وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى - ج ٣

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى - ج ٣

المؤلف:

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي


المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-381-8-0
الصفحات: ٢٤٦

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الباب الخامس

في مصلّى النبي ص في الأعياد ، وغير ذلك من المساجد التي صلّى فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مما علمت عينه أو جهته ، بالمدينة وما حولها ، وما جاء في مقبرتها ومن دفن بها ، والمشاهد المعروفة ، وفضل أحد والشّهداء به. وفيه سبعة فصول :

الفصل الأول

في المصلّى في الأعياد ، وفيه أطراف

الأول : في الأماكن التي صلّى فيها النبي ص العيد.

أول عيد صلاه النبي بالمصلى

قال الواقديّ : أول عيد صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمصلّى سنة اثنتين من مقدمه المدينة من مكة ، وحملت له العنزة وهو يومئذ يصلي إليها في الفضاء ، وكانت العنزة للزبير بن العوام ، أعطاه إياها النّجاشي فوهبها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فكان يخرج بها بين يديه يوم العيد ، وهي اليوم بالمدينة عند المؤذنين ، يعني يخرجون بها بين يدي الأئمة في زمانهم.

وروى ابن شبة عن جابر بن عبد الله قال : لما رجعنا من بني قينقاع ضحينا أول أضحى في ذي الحجة صبيحة عشر ، فكان أول أضحى رآه المسلمون ، وذبح أهل اليسر من بني سلمة ، فعددت في بني سلمة سبع عشرة أضحية.

مكان مصلى العيد

وروى ابن زبالة وابن شبة عن أبي هريرة قال : أول فطر وأضحى صلى فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للناس بالمدينة بفناء دار حكيم بن العداء عند أصحاب المحامل.

وروى الثاني عن ابن أبي فروة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى في ذلك المكان.

وروى الأول عنه ما يقتضيه ؛ فإنه روى عن إبراهيم بن أبي أمية قال : أدركت مسجدّا في زمان عثمان عند حرف زاوية أبي يسار عند أصحاب المحامل ، وليس ثم مسجد غيره ، وذلك المسجد هو الذي صلّى فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أضحى ، وضحّى هناك هو وأصحابه حتى احتملت ضحاياهم من عنده.

قال : وأخبرني من رأى الأنصار يحملون ضحاياهم من هناك ، ثم روى عن ابن أبي

٣

فروة قال : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى في ذلك المسجد وهو خلف المجزرة التي بفناء دار العداء بن خالد ، وبقال لها : دار أبي يسار.

قلت : فالروايات المذكورة متّفقة على الصلاة بالمحلّ المذكور ، ودار حكيم بن العداء هي دار أبيه العداء بن خالد بن هوذة بن بكر بن هوازن ؛ فلا مخالفة في ذلك ، ولم أعلم محل داره ، غير أن الظاهر من قوله «عند أصحاب المحامل» أنه موضع بأعلى السوق مما يلي المصلى ، وفي أول الروايات المذكورة بيان أن الصلاة فيه كانت في أول الأمر.

تعدد موضع صلاة العيد

وروى ابن زبالة أيضا ما يخالف بالنسبة إلى الأولية عن إبراهيم بن أبي أمية عن شيخ من أهل السنّ والثقة قال : أول عيد صلّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى في حارة الدوس عند بيت ابن أبي الجنوب ، ثم صلى العيد الثاني بفناء دار حكيم عند دار حفرة داخلا في البيت الذي بفنائه المسجد ، ثم صلى العيد الثالث عند دار عبد الله بن درة المزني داخلا بين الدارين دار معاوية ودار كثير بن الصّلت ، ثم صلى العيد الرابع عند أحجار كانت عند الحناطين بالمصلى ، ثم صلى داخلا في منزل محمد بن عبد الله بن كثير بن الصلت ، ثم صلى حيث يصلي الناس اليوم.

وروى ابن شبة من طريق إبراهيم بن أبي أمية مولى بني عامر بن لؤي قال : سمعت ابن باكية يقول : صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العيد عند دار الشّفاء ، ثم صلى في حارة الدوس ، ثم صلى في المصلى ؛ فثبت يصلّى فيه حتى توفاه الله تعالى.

وروى أيضا عن ابن شهاب قال : صلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم العيد في موضع آل درة ، وهم حي من مزينة ، ثم صلى دون ذلك في مكان أطم بني زريق عند أذنه اليسرى.

قلت : قوله «ثم صلى في المصلى فثبت يصلي فيه حتى توفاه الله تعالى» هو بمعنى قوله في الرواية التي قبلها «ثم صلى حيث يصلي الناس اليوم» يعني بالمسجد المعروف بمسجد المصلى.

بين مصلى العيد وباب السلام ألف ذراع

وقد نقل ابن شبة عن شيخه أبي غسّان وهو الكناني من أصحاب مالك أنه قال : ذرع ما بين مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي عنده دار مروان بن الحكم وبين المسجد الذي يصلي فيه العيد بالمصلى ألف ذراع.

قلت : وقد اختبرته فكان كذلك ، وهذا المسجد هو المراد بقوله في حديث ابن عباس في الصحيح «إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى في يوم عيد إلى العلم الذي عند دار كثير بن الصلت الحديث» وكأنهم كانوا قبل اتخاذ المسجد بذلك المحل جعلوا الصلاة الشريف شيئا يعرف به ، وهو المراد بالعلم بفتحتين.

وقال ابن سعد : كانت دار كثير بن الصلت قبلة المصلي في العيد ، وهي تطل على

٤

بطحان الوادي في وسط المدينة ، انتهى. وليس المراد أنها متصلة بوادي بطحان ، بل بينهما بعد. ودار كثير هذه كانت قبله للوليد بن عقبة ، ثم اشتهرت بكثير بن الصلت ، وهو من التابعين ، ولد في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوقع التعريف بداره ليقرب إلى ذهن السامع فهم ذلك ، وليس كثير بن الصلت هو الذي اختطها ، خلافا لما وقع في كلام الحافظ ابن حجر حيث قال : وإنما بنى كثير بن الصلت داره بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمدة ، لكنها لما كانت شهيرة في تلك البقعة وصف المصلّى بمجاورتها ، انتهى. ومأخذنا فيما قدمناه قول ابن شبة في دور بني عبد شمس ونوفل : واتخذ الوليد بن عقبة بن أبي معيط الدار التي في مصلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي صلى إليها العيد ، وهي يصلي إليها اليوم لآل كثير بن الصلت الكندي ، فجلد عثمان الوليد في الشراب ، فحلف لا يساكنه إلا وبينهما بطن واد ، فعارض كثير بن الصلت بداره هذه إلى دار كثير ببطحان التي يقال لها دار الوليد بن عقبة في شفير الوادي ، أي من العدوة الغربية كما بينه في موضع آخر.

تحديد المواضع التي صلى فيها العيد

وأما الموضع المذكور لصلاة العيد أولا عند أصحاب المحامل ـ وهم الذين يبيعون المحامل ويصنعونها ـ فيظهر أنه المسجد المعروف اليوم بمسجد علي رضي الله تعالى عنه الآتي ذكره.

وأما الموضع المذكور في الرواية الأخرى عند دار بن أبي الجنوب فلم أعلم محله ، غير أن دار ابن أبي الجنوب كانت بالحرّة الغربية التي غربي وادي بطحان كما يؤخذ مما سيأتي في الخندق ومسجد الشجرة والمغرس.

وأما الموضع المذكور في قوله «عند دار عبد الله بن درة المزني إلى آخره» فقد تقدم أن منازل مزينة كانت في غربي المصلى وفي قبلتها. وتقدم أن دار كثير بن الصّلت كانت قبلة المصلى ، ودار معاوية رضي الله تعالى عنه كانت في مقابلتها ، وسيأتي في بيان طريقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قباء أنه كان يمر على المصلى ثم يسلك في موضع الزقاق بين الدارين المذكورتين ؛ فيكون ذلك المحل في قبلة المصلى اليوم : إما من المغرب ، وإما من المشرق ، والأول هو الأقرب.

وأما بقية المواضع المذكورة فلم أعرف جهاتها ، غير أن الذي يظهر أنها حول المصلى ، وبعضها بسوق المدينة ، لذكر الحناطين فيها ، وسيأتي في مشهد مالك بن سنان أنه بطرف الحناطين ، والظاهر أن من هذه المواضع المسجد المعروف اليوم بمسجد أبي بكر رضي الله تعالى عنه بالحديقة المعروفة بالعريضية ، كما سيأتي عن المطري.

وأما ما رواه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أضحى إلى البقيع فصلى ركعتين ثم أقبل

٥

علينا بوجهه وخطب وقال : إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ، ثم نرجع فننحر ـ الحديث ؛ فظاهره أن المراد بقيع الغرقد ، لكني أستبعده ؛ لأن المتقدمين من مؤرخي المدينة لم يذكروا ذلك مع اشتهار هذا الحديث ، وكذلك المطري ومن تبعه. وأغرب الحافظ ابن حجر فقال في الكلام على ترجمة البخاري للرجم بالمصلّى : المراد المكان الذي كان يصلى عنده العيد والجنائز ، وهو من ناحية بقيع الغرقد ، اه.

ومأخذه في ذلك ظاهر هذا الحديث ، مع ما ورد من رواية أخرى من الرجم عند موضع الجنائز ، وقد تقدم أن موضع الجنائز في شرقي المسجد عند باب جبريل ، وليس هو من البقيع ، وأما المصلي حيث أطلقت فإنما يراد بها الموضع المعروف الذي قدمناه في غربي المدينة ، وبقيع الغرقد في شرقيها ، وقد ذكره الحافظ ابن حجر في موضع آخر على الصواب كما سيأتي عنه في الطرف الثاني ، وعلى تقدير أن يكون المراد من حديث البراء المتقدم بقيع الغرقد فهو من المواضع التي صلى فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض السنين ، وليس هو المراد إذا أطلق المصلى جزما. والذي يترجح عندي أن المراد بالبقيع في حديث البراء سوق المدينة ؛ لما قدمناه فيه من أنه كان يسمى بقيع الجبل ، وهو أحد الأماكن المتقدم ذكرها لصلاة العيد ، وكذلك هو المراد من حديث ابن عمر «أني أبيع الإبل بالبقيع بالدراهم وآخذ مكانها الدنانير» كما قدمناه.

وقال الجمال المطري عقب نقله لما قدمناه عن ابن زبالة : ولا يعرف من المساجد التي ذكر لصلاة العيد إلا هذا المسجد الذي يصلي فيه اليوم ، ومسجد شمالية وسط الحديقة المعروفة بالعريضي المتصلة بقبة عين الأزرق ، ويعرف اليوم بمسجد أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ، ولعله صلى فيه في خلافته ، ومسجد كبير شمالي الحديقة متصل بها يسمى مسجد علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، ولم يرد أنه رضي‌الله‌عنه صلى بالمدينة عيدا في خلافته ؛ فتكون هذه المساجد الموجودة اليوم من الأماكن التي صلى فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة العيد سنة بعد سنة وعيدا بعد عيد ؛ إذ لا يختص أبو بكر وعلي رضى الله عنهما بمسجدين لأنفسهما ويتركان المسجد الذي صلى فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، انتهى.

قلت : ما ذكره من أنه لم يرد أن عليا رضي الله تعالى عنه صلى بالمدينة عيدا في خلافته ، أي فلا تظهر نسبة المسجد المذكور إليه ، وكأنه لم يقف على ما رواه ابن شبة عن سعد بن عبيد مولى ابن أزهر قال : صليت العيد مع علي رضي‌الله‌عنه وعثمان رضي‌الله‌عنه محصور ؛ فصلى ثم خطب بعد الصلاة.

وروى أيضا عن الزهري قال : صلى سهل بن حنيف وعثمان محصور الجمعة ، وصلى يوم العيد علي بن أبي طالب ؛ فالظاهر أنه صلى حينئذ بذلك المكان لكونه أحد المصليات التي صلى فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا أنه ابتكر الصلاة فيه ، والله أعلم.

٦

مصلى العيد بالصحراء

ولم يكن المصلي في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسجدّا ، بل كانت صحراء لا بناء بها ، ونهى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن البناء بها كما سيأتي ، ولهذا وقع الرجم بها. وذهب بعض العلماء إلى أن المصلى يثبت لها حكم المسجد ، وإن لم يوقف ، وهو مردود ؛ فإن من شاهد مصلا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما ذكر من امتدادها إلى سوق المدينة كما قدمناه فيه وما بها من الدور والشوارع علم عدم صحة ذلك ، وحمل الرجم المذكور في الحديث على أنه وقع بالقرب منها خلاف مقتضى اللفظ والمسجد المتخذ بها اليوم إنما هو في بعضها ، وهو المحل الذي قام به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذلك المسجدان الآخران ، والظاهر أن بناء الثلاثة كان في زمن عمر بن عبد العزيز.

وقد قدمنا ذكر الأول منها ، وهو المعروف اليوم بمسجد المصلى فيما نقله ابن شبة عن أبي غسان من الذّرع ؛ لما بينه وبين المسجد النبوي.

والثاني المنسوب إلى أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه بالحديقة المذكورة عن يساره مخزن لدواب الحديقة المذكورة ، ومدخل الدواب من باب المسجد الذي في شاميه ، فيمتهنه أهل الحديقة بمرور البهائم منه ، وربما حبسوها فيه ، فدخلته مرة فوجدته كالمزبلة ، وهو في غاية الامتهان قد امتلأ بروث الدواب وبولها ، ولم أجد موضعا للصلاة فيه فتكلمات مع شيخ الخدام الأمير إينال الناظر على الحديقة المذكورة في أن يغير باب المخزن المذكور ، ويجعله من خارج المسجد ، فأمر فقيهه الفقيه الشهاب أحمد النوسي بالنظر في ذلك ، فجعل على الموضع المسقف من المسجد المذكور الذي فيه المحراب جدارا في شاميه يمنع من وصول البهائم إليه ، وكان في جدار المسجد الغربي مما يلي القبلة هيئة بابا مشبك ، فجعله باب لذلك المحل ، وبقيت رحبة المسجد التي في شاميه دهليزا للدواب ، فكلمته في ذلك فذكر أنه قيل له : إن المسجد هو ذلك المسقف فقط ، وجدران المسجد شاهدة بخلاف ذلك ، فليتنبه له.

والمسجد الثالث المنسوب لعلي رضي الله تعالى عنه كان قد تهدّم ودثر حتى صار بعض الحجاج يدفن فيه من يموت في زمن الموسم ، فإنه إلى جانب منزلة الحجاج ، فجدد بناءه الأمير زين الدين ضغيم المنصوري أمير المدينة الشريفة سنة إحدى وثمانين وثمانمائة.

وأما المسجد الأول المعروف اليوم بمسجد المصلى فلم يزل مصونا ، وكان بابه لا يزال مفتوحا فربما يقع له انتهاك ، فأمر شيخ الخدام بغلقه ، وعمارته الموجودة اليوم لا أدري لمن تنسب ، إلا أني رأيت على بابه حجرا قد انمحى بعض الكتابة منه ، وفيه «أمر بتجديد هذا المسجد المنسوب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد خرابه وذهاب عز الدين شيخ الحرم الشريف النبوي ، وذلك في أيام السلطان الملك الناصر حسن بن السلطان محمد بن قلاون الصالحي» وما بعد ذلك قد

٧

انمحى. وابتداء ولاية السلطان حسن المذكور في سنة ثمان وأربعين ، واستمر إلى أثناء سنة اثنتين وستين وستين وسبعمائة ، وهذا المسجد بابه في حائطه الشامي قريبا من محاذاة محرابه ، ومن خارج بابه على يمين الداخل منه درج يصعد إلى موضع لطيف على ميمنة الباب المذكور ، وقد أصلح ما تشعّث من هذا المسجد الأمير بردبك المعمار سنة إحدى وستين وثمانمائة في دولة الأشرف إينال ، وأحدث لذلك الموضع المتقدم وصفه في ميمنة الباب المذكور درجة أخرى يتوصل بها إليه من داخل المسجد ، وذلك الموضع هو الذي يقوم عليه الخطيب في يوم العيد ، وأحدث الأمير بردبك أيضا أمام ذلك الموضع من خارج المسجد مسقفا ليجلس عليه المبلغون أمام الخطيب ، وفي يوم العيد يجتمع أهل السنة من أهل المدينة وأعيانهم بالمصلى المذكور ، بحيث لا يبقى خارجه من أهل السنة إلا اليسير مع شيخ الخدام وجماعته ، لأن العادة جرت بأن يكون صفهم أمام الخطيب في الجمعة والعيد ؛ لما ذكره البدر ابن فرحون من أن أول قاض ولي لأهل السنة القاضي الإمام العلامة السراج عمر بن أحمد الخضر سنة اثنتين وثمانين وستمائة في دولة المنصور قلاوون الصالحي ، وكان القضاة قبل ذلك من الشيعة آل سنان ، وكانت الخطابة بأيديهم ، فانتزع السلطان المشار إليه ذلك منهم للسراج ، فكانوا يؤذونه أذى شديدا.

قال ابن فرحون : أدركت من أذاهم له أنهم كانوا يرجمونه بالحصباء وهو يخطب على المنبر ، فلما كثر ذلك منهم تقدم الخدام وجلسوا بين أيديهم أمام المنبر ، فذلك هو السبب في إقامة صفّ الخدام قبالة الخطيب ، وخلفهم غلمانهم وعبيدهم. اه.

وقد استمر ذلك إلى اليوم ، فإذا صلى الإمام بأهل المسجد المذكور صلاة العيد انصرف ، وخرج من بابه المذكور مخترقا للصفوف متخطّيا للرقاب إلى أن يصعد في أعلى تلك الدرج ، فيستدبر القبلة ويستقبل جهة الشام على عادة الخطباء ، ثم يخطب هناك ، فيصير جميع من في المسجد خلف ظهره ، ثم إن أهل المسجد يستدبرون القبلة ويستقبلون ظهره وغالب من يصلي خارج المسجد لا يشاهده أيضا لحيلولة المسقف المحدث أمام ذلك الموضع ، وهذا كله مخالف للسنة ، ولما ثبت من فعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا المحل من قيامه في مصلاه مستقبلا للناس وهم على صفوفهم كما سنوضحه ، ومن زعم أن هذا الوضع في محل قيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه صلى بذلك المحل على هذه الصفة الموجودة اليوم فقد أخطأ خطأ عظيما وأساء الأدب ، فكيف يظن به صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه ينصرف عن أصحابه حتى يستدبرهم أو الكثير منهم ثم يخطب لهم؟ وتترك الصحابة رضي الله تعالى عنهم طلعته البهية ويرضون باستدباره صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع قيامه لمخاطبتهم ، وهم أعظم الناس أدبا وحرصا على رؤيته الشريفة ، وكيف يتفق علماء الإسلام على أن السنة خلاف ذلك كما سيأتي؟ فالمتعين تغيير هذه الهيئة ، والله أعلم.

٨

الطرف الثاني : فيما جاء من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام بالمصلى على غير منبر مستقبلا للناس.

كيف صلى الرسول العيد؟

قال البخاري في صحيحه ، باب الخروج إلى المصلى بغير منبر ، ثم روى فيه حديث أبي سعيد الخدري قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى ، فأول شيء يبدأ به الصلاة ، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم ، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم ، فإن كان يريد أن يقطع بعثا قطعه ، أو يأمر بشيء أمر به ، ثم ينصرف ، فقال أبو سعيد : فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر ، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت ، وإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي ، فجبذته بثوبه ، فجبذني ، فارتفع فخطب قبل الصلاة فقلت له : غيرتم والله ، فقال : أبا سعيد قد ذهب ما تعلم ، فقلت : ما أعلم والله خير مما لا أعلم ، فقال : إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة ، فجعلتها قبل الصلاة ، هذا لفظ رواية البخاري.

قال الحافظ ابن حجر : المراد بقوله إلى المصلى المصلى المعروف بالمدينة بينه وبين باب المسجد ألف ذراع ، قاله عمر بن شبة عن أبي غسان صاحب مالك ، وفي رواية ابن حبان من طريق داود : فينصرف إلى الناس قائما في مصلاه.

قلت : وهذا معنى قوله في رواية البخاري «ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس» يعني أنه يستدبر القبلة ويقف في مصلاه ، وقد ترجم البخاري لاستقبال الإمام الناس في خطبة العيد ، وأورد فيه طرفا من حديث أبي سعيد المذكور ، وقد صرح الأئمة بأن ذلك هو السنة.

قال الزين ابن المنير : وإنما أعاد البخاري هذه الترجمة مع أنه قدم نظيرها في الجمعة لدفع احتمال توهم أن العيد يخالف الجمعة في ذلك ، وأن استقبال الإمام في الجمعة يكون ضروريا لكونه يخطب على منبر ، بخلاف العيد فإنه يخطب فيه على رجليه لحديث أبي سعيد المذكور ، فأراد أن يبين أن الاستقبال سنّة على كل حال.

من أحدث منبر المصلى العيد

قال الحافظ ابن حجر : وهذا يقتضي أنه لم يكن في المصلّى في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منبر إلى أن اتخذ لمروان ، ويدل عليه قول أبي سعيد «فلم يزل الناس إلى آخره». ووقع في المدونة لمالك ، ورواه ابن شبة عنه قال : أول من خطب الناس في المصلى على منبر عثمان بن عفان ، كلمهم على منبر من طين بناه كثير بن الصلت ، وهذا معضل ، وما في الصحيحين أصح ؛ فقد رواه مسلم بنحو رواية البخاري ، ويحتمل أن يكون عثمان فعل ذلك مرة ثم تركه حتى أعاده مروان ، ولم يطلع على ذلك أبو سعيد ، انتهى.

قلت : لكن روى أبو داود وغيره في حديث ذكر أنه غريب وأن سنده جيد عن عائشة

٩

رضي الله تعالى عنها قالت : شكا الناس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قحوط المطر ، فأمر بمنبر فوضع له بالمصلى. وفي رواية للترمذي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج إلى الاستسقاء حتى أتى المصلى فرقى على المنبر ؛ فهذا يقتضي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب في الاستسقاء بالمصلى على منبر ، وكأن ذلك هو المستند لمن أحدث المنبر في خطبة العيد قياسا على الاستسقاء ، ويحتمل أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خصّ الاستسقاء بذلك لتيسر رؤيته لعامة الناس فيها ، فيقتدون به في تحويل الرداء عند تحويله ، وفي كيفية رفع اليدين في الدعاء ، ونحو ذلك مما يختص بخطبة الاستسقاء.

قال الحافظ ابن حجر : وقول أبي سعيد «غيرتم والله» صريح في أنه هو المنكر ووقع في رواية مسلم «فقام إليه رجل فقال : الصلاة قبل الخطبة ، قال : قد ترك ما هنالك ، فقال أبو سعيد : أما هذا فقد قضى ما عليه» فيحتمل أن يكون المنكر أبو مسعود الذي وقع في رواية عبد الرزاق أنه كان معهما ، ويحتمل أن يكون القصة تعددت ، ويدل على ذلك المغايرة بين روايتي عياض ورجاء ، ففي رواية عياض أن المنبر بني له بالمصلى ، وفي رواية رجاء أن مروان أخرج المنبر معه ، ولأن إنكار أبي سعيد كان بينه وبينه ، وإنكار الآخر وقع على رءوس الناس.

وقوله : «إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة» يشعر بأن ذلك باجتهاد من مروان.

أول من خطب قبل صلاة العيد

وقد اختلف في أول من خطب قبل الصلاة ، فرواية الصحيحين عن أبي سعيد مصرحة بأنه مروان.

وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن الحسن البصري قال : أول من خطب قبل الصلاة عثمان ، صلى بالناس ثم خطبهم ، يعني على العادة ، فرأى ناسا لم يدركوا الصلاة ، ففعل ذلك ، أي صار يخطب قبل الصلاة. وهذه العلة غير التي اعتلّ بها مروان ؛ لأن عثمان رضي الله تعالى عنه راعى مصلحة الجماعة في إدراكهم للصلاة ، وأما مروان فراعى مصلحتهم في استماعهم الخطبة ، لكن قيل : إنهم كانوا في زمن مروان يتعمدون ترك سماع خطبته لما فيها من سبّ من لا يستحق السب ، والإفراط في مدح بعض الناس ، فعلى هذا إنما راعى مصلحة نفسه. ويحتمل أن يكون عثمان فعل ذلك أحيانا ، بخلاف مروان فواظب عليه فلذلك نسب إليه.

وقد أوردنا بقية كلام الحافظ ابن حجر وغيره من الفوائد المتعلقة بذلك في كتابنا الموسوم «بالوفا ، بما يجب لحضرة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وبينا فيه أن الدرج الموجودة التي يقوم عليها الخطيب اليوم ليست في الموضع الذي بني لمروان ؛ لأن مروان وإن قدّم الخطبة على الصلاة

١٠

فلما له في ذلك من المقصد. وأما جعله المنبر على خلاف السنة وجعله القوم أو بعضهم خلف ظهره فلا ثمرة له ، وأيضا فيبعد إقرار من جاء بعده على ذلك ، وأيضا لو كان ذلك من فعله لأنكر عليه كما أنكر عليه ما تقدم ، ولو سلم أن تلك الدرج في موضع منبر مروان فالسنة تغيير ذلك واتباع ما صح من فعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما خولف في أمر الخطبة واتبع بها فعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث جعلت بعد الصلاة ، والتشبث باستمرار أفعال الناس إنما يكون في شيء لم يعلم حكمه من جهة الشرع ، أما ما علم حكمه فالواجب اتباع الشرع فيه ، واعتقاد حدوث ما عليه الناس ، وتقديره بأقرب زمان ، وقد ذم الله تعالى قوما تمسكوا في جحد الحق بفعل سلفهم حيث قال حكاية عنهم : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣] فمن الواجب تطهير هذا المحل الشريف المنسوب للمصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذه البدعة الشنعاء ، ولذلك بينا بعض الدرج عن يمين القائم في محراب المسجد المذكور كما ذكر العلماء أنه السنة ، وتكون مرتفعة بحيث يرى القائم عليها من خارج المسجد ، والذي يظهر أن تلك الدرج إنما جعلت للمبلغ ، وأن الخطيب إنما كان يقوم فيه على الأرض ؛ لأنه الثابت من فعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكأن بعض الخطباء قام عليها بعد ذلك فاستمر الأمر على ذلك ، والله أعلم.

الطرف الثالث : فيما جاء في فضل المصلى الشريف ، والدعاء به ، ونهيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تضييقه والبناء به.

أورد ابن شبة في ترجمة المصلى عن جناح النجار قال : خرجت مع عائشة بنت سعد بن أبي وقاص إلى مكة ، فقالت لي : أين منزلك؟ فقلت لها : بالبلاط ، فقالت لي : تمسك به فإني سمعت أبي يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «ما بين مسجدي هذا المسجد ومصلاي روضة من رياض الجنة».

وقوله في هذه الرواية : «ما بين مسجدي هذا المسجد ـ إلى آخره» يدفع تأويل من أوّل حديث الأوسط للطبراني بلفظ «ما بين حجرتي ومصلّاي» والحديث الذي رواه ابن زبالة من طريق عائشة بنت سعد عن أبيها بلفظ «ما بين منبري والمصلى» بأن المراد مصلاه الذي يصلي فيه في المسجد ؛ لأنه لا يصح أن يقال : ما بين هذا المسجد والمصلى الذي فيه ، ولهذا استدلّت به عائشة بنت سعد على الحث على التمسك بالدور التي بالبلاط ، يعني الآخذة من باب السلام إلى المصلى ؛ لأنها فيما بين المسجد ومصلى العيد ، وإذا كان ما بين المسجدين المذكورين روضة فهما روضة من باب أولى ؛ لأن ذلك الفضل إنما حصل لما بينهما بحصوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك وتردده صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما بينهما ، فكيف بمحلّ سجوده وموقفه الشريف؟

وروى ابن شبة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قدم من سفر فمر بالمصلّى استقبل القبلة ووقف يدعو.

١١

وعن أبي عطاء عن أبيه قال : قال لي سعيد بن المسيب : يا أبا محمد ، أتعرف موضع دار كثير بن الصلت؟ قلت : نعم ، قال : فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج حتى انتهى إلى ذلك الموضع فقام وصفّ أصحابه خلفه فصلى على النجاشي حين مات في أرض الحبشة.

وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج إلى المصلى يستسقي ، فبدأ بالخطبة ، ثم صلى وكبر واحدة افتتح بها الصلاة وقال : هذا مجمعنا ومستمطرنا ومدعانا لعيدنا ولفطرنا وأضحانا ؛ فلا يا بنى فيه لبنة على لبنة ولا جهة ، ورواه ابن زبالة إلا أنه قال : ثم قال : هذا مجتمعنا ومستمطرنا ومدعانا لعيدنا لفطرنا وأضحانا ، الحديث.

وروى يحيى عن داود بن أبي الفرات قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المصلى فقال : هذا مستمطرنا ومصلّانا لأضحانا وفطرنا ، لا يضيق ، ولا ينتقص منه شيء.

وسيأتي في ترجمة أحجار الزيت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استسقى عندها قريبا من الزوراء.

بيان طريقي ذهاب النبي للمصلى ورجوعه

الطرف الرابع : فيما جاء من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كان يذهب إلى هذا المصلى الشريف من طريق ويرجع في أخرى ، وبيان كل من الطريقين.

روينا في صحيح البخاري في باب من خالف الطريق إذا رجع يوم العيد عن جابر رضي الله تعالى عنه قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق.

وروى ابن شبة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ يوم العيد في طريق ورجع في طريق آخر ، وفي رواية «كان يأخذ يوم العيد في طريق ويرجع في طريق آخر».

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا خرج إلى العيد في طريق لم يرجع فيه.

وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كان إذا خرج إلى العيد رجع في غير الطريق الذي أخذ فيه».

وعنه رضي الله تعالى عنه أنه قال : ركن باب داري هذا أحبّ إليّ من زنتها ذهبا ، سلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على داري إلى العيد ، فجعلها يسارا ، فمر على عضادة داري مرتين في غداة واحدة.

قلت : ولا مخالفة بين هذا وبين الرواية الأولى لأن دار أبي هريرة كانت بالبلاط عند زقاق عبد الرحمن بن الحارث كما قدمناه في الدور المحيطة بالبلاط الأعظم ، وبعدها إلى جهة المصلى قريبا منها دار سعد بن أبي وقاص.

وقد روى ابن شبة عن يحيى بن عبد الرحمن عن أبيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كان يأتي العيد

١٢

ماشيا على باب سعد بن أبي وقاص ، ويرجع إلى أبي هريرة» وحينئذ فيمر على دار أبي هريرة في ذهابه ثم في رجوعه ؛ لأن الشافعي روى في الأم ومنها نقلت عن المطلب بن حنطب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كان يغدو يوم العيد إلى المصلى من الطريق الأعظم ، فإذا رجع رجع من الطريق الأخرى على دار عمار بن ياسر».

ورواه ابن زبالة عن محمد بن عمار بلفظ «كان يخرج إلى المصلى من الطريق العظمى على أصحاب الفساطيط ، ويرجع من الطريق الأخرى على دار عمار بن ياسر» وقد قدمنا أن دار عمار بن ياسر في زقاق عبد الرحمن بن الحارث الذي يسلك إلى البلاط عند دار أبي هريرة بابها يقابل دار عبد الرحمن بن الحارث ، ولها خوخة في كتّاب عروة ، فصحّ مروره صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليها مرتين في غداة واحدة مع ذهابه من طريق ورجوعه في أخرى.

وسيأتي في ذكر طريقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قباء ذهابا وإيابا ما يصرح بأنه إذا رجع يمر على مسجد بني زريق من كتّاب عروة حتى يخرج إلى البلاط ، يعني من الزقاق المذكور ؛ لما قدمناه في وصف البلاط.

والطريق العظمى : ـ كما قال المطري ـ هي طريق الناس اليوم من باب المدينة : أي الدرب المعروف بدرب سويقة إلى مسجد المصلى ، ولم يتعرض لبيان الطريق الأخرى ، وقد منّ الله سبحانه وتعالى ببيانه فله الحمد على ذلك. وهذه الطريق هي المرادة بما رواه ابن زبالة عن عائشة رضي‌الله‌عنها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كان يذبح أضحيته بيده إذا انصرف من المصلى على ناحية الطريق التي كان ينصرف منها» وتلك الطريق أو المكان الذي كان يذبح فيه مقابل المغرب مما يلي طريق بني زريق ، أي أنه إذا انصرف من المصلّى أتى موضعا في غربي طريق بني زريق فذبح ، ثم سلك في تلك الطريق ، وهي سالكة في بني زريق آخذة من قبلة المصلى إلى أن يمر بدار أبي هريرة كما تقدم ، ولهذا روى الواقدي عن عائشة وابن عمر وغيرهما أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كان يذبح عند طرف الزقاق عند دار معاوية» أي المتقدم ذكرها. وسور المدينة اليوم مانع من سلوك هذه الطريق في الرجوع. ويستفاد من هذا أن المخالفة بين الطريقين لم تكن في جميعهما ، إلا أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا وصل إلى محل البلاط الذي عند دار أبي هريرة لم يسلك في بقية الطريق العظمى ، وهي الشارعة اليوم إلى باب السلام ، بل يأخذ في ميسرة البلاط إلى الشام ؛ لأن الظاهر أن غالب تلك الأماكن كانت براحا ثم يعرج إلى جهة داره بعد ذلك. على أن ما ذكرناه في وصف هذه الطريق مقتض لأن طريقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذهابه أقصر من طريق رجوعه كما لا يخفى ؛ فيعكر على القول بأن المستحب أن يذهب في أطول الطريقين ويرجع في أقصرهما.

وقد روى الشافعي رحمه‌الله تعالى في الأم عقب ما قدمناه عنه وصف طريق أخرى

١٣

الرجوع فيها أبعد من الذهاب أيضا بكثير جدّا ؛ فإنه روى عقب ذلك عن معاذ بن عبد الرحمن التيمي عن أبيه عن جده أنه رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجع من المصلّى يوم عيد فسلك على التمارين من أسفل السوق ، حتى إذا كان عند مسجد الأعرج الذي هو عند موضع البركة التي بالسوق قام فاستقبل فج أسلم فدعا ثم انصرف.

قال الشافعي عقبه : وأحبّ أن يصنع الإمام مثل هذا ، وأن يقف في موضع فيدعو الله مستقبل القبلة ، وإن لم يفعل فلا كفارة ولا إعادة عليه ، هذا لفظ الأم ومنها نقلت.

ويؤيد هذا ما رواه يحيى عن محمد بن طلحة بن طويل قال : رأيت عثمان بن عبد الرحمن ومحمد ابن المنكدر ينصرفان من العيد فيقومان عند البركة التي بأسفل السوق ، قال : وسألت عثمان بن عبد الرحمن عن ذلك فقال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقف عند ذلك المكان إذا انصرف من العيد.

وقد قدمنا عن ابن زبالة في سوف المدينة أن محمد بن المنكدر وعثمان بن عبد الرحمن وجماعة كانوا يقومون بفناء بركة السوق مستقبلين ، وأن عثمان بن عبد الرحمن قال : قد اختلف علينا في ذلك ؛ فقائل يقول : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو هنالك ، وقائل يقول : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقوم هنالك فينظر إلى الناس إذا انصرفوا من العيد.

قلت : وقد بينت رواية الشافعي المذكور أنه كان يدعو هنالك إذا انصرف من العيد ، ولا مانع من كونه مع ذلك ينظر إلى الناس المنصرفين من العيد أيضا فلا اختلاف. وقد بينا هناك ما يقتضي أنه كان يسلك على سوق التمارين ، وهو في شامي المصلى مما يلي المغرب ، وبينا أيضا أن منازل أسلم كانت في غربي سوق المدينة إلى الشام بعد التمارين ، وذلك عند حصن أمير المدينة وما سفل منه إلى جهة الشام مما يلي غربي سوق الشاميين عند منزل الحاج الشامي بالموسم ، وبينا بركة بركة السوق هي المنهل المدرج الذي على يسار المتوجه إلى ثنيّة الوداع عند مشهد النفس الزكية ، والقائم عندها إذا استقبل فجّ أسلم كان مستقبلا للقبلة ، ولعل مسجد الأعرج الذي أشار الشافعي في روايته إلى أنه عندها هو الموضع الذي هو قبلة مشهد النفس الزكية ، فإنه مسجد ، وهو عند موضع البركة ، وما علمت المرأة بالأعرج الذي نسب إليه المسجد المذكور.

وقد أنشأ قاضي الحرمين السيد الشريف العلامة محيي الدين عبد القادر الحنبلي الفاسي المكي مسجدّا بمنزلة الحاج الشامي بالقرب من المنهل المذكور في جهة قبلته.

إذا علمت ذلك فهذه الطريق تزيد على الطريق العظمى إلى المصلى بنحو ضعفها ، ويمكن سلوكها اليوم في الرجوع من المصلى ، بخلاف الطريق السابقة ؛ لحيلولة السور.

١٤

وأهل المدينة اليوم يذهبون من الطريق العظمى ، ويرجعون في بعض تلك الطريق السابقة ؛ لأنهم يأخذون من جهة قبلة المصلّى إلى المشرق خارج سور المدينة ، فيدخلون من درب البقيع ، وطريقهم هذه في الرجوع أطول من الذهاب أيضا ، ولو سلكوا الطريق المذكورة في رواية الشافعي الثانية لكان أولى ، وليحصل الدعاء بذلك المحل الشريف اقتداء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن تقدم ذكره من السلف الصالح.

وقد فعلت ذلك في عامنا هذا ، فسلكت في الذهاب إلى المصلّى من الطريق العظمى ، ورجعت من أسفل السوق إلى أن قمت بفناء بركته المذكورة ، ثم انصرفت فدخلت المدينة من الباب الذي يلي حصن أمير المدينة ، والخير كله في الاتباع ومجانبة الابتداع ، وأي بركة أعظم من ذهاب الإنسان إلى المصلى في ذلك اليوم السعيد في طريق ذهب منها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ ثم صلاته بمصلّاه الشريف ، ثم رجوعه في طريقه التي رجع منها.

وقد قال المجد : وإذا ثبت بما رويناه ـ يعني من الأحاديث المتقدمة ـ أن المصلّى الموجود هو مصلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأعياد ، فالصلاة فيه تزداد فضلا ومزية على كل مصلى أيّ ازدياد ، ويخص الفائزون بالصلاة فيه من الله تعالى بأسبغ نعم وأياد ، ويمنح الحائزون فضل الحضور إليها فواضل قصرت عنها معالي معد وأيادي إياد.

قلت : وأخبرني جماعة من المشايخ منهم شيخنا الكمال أبو الفضل محمد ابن العلامة نجم الدين المرجاني وأخته المسندة أم كمال كماليه والمسندة أم حبيبة زينب ابنة الشهابي أحمد الشونكي وغيرهم إذنا عن المجد المشار إليه قال عقب ما تقدم عنه : أنشدني أبو عمر عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم الحموي كتابة عن أبي البركات أيمن بن محمد بن محمد بن محمد الغرناطي لنفسه :

إنّ عيدا بطيبة وصلاة

بمصلّى الرسول في يوم عيد

نعم ضاق واسع الشكر عنها

فهي بشرى لكل عبد سعيد

كم تمنيتها فنلت التمني

آخر العمر من مكان بعيد

وإذا كان في البقيع ضريحي

وتوسّدت طيب ذاك الصعيد

فاشهدوا لي بكلّ خير وبشر

عند ربي ومبدئي ومعيدي

والمسئول من فضل الله تعالى أن يكمل لأهل هذا المصلى الشريف عظيم منته بجعل منبره المنيف على طريقته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسنته ، بمنه وكرمه ، آمين.

١٥

الفصل الثاني

في مسجد قباء ، وفضله ، وخبر مسجد الضّرار

أسيس مسجد قباء

تقدم تأسيس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمسجد قباء في الفصل العاشر من الباب الثالث ، عند مقدمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قباء ، وبسطنا ذلك هناك ، فراجعه وذكرنا هناك ما جاء من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمل فيه بنفسه ، وأنه أسّسه وجبريل يؤمّ به البيت ، وأنه كان يقال : إنه أقوم مسجد قبلة ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسسه ثانيا بعد تحويل القبلة ، وقدمنا أيضا قول عروة في الصحيح في حديث الهجرة الطويل «فلبث في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة ، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى».

وفي رواية عبد الرزاق عنه قال «الذين بنى فيهم المسجد الذي أسس على التقوى هم بنو عمرو بن عوف» وكذا في حديث ابن عباس عند ابن عابد ولفظه «ومكث في بني عمرو بن عوف ثلاث ليال ، واتخذ مكانه مسجدّا فكان يصلي فيه ، ثم بناه بنو عمرو بن عوف ، فهو الذي أسس على التقوى» وقدمنا أيضا أنه أول مسجد بناه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصلى فيه بأصحابه جماعة ظاهرا.

قال الحافظ ابن حجر : اختلف في المراد بقوله تعالى : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) [التوبة : ١٠٨] فالجمهور على أن المراد مسجد قباء ، وهو ظاهر الآية ، وتقدم في فضل المسجد النبوي حديث مسلم المشتمل على أن أبا سعيد سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال «هو مسجدكم هذا» وفي رواية لأحمد والترمذي عنه : اختلف رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى ، فقال أحدهما : هو مسجد المدينة ، فسألاه عن ذلك ، فقال : هو هذا ، وفي ذلك ـ يعني مسجد قباء ـ خير كثير ، وقدمنا أيضا الجمع بأن كلا من المسجدين قد أسس على التقوى من أول يوم تأسيسه ، وأنهما المراد من الآية ، وأن السر في اقتصاره صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذكر مسجد المدينة دفع توهم اختصاص ذلك بمسجد قباء ، كما هو ظاهر ما فهمه السائل وتنويها بمزية مسجده الشريف.

قال الحافظ ابن حجر : والحق أن كلا منهما أسس على التقوى ، وقوله تعالى في بقية الآية (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) [التوبة : ١٠٨] يؤيد كون المراد مسجد قباء.

وعند أبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : نزلت (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا) في أهل قباء ، قال : كانوا يستنجون بالماء ، فنزلت فيهم هذه الآية.

قال الحافظ ابن حجر : فالسر في جوابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما تقدم دفع توهم أن ذلك خاص بمسجد قباء.

١٦

قال الداودي وغيره : ليس هذا اختلافا ؛ لأن كلا منهما أسس على التقوى وكذا قال السهيلي وزاد أن قوله تعالى (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) يقتضي مسجد قباء ؛ لأن تأسيسه كان في أول يوم حلّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدار الهجرة.

روى أحمد وابن شبة ، واللفظ لأحمد ، عن أبي هريرة قال : انطلقت إلى مسجد التقوى أنا وعبد الله بن عمر وسمرة بن جندب ، فأتينا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا لنا : انطلق نحو مسجد التقوى ، فانطلقنا نحوه ، فاستقبلنا يداه على كاهلي أبي بكر وعمر ، فثرنا في وجهه فقال : من هؤلاء يا أبا بكر؟ فقال : عبد الله بن عمر ، وأبو هريرة ، وسمرة.

وروى ابن شبة من طرق ما حاصله أن الآية لما نزلت أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل قباء ، وفي رواية أهل ذلك المسجد ، وفي رواية بني عمرو بن عوف فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور ، فما بلغ من طهوركم؟ قالوا : نستنجي بالماء».

وذكر أبو محمد المرجاني الجمع بأن كلا من المسجدين أسّس على التقوى ، ثم قال : فقد روي عن عبد الله بن بريدة في قول الله عزوجل (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) قال : إنما هي أربعة مساجد ، لم يبنهنّ إلا نبي : الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام ، وبيت أريحاء بيت المقدس ، بناه داود وسليمان ، ومسجد المدينة مسجد قباء اللذين أسّسا على التقوى ، بناهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قلت : وقال يحيى بن الحسين في أخبار المدينة : حدثنا بكر بن عبد الوهاب أنبأنا عيسى بن عبد الله عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «المسجد الذي أسّس على التقوى من أول يوم هو مسجد قباء ، قال الله جل ثناءه (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) [التوبة : ١٠٨] وبكر بن عبد الوهاب هو ابن أخت الواقدي صدوق ، وعيسى بن عبد الله يظهر لي أنه عيسى بن عبد الله بن مالك وهو مقبول ؛ فيكون جده حينئذ عبد الله بن مالك ، وهو شيخ مقبول يروى عن علي وابن عمر ؛ فالحديث حسن ؛ فتعين الجمع بما تقدم ، والله أعلم.

ما جاء في أن الصلاة فيه تعدل عمرة

روى الترمذي عن أسيد بن حضير الأنصاري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الصلاة في مسجد قباء كعمرة» قال الترمذي : وفي الباب عن سهل بن حنيف ، وحديث أسيد حديث حسن غريب ، ولا يعرف لأسيد شيء يصح غير هذا الحديث.

قلت : وأخرجه البيهقي وابن ماجه من طريق أبي بكر بن شيبة بإسناد الترمذي ، وهو جيد ، بلفظ «الصلاة في مسجد قباء كعمرة».

وأخرج ابن حبّان في صحيحه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه شهد جنازة

١٧

بالأوساط في دار سعد بن عبادة ، فأقبل ماشيا إلى بني عمرة بن عوف بفناء بني الحارث بن الخزرج ، فقيل له : أين تؤم يا أبا عبد الرحمن؟ قال : أهل هذا المسجد في بني عمرو بن عوف ؛ فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «من صلى فيه كان كعدل عمرة».

ورواه ابن زبالة موقوفا ، ولفظه أن عبد الله بن عمر شهد جنازة في الأوساط من بني الحارث بن الخزرج ، ثم خرج يمشي ، فقالوا له : أين تريد يا أبا عبد الرحمن؟ قال : أريد مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقباء ؛ أنه من صلى فيه ركعتين كان كعدل عمرة.

وأخرج ابن ماجه وعمر بن شبة بسند جيد عن سهل بن حنيف قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة».

ورواه أحمد والحاكم وقال : صحيح الإسناد.

ورواه يحيى من طريقين فيهما من لم أعرفه بلفظ «من توضأ فأسبغ الوضوء ثم جاء مسجد قباء فصلى فيه ركعتين كان له عدل عمرة».

ورواه الطبراني في الكبير عن سهل من طريق موسى بن عبيدة ـ وهو ضعيف ـ بلفظ «من توضأ فأحسن الوضوء ثم دخل مسجد قباء فيركع فيه أربع ركعات كان ذلك عدل رقبة».

ورواه ابن شبة عن سهل من طريق موسى بن عبيدة المذكور بلفظ «من توضأ فأحسن وضوءه ثم جاء مسجد قباء فركع فيه أربع ركعات كان له عدل عمرة».

ورواه أيضا بسند فيه يوسف بن طهمان ـ وهو ضعيف ـ عن سهل بن حنيف عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «ما من مؤمن يخرج على طهر إلى مسجد قباء لا يريد غيره حتى يصلي فيه إلا كان بمنزلة عمرة».

وروى الطبراني في الكبير بسند فيه يزيد بن عبد الملك النوفلي ـ وهو ضعيف ـ عن كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من توضّأ فأسبغ الوضوء ثم عمد إلى مسجد قباء لا يريد غيره ، ولا يحمله على الغدوّ إلا الصلاة في مسجد قباء ، فصلى فيه أربع ركعات يقرأ في كل ركعة بأم القرآن كان له كأجر المعتمر إلى بيت الله».

وقال عمر بن شبة : حدثنا سويد بن سعيد قال : حدثنا أيوب بن صيام عن سعيد بن الرقيش الأسدي قال : جاءنا أنس بن مالك إلى مسجد قباء فصلى ركعتين إلى بعض هذه السواري ثم سلم وجلس وجلسنا حوله ، فقال : سبحان الله ما أعظم حقّ هذا المسجد ، لو كان على مسيرة شهر كان أهلا أن يؤتى ، من خرج من بيته يريده معتمدا إليه لصلّى فيه أربع ركعات أقلبه الله بأجر عمرة».

١٨

قال ابن شبة : قال أبو غسان : ومما يقوّي هذه الأخبار ويدل على تظاهرها في العامة والخاصة قول عبد الرحمن بن الحكم في شعر له :

فإن أهلك فقد أقررت عينا

من المتعمرات إلى قباء

من اللاتي سوالفهنّ غيد

عليهنّ الملاحة بالبهاء

تفضيل الصلاة في مسجد قباء على بيت المقدس

ما جاء في تفضيل الصلاة فيه على بيت المقدس ، ومغفرة ذنوب من صلى فيه مع المساجد الثلاثة.

روى ابن شبة بسند صحيح من طريق عائشة بنت سعد بن أبي وقاص قالت : سمعت أبي يقول : «لأن أصلّي في مسجد قباء ركعتين أحبّ إليّ من أن آتى بيت المقدس مرتين ، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل».

ورواه الحاكم عن عامر بن سعد وعائشة بنت سعد سمعا أباهما يقول : لأن أصلي في مسجد قباء أحبّ إليّ من أن أصلي في مسجد بيت المقدس ، قال الحاكم : وإسناده صحيح على شرطهما. وهذا شاهد لما روي عن محمد بن مسلمة المالكي أنه قال : إن إتيان مسجد قباء يلزم بالنذر ، وجمهور العلماء أن ذلك وإن كان قربة لا يلزم بالنذر.

وعن عاصم قال : أخبرنا أن من صلى في المساجد الأربعة غفر له ذنبه ، فقال له أبو أيوب : يا ابن أخي أدلّك على ما هو أيسر من ذلك ، إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «من توضأ كما أمر ، وصلى كما أمر ، غفر له ما تقدم من ذنبه» أخرجه أبو حاتم وقال : المساجد الأربعة : المسجد الحرام ، ومسجد المدينة ، ومسجد الأقصى ، ومسجد قباء.

إتيان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسجد قباء

ما جاء في إتيان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم له راكبا وماشيا ، وصلاته فيه ، وتعيين الأيام التي كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأتي قباء فيها هو وغيره من الصحابة.

روينا في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يزور قباء ، أو يأتي قباء ، راكبا وماشيا.

زاد في رواية لهما : فيصلي فيه ركعتين.

وروى ابن شبة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان انطلق مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مسجد قباء ، فصلى فيه ، فجعلت الأنصار يأتون وهو يصلي ، فيسلّمون عليه ، فخرج عليّ صهيب فقلت : يا صهيب كيف كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يردّ على من سلم؟ قال : يشير بيده.

وفي رواية للبخاري والنسائي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كان يأتي مسجد قباء كل سبت راكبا وماشيا» وكان عبد الله يفعله.

١٩

وفي رواية لابن حبّان في صحيحه «كل يوم سبت». وفيها رد على من قال : إن المراد بالسبت الأسبوع.

وروى ابن شبة عن سعيد بن عمرو بن سليم مرسلا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كان يطرح له على حمار أنبجانيّ لكل سبت ، ثم يركب إلى قباء».

ورواه ابن زبالة بنحوه ، وزاد «ويمشي حوله أصحابه».

وروى ابن شبة عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر مرسلا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كان يأتي قباء يوم الإثنين».

وعن محمد بن المنكدر مرسلا قال «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأتي قباء صبيحة سبع عشرة من رمضان».

ورواه يحيى عن ابن المنكدر عن جابر متصلا. وفي كتاب رزين عن ابن المنكدر قال : أدركت الناس يأتون مسجد قباء صبيحة سبع عشرة من رمضان.

وروى يحيى عن ابن المنكدر نحوه أيضا.

وعن أبي غزية قال : كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يأتي قباء يوم الإثنين ويوم الخميس ، فجاء يوما من تلك الأيام فلم يجد فيه أحدا من أهله ، فقال : والذي نفسي بيده لقد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبا بكر في أصحابه ننقل حجارته على بطوننا ، يؤسّسه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده ، وجبريل يؤم به البيت ، ومحلوف عمر بالله لو كان مسجدنا هذا بطرف من الأطراف لضربنا إليه أكباد الإبل ، ثم قال : اكسروا لي سعفه واجتنبوا العواهن ، أي ما يلي القلب من السّعف ، فقطعوا السعفة ، فأتى بها ، فأخذ رزمة فربطها فمسحه ، قالوا : نحن نكفيك يا أمير المؤمنين ، قال : لا تكفونيه.

وفي رواية لرزين عقب قوله : «وجبريل يؤم به البيت» ثم أخذ أي عمر رضي الله تعالى عنه جرائد فجعل يمسح جدرانه وسطحه ، فقيل له : نكفيك يا أمير المؤمنين ، فقال : لا تكفونيه ، أنا أريد أن أكفيكم أنتم مثل هذا ، وإن شئتم اعملوا مثل ما أعمل.

وقد استشكل الزين المراغي قوله «وجبريل يؤم به البيت» بأن ذلك كان قبل تحويل القبلة ، وقد أشرنا فيما تقدم لجوابه.

وأسند ابن زبالة عن شيخ من بني عمرو بن عوف قال : أتانا عمر بن الخطاب بقباء فقال لخياط بسدّة الباب : انطلق فأتني بجريدة وإياك والعواهن ، فأتاه بجريدة ، فقشرها وترك لها رأسا فضرب به قبلة المسجد حتى نفض الغبار.

ورواه ابن شبة ، إلا أنه قال : عن شيوخ من بني عمرو بن عوف أن عمر رضي الله

٢٠