وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى - ج ٣

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى - ج ٣

المؤلف:

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي


المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-381-8-0
الصفحات: ٢٤٦

وقال ابن النجار ـ في القبور المعروفة في زمانه ـ ما لفظه : وقبور أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهن أربعة قبور ظاهرة ، ولا يعلم تحقيق من فيها منهن.

قلت : باطن هذا المشهد كله أرض مستوية ليس فيها علامة قبور ، وكان حظيرا مبنيّا بالحجارة كما ذكره المطري ، فابتنى عليه قبة الأمير بردبك المعمار سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة.

ومنها : مشهد عقيل بن أبي طالب على ما ذكره ابن النجار ، وتبعه من بعده ، قال : ومعه في القبر ابن أخيه عبد الله الجواد بن جعفر الطيار ، كما قدمناه عنه في قبر أبي سفيان بن الحارث ، مع بيان أن ذلك المشهد من دار عقيل ، وأن الذي نقل دفنه هناك إنما هو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وأن عقيلا مات بالشام خلاف قول المطري إن المنقول دفنه في داره ، وجوزنا أن يكون نقل من الشام إليها ، فينبغي السلام على الثلاثة المذكورين هناك ، وتقدم استجابة الدعاء عند زاوية الدار المذكورة.

ومنها : روضة بقرب مشهد عقيل ، يقال : إن فيها ثلاثة من أولاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كذا قاله المجد ، وجعله مما يعرف في زمنه بالبقيع ، ولم أره في كلام غيره ، ولو لا ذكره لمشهد سيدنا إبراهيم قبل ذلك لحملنا كلامه عليه ، وليس بقرب مشهد عقيل إلا القبة المتهدمة التي في غربي مشهد أمهات المؤمنين ، ولا يعرف من بها ، فلعلها مراده ، أو القبة الآتي ذكرها في مشهد الإمام مالك رضي الله تعالى عنه في ركنه الشرقي الشمالي ، فإن كلا منهما يصح وصفها بالقرب من مشهد عقيل ، ثم تبين أن مراده الأولى التي في غربي مشهد أمهات المؤمنين ، فإن ابن جبير ذكر في رحلته روضة عقيل ، ثم روضة أمهات المؤمنين ، ثم قال : وبإزائها روضة صغيرة فيها ثلاثة من أولاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويليها روضة العباس بن عبد المطلب ، إلى آخره ، فهذا مأخذ المجد.

ومنها : مشهد سيدنا إبراهيم بن سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقبره على نعت قبر الحسن والعباس ، وهو ملصق إلى جدار المشهد القبلي ، وفي هذا الجدار شباك ، قال المجد : وموضع تربته يعرف ببيت الحزن ، يقال : إنه البيت الذي أوت إليه فاطمة رضي الله تعالى عنها ، والتزمت الحزن فيه بعد وفاة أبيها سيد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، انتهى.

والمشهور ببيت الحزن إنما هو الموضع المعروف بمسجد فاطمة في قبلة مشهد الحسن والعباس ، وإليه أشار ابن جبير بقوله : ويلي القبة العباسية بيت لفاطمة بنت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويعرف ببيت الحزن ، يقال : إنه الذي أوت إليه والتزمت الحزن فيه عند وفاة أبيها صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، انتهى.

وفيه قبرها على أحد الأقوال كما قدمناه ، وأظنه في موضع بيت علي بن أبي طالب الذي كان اتخذه بالبقيع ، وفيه اليوم هيئة قبور.

١٠١

وفي شامي قبر سيدنا إبراهيم بمشهده صورة قبرين حادثين لم يذكرهما ابن النجار ، ولا من تبعه ، إنما ذكروا ما قدمناه من كونه إلى جانب عثمان بن مظعون وأن عبد الرحمن بن عوف أوصى أن يدفن هناك ، وأنه ينبغي زيارتهما معه.

قلت : وكذا كل من قدمنا ذكر دفنه هناك.

ومنها : مشهد صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أم الزبير بن العوام ، على يسارك عند ما تخرج من باب البقيع ، وهو بناء من حجارة لا قبّة عليه ، قال المطري : وأرادوا عقد قبة صغيرة عليه فلم يتفق ذلك.

ومنها : مشهد أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه ، وعليه قبة عالية ابتناها أسامة بن سنان الصالحي أحد أمراء السلطان السعيد صلاح الدين يوسف بن أيوب في سنة إحدى وستمائة ، قاله المطري ، قال الزين المراغي : ونقل أبو شامة أن الباني لها عز الدين سلمة.

قلت : ولم يذكر ابن النجار هذه القبة ، مع ذكره لقبة الحسن والعباس وسيدنا إبراهيم وغيرهما مما كان في زمنه ، وقد أدرك التاريخ الذي ذكره المطري وبعده بكثير.

وبمشهد سيدنا عثمان قبر خلف قبره يقال : إنه قبر متولي عمارة القبة.

وقد حدث في زماننا أمام المشهد في المغرب بناء مربع عليه قبر فيه امرأة كانت أم ولد لبعض بني الجيعان توفيت بالمدينة الشريفة ، وإلى جانبه حظيرة فيها امرأة لبعض الأتراك ، وبين هذا البناء وبين المشهد أيضا حظيرة أخرى بها أخت صاحبنا قاضي الحرمين العلامة محيي الدين الحنبلي متع الله به.

ومنها : مشهد فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما بأقصى البقيع ، على ما فيه مما تقدم في ذكر قبرها ، وينبغي أن يسلم هناك على سعد بن معاذ لما سبق.

مشهد مالك بن أنس الأصبحي

ومنها : مشهد الإمام أبي عبد الله مالك بن أنس الأصبحي إمام دار الهجرة إذا خرجت من باب البقيع كان مواجها لك عليه قبة صغيرة وإلى جانبه في المشرق والشام قبة لطيفة أيضا ، لم يتعرض لذكرها المطري ومن بعده ، فيحتمل أن تكون حادثة ، ويقال : إن بها نافعا مولى ابن عمر.

وفي كلام ابن جبير عند ذكر المشاهد المعروفة في زمنه ما يؤخذ منه أن بين مشهد سيدنا إبراهيم عليه‌السلام وبين مشهد مالك تربة عن يمين مشهد سيدنا إبراهيم ، وأنها تربة ابن لعمر رضي‌الله‌عنه اسمه عبد الرحمن الأوسط ، قال : وهو المعروف بأبي شحمة ، وهو الذي جلده أبو الحدّ فمرض ومات ، وما ذكره ينطبق على القبة المذكورة.

١٠٢

مشهد إسماعيل بن جعفر الصادق

ومنها : مشهد إسماعيل بن جعفر الصادق ، وهو كبير يقابل مشهد العباس في المغرب ، وهو ركن سور المدينة اليوم من القبلة والمشرق ، بني قبل السور ، فاتصل السور به ، فصار بابه من داخل المدينة ، قال المطري : بناه بعض العبيديين من ملوك مصر.

قلت : على باب المشهد الأوسط الذي أمامه الرحبة التي بها البئر التي يتبرك بها حجر فيه أن حسين بن أبي الهيجاء عمره سنة ست وأربعين وخمسمائة ، ولعله المطري نسب ذلك لبعض العبيديين ؛ لأن ابن أبي الهيجاء كان من ورائهم.

قال المطري : ويقال إن عرصة هذا المشهد وما حوله من جهة الشمال إلى الباب كانت دار زين العابدين ، وبجانب المشهد الغربي مسجد صغير مهجور يقال : إنه مسجد زين العابدين.

قلت : على يمين الداخل إلى المشهد بين الباب الأوسط والأخير حجر منقوش فيه وقف الحديقة التي بجانب المشهد في المغرب على المشهد : وقفها إن أبي الهيجاء ، ونسبة المسجد الذي بطرف الحديقة بجانب المشهد لزين العابدين ، وأن عرصة المشهد داره ، وأن بئره تلك يتداوى بها.

ويقال : إن ابنه جعفرا الباقر سقط بها وهو صغير ، وزين العابدين يصلي ، فلم يقطع صلاته.

وفي كلام ابن شبة ما يصلح أن يكون مستندا في نسبة تلك العرصة لزين العابدين ؛ لذكره دارا تقرب من وصفها ، ونسبها لولده ، فقال : واتخذت صفية بنت حيي دار زيد بن علي بن حسين بن علي ، وقد صارت دارين ، وهما جميعا دار واحدة ، بنى زيد بن علي شقها الشرقي الذي يلي البقيع ، وبنى آل أبي سويد الثقفي شقها الغربي الذي يلي دار السائب مولى زيد بن ثابت ، فيحتمل أنه نسبها لولده لكونه بناها وكانت لأبيه ، وقال أيضا : واتخذ جعفر بن أبي طالب دارا بين دار أبي رافع مولى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبقيع وبين دار أسماء بنت عميس التي في شامي دار أبي رافع تحت سقيفة محمد بن زيد بن علي بن حسين. وبيّن ابن شبة أن دار أبي رافع ناقل بها سعد بن أبي وقاص أبا رافع فدفع لأبي رافع داره بالبقال.

وقد تقدم ذكر الشارع الذي يخرج إلى البقال في قبور أمهات المؤمنين ، وأنه في غربي المشهد المعروف بهن ؛ لما سيأتي في ترجمة البقال ، وقد جدد مسجد زين العابدين سنة أربع وثمانين وثمانمائة.

وأما المشاهد المعرفة بالمدينة في غير البقيع فثلاثة.

١٠٣

مشهد حمزة

أحدها : مشهد سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي الله تعالى عنه. وسيأتي ذكره مع شهداء أحد في الفصل بعده ، وعليه قبة عالية حسنة متقنة ، وبابه مصفح كله بالحديد بنته أم الخليفة الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضيء ، كما قاله ابن النجار ، وذلك في سنة تسعين وخمسمائة ، قال : وجعلت على القبر ملبنا من ساج ، وحوله حصباء ، وباب المشهد من حديد ، يفتح كل يوم خميس ، وقريب منه مسجد يذكر أنه موضع مقتله ، انتهى. وتبعه عليه من بعده. ووصفه القبر بأن عليه ملبن خشب ، يعني أنه كهيئة قبر سيدنا إبراهيم ، فإنه عبر فيه بذلك أيضا ، وقبر سيدنا إبراهيم على ذلك الوصف اليوم ، وكذلك الحسن والعباس.

وأما قبر حمزة فإنه اليوم مبني مجصّص بالقصّة لا خشب عليه ، وفي أعلاه من ناحية رأسه حجر فيه بعد البسملة : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ١٨] هذا مصرع حمزة بن عبد المطلب عليه‌السلام ، ومصلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عمره العبد الفقير إلى رحمة ربه حسين بن أبي الهيجاء ، غفر الله له ولوالديه سنة ثمانين وخمسمائة ، انتهى.

وهذا قبل عمارة أم الناصر بعشر سنين ، وابن النجار إنما قدم المدينة بعد ذلك ؛ لأنه ألّف كتابه سنة مجاورته بها ، ومولده سنة ثمان وسبعين وخمسمائة ، فمقتضى ذلك أن ابن النجار أدرك القبر وهو بهذه الهيئة من الكتابة ، وقد صرح بخلافها ، وأيضا فالتعبير في تلك الكتابة بمصرع حمزة وتصديره بالآية دليل الخطأ في إثبات ذلك المسن هناك ، فالصواب أن ذلك المسن كان بالمسجد المعروف اليوم بالمصرع ، وكأنه لما تهدّم نقل إلى المشهد لقربه منه ، ثم لما تكسر الخشب الذي ذكر ابن النجار أنه كان على القبر بنوا القبر على هذه الهيئة ، وظنوا أن ذلك المسن لوضعه بالمشهد يتعلق به ، فأثبتوه بالقبر. ويؤيد ذلك أن نسبة عمارة القبة لأم الخليفة في التاريخ المذكور موجودة اليوم بالكتابة الكوفية نقشا في جدار المشهد بالجص ، واقتلع الشجاعي شاهين شيخ الحرم المسنّ المذكور وأعاده إلى محله بالمصرع ، ومقتضى ما سبق عن ابن النجار ومن تبعه أن أم الخليفة الناصر لدين الله هي أول من اتخذ المشهد المذكور على سيدنا حمزة رضي الله تعالى عنه ، وسيأتي في الفصل بعده عند ذكر قبر حمزة رضي الله تعالى عنه عن عبد العزيز بن عمران أنه كان على قبر حمزة قديما مسجد ، وذلك في المائة الثانية ، فكأن أم الخليفة وسّعته وجعلته على هذه الهيئة الموجودة اليوم ، وقد زاد فيه سلطان زماننا الأشرف فانتباي أعز الله نصره زيادة من جهة المغرب أدخل فيها البئر التي كانت خارجة في غربيه ، واتخذ هناك أخلية لمن يريد الطهارة ، وجعل بعضها بالسطح ، فعمّ النفع بذلك ،

١٠٤

واحتفر بئرا خارجه بجهة المغرب أيضا يرتفق بها المارة ، وذلك في شهر جمادى الأولى سنة تسعين وثمانمائة على يد الشجاعي شاهين الجمالي شيخ الحرم الشريف النبوي ، وشاد عمائره ، عظم الله شأنه.

وأعلم أن القبر الذي بالمشهد عند رجلي سيدنا حمزة رضي الله تعالى عنه قبر رجل تركي اسمه سنقر ، كان متولي عمارة المشهد ، والقبر الذي بصحن المسجد قبر بعض أمراء المدينة من الأشراف ، فلا يظن أنهما من قبور الشهداء رضوان الله عليهم ، وسيأتي في قبر حمزة رضي الله تعالى عنه أنه ينبغي أن يسلم معه على مصعب بن عمير وعبد الله بن جحش ؛ لما سيأتي فيه.

مشهد مالك بن سنان الخدري

ثانيها : مشهد مالك بن سنان ، والد أبي سعيد الخدري ، في غربي المدينة ملاصقا للسور ، وسيأتي ما جاء فيه في الفصل بعده ، وعليه قبة قديمة البناء بها محراب ، وعن يمينه باب خزانة صغيرة فيها بناء أصغر من صفة القبور يظن الناس أنه محل القبر ، والظاهر أن القبر بالقبة المذكورة ، لما سيأتي في ذكر من قيل إنه نقل من شهداء أحد من قول ابن أبي فديك إنه بالمسجد الذي عند أصحاب العباء في طرف الحناطين ، لكن في رواية ابن زبالة أنه دفن عند مسجد أصحاب العباء : أي الذين يبيعون العبي ، وذلك المحل من سوق المدينة القديم.

مشهد النفس الزكية

ثالثها : المشهد المعروف بالنفس الزكية ، وهو السيد الشريف الملقب بالمهدي محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، رضوان الله تعالى عليهم ، قتل في أيام أبي جعفر المنصور ، وهذا المشهد شرقي جبل سلع ، وعليه بناء كبير بالحجارة السود ، قصدوا أن يبنوا عليه قبة فلم يتفق ، وهو داخل مسجد كبير مهجور ، وفي قبلة المسجد منهل من عين الأزرق مدرج من شرقيه وغربيه. والعين تجري في وسطه ، وتقدم في سوق المدينة أن ابن زبالة عبر عن ذلك ببركة السوق ، ولعل ذلك المسجد هو المنسوب إلى الأعرج كما تقدم في مصلى العيد.

وما ذكرناه من كون النفس الزكية بهذا المشهد ذكره المطري ومن تبعه ، وهو المستفيض بين أهل المدينة ، لكنه مخالف لما ذكره سبط ابن الجوزي في رياض الأفهام ، فإنه ذكر خروجه على المنصور بعد حبسه لأبيه وأقاربه ، فبايعه كثير من الناس ، قال : فجهز إليه المنصور عيسى بن موسى عم المنصور في أربعة آلاف ، فجاء ووقف على سلع وقال : يا محمد ، لك الأمان ، فصاح به : والله ما تفوز ، والموت في عزّ خير من الحياة في ذل ، فاغتسل هو ومن

١٠٥

بقي من أصحابه وتحنّطوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر وحملوا على عيسى وأصحابه ، فهزموا ثلاثا ، ثم تكاثروا عليهم فقتلوهم ، وأتوا عيسى بن موسى برأس محمد. ووارت أخته زينب وابنته فاطمة جسده بالبقيع ، وكان قتله عند أحجار الزيت ، وكان معه ذو الفقار سيف عليّ رضي الله تعالى عنه ، فأخذه عيسى بن موسى ، ثم انتقل إلى الرشيد.

قال الأصمعي : أنا رأيته ، وفيه ثماني عشرة فقارة ، اه

وقال محمد ـ أعني النفس الزكية ـ في يوم قتالهم لعبد الله بن عامر السلمي : تغشانا سحابة ، فإن أمطرتنا ظفرنا ، وإن تجاوزتنا إليهم فانظر إلى دمي عند أحجار الزيت. قال عبد الله : فو الله لقد أظلتنا سحابة فلم تمطرنا ، وتجاوزتنا إلى عيسى بن موسى وأصحابه ، فظفروا ، وقتلوا محمدا ، ورأيت دمه عند أحجار الزيت ، وبسبب محمد هذا ضرب عيسى بن موسى الإمام مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه ، نقل ذلك المقريزي.

الفصل السابع

في فضل أحد والشّهداء به

الأحاديث الواردة في فضل أحد

روينا في الصحيحين وغيرهما عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأحد لما بدا له : هذا جبل يحبنا ونحبه.

وفي رواية للبخاري بيان أن ذلك كان عند القدوم من خيبر ، ولفظ رواية ابن شبة عنه أنه أقبل مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خيبر ، فلما بدا لهم أحد قال ، الحديث.

وفي رواية له عن سويد الأنصاري قال. قفلنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوة خيبر ، فلما بدا له أحد قال : الله أكبر ، جبل يحبنا ونحبه.

ورواه أحمد والطبراني برجال الصحيح إلا عقبة بن سويد ، وقد ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحا.

وفي فضائل المدينة للجندي عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «طلع أحدا فقال : هذا جبل يحبنا ونحبه» وفي رواية له «طلع علينا أحدا» وفي رواية أخرى للبخاري أن ذلك كان في رجوعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحج.

وفي رواية عن أبي حميد الساعدي قال : أقبلنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوة تبوك ، فلما أشرفنا على المدينة قال : «هذه طابة ، وهذا أحد ، جبل يحبنا ونحبه» ورواه ابن شبة أيضا.

وفي رواية له قال : أقبلنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من منزله ، حتى إذا كنا بغرابات نظر إلى أحد فكبر ثم قال «جبل يحبنا ونحبه ، جبل سائر ليس من جبال أرضنا».

وروى أيضا بإسناد جيد عن أبي قلابة قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا جاء من سفر فبدا له أحد قال : هذا جبل يحبنا ونحبه ، ثم قال : آئبون نائبون ساجدون لربنا حامدون.

١٠٦

وروى أيضا عن أبي هريرة قال : لما قدمنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوة خيبر بدا لنا أحد ، فقال : هذا جبل يحبنا ونحبه ، إن أحدا هذا لعلي باب من أبواب الجنة.

وروى الطبراني في الكبير والأوسط عن أبي عبس بن جبر إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأحد : هذا جبل يحبنا ونحبه ، على باب من أبواب الجنة ، وهذا غير جبل يبغضنا ونبغضه ، على باب من أبواب النار.

وفي الأوسط ـ وفيه كثير بن زيد : تكلم فيه ، ووثّقه أحمد وغيره من حديث أنس بن مالك مرفوعا «أحد جبل يحبنا ونحبه ، فإذا جئتموه فكلوا من شجره ولو من عضاهه» ورواه ابن شبة بلفظ «أحد على باب من أبواب الجنة ، فإذا مررتم به فكلوا من شجره ، ولو من عضاهه».

وروى أيضا عن زينب بنت نبيط ، وكانت تحت أنس بن مالك ، أنها كانت ترسل ولائدها فتقول : اذهبوا على أحد فأتوني من نباته ، فإن لم تجدن إلا عضاها فأتني به ، فإن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «هذا جبل يحبنا ونحبه» قالت زينب : فكلوا من نباته ولو من عضاهه ، قال : فكانت تعطينا منه قليلا قليلا فنمضغه.

وعن رافع بن خديج قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يحتشّ أحد إلا يوما بيوم.

وعن داود بن الحصين مرفوعا «أحد على ركن من أركان الجنة ، وعير على ركن من أركان النار».

وعن إسحاق بن يحيى بن طلحة مرسلا رفعه «أحد وورقان وقدس ورضوى من جبال الجنة».

وروى أبو يعلى والطبراني في الكبير عن سهل بن سعد مرفوعا «أحد ركن من أركان الجنة».

وفي الكبير أيضا عن عمرو بن عوف قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أربعة أجبال من أجبال الجنة ، وأربعة أنهار من أنهار الجنة ، وأربعة ملاحم من ملاحم الجنة ، قيل : فما الأجبال؟ قال : أحد يحبنا ونحبه جبل من جبال الجنة ، وورقان جبل من جبال الجنة ، والطور جبل من جبال الجنة ، ولبنان جبل من جبال الجنة ، والأنهار الأربعة النيل والفرات وسيحان وجيحان ، والملاحم بدر وأحد والخندق وحنين».

ورواه ابن شبة مختصرا ، وروى عن أبي هريرة نحوه ، وقال فيه : وسكت عن الملاحم ، وعن أبي هريرة أيضا قال : خير الجبال أحد والأشعر وورقان.

ونقل الحافظ ابن حجر اختلاف الروايات في الأجبل التي بنى منها البيت الحرام ، وفي بعضها أنه أسس من ستة أجبل : أبي قبيس ، والطور ، وقدس ، وورقان ، ورضوى ، وأحد.

١٠٧

وروى ابن شبة عن أنس بن مالك مرفوعا «لما تجلّى الله عزوجل للجبل طارت لعظمته ستة أجبل ، فوقعت ثلاثة بالمدينة وثلاثة بمكة ، وقع بالمدينة أحد وورقان ورضوى ، ووقع بمكة حراء وثبير وثور».

موقع أحد من المدينة المنورة

قال أبو غسان راويه : فأما أحد فبناحية المدينة على ثلاثة أميال منها في شاميها ، وأما ورقان فبالروحاء من المدينة على أربعة برد ، وأما رضوى فبينبع على مسيرة أربع ليال ، وأما حراء فبمكة وجاه بئر ميمون ، وثور أسفل مكة هو الذي اختفى فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غاره.

قلت : ولم يبين ثبيرا ، وما ذكره من المسافة إلى أحد يقرب مما حررته ، فإني ذرعت ما بين عتبة باب المسجد النبوي المعروف بباب جبريل وبين المسجد الملاصق لجبل أحد المعروف بمسجد الفتح فكان ذلك ثلاثة أميال وزيادة خمسة وثلاثين ذراعا ، وأما ما بين باب المدينة المعروف بباب البقيع وبين أول جبل أحد فميلان وأربعة أسباع ميل يزيد يسيرا ، وبين باب البقيع ومشهد سيدنا حمزة ميلان وثلاثة أسباع ميل وخمس سبع ميل ، وأذرع يسيرة ، وقد علم بذلك التسامح الذي في قول النووي في تهذيبه : أحد بجنب المدينة على نحو ميلين ، وكذا قول المطري ومن تبعه : بين مشهد حمزة والمدينة ثلاثة أميال ونصف أو ما يقاربه ، وإلى جبل أحد نحو أربعة أميال ، وقيل : دون الفرسخ ، انتهى.

وجه تسمية أحد وحبه

وقال السهيلي : سمي هذا الجبل أحدا لتوحده وانقطاعه عن جبال أخرى هناك ، ولما وقع من أهله من نصر التوحيد.

وللعلماء في معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يحبنا ونحبه» أقوال :

أحدها : أنه على حذف مضاف ، أي أهل أحد ، وهم الأنصار ؛ لأنهم جيرانه.

ثانيها : أنه للمسرة بلسان الحال ؛ لأنه كان يبشره إذا رآه عند القدوم بالقرب من أهله ، وذلك فعل المحب.

ثالثها : أن الحب من الجانبين على الحقيقة ، وأنه وضع فيه الحبّ كما وضع في الجبال المسبحة مع داود ، وكما وضعت الخشية في الحجارة التي قال الله فيها (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [البقرة : ٧٤] سيما وقد جاء أنه طار من الجبل الذي تجلى الله عزوجل له كما سبق ، وهذا الثالث هو الذي صححه النووي ، وقال الحافظ ابن حجر : إن الظاهر أن ذلك لكونه من جبال الجنة ، كما ثبت في حديث أبي عبس بن جبر مرفوعا «جبل أحد يحبنا ونحبه ، وهو من جبال الجنة» أخرجه أحمد ، ولا مانع في جانب الجبل من إمكان المحبة ،

١٠٨

كما جاز التسبيح منها ، وقد خاطبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخاطبة من يعقل فقال لما اضطرب «اسكن أحد» الحديث.

وقال الحافظ المنذري : قال البغوي : الأولى إجراء الحديث على ظاهره ، ولا ينكر وصف الجمادات بحب الأنبياء وأهل الطاعة كما حنّت الأسطوانة لمفارقته صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى سمع القوم حنينها ، وكما أخبر أن حجرا كان يسلم عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل الوحي ؛ فلا ينكر أن يكون جبل أحد وجميع أجزاء المدينة تحبه وتحنّ إلى لقائه ، قال المنذري : وهو جيد.

قلت : ويرجحه قوله في الحديث المتقدم «فإذا جئتموه فكلوا من شجره» فإن عيرا يجاوره أهل قباء ، ويظهر للقادم من جهة مكة قبل أحد ، بل ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

وقال السهيلي : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب الفأل الحسن ، والاسم الحسن ، ولا اسم أحسن من اسم مشتق من الأحدية ، ومع ذلك فحركاته الرفع ، وذلك مشعر بارتفاع دين الأحد ، فتعلق الحب به من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لفظا ومعنى ، فخص بذلك.

وليضف إليه أن المحبة لما تعلقت من الجانبين ، وكان المرء مع من أحب ، كان هذا الجبل معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجنة إذا بسّت الجبال بسا.

وأيضا لما انقسم أهل المدينة إلى محب موحّد وهم المؤمنون وإلى منافق مبغض وهم الجاهلون الجاحدون كأبي عامر الراهب وغيره من المنافقين ، وكانوا ثلث الناس يوم أحد رجعوا مع ابن أبي ولم يحضروا أحدا ؛ انقسمت بقاع المدينة كذلك ، فجعل الله تعالى هذا الجبل حبيبا محبوبا كمن حضر به ، وجعله معه في الجنة ، وخصه بهذا الاسم ، وجعل عيرا مبغوضا إن صح الحديث فيه ، وجعل بجهته المنافقين من أهل مسجد الضرار فرجعوا من جهة أحد إلى جهته فكان معهم في النار ، وخصه باسم العير الذي هو الحمار المذموم أخلاقا وجهلا ، والله أعلم.

وروى ابن شبة كما سبق في سكنى اليهود بالمدينة عن جابر بن عبد الله مرفوعا : خرج موسى وهارون عليهما‌السلام حاجّين أو معتمرين ، حتى إذا قدما المدينة خافا اليهود فنزلا أحدا وهارون مريض ، فحفر له موسى قبرا بأحد ، وقال يا أخي ادخل فيه فإنك ميت ، فدخل فيه ، فلما دخل قبضه الله ، فحثا موسى عليه التراب.

زعموا أن هارون مدفون بأحد

قلت : بأحد شعب يعرف بشعب هارون ، يزعمون أن قبر هارون عليه‌السلام في أعلاه ، وهو بعيد حسا ومعنى ، وليس ثم ما يصلح للحفر وإخراج التراب. وفي أعلى أحد بناء اتخذه بعض الفقراء قريبا والناس يصعدون إليه ، ولم يرد تعيين المحل الذي صعده النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أحد ، نعم ورد صلاته بالمسجد الملاصق به المعروف بمسجد الفتح كما سبق في المساجد.

١٠٩

مزاعم في مواضع من جبل أحد

وقال ابن النجار : وفي جبل أحد غار يذكرون أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اختفى فيه ، ومسجد يذكرون أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه ، وموضع في الجبل أيضا منقور في صخرة منه على قدر رأس الإنسان يذكرون أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قعد ـ يعني على الصخرة التي تحته ـ وأدخل رأسه هناك ، كل هذا لم يرد به نقل فلا يعتمد عليه.

قلت : أما المسجد فقد ثبت النقل به من رواية ابن شبة كما سبق ، لكن لم يقف عليه ابن النجار.

وأما الغار فقال المطري : إنه في شماليّ هذا المسجد ، والموضع المنقور والصخرة التي تحته بقرب المسجد ، وروى ابن شبة عن المطلب بن عبد الله أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يدخل الغار بأحد.

وسيأتي في ترجمة المهراس قول ابن عباس : ولم يبلغوا حيث يقول الناس الغار ، إنما كان تحت المهراس ، ومقتضاه أن الغار بعد المهراس ، وسيأتي في ترجمة شعب أحد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتهى يوم أحد إلى فم الشعب وأسند فيه.

قال ابن هشام : وبلغني عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يبلغ الدرجة المبنيّة في الشعب ، انتهى. وكأن من بناها ظن أن الصخرة التي نهض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليعلوها ، وجلس له طلحة بن عبيد الله كانت هناك ، ولهذا أورده ابن هشام عند ذكرها.

شهادة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لشهداء أحد

وروى يحيى أنه لما انكشف الناس يوم أحد وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مصعب بن عمير فقال (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ) إلى قوله (وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب : ٢٣] اللهم إن عبدك ونبيك يشهد أن هؤلاء شهداء ، فأتوهم وسلموا عليهم ، فلن يسلم عليهم أحد ما قامت السموات والأرض إلا ردّوا عليه ، ثم وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم موقفا آخر فقال : هؤلاء أصحابي الذين أشهد لهم يوم القيامة ، فقال أبو بكر : فما نحن بأصحابك؟ فقال : بلى ، ولكن لا أدري كيف تكونون بعدي ، إنهم خرجوا من الدنيا خماصا.

ورواه الثعلبي المفسر إلا أنه قال : لما انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أحد مرّ على مصعب بن عمير ، فوقف عليه ، ودعا له ، ثم قرأ ، وذكر الآية وما بعدها بنحوه ، إلى قوله ثم وقف.

وروى أبو داود والحاكم في صحيحه حديث «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا : من يبلغ إخواننا

١١٠

عنا أنا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا يكلوا عن الحرب؟ فقال الله تعالى : أنا أبلغهم عنكم ، فأنزل الله عزوجل (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) [آل عمران : ١٦٩] الآية».

وفي صحيح البخاري حديث «صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودّع للأحياء والأموات ، ثم طلع المنبر فقال : إني بين أيديكم فرط ، وأنا عليكم شهيد ، وإن موعدكم الحوض».

وروى ابن شبة وأبو داود عن طلحة بن عبيد الله قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نريد قبور الشهداء ، حتى إذا أشرفنا على حرّة واقم ، فلما تدلينا منها فإذا قبور بمحنية ، فقلنا : يا رسول الله ، أقبور إخواننا هذه؟ قال : قبور أصحابنا ، فلما جئنا قبور الشهداء قال : هذه قبور إخواننا.

زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخلفائه قبور الشهداء على رأس كل حول

وروى ابن شبة عن عباد بن أبي صالح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يأتي قبور الشهداء بأحد على رأس كل حول فيقول : سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ، قال : وجاءها أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، رضي الله تعالى عنهم ، فلما قدم معاوية بن أبي سفيان حاجا جاءهم ، قال : وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا واجه الشعب قال : سلام عليكم بما صبرتم فنعم أجر العاملين.

وعن أبي جعفر أن فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت تزور قبر حمزة رضي الله تعالى عنه ترمّه وتصلحه ، وقد تعلمته بحجر.

وروى رزين عنه أن فاطمة رضي الله تعالى عنها كانت تزور قبور الشهداء بين اليومين والثلاثة.

ورواه يحيى بنحوه عن أبي جعفر عن أبيه علي بن الحسين ، وزاد : فتصلي هناك وتدعو وتبكي حتى ماتت.

وروى الحاكم عن علي رضي الله تعالى عنه أن فاطمة كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة فتصلي وتبكي عنده.

وروى ابن شبة عن ابن عمر أنه قال : من مر على هؤلاء الشهداء فسلّم عليهم لم يزالوا يردون عليه إلى يوم القيامة.

وروى يحيى عن العطاف بن خالد قال : حدثتني خالة لي ـ وكانت من العوابد ـ قالت : ركبت يوما معي غلام حتى جئت إلى قبر حمزة ، فصليت ما شاء الله ، ولا والله ما في الوادي داع ولا مجيب يتحرك ، وغلامي قائم آخذ برأس دابتي ، فلما فرغت من صلاتي قمت

١١١

فقلت : السلام عليكم ، وأشرت بيدي فسمعت رد السلام عليّ من تحت الأرض ، أعرفه كما أعرف أن الله خلقني ، واقشعرت كل شعري مني ، فدعوت الغلام فقلت : هات دابتي ، فركبت.

وروى البيهقي في الدلائل من طريق العطاف بن خالد عن عبد الأعلى بن عبد الله بن أبي فروة عن أبيه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «زار قبور الشهداء بأحد ، فقال : اللهم إن عبدك ونبيك يشهد أن هؤلاء شهداء ، وأنهم من زارهم أو سلّم عليهم إلى يوم القيامة ردوا عليه».

وقال العطاف : وحدثتني خالتي أنها زارت الشهداء فسلمت عليهم ، فسمعت رد السلام ، وقالوا : والله إنا نعرفكم كما يعرف بعضنا بعضا ، قالت : فاقشعررت.

وذكر البيهقي أيضا رواية يحيى ، وأن الواقدي قال : كانت فاطمة الخزاعية تقول : لقد رأيتني وغابت الشمس بقبور الشهداء ومعي أخت لي ، فقلت لها : تعالي نسلم على قبر حمزة ، فوقفنا على قبره ، فقلنا : السلام عليكم يا عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسمعنا كلاما رد علينا : وعليكم السلام ورحمة الله ، قالت : وما قربنا أحد من الناس.

ثم روى البيهقي عن هاشم بن محمد العمري من ولد عمر بن عليّ قال : أخذني أبي بالمدينة إلى زيارة قبور الشهداء في يوم جمعة بين الفجر والشمس ، فكنت أمشي خلفه ، فلما انتهى إلى المقابر رفع صوته فقال : سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ، قال : فأجيب وعليك السلام يا أبا عبد الله ، فالتفت أبي إليّ فقال : أنت المجيب؟ فقلت : لا ، فجعلني على يمينه ، ثم أعاد السلام ، ثم جعل كلما سلم يرد عليه ، حتى فعل ذلك ثلاث مرات ، فخرّ ساجدا شكرا لله تعالى.

تسمية شهداء أحد

وقد تقدم في غزوة أحد أن الذين أكرمهم الله بالشهادة يومئذ سبعون رجلا ، وقيل : أكثر ، وقيل : أقلّ ، وقد سرد ابن النجار أسماءهم فتبعته ليسلّم عليهم من شاء بأسمائهم ، فقال : حمزة بن عبد المطلب ، وعبد الله بن جحش ، ومصعب بن عمير ، وشمّاس بن عثمان ، هؤلاء الأربعة من المهاجرين.

ومن الأنصار : عمرو بن معاذ بن النعمان ، والحارث بن أنس بن رافع ، وعمارة بن زياد بن السكن ، وسلمة بن ثابت بن وقش ، وعمرو بن ثابت بن وقش ، وثابت بن وقش ، ورفاعة بن وقش ، وحسيل بن جابر ، وهو اليمان أبو حذيفة ، وصيفي بن قيظي بن عمرو ، والحباب بن قيظي ، وعباد بن سهل ، والحارث بن أوس بن معاذ ، وإياس بن أوس بن عتيك ، وعبيد بن التيهان ، ويقال عتيك ، وحبيب بن زيد بن تيم ، ويزيد بن حاطب بن أمية ابن رافع ، وأبو سفيان بن الحارث بن قبس بن زيد ، وأنيس بن قتادة ، وحنظلة الغسيل ابن

١١٢

أبي عامر ، وأبو حبة بن عمرو بن ثابت أخو سعد بن خيثمة لأمه ، وعبيد الله بن جبير بن النعمان وخيثمة أبو سعد بن خيثمة ، وعبد الله بن مسلمة ، وسبيع بن حاطب بن الحارث ، وعمرو بن قيس بن زيد ، وابنه قيس بن عمرو ، وثابت بن عمرو بن زيد ، وعامر بن مخلد ، وأبو هبيرة بن الحارث بن علقمة ، وعمرو بن مطرف بن علقمة ، وأوس بن ثابت بن المنذر أخو حسّان بن ثابت ، وأنس بن النضر ، وقيس بن مخلد ، وكيسان مولى بني النجار ، وسليم بن الحارث ، ونعمان بن عبد عمرو ، وخارجة بن زيد ، وسعد بن الربيع ، وأوس بن الأرقم بن زيد ، ومالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري ، وسعد بن سويد بن قيس ، وعلبة بن ربيع بن رافع ، وثعلبة بن سعد بن مالك ، ونقيب بن فروة بن البدن ، وعبد الله بن عمرو بن وهب ، وضمرة الجهني حليف لبني طريف. ونوفل بن عبد الله ، وعباس بن عبادة بن نضلة ونعمان بن مالك بن ثعلبة ، والمحذر بن زياد ، وعبادة بن الحسحاس ، ورفاعة بن عمرو ، وعبد الله بن عمرو بن حرام ، وعمرو بن الجموح ، وابنه خلاد ، وأبو أيمن مولاه ، وعبيدة بن عمرو بن حديدة ، ومولاه عنترة ، وسهل بن قيس بن أبي كعب ، وذكوان بن عبد قيس ، وعبيد بن المعلى بن لوذان ، ومالك بن نميلة ، والحارث بن عدي بن خرشة ، ومالك بن إياس ، وإياس بن عديّ ، وعمرو ابن إياس.

فهؤلاء الشهداء السعداء الذين صدقوا القتال بين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقاتلوا وقتلوا ، رضوان الله عليهم أجمعين.

ولنذكر ما علمناه من خبر قبورهم وتعيينها ، فنقول :

سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ومصرعه

قبر حمزة عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن ذكر أنه معه ...

أخرج البخاري أن وحشيّا قال في خبر : فلما خرج الناس عام عينين ، وعينين جبل بحيال أحد بينه وبينه واد ، خرجت مع الناس إلى القتال ، فلما أن اصطفوا للقتال خرج سباع فقال : هل من مبارز؟ قال : فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب فقال : يا سباع يا ابن أم أنمار مقطعة البظور ، أتحادّ الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ ثم شدّ عليه فكان كأمس الذاهب ، قال : وكمنت لحمزة تحت صخرة ، فلما دنا مني رميته بحربتي فأضعها بين ثدييه حتى خرجت من بين وركيه ، فكان ذلك آخر العهد به ، ثم ذكر مجيئه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يعني لما أسلم ـ وقوله له : أنت قتلت حمزة؟ قال : قلت : قد كان من الأمر ما بلغك ، قال : فهل تستطيع أن تغيّب وجهك عني؟

وروى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقف على حمزة رضي الله تعالى عنه ، وقد مثل به ، جدع أنفه وأذناه وبقر بطنه عن كبده ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لا أن تحزن صفية ويكون سنة من بعدي لتركته

١١٣

حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير ، لن أصاب بمثلك أبدا ، ما وقفت موقفا قط أغيظ إليّ من هذا ، ثم قال : جاءني جبريل وأخبرني أن حمزة مكتوب في أهل السموات السّبع «حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله : وأمر به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسجّي ببردة ثم صلى عليه فكبّر عليه سبعين ودفنه.

واختلاف الروايات في الصلاة على شهداء أحد مشهور ، والذي في الصحيح عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في الثوب الواحد ، ثم يقول : أيهم أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحد قدّمه في اللحد ، وأمر بدفنهم بدمائهم ، ولم يصلّ عليهم ولم يغسلوا.

ونقل ابن شبة عن عبد العزيز عن ابن سمعان عن الأعرج قال : لما قتل حمزة رضي الله تعالى عنه أقام في موضعه تحت جبل الرّماة ، وهو الجبل الصغير الذي ببطن الوادي الأحمر ، ثم أمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحمل عن بطن الوادي إلى الرّبوة التي هو بها اليوم ، وكفنه في بردة ، وكفن مصعب بن عمير في أخرى ، ودفنهما في قبر واحد.

قال عبد العزيز : وسمعت من يذكر أن عبد الله بن جحش بن رئاب قتل معهما ، ودفن معهما في قبر واحد ، وهو ابن أخت حمزة أمّه أميمة بنت عبد المطلب.

قال عبد العزيز : والغالب عندنا أن مصعب بن عمير وعبد الله بن جحش دفنا تحت المسجد الذي بني على قبر حمزة ، وأنه ليس مع حمزة أحد في القبر.

قلت : ينبغي أن يسلم عليهما مع حمزة بمشهده ؛ لأنهما إن لم يكونا معه فبقربه ، ولعل المشهد اليوم أوسع من ذلك المسجد ، وسبق في المساجد ذكر المسجد الذي بمصرع حمزة رضي الله تعالى عنه ، والمسجد الذي في جهة قبلته بطرف جبل الرّماة ، وما جاء فيهما.

عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام

قبر عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر بن عبد الله ، ومن ذكر معهما.

روى مالك بن أنس عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أنه بلغه أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريين ثم السّلميين كانا في قبر واحد ، وكانا ممن استشهد يوم أحد ، وكان قبرهما مما يلي السيل ، فحفر عنهما ليغيرا عن مكانهما ، فوجدا لم يتغيرا كأنما ماتا بالأمس ، وكان أحدهما قد جرح فوضع يده على جرحه ، فدفن وهو كذلك ، فأميطت يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت ، وكان بين يوم أحد ويوم حفر عنهما ست وأربعون سنة.

وقال مالك : إن عمرو بن الجموع وعبد الله بن عمرو كفنا في كفن واحد وقبر

١١٤

واحد ، رواه ابن شبة ، ثم روى بسند جيد عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال : دفن مع أبي رجل يوم أحد في القبر فلم تطب نفسي حتى أخرجته فدفنته على حدة.

قلت : يحتمل أن سبب الإخراج ما تقدّم من أمر السيل ، ووافق ذلك ما في نفس جابر ؛ فتكون القصة واحدة ، لكن روى البخاري في صحيحه خبر جابر مطولا ، وفيه ما لفظه «قال : ودفنت معه آخر في قبره ، فلم تطب نفسي أن أتركه مع أحد ، فاستخرجته بعد ستة أشهر ، فإذا هو كيوم وضعته غير هنية عند أذنه».

فقوله : «بعد ستة أشهر» يقتضي أن ذلك ليس هو قصة أمر السيل ؛ لأن المدة في تلك ست وأربعون سنة.

وروى ابن شبة عن جابر أيضا قال : صرخ بنا إلى قتلانا يوم أحد حين أجرى معاوية العين ، فأتيناهم فأخرجناهم رطابا تتثنّى أجسادهم ، قال سعيد بن عامر أحد رواته : وبين الوقتين أربعون سنة.

وقال ابن إسحاق : حدثني أبي عن رجال من بني سلمة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ـ حين أصيب عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو يوم أحد ـ اجمعوا بينهما ؛ فإنهما كانا متصافيين في الدنيا ، قال أبي : فحدثني أشياخ من الأنصار قالوا : لما ضرب معاوية عينه التي مرت على قبور الشهداء استصرخنا عليهم ، وقد انفجرت العين عليهما في قبورهما ، فجئنا فأخرجناهما وعليهما بردتان قد غطّى بهما وجوههما ، وعلى أقدامهما شيء من نبات الأرض ، فأخرجناهما يتثنيان تثنيا كأنهما دفنا بالأمس ، نقله البيهقي في دلائل النبوة.

وعن جابر من حديث طويل قال : فبينا أنا في النظارين إذا جاءت عمّتي بأبي وخالتي عادلتهما على ناضح ، فدخلت بهما المدينة لتدفنهما في مقابرنا إذ لحق رجل ينادي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمركم أن ترجعوا بالقتلى ، فيدفنوا في مصارعهم حيث قتلوا ، فرجعناهما ، فدفنّاهما حيث قتلا ، فبينا أنا في خلافة معاوية بن أبي سفيان إذ جاءني رجل فقال : يا جابر ، لقد أثار أباك عمال معاوية ، فخرج طائفة منه ، فأتيته فوجدته على النحو الذي دفنته لم يتغير إلا ما لم يدع القتل أو القتال ، فواريته ، الحديث ، رواه أحمد برجال الصحيح خلا نبيح الغنوي وهو ثقة.

قلت : فهذه قصة ثالثة ؛ فيؤخذ من مجموع ذلك أن جابرا حفر عن أبيه ثلاث مرات : الأولى : لعدم طيب نفسه بدفنه مع غيره ، ولعله استأذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك فأذن له ؛ لما يترتب عليه من ظهور ما يشهد لحياة الشهداء وسلامة أبدانهم ، وكان دفنهم مجتمعين للضرورة واتساع الوقت ففعله ، وكأنه لما أخرجه دفنه بإزاء قبر صاحبه وصهره محافظة على القرب من مصرعه ، فقد جاء الأمر بدفنهم في مصارعهم.

١١٥

والثانية : لما أجرى معاوية رضي الله تعالى عنه العين ، وكان في ذلك أيضا ظهور المعجزة بحياة الشهداء ، فقد أسند ابن الجوزي في مشكله عن جابر قال : صرخ بنا إلى قتلانا يوم أحد حين أجرى معاوية رضي الله تعالى عنه العين ، فأخرجناهم بعد أربعين سنة تتثنّى أطرافهم لينة أجسادهم ، وفي بعض طرقه : كأنهم نوّم ، حتى أصابت المسحاة قدم حمزة بن عبد المطلب فانبعث دم.

والثالث : لحفر السيل عنه وعن صاحبه.

وقد روى الواقدي أن قبرهما كان مما يلي السيل ، فحفر عنهما وعليهما نمرتان ، وعبد الله قد أصابه جرح في يده فيده على جرحه فأميطت يده عن جرحه فانبعث الدم ، فردت إلى مكانها فسكن الدم ، قال جابر : فرأيت أبي في حفرته فكأنه نائم ، وبين ذلك ست وأربعون سنة.

قال : ويقال : إن معاوية لما أراد أن يجري الكظامة نادى مناديه بالمدينة : من كان له قتيل بأحد فليشهد ، فخرج الناس إلى قتلاهم ، فوجدوهم رطابا يثنون ، فأصابت المسحاة رجل رجل منهم فانبعث دم ، فقال أبو سعيد الخدري : لا ينكر بعد هذا منكر ، ووجد عبد الله بن عمرو وعمرو بن الجموح في قبر واحد فنقلا ، وذلك أن القناة كانت تمر على قبرهما ، ولقد كانوا يجهزون التراب فحفروا ثره من تراب فاح عليهم ريح المسك.

قلت : وفيه مخالفة لما تقدم عن الصحيح ؛ لاقتضائه بقائهما في قبر واحد حتى كان إجراء العين ، وفي ذلك كله ظهور المعجزة ، وهو السر في تكرر ذلك.

وروى ابن شبة عن أبي قتادة قال : أتى عمرو بن الجموح إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت إن قاتلت حتى أقتل في سبيل الله تراني أمشي برجلي هذه في الجنة؟ قال : نعم ، وكانت عرجاء ، فقتل يوم أحد هو وابن أخيه ، فمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : كأني أراك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة ، وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهما وبمولاهما فجعلوا في قبر واحد.

قال أبو غسان : قال الواقدي : مع عمرو في القبر خارجة بن زيد ، وسعد بن الربيع ، والنعمان بن مالك ، وعبد الله بن الحسحاس ، قال أبو غسان : وقبرهم مما يلي المغرب من قبر حمزة رضي الله تعالى عنه نحو خمسمائة ذراع.

قال : وأما ما يعرف اليوم من قبور الشهداء فقبر حمزة بن عبد المطلب ، وهو في عدوة الوادي الشامية مما يلي الجبل ، وقبر عبد الله بن حرام أبي جابر ومعه عمرو بن الجموح أي في الموضع المتقدم وصفه ، وقبر سهل بن قيس بن أبي كعب بن القين بن كعب بن سواد من بني سلمة وهو دبر قبر حمزة شاميا بينه وبين الجبل.

١١٦

قال : فأما القبور التي في الحظار بالحجارة بين قبر حمزة وبين الجبل فإنه بلغنا أنها قبور أعراب أقحموا زمن خالد إذ كان على المدينة فماتوا هناك فدفنهم ، سؤّال كانوا يسألون عند قبور الشهداء.

قال : وقال الواقدي : هم ماتوا زمن الرّمادة.

قلت : زمن الرمادة عام جدب مشهور ، كان في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.

وأما زمن خالد فيعني به خالد بن عبد الملك بن الحارث ، كان واليا لهشام بن عبد الملك فقحط المطر في ولايته سبع سنين ، وفيها جلا الناس من بادية الحجاز إلى الشام ، ولا يعرف اليوم من قبور الشهداء غير قبر حمزة رضي الله تعالى عنه كما قاله ابن النجار.

قال : وأما بقية الشهداء فهناك حجارة مرصوصة يقال : إنها قبورهم.

قلت : ينبغي أن يسلم على بقيتهم عند قبر حمزة وفي غربيه وشاميه على النحو المتقدم.

وقال المطري ومتابعوه : وشمالي مشهد حمزة رضي الله تعالى عنه آرام من حجارة يقال : إنها من قبور الشهداء ، ولم يثبت ذلك بنقل صحيح.

وقد ورد في بعض كتب المغازي أن هذه القبور قبور أناس ماتوا عام الرّمادة ، ولا شك أن قبور الشهداء رضي الله تعالى عنهم حول قبر حمزة ؛ إذ لا ضرورة أن يبعدوا عنه ، انتهى.

قلت : قد تقدم النقل ببعد بعضهم عنه على نحو خمسمائة ذراع في المغرب ، والمقتضى للبعد الأمر بدفنهم في مصارعهم ، والقبور التي قيل إنها ليست قبورهم هي التي عليها حائز قصير من الأحجار قرب الجبل.

من دفن بالمدينة من قتلى أحد

ذكر قبور من قيل إنه نقل من شهداء أحد ودفن بقبره

قال ابن إسحاق : وكان ناس من المسلمين قد احتملوا قتلاهم إلى المدينة فدفنوهم بها ، فنهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، وقال : ادفنوهم حيث صرعوا.

وتقدم في فصل مقبرة بني سلمة ما روى من دفن بعض قتلى أحد بها ، منهم أبو عمرو بن سكن.

وتقدم في فصل قبل هذا أن خنيس بن حذافة تأخرت وفاته فمات بالمدينة ، ودفن عند عثمان بن مظعون.

وروى ابن شبة عن عبد الرحمن بن عمران عن أبيه قال : نقلنا عبد الله بن سلمة والمحذر بن زياد فدفناهما بقباء.

١١٧

وقال عبد العزيز : إن رافع بن مالك الزرقي قتل بأحد فدفن في بني زريق ، قال : وقيل : إن موضع قبره في دار آل نوفل بن مساحق التي في بني زريق التي في كتّاب عروة.

وعن أبي سعيد الخدري قال أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نقل من شهداء أحد إلى المدينة أن يدفنوا حيث أدركوا ، فأدرك أبي مالك بن سنان عند أصحاب العباء فدفن ، ثم قال ابن أبي فديك : فقبره في المسجد الذي عند أصحاب العباء في طرف الحناطين.

ورواه ابن زبالة بنحوه ، إلا أنه قال : فوافوه بالسوق ، فدفن مالك عند مسجد أصحاب العباء ، وهناك أحجار الزيت.

قلت : وقد قدمنا بيان مشهده في المشاهد ، ولكن روى الترمذي وقال حسن صحيح عن جابر رضي الله تعالى عنه قال : كنا حملنا القتلى يوم أحد لندفنهم ، فجاءنا منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمرنا بدفن القتلى في مصارعهم ، فرددناهم ، وليحمل على من لم يبلغوا به المدينة ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

١١٨

الباب السادس

في آبارها المباركات ، والعين ، والغراس ، والصّدقات التي هي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منسوبات ، وما يعزى إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المساجد ، والمواضع التي صلّى فيها في الأسفار والغزوات ، وفيه خمسة فصول :

الفصل الأول

في آبارها المباركات

ورتبتها على حروف المعجم ، معتمدا للأول فالأول من الاسم الذي تضاف إليه البئر ، وختمته بتتمة في العين المنسوبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والعين الموجودة اليوم ، وغيرهما :

بئر أريس ـ بفتح الهمزة وكسر الراء وسكون المثناة التحتية وإهمال آخره ـ نسبة إلى رجل من يهود يقال له أريس ، ومعناه بلغة أهل الشام الفلّاح.

روينا في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه أنه توضأ في بيته ، ثم خرج فقال : لألزمنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولأكوننّ معه يومي هذا ، فجاء إلى المسجد ، فسأل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : خرج ، وجّه هاهنا ، قال : فخرجت على أثره أسأل عنه ، حتى دخل بئر أريس ، قال : فجلست عند الباب وبابها من جريد حتى قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاجته وتوضأ ، فقمت إليه فإذا هو قد جلس على بئر أريس وتوسّط قفها (١) وكشف عن ساقيه ودلّاهما في البئر ، قال : فسلمت عليه ، ثم انصرفت فجلست عند الباب ، فقلت : لأكوننّ بواب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليوم ، فجاء أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه فدفع الباب فقلت : من هذا؟ فقال : أبو بكر ، فقلت : على رسلك ، قال : ثم ذهبت فقلت يا رسول الله هذا أبو بكر يستأذن ، فقال : ائذن له وبشره بالجنة ، قال : فأقبلت حتى قلت لأبي بكر رضي الله تعالى عنه : ادخل ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبشرك بالجنة ، قال : فدخل أبو بكر وجلس عن يمين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معه في القف ودلّى رجليه في البئر كما صنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكشف عن ساقيه ، ثم رجعت فجلست وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني ، فقلت : إن يرد الله بفلان خيرا يأت به ، فإذا إنسان يحرك الباب ، فقلت : من هذا؟ فقال : عمر بن الخطاب ، فقلت : على رسلك ، ثم جئت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسلمت عليه وقلت : هذا عمر يستأذن ، فقال : ائذن له وبشره بالجنة ، فجئت عمر فقلت : ادخل ويبشرك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجنة ، قال : فدخل فجلس مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القف عن يساره ودلّى رجليه في البئر ، ثم رجعت فجلست فقلت : إن يرد الله بفلان خيرا يعني أخاه يأت به ، فجاء إنسان فحرّك

__________________

(١) القف : ما ارتفع من الأرض وصلبت حجارته. والمراد حائط البئر.

١١٩

الباب ، فقلت : من هذا؟ فقال : عثمان بن عفان ، فقلت : على رسلك ، قال : وجئت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته فقال : ائذن له وبشره بالجنة مع بلوى تصيبه ، فجئت فقلت : ادخل ويبشرك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجنة مع بلوى تصيبك ، قال : فدخل فوجد القف قد ملئ ، فجلس وجاههم من الشق الآخر ، قال شريك : فقال سعيد بن المسيب : فأوّلتها قبورهم.

قلت : وسيأتي في ترجمة الأسواق واقعة مثل هذه كان البواب فيها بلالا.

وروى أحمد والطبراني من وجوه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قصة نحوها أيضا كان هو البواب فيها ، وقال : بحشّ من حشان المدينة ، وبعض أسانيدها رجاله رجال الصحيح ، ولا مانع من تعدد ذلك.

وقد غاير رزين بين بئر أريس وبين البئر التي وقع الجلوس بقفها ، فقال في ذكر الآبار المعروفة بالمدينة : بئر أريس التي سقط فيها الخاتم ، وبئر القف التي أدلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر وعمر أرجلهم فيها ، وذكر بقية الآبار.

وروينا في صحيح البخاري من حديث أنس قال : كان خاتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في يده وفي يد أبي بكر بعده وفي يد عمر بعد أبي بكر ، قال فلما كان عثمان جلس على بئر أريس ، فأخرج الخاتم ، فجعل يعبث به ، فسقط ، فقال : فاختلفنا ثلاثة أيام مع عثمان ، فنزح البئر فلم نجده ، وفي مسند الحميدي عن ابن عمر أنه سقط مع معيقيب ، وثبت ذلك من روايته في صحيح مسلم.

ورواه ابن زبالة عنه في الشك ، فقال : فهو الخاتم الذي سقط من عثمان أو من معيقيب في بئر أريس.

وروى عنه النسائي وابن شبة واللفظ له حديث اتخاذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتمه من الورق ، ونقشه فيه «محمد رسول الله» وصيرورته في يد عثمان سنين من عمله ، ثم قال فيه : فلما كثرت عليه الكتب دفعه إلى رجل من الأنصار فكان يختم به ، فخرج إلى قليب لعثمان فوقع فيها ، فالتمس فلم يوجد ، فأمر بخاتم من ورق فعمل عليه ، ونقش «محمد رسول الله».

ومعيقيب دوسي من أصحاب الهجرتين ، لكن قد يوصف المهاجري بالأنصاري بالمعنى الأعم ، والجمع بأن نسبة السقوط إلى عثمان رضي الله تعالى عنه محاذية لنيابة معيقيب عنه بعيد جدّا ؛ لقوله في رواية البخاري السابقة «فأخرج الخاتم فجعل يعبث به فسقط».

وكان سقوطه بعد ست سنين من خلافته ، وكان فيه سر مما كان في خاتم سليمان عليه الصلاة والسلام ؛ لذهاب ملكه عند فقده ، ولما فقد عثمان الخاتم انتقض عليه الأمر ، وخرج عليه من خرج ، وكان ذلك مبتدأ الفتنة المتصلة إلى آخر الزمان.

وروى ابن زبالة عن ابن كعب القرظي قال : سقط ـ يعني الخاتم ـ من عثمان في بئر

١٢٠