبئره على المسلمين ، وأوصى بذلك إلى الوليد بن عبد الملك ، فولاه ابنيه يحيى وعبد الله ، ثم توفي يحيى وأقام عبد الله في القصر نحوا من أربعين سنة ، ثم توفي عبد الله ، ثم وليها هشام بن عروة بالسن ، ثم عبد الله بن عروة ، وقيل له : مالك تركت المدينة؟ قال : لأني بين رجلين حاسد لنعمة أو شامت بمصيبة ، وهو القائل :

لو كان يدري الشيخ عذري بالسحر

نحو السقاية الّتي كان احتفر

لفتية مثل الدّنانير غرر

وقاهم الله النّفاق والضّجر

بين أبي بكر وزيد وعمر

ثمّ الحواريّ لهم جدّ أغر

فهم عليها بالعشيّ والبكر

يسقون من جاء ولا يؤذوا بشر

لزاد في الشّكر وكان قد شكر

ولما ولي إبراهيم بن هشام المدينة لهشام بن عبد الملك أراد أن يدخل في حقوق بني عروة بالفرع ، فحال عبد الله ويحيى بينه وبين ذلك فهدم قصر عروة وشعّثه ، وطرح في بئر عروة جملا مطليا بقطران ، فكتب عبد الله إلى هشام بن عبد الملك بذلك ، فكتب إلى ابن أبي عطاء عامله على ديوان المدينة أن يردّ ذلك على ما كان حتى يضع الوتد في موضعه ، فكان غرم ذلك ألف دينار وثلاثين ألف درهم.

وكان عبد الله يتحيّن ركوب ابن هشام ، فإذا أشرف على الحرّة قال للناس : كبروا ولكم جزور ، فيفعلون ، فينحرها ، فيغيظ بذلك ابن هشام ويبلغ منه.

وقال في ذلك يحيى بن عروة أبياتا منها :

ألا أبلغ مغلغلة بريدا

وأبلغ إن عرضت أبا سعيد

وأبلغ معشرا كانت إليهم

وصايا ما أريد بني الوليد

١٩١

فإن لا نعتني قرباي منكم

فودّى غير ذي الطمع الكدود

ولما قدم الوليد بن يزيد في خلافة هشام بن عبد الملك ليدفع بالناس في الموسم وأقام عبد الله بن عروة بالعقيق ، حتى قيل : هذا ولي العهد قد ركع في بركة مكة؟ فلقيه عبد الله وهو على ظهر الحرة ، فلما نظر الوليد إلى قصور بني أمية عنبسة بن سعيد ومروان بن سعيد بن العاص وعبد الله بن عامر جعل يقول لعبد الله بن عروة : لمن هذا؟ فيخبره ، فلما نظر إلى قصر عروة قال : لمن هذا؟ قال : هذا قصر عروة ، قال : عامر بن صالح في قصر عروة وبئره :

حبّذا القصر ذو الظّلال وذو البئر

ببطن العقيق ذات السّقاة

ماء مزن لم يبغ عروة فيها

غير تقوى الإله في المفظعات

بمكان من العقيق أنيس

بارد الظل طيّب الغدوات

وقال أيضا :

يا حبّذا القصر لذي الإملاق

ذو البئر بالوادي عليها الساقي

وقال أيضا :

ولقصر عروة ذو الظلال وبئره

بشقا العقيق البارد الأفياء

أشهى إليّ من العيون وأهلها

والدور من فحلين والفرعاء

وقال جابر الزمعي في بئر عروة :

يعرضها الآني من الناس أهله

ويجعله زادا له حين يذهب

وقال الزبير بن بكار : رأيت الخرّاج من المدينة إلى مكة وغيرها ممن يمر بالعقيق يخففون من الماء حتى يتزودوه من بئر عروة ، وإذا قدموا منها بماء يقدمون به على أهلهم يشربونه في منازلهم عند مقدمهم.

وقال : ورأيت أبي يأمر به فيغلي ، ثم يجعل في القوارير ثم يهديه إلى أمير المؤمنين هارون بالرقة.

وعن نوفل بن عمارة قال : لما بنت أمي قصرها أرسل إليها هشام بن عروة يقول : إنك نزلت بين الطيبين بئر عروة وبئر المغيرة بن الأخنس ، فأسألك برحمي إلا جعلت شرابك من بئر عروة ووضوءك من بئر المغيرة ، فكانت أمي لا تشرب إلا من بئر عروة ، ولا تتوضأ إلا من بئر المغيرة ، حتى لقيت الله تعالى.

وعن مرزوق بن والاة أنه قال لهشام بن عروة : رأيت أن عينا من الجنة تصب في بئر عروة.

وقال السّريّ بن عبد الرحمن الأنصاري :

١٩٢

كفنوني إن متّ في درع أروى

واستقوا لي من بئر عروة مائي

سخنة في الشتاء باردة الصيف سراج في الليلة الظلماء وقال علي بن الجهم :

هضا العقيق فعدّ أي

دي العيس عن غلوئها

وإذا أصفت ببئر عر

وة فاسقني من مائها

إنا وعيشك ما ذمم

نا العيش في أفنائها

قال المجد : إنه لم يجد من يعرف هذه البئر من أهل المدينة.

قلت : سيأتي في قصر عاصم أن جماء تضارع مشرفة على قصر عروة ، وتسيل إلى بئره.

وقال الأسدي : إن الميل الثالث من المدينة وراء بئر عروة بقليل ؛ فيظهر أنها البئر المطمومة اليوم على يمينك وأنت متوجه إلى ذي الحليفة إذا جاوزت الحصن المعروف بأبي هاشم بنحو ثلث ميل وقريب من الجماء.

قصر عاصم بن عمرو بن عمر بن عثمان بن عفان ، وهو في قبل الجماء جماء تضارع المشرفة على قصر عروة وعلي الوادي يواجه بئر عروة بن الزبير ، والجماء تسيل على قصر عاصم وعلى بئر عروة.

وكان عبد الله الجعفري وعمر بن عبد الله بن عروة تعاونا في هجاء قصر عاصم ، فقالا :

ألا يا قصر عاصم لو تببن

فتستعدي أمير المؤمنين

فتذكر ما لقيت من البلايا

فقد لاقيت حزنا بعد حين

بنيت على طريق الناس طرا

يسبّك كل ذي حسب ودين

ولم توضع على غمض فتخفى

ولم توضع على سهل ولين

يرى فيك الدخان لغير شيء

فقد سميت خدّاع العيون

في أبيات آخرها :

قبيح الوجه منعقد الأواسي

خبيت الخلق مطرود بطين

فاشترى عاصم قصة فطرّه بها وغرم فيه ألفي درهم ، وقال يرد عليهما :

بنوا وبنيت واتخذوا قصورا

فما ساووا بذلك ما بنيت

بنيت على القرار وجانبوه

إلى رأس الشواهق واستويت

على أفعالهم وعلى بناهم

علوت وكان مجدّا قد حويت

وتلك صلاصل قد فلستهم

وذاك وديهم فيها يموت

فليس لعامل فيها طعام

وليس لضيفهم فيها مبيت

١٩٣

وقيل : البيتان الأخيران لزيد بن عاصم ، قال الزبير : وهو أشبه.

وصلاصل : أرض كانت لعروة بحرة بطحان ، ثم صارت لابنه يحيى ، فوقفها في بنيه ، وكان يقال لها المقتربة ، فكانت فتاتان لبعض نساء بنيه تختصمان بها عند اجتناء الرطب ، وتضرب إحداهما الأخرى ، فغلب عليها اسم صلاصل لكثرة صلاصلهما بالخصومة ، وفيها يقول عروة :

مآثر أخوالي عديّ ومازن

تخيرتها ، والله يعطي الرغائبا

فمن قال فيها قيل صدق فلم يقل

ومن قال فيها غيره كان كاذبا

ومر ابن أبي البداح ـ وكال أعلم الناس بالنخيل ـ على عروة وهو يغرسها ألوانا ، فقال له : إن كنت ولا بد غارسا فعليك بعذق ابن عامر ، فإنه ليس عذق أحسن للتنزه ولا أصبر على المالح منه.

قصر المغيرة

قصر أبي هاشم المغيرة بن أبي العاص وبئره ـ روى عنه الزبير : أنه قال : لما أردت أن أبني قصرا بالعقيق قلت : أبنيه بيتين ، ثم مضيت للنزهة العشرة الأيام وما أشبهها ، قال : فدخلت على مولاة لي فقالت : يا أبا هاشم ، أردت بناء قصر بالعقيق؟ فقلت لها : نعم ، فقالت : ابنه على أنه لم يبن بالعقيق مغيري غيرك ، فبنيته هذا البناء ، وغرمت فيه غرما كبيرا ، قال : وهو القصر الذي يعرف بقصر بنت المرازقي.

وعن عبد الله بن ذكوان قال : كانت بنو أمية تجري في الديوان ورقا على من يقوم على حوض مروان بن الحكم بالعقيق ، في مصلحته وفيما يصلح بئر المغيرة من علقها ودلائها.

قال : ومر هشام بن عبد الملك وهو يريد المدينة بحر هشام بن إسماعيل بالرابع فقيل له : يا أمير المؤمنين ، جر جدك هشام ، فأمر بمصلحتها وما يقيمها من بيت المال ، فكانت توضع هنالك جرار أربع يسقى منهن الناس ، وسيأتي ذكر الرابع في شعر في القصر الآتي.

قصر عنبسة بن عثمان بن عفان

قصر عنبسة بن عمرو بن عثمان بن عفان ، وهو إلى جنب الجمّاء بعد أن تجاوز المصعد تريد البطحاء ، وهو الذي قيل فيه :

يا قصر عنبسة الذي بالرابع

لا زلت تؤهل بالحيا المتتابع

فلقد بنيت على الوطاء ، وبنيت

تلك القصور على ربا ورفائع

يا رب نعمة ليلة قد بتها

بفنائك الحسن المنيف الواسع

وقال شاعرهم :

خذل ابن عنبسة بن عمرو وعده

وكذبت حين أقول ما لم يفعل

١٩٤

وبنى قصيرا بالعقيق ملعنا

لا بالكريم ولا جميل المدخل

ودعا المهندس فاختفى في جوفه

بئرا فأنبطها كطعم الحنظل

قصر عنبسة بن سعيد بن العاص

قصر عنبسة بن سعيد بن العاص : بالعقيق الصغير ـ ركب هشام بن عبد الملك ومعه عنبسة بن سعيد ، فمر بموضع قصر عنبسة ، فقال : نعم موضع القصر يا أبا خالد ، قد أقطعته لك ، قال : يا أمير المؤمنين من يقوى على هذا؟ قال : فإني أعينك فيه بعشرين ألف دينار ، فدفعها عنبسة إلى ابنه عبد الله وقال : إنك أنزلت بين الأشياخ ، فانظر كيف تبني؟ وكان أول من قارب بين القصور ، ونزل إلى جنب عبد الله بن عامر ، فلما فرغ من القصر بنى ضفائره بالآجر المطبق ، فقال له عنبسة : أما علمت أن متنزهي أهل المدينة يدقون عليه العظام ، ابنه بالحجارة المطابقة ، ففعل ، وبعث إليه هشام بأربعين بختيا ، فكان ينضح عليها في مزارعه وصهريجه.

قلت : ولعل الموضع المعروف اليوم بالعنابس مزارع عنبسة هذا.

وعن بعض ولد عنبسة قال : بينا عبد الله بن عنبسة نائم في قاعة القصر ، وعنده خصي يذبّ عنه ، وكان له غلام صغدي يسقيهم الماء ، فدخل فرآه نائما ، فنزع القربة وشد عليه بخنجر كان معه ، وثار الخصي يحول بينهما ، فقتل الخصي ، وانتبه عبد الله واتقاه بوسادة ، وتداعى عليه أهل القصر وأخذوه ، وأمر به عبد الله فقتل وصلب بفناء القصر.

وكان قصر عنبسة فيما أخذ من أموال بني أمية ، ثم رد على ابن عنبسة.

وكان جعفر بن سليمان إذ كان واليا بالمدينة نزله ، وابتنى إليه أرباضا ، وأسكنها حشمه ، ثم تحول منه إلى العرصة فابتنى بها وسكنها حتى عزل فخرج منها ، ولذلك يقول ابن المزكي :

أوحشت الجماء من جعفر

وطالما كانت به تعمر

كم صارخ يدعو وذي كربة

يا جعفر الخيرات يا جعفر

أنت الذي أحييت بذل الندى

وكان قد مات فلا يذكر

ثم لعباس وصيّ الهدى

ومن به في المحل يستمطر

وقال شاعر :

إني مررت على العقيق وأهله

يشكون من مطر الربيع نزورا

ما ضركم أن كان جعفر جاركم

أن لا يكون عقيقكم ممطورا

وقال محمد بن الضحاك : خرج أبي وابن عبد الله بن عنبسة في جماعة من لمتهم إلى قصر عنبسة بالعقيق الصغير ، وخرج بي أبي معهم وأنا حدث السن ، ونحروا جزورا ،

١٩٥

فجعلوا يمزحون به فيما بينهم ، يقول هذا بيتا وهذا بيتا ، فكان مما حفظت من ذلك قول أحدهم :

حبذا ثم حبذا

في قصر ابن عنبسة

ولمات تجمعوا

وجزور مكردسه

والتواليد عندنا

كالرباط المورّسة

قصر أبي بكر الزبيري المعروف بالمستقر

قصر أبي بكر بن عبد الله بن مصعب الزبيري الذي يعرف بالمستقر اشتراه وهو بيت أو بيتان ، فهدم ذلك ، وبناه قصرا ، ففيه يقول القائل :

يا قصر لو كان خالدا أحد

بالجود والمجد كان مولاكا

ولو تفدى المنون ذا كرم

كان أبو بكر الندى ذا كا

وفيه يقول أيضا حين بيع في تركة أبي بكر :

أوحش المستقرّ بعد أبي بكر

فأضحى ينوح في كل حين

بعد عز وبهجة وبهاء

تاه يوما به على الثقلين

فاعذروه يا هؤلاء ؛ إن ذا ال

شجو ليجري دموعه من معين

قصر عبد الله بن أبي بكر العثماني

قصر عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن عثمان بن عفان ـ قال محمد بن معاوية : كنت أنا ومحمد بن عبد الله البكري ـ وكان قاضيا على المدينة ـ متنزهين بالعقيق في قصر ابن بكير ، فكتب محمد بن عبد الله في الجدار :

أين أهل العقيق أين قريش

أين عبد العزيز وابن بكير

ولو أنّ الزمان خلد حيا

ثم كتب تحته : من أتم هذا النصف فله سبق ، قال : فتنزه عمر بن عبد الله بن نافع في قصر ابن بكير ، فقرأ الكتابة ، فأتم النصف ، فكتب :

كان فيه يخلد ابن الزبير

قال محمد بن معاوية : فعاد محمد بن عبد الله للنزهة ، فوجد البيت قد أتم ، فسأل من أتمه ، فقلت له : عمر بن عبد الله ، فقال : لو كنت أكلمه وفيت له بسبقه ، أحسن وصدق.

وكان عمر بن عبد الله له هاجرا.

وستأتي قصور أخرى في الجمّاوات ، قال أبو علي الهجري : إن سيل الوادي يفضي إلى الشجرة التي بها محرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم يلي ذلك مزارع أبي هريرة رضي الله تعالى ، ثم تتابع القصور يمنة ويسرة بها منازل الأشراف فيها يبتدئون ، منها منازل عن يمين الجائي من مكة بسفح عير.

١٩٦

جملة من القصور والآبار

ومنها قصر لإسحاق بن أيوب المخزومي ، وقصر لإبراهيم بن هشام ، وقصر لآل طلحة بن عمر بن عبيد الله ، ومنازل أسفل منها عن يمين الطريق أيضا لآل سفيان بن عاصم بن عبد العزيز بن مروان ، ووجاه ذلك في قبالة جماء تضارع منازل لعبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ، ثم يليها منازل لعبد الله بن بكير بن عمرو بن عثمان ، وهو قصر طاهر بن يحيى ومنازل ولده.

ووجاهها في صير حرة الوبرة مزارع عروة بن الزبير وبئره ، وأسفل منها البئر التي تعرف ببئر المغيرة بن أبي العاص ، وأسفل منها بئر زياد بن عبد الله المداني وحوضها ، وضفائر قصر مراجل والزبيني قصر سكينة بنت حسين ، وقصور فوق الزبيني لإسحاق بن أيوب متتابعة ، وفوقها قصور كثيرة لغير واحد ، ثم قصور ابنة المرازقي الزهرية ، ثم منازل جعفر بن إبراهيم الجعفري ، ثم يفضي إلى بئر رومة ، وقصور كثيرة يمنة ويسرة منها قصور عبد الله بن سعيد بن العاص ، وببطن الوادي بثار لعبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس والقصور يمنة ويسرة.

ثم ذكر ما بالعرصة من القصور ، وقال : ثم يفضي ذلك إلى الجرف ، وفيه سقاية سليمان بن عبد الملك ، وهي على ميمنة من خرج إلى السلام يعسكر بها الخارج من المدينة إليها ، ثم الزغابة وبها مزارع وقصور أيضا ، انتهى.

الفصل الثالث

في العرصة وقصورها ، وشيء مما قيل فيها وفي العقيق من الشعر

قصر خارجة : روى ابن زبالة أن بني أمية كانوا يمنعون البناء في العرصة حيالها ، وأن سلطان المدينة لم يقطع فيها قطيعة إلا بإذن الخليفة حتى خرج خارجة بن حمزة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن العوام إلى الوليد بن عبد الملك ، فسأله أن يقطعه موضع قصر فيها ، فكتب إلى عامله بالمدينة أن أقطعه موضع قصر فيها وألحقه بالسواد ، أي الحرة ، فلم يزل بأيديهم حتى صار ليحيى بن عبد الله بن حسين بن علي بن حسين.

قصر عبد الله بن عامر برومة : قال الواقدي : إنه بناه هناك من أول ما بنى بذلك العقيق إلا قصرا بعرصة البقل ، ولما قتل أهل الحرة وعسكر مشرف بالجرف أمر بالعسكر ، فحول إلى عرصة البقل ، وأمر بالأسرى فحبسوا هناك.

وقال ابن أبي عوف : إنه بعد أن نهب المدينة خرج إلى قصر ابن عامر ، وقتل من قتل.

قصر مروان بن الحكم : روى الزبير أن مروان ابتنى بعرصة البقل ، واحتفر وضرب لها عينا فازدرع.

١٩٧

قصر سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية : أحد مشاهير الأجواد ابتنى سعيد بالعرصة قصرا في سرتها ، واحتفر بها ، وغرس النخل والبساتين ، وكان نخلها أبكر شيء بالمدينة ، وكانت تسمى عرصة الماء.

وعن يحيى بن كعب مولى سعيد قال : كان نخل سعيد بالعرصة لا يطير حمامها ، وكانت فيها بئار ثلاث ، العليا منهن اليمانية تدعى الشمردلية ، والتي تليها أسفل منها تدعى الواسطية ، قال : وأنسيت السفلى ، وبنى بالعرصة عند نخلة قصره الذي يقول فيه أبو قطيفة عمر بن الوليد بن عقبة :

والقصر ذو النخل فالجمّاء بينهما

أشهى إلى النفس من أبواب جيرون

وقال الهجري : ثم يفضى ـ يعني سيل العقيق ـ إلى العرصة عرصة البقل ، وعرصة الماء ، وعرصة جعفر بن سليمان بقبل الجماء العاقر مرتفعة في حصن الجبل. وبالعرصة الكبرى قصري سعيد بن العاص الذي امتدحه الشاعر بقوله ، وذكر البيت المتقدم.

والذي ذكره الزبير وغيره أن قصر سعيد بعرصة الماء ـ وهي العرصة الصغرى ـ لأنهم قالوا : وفي عرصة الماء يقول داود بن سلم :

أبرزتها كالقمر الزاهر

في عصفر كالشرر الطائر

بالعرصة الصغرى إلى موعد

بين خليج الواد والظاهر

قالوا : إنما قال لها العرصة الصغرى لأن العقيق الكبير ينيفها من أحد جانبيها ، وينيفها عرصة البقل من الجانب الآخر ، وتختلط عرصة البقل بالجرف فيتسع ، والخليج الذي ذكر خليج سعيد بن العاص ، انتهى ؛ فالعرصة الكبرى هي عرصة البقل ، والصغرى هي عرصة الماء ، فهي عرصة سعيد بن العاص ، وأظنها التي فيها البناء المعروف اليوم بعقد الأرقطية ، ولعله قصر سعيد بن العاص وموضع آباره وبستانه فيما يليه ، ويلي ذلك عرصة البقل لجهة بئر رومة.

وقال فضالة بن عثمان : لما حضر سعيد الموت قال لابنه عمرو وهو الأشدق : أوصيك بثلاث : عليّ دين عظيم ، فأكثر فيه مالي حتى تؤديه ، وانظر إخواني فإن فقدوا وجهي فلا يفقدوا معروفي ، ولا تزوج بناتي إلا في الأكفاء ، ثم مات ، فركب عمرو إلى معاوية ، فقال الحاجب له : عمرو بالباب ، فقال معاوية : هلك والله سعيد ، فأدخله ، فنعى له سعيدا وأخبره بوصيته ، فقال : نحن قاضون عنه الدين قال : إنما أوصى إليّ أن يكون من صلب ماله ، فقال : يعني بعض ضياعه ، وإني أكره إحن صدر مروان وذويه من قريش بقضاء دين أبيك ، فباعه العرصة بألف ألف ، فقالت قريش : أيخدع معاوية نفسه أو يكيدنا؟ وقال مروان : يا أمير المؤمنين ما دون الله يد تحجرك عن هواك ، ولنحن أهون عليك فيما تريد ،

١٩٨

فعلام تخدع نحلك وتكيدها؟ هلا جعلت ما أعطيت عمرا صلة؟ فقال : إنك عاديت سعيدا حيّا وميتا ، وما بلغ من إثماني لضيعته مكيدة قريش ، ولقد علمت قريش أني أحفظ الميت في الحي وأصل الحي للميت ، ولهو خير لكم أن أكون كذلك ، فأخذ عمرو المال ، فأتى به المدينة فقضى دين أبيه ، ثم أمر بأخوال أبيه فدخلوا عليه ، فوصلهم ، ثم أدخل إخوانه ، فوقع الشر بينه وبين مروان ومروان خاله ، فقال :

يكايدنا معاوية بن حرب

ولسنا جاهلين بما يكيد

في أبيات بلغت معاوية ، فأنشد :

ألا لله درّ غواة فهر

أريد سوى الذي فهر تريد

أراني كلما أخلقت ضغنا

أتاني منهم ضغن جديد

في أبيات ، قال الزبير : ولم يصح عندي الشعران.

وروي عن سعيد أنه قال لابنه : إن منزلي هذا بالعرصة ليس من العقد ، إنما هو منزل نزهة ، فبعه من معاوية ، واقض ديني ومواعيدي ، ولا تقبل من معاوية قضاء ديني.

وعن نوفل بن عمارة أن سعيدا قال لابنه : إني موصيك بأربع ، لا تنقلني من موضعي يعني قصره ـ حتى أموت فيه ؛ فإنه أحب المواضع إليّ ، وقليل لي من قومي في بري بهم أن يحملوني على رقابهم إلى موضع قبري ، وذكر الوصايا الثلاث المتقدمة ؛ فلما توفي حمله رجال قريش حتى دفنوه بالبقيع ، وقصره على ثلاثة أميال من المدينة ، ثم رحل ابنه إلى معاوية ، فدخل وهو أشعث ، فقال له معاوية : ما بالك؟ قال : هلك أبو عثمان ، فترحّم عليه ، ثم قال : حاجتك فذكر وصاياه ، فسأله عن دينه ، فقال : ثلاثة آلاف ألف ، قال : هو عليّ ، قال : إنه أمرني أن لا يكون إلا من صلب ماله ، قال : فبعني ، قال : بعتك العرصة ، قال : قد أخذت القصر بألف ألف ، والنخيل بألف ألف ، والمزارع بألف ألف ، ثم قال : يا أهل الشام ، اكتبوا عليه لئلا يندم ، وفي رواية أنه قال : أمرني أن أبيع في دينه ما استباع من أمواله ، قال معاوية : فعرضني ما شئت قال : أنفسها وأحبها إلينا منزله بالعرصة ، فقال : هيهات لا يبيعونه ، انظر غيره ، قال : تحب تعجيل قضاء دينه؟ قال : قد أخذته بثلاثمائة ألف ، قال : اجعلها بالوافية يعني الدرهم زنة المثقال ، قال : قد فعلت ، قال : وتحملها إلى المدينة قال : ونفعل ، فقدم عمرو فجعل يفرقها في الديوان ، ويحاسبهم بما بين الدراهم الوافية وهي البغلية والدراهم الجواز ، حتى أتاه فتى من قريش بذكر حق له من أديم فيه عشرون ألف درهم بخط مولى لسعيد وشهادة سعيد على نفسه ، فعرف الخط وأنكر أن يكون لذلك الفتى الصعلوك ذلك ، فقال : ما سبب مالك؟ قال : رأيته وهو معزول وهو يمشي وحده ، فمشيت معه لباب داره ، فوقف وقال : هل لك حاجة؟ قلت : رأيتك تمشي وحدك

١٩٩

فأحببت أن أصل جناحك ، فقال : وصلتك رحم ، بعني قطعة أديم ، فأتيته بهذه القطعة ، فكتب غلامه هذا الكتاب وفيه شهادته ، ثم قال : يا ابن أخي ، ليس عندنا اليوم شيء ، فخذ هذا الكتاب ، فقال عمرو : لا جرم لا يأخذها إلا وافية ، ودفعها إليه بغلية.

ولما أضعت العرصتان عن بني أمية استقطع خنجر ـ وهو كثير بن العباس بن محمد ـ عرصة سعيد بن العاص ، فأقطعه إياها أبو العباس المنصور ، فقال زياد بن عبد الله الحارثي وكان واليا على المدينة بخ بخ يا خنجر ، صارت لك عرصة سعيد ، فقال : وما ينكر من ذلك؟ فأعجب منه دار معاوية بن سفيان بالبلاط لزياد بن أم زياد ، واقتطع السلطان في سلطان بني هاشم في العرصة ، وابتنوا عرصة الماء ، وفي ذلك يقول ذؤيب الأسلمي :

قد أقر الله عيني

بغزال يا ابن عون

طاف من وادي دجيل

بفتى طلق اليدين

بين أعلى عرصة الما

أإلى قصر زبين

فقضاني في منامي

كل موعود ودين

وفيها يقول أبو الأبيض سهل بن أبي كثير :

قلت من أنت فقالت

بكرة من بكرات

ترتعي نبت الخزامى

تحت تلك الشجرات

حبذا العرصة ليلا

في ليال مقمرات

طاب ذاك العيش عيشا

وحديث الفتيات

ذاك عيشي أشتهيه

وحديثي مع لمات

وفيها يقول بعض المدنيين :

وبالعرصة البيضاء إن زرت أهلها

مها مهملات ما عليهن سائس

يدرن إذا ما الشمس لم يخش حرها

خلال بساتين خلاهن يابس

إذا الحر آذاهن لذن ببحرة

كما لاذ بالظل الظباء الكواس

وقال عامر بن صالح في العرصتين :

أهوى البلاط فجانبيه كليهما

فالعرصتين إلى نخيل قباء

وقال حكيم بن عكرمة الديلي فيهما وفي العقيق وجوانب المدينة :

لعمرك للبلاط وجانباه

وحرة واقم ذات المنار

فجماء العقيق فعرصتاه

فمفضي السيل من تلك الحرار

إلى أحد مدى حرض فمبنى

قباب الحي من كنفي صرار

أحبّ إلى من ريح وبصرى

بلا شك علي ولا تماري

٢٠٠