وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى - ج ٣

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى - ج ٣

المؤلف:

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي


المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-381-8-0
الصفحات: ٢٤٦

الخريف التي في بئر أريس ، فعلّق عليها اثني عشر ناضحا فلم يقدر عليه حتى الساعة ، فاقتضى أنه لم يكن في بئر أريس نفسها ، ولهذا نقل ابن شبة عن ابن غسان سقوط الخاتم في بئر أريس وأنه قال : وقد سمعت من يقول : إنما سقط في بئر في صدقته يقال لها بئر خريف أي من آبار المال المسمى ببئر أريس ؛ لأن ابن شبة قال أيضا : قال أبو غسان : ابتاع عثمان بئر أريس وفيها مال يقال له الدومة ، ابتاعه من حي من الأنصار وفيه سهمه الذي أعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أموال بني النضير ، وفيها كيدمة مال لعبد الرحمن بن عوف ، ثم روى أن عبد الرحمن بن عوف باع كيدمة من عثمان بأربعين ألف دينار ، وأمر عثمان عبد الله بن سعد بن أبي سرح فدفعها إليه ، وأنه تصدق بها على أمهات المؤمنين وغيرهن.

وفي رواية أن عبد الرحمن أوصى بكيدمة لأمهات المؤمنين ، فبعنها من عبد الله بن سعد بن أبي سرح.

ثم قال : قال أبو غسان : وأما أريس الذي نسب إليه المال فإن عبد العزيز بن عمران حدثني عن عنبس العقبي قال : أريس رجل من يهود بني محمم ، وكان له ذلك المال ، وفيه بئر عاضر التي يقول فيها اليهودي :

أمرت بلالا أن يعلق دلوه

على الأعليين اليوم من بئر عاضر

فجمعها عثمان رضي الله تعالى عنه في حظار واحد ، وهي سبعة أموال ، فتصدق بها ، قال : فحدث عبد الرحمن بن أبي الزناد عن إبراهيم بن عبد الله بن فروخ عن أبيه عن جده قال : دخل علينا عثمان بئر أريس ، وقد لفقنا له عذقا منها ، فقال : ما هذا؟ فقلنا : لفقناه لك يا أمير المؤمنين ، قال : إنما تصدّقت بها على ذوي القربى والفقراء واليتامى والمساكين وابن السبيل ، حتى العافية عافية الطير والسباع ، قال : وقد كان لصدقة عثمان رضي الله تعالى عنه فيما بلغني ذكر في حجر منقوش على باب بئر أريس فطرحه بعض ولاة المدينة في بئر من تلك الآبار ، انتهى ما نقله ابن شبة عن أبي غسان ملخصا.

وسيأتي في ترجمة كيدمة أنها سهم عبد الرحمن بن عوف من بني النضير ، وأن بقرب المشرية والجرع المعروف بالحسينات موضع يعرف بكيادم بلفظ الجمع ، والدومة معروفة اليوم بالعالية قرب بني قريظة ، وبقربها موضع يعرف بالدويمة أيضا.

وهذا يشكل على ما هو معروف اليوم ، وبه صرح ابن النجار كالغزالي ، وتبعه من بعده ، من أن بئر أريس هي المقابلة لمسجد قباء في غربيه ، ويزيد الإشكال قوة أن بني النضير وبني محمم لم يكونوا بقباء ، بل بجهة الدومة المذكورة وما والاها ، كما يعلم مما تقدم في المنازل.

وكنت قد أجبت عن ذلك باحتمال أن يكون بعض أموالهم كان بقباء وأن يكون منها ما يسمى بالدومة وبكيدمة في تلك الجهة ثم نسي تسميته بذلك.

١٢١

ثم رأيت في كلام ابن زبالة ما يردّ ذلك ، ويزيد الإشكال قوة فإنه قال في صدقات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لفظه : وأما الدلال والصافية فإنهما يشربان من سرح عثمان بن عفان الذي يشقّ من مهزور في أمواله ، يأتي على أريس وأسفل منه حتى يتبطّن السورين ، فصرفه ـ أي عثمان رضي الله تعالى عنه ـ مخافة على المسجد في بئر أريس ، ثم في عقد أريم في بلحارث بن الخزرج ، ثم صرفه إلى بطحان ، انتهى.

والموضع المعروف بقباء لا يمكن وصول شيء من مهزور إليه ، كما يعلم مما سيأتي في وصف وادي مهزور ، فالله أعلم.

من فضل بئر أريس

قال المجد : ومما يذكر في فضل بئر أريس ما رويناه عن زيد بن خارجة أنه عاش بعد الموت وذكر أمورا : منها ما يدل على فضل هذه البئر ، وسياق الخبر عن النعمان بن بشير قال : لما توفي زيد بن خارجة انتظر به خروج عثمان ، فكشف الثوب عن وجهه وقال : السلام عليكم ، قال : وأنا أصلّي ، فقلت : سبحان الله ، فقال : أنصتوا أنصتوا ، محمد رسول الله ، كان ذلك في الكتاب الأول ، صدق صدق صدق ، أبو بكر الصديق ، ضعيف في جسده قوي في أمر الله كان ذلك في الكتاب الأول ، صدق صدق صدق ، عمر بن الخطاب ، قوي في أمر الله كان ذلك في الكتاب الأول ، صدق صدق صدق ، عثمان بن عفان ، اثنتان وبقي أربع ، وأبيحت إلا حمى بئر أريس وماء بئر أريس.

وقد رويت هذه القصة من وجوه عن النعمان بن بشير ، ذكره الذهبي في التذهيب.

قلت : رواها ابن شبة بنحوه ، إلا أنه قال في آخرها : بئر أريس اختلف الناس ، ارجعوا إلى خليفتكم فإنه مظلوم.

وقال في رواية أخرى : ثم قال : أخذت بئر أريس ، ثم خفت الصوت.

وروى البيهقي في دلائل النبوة هذه القصة من وجوه ، وقال في بعضها : إسناده صحيح ، وفسر قوله «اثنتان» بأن ذلك كان بعد مضي سنتين من خلافة عثمان ، والأربع البواقي من خلافته ، والأمر في بئر أريس سقوط خاتم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها بعد ست سنين من خلافة عثمان ، فعند ذلك تغيرت علمه ، وظهرت أسباب الفتن ، انتهى.

قال المجد : وفي الإحياء للغزالي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تفل في بئر أريس» ولم أجد ذلك عند غيره ، وأعاد المجد ذكر بئر أريس في ترجمة قباء وقال : إنها التي تفل فيها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعذبت بعد أن كان ماؤها أجاجا ، ولم ينسبه للغزالي ، وهو في ذلك متابع لابن جبير في رحلته.

وقال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء : إنه لم يقف على أصل الحديث في تفله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بئر أريس.

١٢٢

قلت : ومن الغريب قول ابن جماعة في مناسكه الكبرى في باب الفضائل «فضل بئر أريس : قد صحّ أن سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تفل فيها ، وأنه سقط فيها خاتمه» انتهى.

وخرج البيهقي من حديث إبراهيم بن طهمان عن يحيى بن سعيد أنه حدثه أن أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه أتاهم بقباء يسأله عن بئر هناك ، فدللته عليه ، فقال : لقد كانت هذه وإنّ الرجل لينضح على حماره فتنزح فيستخرجها له ، فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمر بذنوب فسقي ، فإما أن يكون توضأ منه أو تفل فيه ، ثم أمر به فأعيد في البئر ، فما نزحت بعد ، فرأيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بال ثم جاء فتوضأ ومسح على خفّيه ثم صلّى ، لكن سيأتي في بئر غرس ما يبين أنها المرادة بذلك ، ولم يعد ابن شبة ولا ابن زبالة بئر أريس في الآبار التي كان استقى منها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما ذكرها ابن شبة في صدقة عثمان ، وذكر سقوط الخاتم فيها مع ما تقدم.

وهذه البئر المعروفة اليوم بقباء من أعذب آبار المدينة.

ذرع بئر أريس

وذكر ابن النجار أنه ذرع طولها فكان أربعة عشر ذراعا وشبرا ، منها ذراعان ونصف ماء ، وعرضها خمسة أذرع ، قال : وطول قفها الذي جلس عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصاحباه ثلاثة أذرع تشف كفا ، قال : وهي تحت أطم عال ، خراب من جهة القبلة ، وقد بنى في أعلاه مسكن.

قال المطري ، عقب ذكره أن ذلك المسكن يسكنه من يقوم بالحديقة ويخدم مسجد قباء.

قلت : وهو اليوم بيد المتكلم على الحديقة صاحبنا الشيخ برهان الدين القطان ، ووقع بينه وبين صاحبنا الفخر العيني مشاجرة بسببه وسبب البئر ؛ لأن الفخر بيده قطعة تحت الحصن المذكور وقطعة أخرى في مقابلة المسجد أنشأها بعض أقاربه هناك ، ثم اصطلحا على السّقى بالبئر المذكورة واستمرار الحصن بيد البرهان ، ثم رفعوا قف البئر عما أدركناه عليه نحو ثلاثة أذرع ، وذلك لما بنى متولي العمارة السبيل والبركة المقابلين لمسجد قباء المتقدم ذكرهما فيه ، وذلك ليتأتى وصول الماء إلى البركة ، وصار طول هذه البئر اليوم على ما ذرعته تسع عشرة ذراعا ونصف ذراع ، منها أربعة أذرع ماء ، وذلك بعد تبحيرها.

ولهذه البئر درجة ذكرها المطري ، فقال : وقد حدّد الشيخ صفي الدين أبو بكر بن أحمد السلامي لهذه البئر درجا ينزل إليها منه من يريد الوضوء والشرب من الزوار سنة أربع عشرة وسبعمائة ، انتهى. وهو مخالف لقول البدر ابن فرحون في ترجمة نجم الدين يوسف الرومي وزير الأمير طفيل : إنه هو الذي أنشأ الدرجة الموجودة اليوم لبئر أريس بقباء عمرها في سنة أربع عشرة وسبعمائة ، قال : وكان الجماعة الحزازون قد ابتدءوا في عمارتها فسألهم أن يتركوا ذلك له ليفوز بحسنتها ، وكان الحامل لهم على ذلك أنهم كانوا إذا جاءوا إلى

١٢٣

مسجد قباء لا يجدون ما يتوضئون به ، إلا من الحديقة الجعفرية ، فكانوا يتحرّجون من دخولها لما سمعوا أنها مغصوبة من ملاكها ، انتهى.

وجمع المجد بأنّ الظاهر أن نجم الدين المذكور أنشأ الدرجة وتشعثت ، فأصلحها صفي الدين وجددها.

قلت : ويرده اتخاذ التاريخ كما سبق. والذي يظهر : أن جماعة الخرازين ـ كما ترجمهم به البدر ـ كانوا يسعون في عمارة المساجد وغيرها ، وكانوا فقراء ؛ فيعينهم الخدم ، وأهل الخير ، وكان صفي الدين له دنيا عظيمة فتخلى عنها ، وله معروف فكأنه هو الممد للخرازين بما صرفوا على عمارة الدرج ، وكان المطري يصحب الجميع ، فالظاهر أنه اطّلع على ذلك ، ثم أتم نجم الدين عمارة تلك الدرجة والله أعلم.

بئر الأعواف ، أحد صدقات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الآتية

روى ابن شبة عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان قال : توضأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على شفة بئر الأعواف صدقته ، وسال الماء فيها ، ونبتت ثابتة على أثر وضوئه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم تزل فيها حتى الساعة.

وروى ابن زبالة عن عثمان بن كعب قال : طلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سارقا ، فهرب منه ، فنكبه الحجر الذي وضع بين الأعواف صدقة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين الشطبية مال ابن عتبة ، فوقع السارق ، فأخذه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبرّك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحجر ومسّه ودعا له ، فهو الحجر الذي فيما بين الأعواف والشطبية يطلع طرفه يمسه الناس.

قلت : والأعواف اليوم اسم لجرع كبير في قبلة المربوع ، وفي شاميه خنافة ، وفيه آبار متعددة ؛ فلا تعرف البئر المذكورة منها ، وكذلك الحجر ؛ لأن الشطبية غير معروفة اليوم ، ولعلها الموضع المعروف بالعتبى ؛ لقوله في الرواية المتقدمة : مال ابن عتبة ، والعتبى بجنب الأعواف من المشرق ، فإن كان هو الشطبية فبئر الأعواف هي البئر التي فيها يلي خنافة من جرع الأعواف ، وهي اليوم معطلة لا ماء بها ، ويستأنس لذلك بما نقله ابن زبالة من أن الأعواف كانت لخنافة اليهودي جد ريحانة رضي الله تعالى عنها.

ولم يذكر المطري ومن تبعه هذه البئر ولا الغلالة بعدها ؛ لسكوت ابن النجار عنها.

بئر أنا : بضم الهمزة وتخفيف النون كهنا ، وقيل : بالفتح وكسر النون المشددة بعدها مثناة تحتية ، وقيل : بالفتح والتشديد كحتّى ، وضبطه في النهاية بفتح الهمزة وتشديد الباء الموحدة كحتى ، ذكره في القاموس أيضا ، وذكره ياقوت في المشترك له ، وقال : كذا هو مضبوط بخط أبي الحسين بن الفرات ، ثم قال : وذكر آخرون أنها بئر أنا بضم الهمزة والنون الخفيفة.

١٢٤

روى ابن زبالة عن عبد الحميد بن جعفر قال : ضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبته حين حاصر بني قريظة على بئر أنا ، وصلّى في المسجد الذي هناك ، وشرب من البئر ، وربط دابته بالسّدرة التي في أرض مريم ابنة عثمان.

وقال ابن إسحاق : لما أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني قريظة نزل على بئر من آبارها ، وتلاحق به الناس ، وهي بئر أنا.

قلت : وهي غير معروفة اليوم ، وناحية بني قريظة عند مسجدهم

بئر أنس بن مالك بن النضر : وتضاف أيضا لأبيه.

وروى ابن زبالة عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استسقى ، فنزع له دلو من بئر دار أنس ، فسكب على اللبن فأتى به فشرب ، وعمر بين يديه وأبو بكر عن يساره ، وأعرابي عن يمينه ، الحديث ، وهو في الصحيح عن أنس بلفظ : أتانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دارنا هذه ، فاستسقى. فحلبنا شاة لنا ثم شبته من بئرنا هذه فأعطيته ، الحديث.

وروى ابن شبة عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شرب من بئر أنس التي في دار أنس.

وخرج أبو نعيم عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بزق في بئر داره ، فلم يكن بالمدينة بئر أعذب منها ، قال : وكانوا إذا حوصروا استعذب لهم منها ، وكانت تسمى في الجاهلية البرود.

قلت : وهي غير معروفة اليوم ، لكن تقدم عن ابن شبة في البلاط أنه كان له سرب يخرج عند دار أنس بن مالك في بني جديلة ، وتقدم في بيان المحلّ الذي ضرب منه اللبن للمسجد النبوي أن البئر المعروف اليوم بالرباطية وقف رباط اليمنة في شامي الحديقة المعروفة بالرومية بقرب دار فحل يتبرك بها الفقراء ، كما ذكره الزين المراغي ، وقال : إنها تعرف ببئر أيوب ، وكذلك البئر ذات الدرج التي في شرقيها في الحديقة المعروفة بأولاد الصفي تعرف ببئر أيوب أيضا.

قلت : والمعروف اليوم ببئر أيوب إنما هي الثانية ، والظاهر أنها بئر أبي أيوب الأنصاري ، وأما الأولى فالظاهر أنها بئر أنس ؛ لأنها في جهة السرب الذي ذكره ابن شبة قرب منازل بني جديلة ، ولتبرك الناس بها قديما ، ولأنها عذبة الماء بحيث يشرب منها كثير من أهل تلك الجهة أيام النقلة في الصيف ، وسيأتي في بئر السقيا أنه كان يستعذب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الماء من بئر مالك بن النضر والد أنس.

وروى ابن شبة عن أنس في ذكر بئره قال : كان في داري بئر تدعى في الجاهلية البرود ، كان الناس إذا حوصروا شربوا منها.

واعلم أن أنس بن مالك بن النضر بن عدي بن النجار قد روى أهل السير أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بلغ من العمر ستّ سنين خرجت به أمه إلى طيبة تزيره أخواله من بني عدي بن النجار ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فأحسنت العوم في بئرهم.

١٢٥

بئر إهاب : وفي نسخة لابن زبالة «بئر الهاب» والأول هو الصواب الذي اعتمده المجد.

روى ابن زبالة عن محمد بن عبد الرحمن أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى بئر إهاب بالحرة وهي يومئذ لسعد بن عثمان ، فوجد ابنه عبادة بن سعد مربوطا بين القرنين يفتل ، فانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يلبث سعد أن جاء فقال لابنه : هل جاءك أحد؟ قال : نعم ووصف له صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : ذاك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالحقه وحلّه ، فخرج عبادة حتى لحق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمسح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على رأس عبادة وبرك فيه ، قال : فمات وهو ابن ثمانين وما شاب ، قال : وبصق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بئرها.

قال : وقال سعد بن عثمان لولده : لو أعلم أنكم لا تبيعونها لقبرت فيها ، فاشترى نصفها إسماعيل بن الوليد بن هشام بن إسماعيل ، وابتنى عليها قصره الذي بالحرة مقابل حوض ابن هشام ، وابتاع نصفها الآخر إسماعيل بن أيوب بن سلمة ، وتصدقا بما ابتاعا من ذلك.

قلت : وهي المذكورة في حديث أحمد المتقدم في بدء شأن المدينة وما يؤول إليه أمرها ، لقوله فيه «خرج حتى أتى بئر الإهاب ، قال : يوشك أن يأتي البنيان هذا المكان».

وفي حديث عبادة الزرقي أنه يصيد القطا فيرقى بئر إهاب ، وكانت لهم ، الحديث المتقدم في صيد الحرم ، وهي بالحرة الغربية بئر ، غير أنها لا تعرف اليوم بهذا الاسم ، إلا أن حوض ابن هشام الذي في مقابلتها كان عند فاطمة بنت الحسين التي رجّح المطري أنها المسماة اليوم بزمزم كما سيأتي أيضا في خبر بئر فاطمة المذكورة ، فلما بنى إبراهيم بن هشام داره بالحرة بعد وفاة فاطمة وأراد نقل السوق إليها صنع في حفرته التي بالحوض مثل ما صنعت فاطمة ، فلقي جبلا ، فسأل إبراهيم بن هشام بن عبد الله بن حسن بن حسن أن يبيعه دار فاطمة ، فباعه إياها ، أي من أجل البئر التي احتفرتها فاطمة في دارها.

وقال المطري : إن ابن زبالة ذكر عدة آبار أتاها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرب منها وتوضأ ، لا نعرف اليوم شيئا منها.

قال : ومن جملة ما ذكر بئر بالحرة الغربية في آخر منزلة النقاء ، وذكر ما سيأتي في بئر السقيا.

ثم قال ما لفظه : ومنها بئر أخرى إذا وقفت على هذه ـ يعني بئر السقيا ـ وأنت على جادّة الطريق وهي ـ يعني السقيا ـ على يسارك كانت هذه على يمينك ، ولكنها بعيدة عن الطريق قليلا في سند من الحرة قد حوّط حولها ببناء مجصّص ، وكان على شفيرها حوض من حجارة تكسر ، ولم يزل أهل المدينة قديما وحديثا يتبركون بها ، ويشربون من مائها ، وينقل إلى الآفاق منها ، كما ينقل من ماء زمزم ، ويسمونها زمزم أيضا لبركتها.

١٢٦

ثم قال : ولم أعلم أحدا ذكر فيها أثرا يعتمد عليه ، والله أعلم أيتهما هي السقيا؟ الأولى لقربها من الطريق ، أم هذه لتواتر التبرك بها؟ أو لعلها البئر التي احتفرتها فاطمة ابنة الحسين حين أخرجت من بيت جدتها فاطمة الكبرى ، وذكر القصة الآتية في حفرها لبئرها ، ثم قال : إن الظاهر أن هذه هي بئر فاطمة ، والأولى هي السقيا.

قلت : قوله «إن الأولى هي السقيا» هو الصواب كما سيأتي ، وأما قوله «إن الثانية هي بئر فاطمة» فعجيب ؛ لأن مقتضى قوله ومنها أنها من جملة الآبار التي ذكر ابن زبالة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاها وشرب منها ، وبئر فاطمة بنت الحسين هي التي احتفرتها بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما ذكرها ابن زبالة في خبر بناء المسجد ، وذكر في آبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قدمناه في بئر إهاب مع بئر السقيا وغيرهما من الآبار ، ثم أفردهما ثانيا في سياق ما جاء في الحرة الغربية ، وأيضا فقد ذكر المطري أن البئر المذكورة لم تزل يتبرك بها قديما وحديثا ، وينقل منها الماء إلى الآفاق ، فكيف ترجّح أنها المنسوبة لابنة الحسين مع وجود بئر في تلك الجهة ينسب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إتيانها والبصق فيها؟ فالذي ترجّح عندي أن هذه البئر المعروفة بزمزم هي بئر إهاب ، وقد رأيت عندها مع طرف الجدار الذي بجانبها الدائر على الحديقة آثار قصر قديم كان مبنيّا عليها الظاهر أنه قصر إسماعيل بن الوليد الذي ابتناه عليها ، وفي شاميها بئر أخرى في الحديقة المذكورة يحتمل أنها هي المنسوبة لابنة الحسين ، ولعل حوض ابن هشام كان هناك ، والله أعلم.

بئر البصّة : ـ بضم الموحدة وفتح الصاد المشددة آخره هاء ، كانها من بصّ الماء بصّا رشح ، كذا قاله المجد ـ قال : وإن روى بالتخفيف فمن وبص يبص وبصا وبصة كوعد يعد وعدا وعدة إذا بلغ ، أو من وبص لي من المال أي أعطاني.

قلت : المعروف بين أهل المدينة التخفيف.

وروى ابن زبالة وابن عدي من طريقه عن أبي سعيد الخدري قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأتي الشهداء وأبناءهم ، ويتعاهد عيالاتهم ، قال : فجاء يوما أبا سعيد الخدري فقال : هل عندك من سدر أغسل به رأسي فإن اليوم الجمعة؟ قال : نعم ، فأخرج له سدرا ، وخرج معه إلى البصة ، فغسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأسه ، فصب غسالة رأسه ومراقة شعره في البصة.

قال ابن النجار : وهذه البئر قريبة من البقيع على طريق الماضي إلى قباء ، وهي بين نخل ، وقد هدمها السيل وطمّها ، وفيها ماء أخضر ، وقفت على قفّها ، وذرعت طولها ، فكان أحد عشر ذراعا ، منها ذراعان ماء ، وعرضها سبعة أذرع ، وهي مبنية بالحجارة ، ولون مائها إذا انفصل منها أبيض ، وطعمه حلو ، إلا أن الأجون غلب عليه. وذكر لي الثقة أن أهل المدينة كانوا يستقون منها قبل أن يطمّها السيل ، اه.

١٢٧

وقد أصلحت بعده ، ولذا قال المطري : إنها في حديقة كبيرة محوط عليها محائط ، وعندها في الحديقة أيضا بئر أصغر منها ، والناس يختلفون فيهما أنهما بئر البصة ، إلا أن ابن النجار قطع بأنها الكبرى القبلية ، وذكر ما تقدم عنه في طولها وعرضها ، ثم قال : والصغرى عرضها ستة أذرع ، وهي التي تلي أطم مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهما. قال : وسمعت من أدركت من أكابر الخدام وغيرهم من أهل المدينة يقولون : إنها الكبرى القبلية ، وإن الفقيه الصالح القدوة أبا العباس أحمد بن موسى بن عجيل وغيره من صلحاء اليمن إذا جاءوا للتبرك بالبصة لا يقصدون إلا الكبرى القبلية.

قلت : الظاهر أن ذلك كله ناشئ عما ذكره ابن النجار في وصفها ، لكن يرجّح أنها الصغرى كونها إلى جانب الأطم المذكور ، وقد قال فيه ابن زبالة كما تقدم في المنازل : إنه المسمى بالأجرد ، وإنه الذي يقال لبئره البصة ، كان لمالك بن سنان ، والكبرى بعيدة عن الأطم المذكور.

وقد ابتنى قاضي المدينة زكي الدين بن أبي الفتح بن صالح تغمده الله برحمته على محلّ هذا الأطم منزلا حسنا ، وجعل للبئر الصغرى درجا ينزل إليها منه ، وعمر البئر الكبرى أيضا لما استأجر الحديقة لولده بعد أن أجرها هو وشريكه في النظر في الولاية السلطانية لغيره ، وهي من جملة أوقاف الفقراء ، وقفها شيخ الخدام عزيز الدولة ريحان البدري الشهامي على الفقراء الواردين والصادرين للزيارة على ما ذكره المطري ، قال : وذلك بعد وفاته بعامين أو ثلاثة ، ووفاته سنة سبع وتسعين وستمائة ، اه.

وفي غربي البئر الصغرى بجانب الحديقة من خارجها سبيل للدوابّ يملأ منها ، وعليه موقوف قطعة نخل تعرف بالركبدارية شماليّ سور المدينة.

بئر بضاعة : ـ بضم الموحدة على المشهور ، وحكى كسرها ، وبفتح الضاد المعجمة ، وأهملها بعضهم ، وبالعين المهملة ، بعدها هاء ـ غربيّ برحاء إلى جهة الشمال ، بينهما غلوة سهم سبقي.

روينا في سنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو يقال له : إنه يستفي لك من بئر بضاعة ، وهي بئر تلقي فيها لحوم الكلاب والمحائض وعذر الناس ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الماء طهور لا ينجّسه شيء».

ورواه أحمد ، وصححه النسائي ، والترمذي وحسّنه ، والدار قطني وقال فيه «من بئر بضاعة بئر بني ساعدة» وابن شبّة إلا أنه قال «وعذر النساء» بدل قوله «وعذر الناس» وابن ماجه وزاد «لا ينجسه شيء إلا ما غلب عليه ريحه وطعمه ولونه».

وفي رواية للنسائي عن أبي سعيد قال : مررت بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يتوضأ من بئر بضاعة ، فقلت : أتتوضأ منها وهي يطرح فيها ما يكره من النتن؟ فقال «الماء لا ينجسه شيء».

١٢٨

وروى ابن شبة عن سهل بن سعد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بصق في بضاعة». وعنه أيضا سقيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيدي من بضاعة ، ورواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات إلا أنه قال «من بئر بضاعة» وكذا رواه أحمد.

وروى ابن زبالة وأبو يعلي عن محمد بن أبي يحيى عن أمه قالت : دخلنا على سهل بن سعد في نسوة فقال : لو أني سقيتكن من بئر بضاعة لكرهت ذلك ، وقد والله سقيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيدي منها.

وفي الكبير للطبراني عن سهل بن سعد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «برّك على بضاعة».

ورواه ابن زبالة عن أبي أسيد ، لكن بلفظ «دعا لبئر بضاعة». وفي الكبير للطبراني عن مالك بن حمزة بن أبي أسيد الساعدي عن أبيه عن جده أبي أسيد ، وله بئر بالمدينة يقال لها بئر بضاعة ، قد بصق فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهي يتبشر بها ويتيمن بها.

قال : فلما قطع أبو أسيد ثمر حائطه جعله في غرفة ، فكانت الغول تخالفه إلى مشربته فتسرق ثمره وتفسده عليه ، فشكا ذلك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال «تلك الغول يا أبا أسيد ، فاستمع عليها ، فإذا سمعت اقتحامها فقل : بسم الله ، أجيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت الغول : يا أبا أسيد ، أعفني أن تكلفني أن أذهب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأعطيك موثقا من الله أن لا أخالفك إلى بيتك ، وأن لا أسرق ثمرك ، وأدلّك على آية تقرؤها على بيتك فلا يخالف إلى أهلك ، وتقرؤها على إنائك فلا يكشف غطاؤه ، فأعطته الموثق الذي رضي به منها ، فقالت : الآية التي أدلّك عليها هي آية الكرسي ، ثم حكت أسنانها تضرط ، فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقصّ عليه القصة حيث دلته ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : صدقت وهي كذوب» قال الحافظ الهيتمي : رجاله وثقوا كلهم ، وفي بعضهم ضعف.

وقال المجد : وفي الخبر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أتى بئر بضاعة ، فتوضأ من الدّلو وردّها إلى البئر ،

وبصق فيها ، وشرب من مائها ، وكان إذا مرض المريض في أيامه يقول : اغسلوني من ماء بضاعة ، فيغسل فكأنما ينشط من عقال».

وقالت أسماء بنت أبي بكر : كنا نغسل المرضى من بئر بضاعة ثلاثة أيام فيعافون ، اه.

قال أبو داود في سننه : سمعت قتيبة بن سعيد يقول : سألت قيّم بئر بضاعة عن عمقها أكثر ما يكون فيها الماء ، قال : إلى القامة ، قلت : وإذا نقص ، قال : دون العورة ، قال أبو داود عقبه : وقدّرت بئر بضاعة بردائي ، مددته عليها ثم ذرعته فإذا عرضها ستة أذرع ، وسألت الذي فتح باب البستان فأدخلني إليه : هل غيّر بناؤها عما كانت عليه؟ فقال : لا ، ورأيت فيها ماء متغير اللون.

وقال ابن النجار : هذا البئر اليوم في بستان ، وماؤها عذب طيب ، ولونها صاف

١٢٩

أبيض ، وريحها كذلك ، ويستقى منها كثيرا ، قال : وذرعتها فكان طولها أحد عشر ذراعا وشبرا ، منها ذراعان راجحة ماء ، والباقي بناء ، وعرضها ستة أذرع كما ذكر أبو داود.

قلت : وذرعتها فكان ذرعها كذلك لم يتغير ، إلا أن قفّها مرتفع عن الأرض الأصلية ذراعا ونصفا راجحا ، وهي ـ كما قال المطري ـ في جانب حديقة عند طرف الحديقة الشامي ، والحديقة في قبلة البئر ، ويستقي منها أهل حديقة أخرى شمالي البئر ، وهي بينهما ، وماؤها عذب طيب مع تعطّلها في زماننا وخراب قفّها ، وهي المرادة بما في صحيح البخاري عن سهل بن سعد «إن كنا لنفرح بيوم الجمعة ، كانت لنا عجوز تأخذ من أصول الصلق» وفي رواية له» ترسل إلى بضاعة» قال ابن سلمة أي شيخ البخاري : محل بالمدينة ، الحديث.

قال الإسماعيلي : في هذا بيان أن بئر بضاعة بئر بستان ؛ فيدل على أن قول أبي سعيد «كانت تلقى فيها الحيض وغيرها» أنها كانت تطرح في البستان فيجريها المطر ونحوه إلى البئر.

قلت : ومن شاهد بضاعة علم أنه كذلك لأنها في وهدة ، وحولها ارتفاع ، سيما في شاميها ؛ إذا قدر اليوم هناك أقذار لسال بها المطر إليها ، وتلقي الرياح فيها ما تلقي ، وادعى الطحاوي أنها كانت سيحا ، وروى ذلك عن الواقدي ، وإن صحّ فلعل المراد به أن الأرض التي حولها كانت المياه تسيح فيها فتجرّ الأقذار إليها ؛ لإطباق مؤرخي المدينة العالمين بأخبارها على تسميتها ببئر ، لا كما قال بعض الحنفية : إنها كانت عينا جارية إلى بستانين ، إذ المشاهدة تردّه كما قاله المجد ، قال : ولو كان كذلك لما صلح أن يقول فيها المريض «اغسلوني من ماء بضاعة» لأن الجرية الأولى سارت ببصاق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأيضا فلو كانت قناة جارية وسدت لما خفي آثار مجاريها المنسدة ، والمشاهدة مع الإطباق على أنها البئر المذكورة كافية في الرد.

وقال المجد : بضاعة دار بني ساعدة ، وبها هذه البئر ، ونقله الحافظ ابن حجر عن بعضهم ، ومقتضى كلام شيخ البخاري المتقدم أنها اسم للبستان الذي فيه البئر ، والظاهر إطلاقها على الثلاثة ، والله أعلم.

بئر جاسوم : ويقال جاسم ـ بالجيم والسين المهملة ـ لم يذكرها والتي بعدها ابن النجار ومن بعده ، وتقدم في مسجد راتج من رواية ابن شبة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى في مسجد راتج ، وشرب من جاسوم ، وهي بئر هناك.

وروي هو وابن زبالة أيضا عن خالد بن رباح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «شرب من جاسوم بئر أبي الهيثم بن التيهان».

١٣٠

وعن زيد بن سعد قال : جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما إلى أبي الهيثم بن التيهان رضي الله تعالى عنه في جاسوم ، فشرب من جاسوم ، وهي بئر أبي الهيثم ، وصلّى في غائطه.

وروى الواقدي عن الهيثم بن نصر الأسلمي قال : خدمت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولزمت بابه ، فكنت آتيه بالماء من بئر جاسم ، وهي بئر أبي الهيثم بن التيهان ، وكان ماؤها طيبا ، ولقد دخل يوما صائما ومعه أبو بكر على أبي الهيثم ، فقال : هل من ماء بارد؟ فأتاه بشجب فيه ماء كأنه الثلج ، فصبّ منه على لبن عنز له وسقاه ثم قال له : إن لنا عريشا باردا ، فقل فيه يا رسول الله عندنا ، فدخله وأبو بكر ، وأتى أبو الهيثم بألوان من الرّطب ، الحديث ، وأشار الحافظ ابن حجر إلى أنه يؤخذ منه أن هذه القصة هي التي في الصحيح عن جابر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل على رجل من الأنصار ومعه صاحب له ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن كان عندك ماء بائت هذه الليلة في شجب وإلا كرعنا ، قال : والرجل يحول الماء في حائطه ، فقال الرجل : يا رسول الله عندنا ماء بائت ، فانطلق إلى العريش ، قال : فانطلق بهما فسكب في قدح ثم حلب عليه من داجن له ، فشرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم شرب الرجل الذي جاء معه.

قلت : وهذه البئر غير معروفة اليوم ، وتقدم بيان جهتها في مسجد راتج.

بئر جمل : بلفظ الجمل من الإبل ـ روى ابن زبالة عن ابن عبد الله بن رواحة وأسامة بن زيد قالا : ذهب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بئر جمل ، وذهبنا معه ، فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودخل معه بلال ، فقلنا : لا نتوضأ حتى نسأل بلالا كيف توضأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالا : فسألناه ، فقال : توضأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومسح على الخفين والخمار ، وفي صحيح البخاري حديث «أقبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نحو بئر جمل ، فلقيه رجل ، فسلم عليه ـ الحديث».

وفي رواية للدار قطني «أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الغائط ، فلقيه رجل عند بئر جمل».

وفي أخرى له أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ذهب نحو بئر جمل ليقضي حاجته ، فلقيه رجل مقبل فسلّم عليه».

وفي رواية النسائي «أقبل من نحو بئر الجمل» وهو من العقيق ، قاله المجد ، قال : وهي بئر معروفة بناحية الجرف بآخر العقيق ، وعليها مال من أموال أهل المدينة ، قال : ويحتمل أنها سميت بجمل مات فيها ، أو برجل اسمه جمل حفرها.

قلت : وهي غير معروفة اليوم ، ولم أر من سبق المجد لكونها بالجرف غير ياقوت.

وقوله «وهو من العقيق» لم أره في السنن الصغرى للنسائي ، ويبعده سوق الروايات السابقة لقوله «ذهب نحو بئر جمل ليقضي حاجته» وفي أخرى أن الرجل توارى في السكة ، والمعروف بقضاء الحاجة إنما هو ناحية بقيع الحجبة ، وهو ناحية بئر أبي أيوب ، وهناك

١٣١

الموضع المعروف بالمناصع ، وتقدم بيان زقاق المناصع شرقي المسجد فيما يلي الشام ، وسبق في الفصل الحادي عشر من الباب الثالث أن ناقته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بركت بين أظهر بني النجار ، أي شرقي المسجد النبوي ، ثم نهضت حتى أتت زقاق الحبشي ببئر جمل فبركت ، الحديث ، وهو مؤيد لما قدمناه على أن عند مؤخر المسجد زقاقا يعرف اليوم بخرق الجمل ، وبقرب درب سويقة بئر صغيرة في زقاق ضيق زعم أهل تلك الناحية أنها هي ، وأظنه غلطا.

وقال المطري عقب ذكر الآبار التي اقتصر عليها ابن النجار : إنها ست ، والسابعة لا تعرف اليوم ، إلا ما يسمع من قول العامة إنها بئر جمل ، ولم تعلم أين هي ، ولا من ذكرها غير ما ورد في حديث البخاري ، وذكر ما قدمناه.

ثم قال : ولم يذكر بئر جمل في السبع المشهورة ، وكأنه لم يقف على ذكر ابن زبالة لها في الآبار وروايته لما تقدم.

بيرحاء : ـ روينا في صحيح البخاري عن أنس قال : كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا من نخل ، وكان أحب أمواله إليه ببرحاء ، وكانت مستقبلة المسجد ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب ، قال أنس : فلما نزلت هذه الآية (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران : ٩٢] قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، إن الله عزوجل يقول : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) وإن أحبّ أموالي إليّ بيرحاء ، وإنها صدقة لله أرجو برّها وذخرها عند الله ، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بخ ، ذلك مال رايح ، وقد سمعت ما قلت ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين» قال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله فقسّمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه ، وفي رواية له «فجعلها لأبيّ وحسان» وكانا أقرب إليه منّي ، وفي رواية له أيضا عقب قوله «وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء» قال : وكانت حديقة ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدخلها ، ويستظل فيها ، ويشرب من مائها ، قال : فهي إلى الله وإلى رسوله أرجو بره وذخره ، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بخ يا أبا طلحة ذلك مال رايح ، قد قبلناه منك ، ورددناه عليك ، فاجعله في الأقربين» فتصدّق به أبو طلحة على ذوي قربى رحمه ، قال : وكان منهم أبيّ وحسان ، قال : فباع حسان حصته منه من معاوية ، فقيل له : تبيع صدقة أبي طلحة؟ فقال : ألا أبيع صاعا من تمر بصاع من دراهم؟ وكانت تلك الحديقة في موضع قصر بني جديلة الذي بناه معاوية.

قال الحافظ ابن حجر : وزاد ابن عبد البر في روايته : وكانت دار أبي جعفر والدار التي تليها إلى قصر بني جديلة حائطا لأبي طلحة يقال له بيرحاء ، قال : ومراده بدار أبي جعفر الدار التي صارت إليه وعرفت به ، وهو أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي. وقصر بني

١٣٢

جديلة هي حصّة حسان ، بنى فيها معاوية بن أبي سفيان هذا القصر ، وأغرب الكرماني فزعم أن معاوية الذي بنى القصر المذكور هو معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار أحد أجداد أبي طلحة.

قلت : منشأ وهمه إضافة القصر إلى بني جديلة ، وجديلة لقب معاوية المذكور وهو مردود ، بل إضافته إليهم لكونه بمنازلهم.

قال ابن شبة : وأما قصر بني جديلة فإن معاوية بن أبي سفيان بناه ليكون حصنا ، وله بابان : باب شارع على خط بني جديلة ، وباب في الزاوية الشرقية اليمانية عند دار محمد بن طلحة التّيمي ، وهو اليوم لعبد الله بن مالك الخزاعي قطيعة ، وكان الذي ولي بناءه لمعاوية الطفيل بن أبي كعب الأنصاري ، وفي وسطه بيرحاء.

ثم روى عقبه عن العطاف بن خالد قال : كان حسان يجلس في أجمة فارع ، ويجلس معه أصحاب له ، ويضع لهم بساطا يجلسون عليه ، فقال يوما وهو يرى كثرة من يأتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العرب يسلمون :

أرى الجلابيب قد عزّوا وقد كثروا

وابن العريفة أمسى بيضة البلد

فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : من لي من أصحاب البساط؟ فقال صفوان بن المعطل : أنا لك يا رسول الله منهم ، فخرج إليهم واخترط سيفه ، فلما رأوه مقبلا عرفوا في وجهه الشر ، ففرّوا وتبدّدوا ، وأدرك حسان داخلا بيته ، فضربه ، فعلق ثنّته ، فبلغني أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عوّضه وأعطاه حائطا ، فباعه من معاوية بن أبي سفيان بعد ذلك بمال كثير ، فبناه معاوية بن أبي سفيان قصرا.

وروى أيضا في خبر الإفك عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التّيمي قصة ضرب صفوان لحسان ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أحسن يا حسان في الذي أصابك ، قال : هي لك يا رسول الله ، فأعطاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عوضا منها بيرحاء ، وهي قصر بني جديلة اليوم بالمدينة ، كانت مالا لأبي طلحة بن سهل تصدّق بها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأعطاها حسان في ضربته شيرين أمة قبطية.

وروى ابن زبالة عن أبي بكر بن حزم أن أبا طلحة تصدّق بمال له كان موضعه قصر بني جديلة ، فدفعه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فردّه على أقاربه أبيّ بن كعب وحسان بن ثابت وثبيط بن جابر وشداد بن أوس أو أبيه أوس بن ثابت يعني أخا حسّان بن ثابت ، فتقاوموه ، فصار لحسان بن ثابت ، فباعه من معاوية بن أبي سفيان بمائة ألف درهم ، قال : وكان معاوية قد بنى قصر خل ليكون حصنا لما كان يتحدّث أنه نصيب بني أمية ، وذكر ما سيأتي في قصر خل ، ثم قال : فلما اشترى بيرحاء بنى قصر بني جديلة في موضعها للذي كان يخاف من ذلك.

١٣٣

وقال الحافظ ابن حجر : وبيع حسان لحصته من معاوية دليل على أن أبا طلحة ملّكهم الحديقة المذكورة ، ولم يقفها عليهم ، ويحتمل أنه وقفها وشرط أن من احتاج إلى بيع حصته جاز له كما قال بجوازه علي وغيره.

قلت : وقد اشترط علي في صدقته كما حكاه ابن شبة عن نسخة كتاب الصدقة

قال ابن النجار : وبيرحاء اليوم في وسط حديقة صغيرة جدّا ، فيها نخيلات ويزرع حولها ، وعندها بيت مبني على علو من الأرض ، وهي قريبة من سور المدينة ، وهي لبعض أهلها ، وماؤها عذب حلو.

وقال المطري : وهي شمالي سور المدينة بينهما الطريق ، وتعرف الآن بالنورية اشتراها بعض النساء النوريين ووقفها على الفقراء والمساكين فنسبت إليها ، قال ابن النجار : وذرعتها فكان طولها عشرين ذراعا ، منها أحد عشر ذراعا ماء ، والباقي بنيان ، وعرضها ثلاثة أذرع وشبر.

قلت : وهي اليوم على هذا النعت ، وفي قبلتها مسجد ليس من بناء الأقدمين لم يذكره ابن النجار ولا المطري ، وكأنه لما حدث بعدهما. وذكره المجد فقال : وفي بيرحاء بير قريبة الرشاء ضيقة القنا طيبة الماء ، وأمامها إلى القبلة مسجد صغير في وسط الحديقة.

قلت : وقوله في حديث الصحيح «وكانت مستقبلة المسجد» معناه أن المسجد في جهة قبلتها ، فلا ينافي بعدها عنه على هذه المسافة الموجودة اليوم ، والظاهر أن بعض أرضها كان داخل سور المدينة ؛ لما تقدم من قسمتها وابتناء القصر في بعضها ، ولم أر للفقراء أثرا هناك.

وقد تقدم أن حش أبي طلحة الذي في شامي المسجد منسوب إلى أبي طلحة صاحبها ، فربما كانت أمواله ممتدة إلى هناك. وأما دار محمد بن طلحة التيمي التي ذكر ابن شبة أنه أحد باني القصر المبني عليها عنده فيظهر أنها غير دار إبراهيم بن محمد بن طلحة التي هي من دار جده طلحة المتقدم ذكرها في الدور المطيفة بالمسجد ، لنسبتها لإبراهيم بن محمد ، ونسبة هذه لأبيه ؛ فلا يقدح ذلك في كون بيرحاء هي المعروفة اليوم ، والله أعلم.

ضبط بيرحاء

تنبيه : في ضبط بيرحاء ، وقد أفرد له بعضهم مصنفا ذكر المجد ملخصه ، وقد اختلف الناس في ضبطه ، قال صاحب النهاية : بيرحاء بفتح الباء وكسرها ، وبفتح الراء وضمها ، وبالمد فيهما ، وبفتحهما والقصر ، قال الزمخشري : بيرحاء اسم أرض كانت لأبي طلحة ، وكأنها فيعلى من البراح ، وهي الأرض المنكشفة الظاهرة ، وقال مرة : رأيت محدّثي مكة يقولون بيرحاء على الإضافة ، وحاء : من اسم القبائل ، وقيل : اسم رجل ، وعلى هذا يكون منونا ، قال ياقوت : بيرحا بوزن خيزلى ، وقيل لي بيرحاء مضاف إليه ممدود ، قال : ورواية

١٣٤

المغاربة قاطبة الإضافة ، وإعراب الراء بالرفع والجر والنصب ، وحاء على لفظ الحاء من حروف المعجم.

وقال أبو عبيد البكري : حاء ـ على وزن حرف الهجاء ـ بالمدينة ، مستقبلة المسجد ، إليها ينسب بيرحاء ، فالاسم مركب.

قال الحافظ ابن حجر : اختلف في حاء هل هو رجل أو امرأة أو مكان أضيف إليه البير ، أو هي كلمة زجر للإبل ، وكانت الإبل ترعى هناك وتزجر بهذه اللفظة فأضيفت البير إلى اللفظة ، قال الباجي : أنكر أبو بكر الأصم الإعراب في الراء ، وقال : إنما هو بفتح الراء على كل حال ، قال : وعليه أدركت أهل العلم بالمشرق.

وقال أبو عبد الله الصوري : إنما هو بفتح الباء والراء في كل حال ، بمعنى أنه كلمة واحدة ، قال عياض : وعلى رواية الأندلسيين ضبطنا هذا الحرف عن أبي جعفر في كتاب مسلم بكسر الباء وفتح الراء ، وبكسر الراء وبفتح الباء والقصر ، ضبطناه في الموطأ عن أبي عنان وغيره ، وبضم الراء وفتحها معا قيدناه عن الأصيلي ، وقد رواه من طريق حماد بن سلمة بريحا ، هكذا ضبطناه عن شيوخنا فيما قيدوه عن البدري وغيره ، ولم أسمع فيه خلافا ، إلا أني وجدت الحميدي ذكر في اختصاره عن حماد بن سلمة بيرحا ، كما قال الصوري ، ورواية الرازي في مسلم في حديث مالك بريحا ، وهو وهم ، وإنما هذا في حديث حماد ، وإنما لمالك بيرحا كما قيد الجميع على اختلافهم. وذكر أبو داود في مصنفه هذا الحديث بخلاف ما تقدم فقال : جعلت أرضي باريحا ، وهذا كله يدل على أنها ليست ببئر ، انتهى كلام عياض.

قال الحافظ ابن حجر : قول أبي داود باريحا بإشباع الموحدة ، ووهم من ضبطه بكسر الموحدة وفتح الهمزة فإن أريحاء من الأرض المقدسة ، ويحتمل إن كان محفوظا أن تكون سميت باسمها.

وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ذلك ما رابح ، أو قال رايح» فالأول بالموحدة أي ذو ربح ، والثاني بالمثناة التحتيّة ، أي يروح نفعه لقربه ، أي يصل إليك في الرواح ، ولا يعزب ، قال شاعر :

سأطلب مالا بالمدينة ؛ إنني

إلى عازب الأموال قلت فوضله

بئر حلوة : ـ بالحاء المهملة ـ لم يذكرها والتي بعدها ابن النجار ومن بعده ، وذكرها ابن زبالة ، فروي عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر عن أبيه قال : نحر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جزورا ، فبعث إلى بعض نسائه منها بالكتف ، فتكلمت في ذلك بكلام ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنتنّ أهون على الله من ذلك» وهجرهن ، وكان يقيل تحت أراكة على حلوة بئر كانت في الزقاق الذي فيه دار آمنة بنت سعد ، وبه سمي الزقاق زقاق حلوة ، ويبيت في مشربة

١٣٥

له ، فلما مضت تسع وعشرون ليلة دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عائشة ، فقالت : يا رسول الله ، إنك آليت شهرا ، قال : إن الشهر تسع وعشرون.

قلت : وهذه البئر غير معروفة اليوم بعينها ، وتقدم بيان جملتها في الدور التي في ميسرة البلاط عند ذكر دار حويطب بن عبد العزى.

بئر ذرع : ـ بالذال المعجمة ـ وهي بئر بني خطمة ، وروى ابن زبالة حديث «أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني خطمة فصلى في بيت العجوز ، ثم خرج منه فصلى في مسجد بني خطمة ، ثم مضى إلى بئرهم ذرع فجلس في قفّها ، فتوضأ وبصق فيها».

وروى ابن شبة عن الحارث بن الفضل أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «توضّأ من ذرع بئر بني خطمة التي بفناء مسجدهم» ، وفي رواية : «وصلى في مسجدهم».

وفي رواية عن رجل من الأنصار أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بصق في ذرع بئر بني خطمة».

قلت : وهذه البئر غير معروفة اليوم ، ويؤخذ بيان جهتها مما تقدم في مسجد بني خطمة.

بئر رومة : ـ بضم الراء ، وسكون الواو ، وفتح الميم ، بعدها هاء ، وقيل رؤمة بعد الراء همزة ساكنة ـ روى ابن زبالة حديث : «نعم القليب قليب المزني فاشترها يا عثمان ، فتصدق بها» وحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نعم الحفيرة حفيرة المزني» يعني رومة ، فلما سمع ذلك عثمان بن عفان ابتاع نصفها بمائة بكرة ، وتصدّق بها ، فجعل الناس يسقون منها ، فلما رأى صاحبها أن قد امتنع منه ما كان يصيب عليها باع من عثمان النصف الثاني بشيء يسير فتصدق بها كلها.

وروى ابن شبة عن عدي بن ثابت قال : أصاب رجل من مزينة بئرا يقال لها رومة ، فذكرت لعثمان بن عفان وهو خليفة ، فابتاعها بثلاثين ألف درهم من مال المسلمين ، وتصدّق بها عليهم.

قلت : في سنده متروك ، ولذا قال الزبير بن بكار بعد روايته في عتيقة : وليس هذا بشيء ، وثبت عندنا أن عثمان اشتراها بماله وتصدق بها على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، انتهى.

وقال ابن أبي الزناد : أخبرني أبي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نعم الصدقة صدقة عثمان» يريد رومة.

وقال محمد بن يحيى : أخبرني غير واحد من أهل البلد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نعم القليب قليب المزني».

وروى ابن شبة أيضا عن أبي قلابة قال : لما كانوا بباب عثمان وأرادوا قتلة أشرف عليهم ، فذكر أشياء ، ثم ناشدهم الله فأعظم النّشدة : هل تعلمون أن رومة كان لفلان

١٣٦

اليهودي لا يسقى منها أحدا قطرة إلا بثمن ، فاشتريتها بمالي بأربعين ألفا ، فجعلت شربي فيها وشرب رجل من المسلمين سواء ، ما استأثرتها عليهم؟ قالوا : قد علمنا ذلك.

وعن الزهري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من يشتري رومة بشرب رواء في الجنة؟ فاشتراها عثمان رضي الله تعالى عنه من ماله فتصدق بها.

وعن عبد الرحمن بن حبيب السلمي قال : قال عثمان رضي الله تعالى عنه : أنشدكم الله ، أتعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من اشترى بئر رومة فله مثلها من الجنة ، وكان الناس لا يشربون منها إلا بثمن ، فاشتريتها بمالي فجعلتها للفقير والغني وابن السبيل؟ فقال الناس : نعم.

وعن أسامة الليثي قال : لما حصر عثمان رضي الله تعالى عنه أرسل إلى عمّار بن ياسر يطلب أن يدخل عليه روايا ماء ، فطلب له ذلك عمار من طلحة ، فأبى عليه ، فقال عمار : سبحان الله اشترى عثمان هذه البئر ـ يعني رومة ـ بكذا وكذا ألفا ، فتصدق به على الناس ، وهؤلاء يمنعونه أن يشرب منها

وروى النسائي والترمذي وحسّنه عن عثمان أنه قال : أنشدكم بالله والإسلام هل تعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة ، فقال : من يشري بئر رومة يجعل دلوه مع دلاء المسلمين ـ الحديث.

وفي صحيح البخاري عن عبد الرحمن السلمي أن عثمان حيث حوصر أشرف عليهم وقال : أنشدكم بالله ، ولا أنشد إلا أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال من حفر بئر رومة فله الجنة؟ فحفرتها ـ الحديث ، وفيه : وصدّقوه بما قال.

وللنسائي من طريق الأحنف بن قيس أن الذين صدقوه بذلك علي بن أبي طالب وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص. ورواه ابن شبة من حديث الأحنف إلا أنه قال : أنشدكم الله الذي لا إله إلا هو ، هل تعلمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من يبتاع بئر رومة غفر الله له ، فابتعتها بكذا وكذا ، فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : إن ابتعت بئر رومة ، فقال : اجعلها سقاية للمسلمين ، وآخرها لك؟ قالوا : نعم.

وقال ابن بطال في الكلام على رواية البخاري قوله : «فحفرها عثمان» وهم في بعض الروايات ، والمعروف أن عثمان اشتراها ، لا أنه حفرها ، قال الحافظ ابن حجر عقبه : المشهور في الروايات كما قال ، لكن لا يتعين الوهم ؛ فقد روى البغوي في الصحابة من طريق بشر بن بشير الأسلمي عن أبيه قال : لما قدم المهاجرون المدينة استنكروا الماء ، وكانت لرجل من بني غفار عين يقال لها رومة ، وكان يبيع منها القربة بمد ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بعينها بعين في الجنة ، فقال يا رسول الله ليس لي وعيالي غيرها ، ولا أستطيع ذلك ،

١٣٧

فبلغ ذلك عثمان ، فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم ، ثم أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أتجعل لي مثل الذي جعلت له عينا في الجنة إن اشتريتها؟ قال : نعم ، قال : قد اشتريتها وجعلتها للمسلمين ، قال الحافظ ابن حجر : وإذا كانت أولا عينا فلا مانع أن يحفر فيها عثمان بئرا ، ولعل العين كانت تجري إلى بئر فوسّعها أو طولها فنسب حفرها إليه ، انتهى.

قلت : الإشكال ليس في ذكر وقوع حفر عثمان لها فقط ، بل في كون الترغيب فيها بلفظ «من حفر» إلى آخره ؛ فطريق الجمع أن يكون صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال أولا : «من اشترى بئر رومة» فاشتراها عثمان ، ثم احتاجت إلى الحفر فقال : «من حفر بئر رومة» فحفرها ، وتسميتها في هذه الرواية عينا غريب جدّا ، ولعله لاشتمال البئر على ما ينبع فيها مقابلة لها بعين في الجنة.

وقال المجد : قال أبو عبد الله بن منده : رومة الغفاري صاحب بئر رومة ، وروى حديثه ، وساق السند إلى بشر بن بشير الأسلمي عن أبيه قال : لما قدم المهاجرون ، وساق الحديث المتقدم ، ثم قال المجد : كذا قال رومة الغفاري ، ثم قال : عين يقال لها رومة.

وقال أبو بكر الحازمي أيضا : هذه البئر تنسب إلى رومة الغفاري ، ولم يسمها عينا ، والجمع بين هذا وبين قوله في الحديث المتقدم «نعم الحفير حفيرة المزني» يعني رومة أن الذي احتفرها كان من مزينة ثم ملكها رومة الغفاري ، وذكر ابن عبد البر أنها كانت ركية ليهودي يبيع ماءها من المسلمين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من يشتري رومة فيجعلها للمسلمين يضرب بدلوه في دلائهم وله بها شرب في الجنة؟ فأتى عثمان اليهوديّ فساومه بها ، فأبى أن يبيعها كلها ، فاشترى عثمان نصفها باثني عشر ألف درهم ، فجعله للمسلمين ، فقال له عثمان : إن شئت جعلت لنصيبي قربين ، وإن شئت فلي يوم ولك يوم ، فقال : بل لك يوم ولي يوم ، فكان إذا كان يوم عثمان استقى المسلمون ما يكفيهم يومين ، فلما رأى اليهودي ذلك قال : أفسدت علي ركيتي ، فاشتر النصف الآخر ، فاشتراه بثمانية آلاف درهم.

قلت : وهي بئر قديمة جاهلية ؛ لما رواه ابن زبالة عن غير واحد من أهل العلم أن تبّعا اليماني لما قدم المدينة كان منزله بقناة ، واحتفر البئر التي يقال لها بئر الملك ، وبه سميت ، فاستوبأ بئره تلك ، فدخلت عليه امرأة من بني زريق يقال لها فكهة ، فشكا إليها وباء بئره ، فانطلقت فأخذت حمارين أعرابيين ، فاستقت له من بئر رومة ، ثم جاءته به ، فشرب فأعجبه وقال : زيديني من هذا الماء ، فكانت تصير إليه به مقامه ، فلما خرج قال لها : يا فكهة إنه ليس معنا من الصفراء والبيضاء شيء ، ولكن لك ما تركنا من أزوادنا ومتاعنا ، فلما خرج نقلت ما بقي من أزوادهم ومتاعهم ، فيقال : إنها كانت لم تزل هي وولدها أكثر بني زريق مالا حتى جاء الإسلام.

١٣٨

وهذه البئر في أسفل وادي العقيق ، قريبة من مجتمع الأسيال ، في براح واسع من الأرض ، وعندها بناء عال بالحجارة والجص قد تهدم.

قال ابن النجار : قيل : إنه كان دارا لليهودي ، وحولها مزارع وآبار كثيرة ، وهي قبلى الجرف وشمالي مسجد القبلتين بعيدة منه ، قال ابن النجار : وقد انقضت خرزتها وأعلامها ، إلا أنها بئر مليحة جدّا ، مبنية بالحجارة الموجّهة ، قال : وذرعتها فكان طولها ثمانية عشر ذراعا ، منها ذراعان ماء وباقيها مطموم بالرمل الذي تسفيه الرياح فيها ، وعرضها ثمانية أذرع ، وماؤها طاف ، وطعمه حلو ، إلا أن الأجون غلب عليه.

وقال المطري : وقد خرجت ، ونقضت حجارتها ، وانطمّت ، ولم يبق منها اليوم إلا أثرها.

قال الزين المراغي : وقد جددت بعد ذلك ، ورفع بناؤها عن الأرض نحو نصف قامة ، ونزحت فكثر ماؤها ، أحياها كذلك القاضي شهاب الدين أحمد بن محمد بن محمد بن المحب الطبري قاضي مكة المشرفة في حدود الخمسين وسبعمائة ، قال : فتناوله إن شاء الله تعالى عموم حديث «من حفر بئر رومة فله الجنة» انتهى.

ومن الغريب قول عياض في مشارقه : بئر رومة بضم الراء بئران مشهوران بالمدينة ، انتهى ، ولم أقف له على أصل.

بئر السقيا : ـ بضم السين المهملة ، وسكون القاف ، من سقاه الغيث وأسقاه ـ تقدم ذكرها في مسجد السقيا في حديث ابن زبالة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرض جيش بدر بالسقيا ، وصلّى في مسجدها ، ودعا هناك ، الحديث ، وفيه واسم البئر السقيا ، واسم أرضها الفلجان.

وروى ابن شبة عن جابر بن عبد الله قال : قال أبي : يا بني إنا اعترضنا هاهنا بالسقيا ، حين قاتلنا اليهود بحسيكة ، فظفرنا بهم ، ونحن نرجو أن نظفر ، ثم عرضنا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها متوجها إلى بدر ، فإن سلمت ورجعت ابتعتها وإن قتلت فلا تفوتنك ، قال : فخرجت أبتاعها ، فوجدتها لذكوان بن عبد قيس ، ووجدت سعد بن أبي وقّاص قد ابتاعها وسبق إليها ، وكان اسم الأرض الفلجان ، واسم البئر السقيا.

قال ابن شبة : قال محمد بن يحيى : وسألت عبد العزيز بن عمران عن حسيكة ، وذكر ما سيأتي فيها ، ثم قال : قال أبو غسان : وأخبرني عبد العزيز بن عمران عن راشد بن حفص عن أبيه قال : كان اسم أرض السقيا الفلج ، واسم بئرها السقيا ، وكانت لذكوان بن عبد قيس الزرقي ، فابتاعها منه سعد بن أبي وقاص ببعيرين.

وروى أيضا عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كان يستقي له الماء العذب من بئر السقيا» وفي رواية «من بيوت السقيا» ورواه أبو داود بهذا اللفظ ، وسنده جيد ، وصححه الحاكم.

١٣٩

وروى الواقدي من حديث سلمة امرأة أبي رافع قالت : كان أبو أيوب ـ حين نزل عنده النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يستعذب له الماء من بئر مالك بن النضر والد أنس ، ثم كان أنس وهند وحارثة أبناء أسماء يحملون الماء إلى بيوت نسائه من بيوت السقيا ، وكان رباح الأسود عنده صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستقي له من بئر غرس مرة ومن بيوت السقيا مرة.

وتقدم في رابع فصول الباب الثاني ما رواه الترمذي وقال حسن صحيح عن علي بن أبي طالب قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى إذا كنا بحرة السقيا التي كانت لسعد بن أبي وقاص ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ائتوني بوضوء ، فتوضأ فقام ثم قام فاستقبل القبلة ، الحديث.

وتقدم أيضا حديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «صلّى بأرض سعد بأرض الحرة عند بيوت السقيا ـ الحديث».

قلت : وبئر السقيا هذه هي التي ذكر المطري أنها في آخر منزلة النقاء على يسار السالك إلى بئر عليّ بالحرم ، قال : وهي بئر مليحة ، كبيرة ، متنورة في الجبل ، وقد تعطلت وخربت ، وعلى جانبها الشمالي ـ يعني من جهة المغرب ـ بناء مستطيل مجصص.

قلت : والظاهر أنه كان حوضا أو بركة لورود الحجاج ، كانوا ينزلون بها أيام عمارة المدينة ، ولهذا سمي المطري محلها منزلة النقاء ، وما سيأتي عنه في النقاء مصرّح بذلك ، وكان بعض فقراء العجم قد جدّدها وعمرها في سنة ثمان وسبعين وسبعمائة فصارت تعرف ببئر الأعجام ، كما رأيته بخط الزين المراغي.

قلت : وقد تهدمت وتشعّثت بعد ذلك ، فجددها الجناب الخواجكي البدري بدر الدين بن عليبة سنة ست وثمانين وثمانمائة ، تقبل الله منه وأثابه الجنة بمنه وكرمه.

وتقدم في بئر إهاب أن المطري تردّد في أن هذه السقيا لقربها من الطريق أم هي البئر المعروفة اليوم بزمزم ؛ لتواتر التبرك بها ، ثم قال : إن الظاهر أن السقيا هي الأولى.

قلت : وهو الصواب ؛ لزوال التردد بما منّ الله به من الظّفر بمسجد السقيا عندها ، كما تقدم فيه ، والظاهر أنها المرادة بقول الغزالي في آداب الزائر : وليغتسل من بئر الحرة ، انتهى ، وذلك لكونها على جادّة الطريق ، وكانت مجاورة لأول بيوت المدينة أيام عمارتها.

وقال أبو داود عقب روايته لحديث استعذاب الماء من بيوت السقيا : قال قتيبة : السقيا عين بينها وبين المدينة يومان.

قلت : وما ذكره صحيح كما سيأتي في ترجمتها ، إلا أنها ليست المرادة هنا ، وكأنه لم يطلع على أن بالمدينة بئرا تسمى بذلك ، وقد اغترّ به المجد فقال : السقيا قريبة جامعة من عمل الفرع ، ثم أورد حديث أبي داود ، وقول صاحب النهاية : السقيا منزل بين مكة والمدينة ، قيل : على يومين ، ومنه حديث «كان يستعذب له الماء من بيوت السقيا» ثم قال :

١٤٠