وأقول :
لم يذكر البخاري ولا غيره ممّن اطّلعت على ذكره لهذه الغزوة كالطبري ، وابن الأثير ، أنّ الفتح على يد عمرو (١) ، فلا يبعد أنّه من وضع الفضل.
وأمّا نفيه لوجود ما حكاه المصنّف رحمهالله في صحاحهم ، فلا يدلّ على عدم صحّته ؛ إذ ليس كلّ ما لم يكن فيها غير صحيح عندهم.
وأمّا قوله : « والمفهوم من هذا الخبر ، أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يريد ... » إلى آخره ..
فمنشأه اعوجاج فهمه ، أو تغيير الكلم عن مواضعه ؛ فإنّ صريح الخبر أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أشفق من قولهم بإلهيّة عليّ عليهالسلام ، التي لا يقولها إلّا مبطل ، كإلهيّة المسيح ..
وهو حقّ ؛ فإنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لو ذكر فضله الواقعي ، وأنّ الله أقدره على خوارق العادات ، حيث إنّه أظهر مصاديق قوله تعالى في الحديث القدسي : « عبدي أطعني تكن مثلي ، تقول للشيء : كن ، فيكون » (٢) ، أو بيّن فضائله الفاضلة ، التي يفوق بها الأنبياء السابقين ، ويمتاز بها عن الأمّة أجمعين ، لخاف صلىاللهعليهوآلهوسلم من طوائف من أمّته أن يقولوا بربوبيّته ، كما وقع لكثير منهم لمّا رأوا منه بعض خوارق العادة.
__________________
(١) صحيح البخاري ٥ / ٣٢٩ ح ٣٥٥ ، تاريخ الطبري ٢ / ١٤٦ ـ ١٤٧ ، الكامل في التاريخ ٢ / ١١٠.
(٢) انظر : الجواهر السنيّة في الأحاديث القدسية : ٣٦١.
وقد ورد مضمون هذا الخبر في جملة من أخبار القوم فضلا عن أخبارنا (١) ، فقد حكاه في « ينابيع المودّة » عن أحمد في مسنده من طريقين (٢) ، وكذا عن موفّق بن أحمد (٣).
وقال الشافعي في ما نسب إليه [ من الوافر ] :
لو أنّ المرتضى أبدى محلّه |
|
لصار الخلق طرّا سجّدا له |
كفى في فضل مولانا عليّ |
|
وقوع الشكّ فيه أنّه الله (٤) |
* * *
__________________
(١) انظر : الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد ١ / ١٦٥ ، إعلام الورى ١ / ٣٦٦.
(٢) ينابيع المودّة ١ / ٣٩٣ ح ٥ ، وانظر : المعجم الكبير ١ / ٣٢٠ ح ٩٥١ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٣١ ، كفاية الطالب : ٢٦٤ ، مناقب الإمام عليّ عليهالسلام ـ لابن المغازلي ـ : ٢١٦ ح ٢٨٥.
(٣) ينابيع المودّة ١ / ١٩٩ ـ ٢٠٠ ضمن ح ٢ وص ٣٩١ ح ٤ ـ ٦ ، وانظر : مناقب الإمام عليّ عليهالسلام ـ للخوارزمي ـ : ١٢٩ ح ١٤٣ وص ٣١١ ح ٣١٠.
(٤) انظر : كتاب الأربعين ـ لمحمّد طاهر الشيرازي ـ : ٣٨٠.
٣٨ ـ آية : ( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً )
قال المصنّف ـ أعلى الله درجته ـ (١) :
الثامنة والثلاثون : قوله تعالى : ( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ) (٢).
المؤمن : عليّ عليهالسلام ، الفاسق : الوليد (٣) ؛ نقله الجمهور (٤).
__________________
(١) نهج الحقّ : ١٩٤.
(٢) سورة السجدة : ٣٢ : ١٨.
(٣) هو : الوليد بن عقبة بن أبي معيط الأموي ، أخو عثمان بن عفّان لأمّه ، قتل أبوه بأمر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد معركة بدر ، فقد كان شديد الأذى للرسول والمسلمين ؛ ولّاه عمر بن الخطّاب صدقات بني تغلب ، وكان واليا لعثمان على الكوفة سنة ٢٨ ه ، وعرف بإدمانه على الخمر ، وقد أمّ الناس وهو سكران ، وأقيم عليه الحدّ ، واشتهر بفسقه حتّى أنزل الله فيه هذه الآية ؛ لم يعرف متى ولد ، وقيل : توفّي في زمن معاوية.
انظر : الاستيعاب ٤ / ١٥٥٢ رقم ٢٧٢١ ، تهذيب الكمال ١٩ / ٤٣٥ رقم ٧٣١٧ ، سير أعلام النبلاء ٣ / ٤١٢ رقم ٦٧ ، الإصابة ٦ / ٦١٤ رقم ٩١٥٣ ، تهذيب التهذيب ٩ / ١٥٩ ـ ١٦٠ رقم ٧٧٢٣.
(٤) انظر : فضائل الصحابة ـ لأحمد بن حنبل ـ ٢ / ٧٥٦ ح ١٠٤٣ ، أنساب الأشراف ٢ / ٣٨٠ ـ ٣٨١ ، تفسير الطبري ١٠ / ٢٤٤ ـ ٢٤٥ ح ٢٨٢٦٢ ، الأغاني ٥ / ١٥٣ ، الكامل في الضعفاء ٦ / ١١٨ رقم ١٦٢٦ ، تفسير الثعلبي ٧ / ٣٣٣ ، تاريخ بغداد ١٣ / ٣٢١ رقم ٧٢٩١ ، أسباب النزول ـ للواحدي ـ : ١٩٥ ، مناقب الإمام عليّ عليهالسلام ـ لابن المغازلي ـ : ٢٦٨ ح ٣٧٠ و ٣٧١ ، شواهد التنزيل ١ / ٤٤٥ ـ ٤٥٣ ح ٦١٠ ـ ٦٢٣ ، تفسير البغوي ٣ / ٤٣٣ ، الكشّاف ٣ / ٢٤٥ ـ ٢٤٦ ، أحكام القرآن ـ لابن العربي ـ ٣ / ٥٣٥ ، تاريخ دمشق ٦٣ / ٢٣٥ ، زاد المسير ٦ / ١٨٢ ، مطالب السؤول : ـ
وقال الفضل (١) :
جاء هذا في تفاسير أهل السنّة ، والآية نازلة في عليّ ، وهو من فضائله التي لا تحصر.
__________________
ـ ٩٣ ـ ٩٤ ، كفاية الطالب : ١٤٠ ـ ١٤١ ، تفسير القرطبي ١٤ / ٧٠ ، تفسير ابن كثير ٣ / ٤٤٥ ، تفسير البحر المحيط ٧ / ٢٠٣ ، الدرّ المنثور ٦ / ٥٥٣ ، فتح القدير ٤ / ٢٥٥.
وقد نظم حسان بن ثابت الواقعة في الأبيات التالية ، فانظرها في « كفاية الطالب » :
أنزل الله والكتاب
عزيز |
|
في عليّ وفي
الوليد قرآنا |
فتبوّأ الوليد من
ذاك فسقا |
|
وعليّ مبوّأ
إيمانا |
ليس من كان مؤمنا
عرف الله |
|
كمن كان فاسقا
خوّانا |
فعليّ يجزى هناك
نعيما |
|
ووليد يجزى هناك
هوانا |
سوف يجزى الوليد
خزيا ونارا |
|
وعليّ لا شكّ يجزى
جنانا |
(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ٣ / ٣٥٢.
وأقول :
المراد بالفاسق في الآية : الكافر ، ولو في وقت سابق ، بقرينة المقابلة مع المؤمن.
وإنّما قلنا : ولو في وقت سابق ؛ لأنّ الوليد كان حين نزول الآية مسلما ، فإذا دلّت الآية على عدم استواء الكافر ولو في وقت ما مع المؤمن في جميع أوقاته ، على وجه تفيد قاعدة كلّيّة ، كما هو ظاهرها ، وإن نزلت في مورد خاصّ ، فقد دلّت على عدم استواء الخلفاء الثلاثة مع أمير المؤمنين عليهالسلام ؛ لثبوت الكفر في وقت ، فيتعيّن للإمامة.
فإن قلت : لعلّ المراد بالفاسق ، هو المسلم الذي لم يدخل الإيمان في قلبه ، بقرينة المقابلة مع المؤمن ، وهو الذي دخل الإيمان في قلبه ، قال تعالى : ( قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) (١) ، وحينئذ فلا يقتضي عدم خلافة الثلاثة ؛ لأنّهم ليسوا كالوليد.
قلت : لو سلّم جميع ذلك ، أو قلنا : إنّ الوليد من المنافقين ، يظهر الإيمان ويبطن الكفر ، كما تدلّ على كفره الآيات اللاحقة لهذه الآية ، حيث أثبتت له التكذيب بعذاب النار ، كما ستسمعها ، فقد لزم عدم صحّة خلافة عثمان ؛ لأنّه قد ولّى هذا الفاسق على المسلمين ، وكان يعظّمه كثيرا ـ بعد ما خالف النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في ردّه ـ ، حتّى كان لا يجلس معه على سريره غيره
__________________
(١) سورة الحجرات ٤٩ : ١٤.
وغير العبّاس وأبي سفيان والحكم (١) ، كما رواه القوم (٢) ، وستعرفه إنّ شاء الله تعالى.
اللهمّ إلّا أن يدّعى علمه بإيمان الوليد بعد فسقه ، وهو باطل ؛ فإنّ الله سبحانه لا يفضح على طول الدهر من يعلم بحسن عاقبته.
بل الآيات صريحة بأنّ الوليد مستمرّ على تكذيبه ، وأنّه من أهل النار ..
قال السيوطي في « الدرّ المنثور » أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير عن عطاء بن يسار قال : « نزلت بالمدينة في عليّ ، والوليد بن عقبة ، كان بين الوليد وبين عليّ كلام ..
فقال الوليد : أنا أبسط منك لسانا ، وأحدّ منك سنانا ، وأردّ منك للكتيبة.
فقال عليّ : أسكت! فإنّك فاسق ؛ فأنزل تعالى : ( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ) (٣) (٤) .. الآيات كلّها ويعني بالآيات قوله تعالى :
__________________
(١) هو : الحكم بن أبي العاص بن أميّة الأموي ، عمّ عثمان بن عفّان ، أسلم بعد الفتح ، وقد طرده الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الطائف ؛ لأنّه كان يفشي أسرار الرسول ، ويحاكيه في حركاته ، وهو الذي قال فيه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « ويل لأمّتي ممّا في صلب هذا » ؛ أعاده عثمان إلى المدينة وآواه ووصله بمئة ألف ، إلى أن توفّي بها على عهده.
انظر : الاستيعاب ١ / ٣٥٩ رقم ٥٢٩ ، الجرح والتعديل ٣ / ١٢٠ رقم ٥٥٥ ، الإصابة ٢ / ١٠٤ ١٧٨٣ ، سير أعلام النبلاء ٢ / ١٠٧ رقم ١٤
(٢) انظر : الأغاني ٥ / ١٣٥ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٧ / ٢٢٧.
(٣) سورة السجدة ٣٢ : ١٨.
(٤) الدرّ المنثور ٦ / ٥٥٣ ، وانظر : تفسير الطبري ١٠ / ٢٤٥ ح ٢٨٢٦٢.
( أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ) (١).
وإذا بطلت إمامة عثمان ، بطلت إمامة صاحبيه ؛ لأنّها من باب واحد ، واختصّت بعليّ عليهالسلام ، لا سيّما وقد بشّر بجنّة المأوى.
وقد سبق في الآية الثانية والثلاثين أنّ بشارة شخص بالجنّة وإعلامه بأنّه من أهلها يستدعي تفضيله وإمامته (٢).
* * *
__________________
(١) سورة السجدة ٣٢ : ١٩ و ٢٠.
(٢) راجع الصفحة ١٤٣ ـ ١٤٤ من هذا الجزء.
٣٩ ـ آية : ( وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ )
قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ (١) :
التاسعة والثلاثون : قوله تعالى : ( أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ ) (٢).
روى الجمهور ، أنّ ( فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ) : رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والشاهد : عليّ عليهالسلام (٣).
* * *
__________________
(١) نهج الحقّ : ١٩٥.
(٢) سورة هود ١١ : ١٧.
(٣) تفسير الحبري : ٢٧٩ ـ ٢٨٠ ح ٣٦ ـ ٣٧ ، تفسير الطبري ٧ / ١٧ ح ١٨٠٦١ و ١٨٠٦٢ ، تفسير الثعلبي ٥ / ١٦٢ ، معرفة الصحابة ـ لأبي نعيم ـ ١ / ٨٨ ح ٣٤٦ ، ما نزل من القرآن في عليّ ـ لأبي نعيم ـ : ١٠٦ ، مناقب الإمام عليّ عليهالسلام ـ لابن المغازلي ـ : ٢٣٦ ح ٣١٨ ، شواهد التنزيل ١ / ٢٧٥ ـ ٢٨٢ ح ٣٧٢ ـ ٣٨٧ ، تفسير البغوي ٢ / ٣١٨ ، مناقب الإمام عليّ عليهالسلام ـ للخوارزمي ـ : ٢٧٨ ح ٢٦٧ ، تاريخ دمشق ٤٢ / ٣٦٠ ، زاد المسير ٤ / ٦٦ ، تفسير الفخر الرازي ١٧ / ٢٠٩ ، تذكرة الخواصّ : ٢٥ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٦ / ١٣٧ ، كفاية الطالب : ٢٣٥ ، تفسير القرطبي ٩ / ١٣ ، الدرّ المنثور ٤ / ٤٠٩ ـ ٤١٠.
وقال الفضل (١) :
ليس هذا من تفاسير أهل السنّة (٢) ، وإن صحّ كان سهلا.
* * *
__________________
(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ٣ / ٣٥٧.
(٢) انظر : الهامش ٣ من الصفحة السابقة ، وما سيأتي من ردّ الشيخ المظفّر قدسسره ، حتّى يتّضح الحقّ.
وأقول :
قال الرازي : ذكروا في تفسير « الشاهد » وجوها ـ إلى أن قال ـ :
« ثالثها : إنّ المراد : عليّ بن أبي طالب ، والمعنى : أنّه يتلو تلك البيّنة.
وقوله : ( مِنْهُ ) ، أي هذا الشاهد من محمّد وبعض منه ، والمراد منه تشريف هذا الشاهد بأنّه بعض من محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم » (١).
وقال السيوطي في « الدرّ المنثور » : « أخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في ( المعرفة ) ، عن عليّ بن أبي طالب ، قال : ما من رجل من قريش إلّا نزل فيه طائفة من القرآن.
فقال له رجل : ما نزل فيك؟
قال : أما تقرأ سورة هود : ( أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ ) (٢)؟! رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ( عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ) ، وأنا : ( شاهِدٌ مِنْهُ )» (٣)
ونحوه في تفسير الطبري (٤).
وقال السيوطي أيضا : أخرج ابن مردويه ، وابن عساكر ، عن عليّ ، قال : « رسول الله : ( عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ) ، وأنا : ( شاهِدٌ مِنْهُ )» (٥).
__________________
(١) تفسير الفخر الرازي ١٧ / ٢٠٩.
(٢) سورة هود ١١ : ١٧.
(٣) الدرّ المنثور ٤ / ٤٠٩ ـ ٤١٠ ، وانظر : معرفة الصحابة ١ / ٨٨ ح ٣٤٦.
(٤) تفسير الطبري ٧ / ١٧ ح ١٨٠٦٢.
(٥) الدرّ المنثور ٤ / ٤١٠ ، وانظر : تاريخ دمشق ٤٢ / ٣٦٠ ح ٨٩٥٢.
وقال أيضا : أخرج ابن مردويه من وجه آخر ، عن عليّ ، قال : « قال رسول الله : ( أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ ) ، قال : عليّ » (١).
.. إلى غير ذلك ممّا حكي عن الثعلبي وجماعة (٢).
وحينئذ ، فالآية دالّة على إمامة أمير المؤمنين عليهالسلام من وجوه :
الأوّل : إنّها جعلت عليّا عليهالسلام شاهدا ، والمراد به : الشاهد على الأمّة ، بقرينة جعله تاليا لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهو يعطي الولاية على أمورهم ، كما قال تعالى : ( إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ) (٣) ..
وقال تعالى : ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ ) (٤).
الثاني : إنّها جعلت عليّا بعضا من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، كما قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : « عليّ منّي ، وأنا من عليّ » (٥) ..
وهو دليل المشاركة في العصمة ، والفضل ، وسائر الصفات الحميدة ، فيكون الأحقّ بخلافته.
الثالث : إنّها جعلت عليّا تاليا للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ؛ فإنّ ضمير المفعول في ( يَتْلُوهُ ) مذكّر ، وهو على الظاهر عائد إلى ( فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ
__________________
(١) الدرّ المنثور ٤ / ٤١٠.
(٢) انظر : تفسير الثعلبي ٥ / ١٦٢ ، تذكرة الخواصّ ، ينابيع المودّة ١ / ٢٩٤ ح ٣ ، فرائد السمطين ١ / ٣٣٨ ـ ٣٤١ ح ٢٦٠ ـ ٢٦٣.
(٣) سورة الفتح ٤٨ : ٨.
(٤) سورة النحل ١٦ : ٨٩.
(٥) تقدّم عن البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد ، وغيرهم ؛ فانظر : ج ٤ / ٣٠٧ ه ١ وص ٤٠٦ ه ١ من هذا الكتاب ؛ فراجع!
رَبِّهِ )، لا إلى « البيّنة » ، وإن احتمل بعيدا رجوعه إليها باعتبار أنّها بمعنى البرهان.
والمراد من تلوّه له : تعقّبه إيّاه ، إمّا في القيام مقامه بصيرورته خليفة له ..
أو في كونه مثله على بيّنة من ربّه ..
أو في كونه ظهيرا له على دعوته ، كما ورد عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه دعا ربّه أن يشدّ أزره بعليّ ، ويشركه في أمره ، فكان منه بمنزلة هارون من موسى (١).
وعلى جميع الاحتمالات ، فالآية تدلّ على المطلوب ..
أمّا على الأوّل ؛ فظاهر ..
وأمّا على الثاني ؛ فلأنّ المراد بكون النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم على بيّنة من ربّه :
إمّا كونه ذا برهان على ما يدّعيه ؛ لثبوت المعجزة له من الله تعالى ..
أو كونه عالما بأنّ منزلته بجعل من الله تعالى.
وعلى الوجهين : فالتالي له ـ أي المماثل له في ذلك ـ لا بدّ أن يكون هو الإمام من عند الله تعالى ؛ لأنّ من يحتاج إلى البيّنة والإعجازهو النبيّ أو الإمام من الله تعالى ، ومن يعلم بأنّ منزلته من الله سبحانه لا بدّ أن يكون منصوصا عليه.
وأمّا على الثالث ؛ فلأنّ عليّا إذا كان هو الظهير لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في نشر دعوته كهارون من موسى ، كان أولى الناس بخلافته.
__________________
(١) انظر : فضائل الصحابة ـ لأحمد بن حنبل ـ ٢ / ٨٤٣ ـ ٨٤٤ ح ١١٥٨ ، شواهد التنزيل ١ / ٣٦٨ ـ ٣٧١ ح ٥١٠ ـ ٥١٣ ، تاريخ دمشق ٤٢ / ٥٢ ، تفسير الفخر الرازي ١٢ / ٢٨ ، الدرّ المنثور ٥ / ٥٦٦.
ثمّ إنّه على تقدير رجوع ضمير المفعول في ( يَتْلُوهُ ) إلى البيّنة ، بلحاظ معناها ـ وهو البرهان ـ ، فالدلالة على إمامة الشاهد ـ وهو عليّ أيضا ـ واضحة ؛ لأنّ تلوّه للبرهان بالشهادة للنبيّ بالنبوّة ظاهر في أنّه معتبر الشهادة بها ، كالمعجزات ، فهو من علائم النبوّة وشواهدها ، وكفاه بذلك فضلا على الأمّة ؛ فيكون إمامها.
فالآية ـ على هذا ـ نظير قوله تعالى : ( كَفى بِاللهِ شَهِيداً ... وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) (١).
وقد أوضحنا دلالته على إمامة أمير المؤمنين عليهالسلام ، في ما سبق (٢).
* * *
__________________
(١) سورة الرعد ١٣ : ٤٣.
(٢) انظر الصفحة ١١٧ وما بعدها من هذا الجزء.
٤٠ ـ آية : ( فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ )
قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ (١) :
الأربعون : قوله تعالى : ( فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ ) (٢).
قال الحسن البصري : استوى (٣) الإسلام بسيف عليّ عليهالسلام (٤).
* * *
__________________
(١) نهج الحقّ : ١٩٥.
(٢) سورة الفتح ٤٨ : ٢٩.
(٣) استوى الشيء : اعتدل ؛ انظر : لسان العرب ٦ / ٤٤٧ مادّة « سوا ».
(٤) انظر : تفسير الحسن البصري ٢ / ٢٩٣ ، تنوير المقباس من تفسير ابن عبّاس : ٥٤٦ وقال فيه : « ( فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ ) فقام على إظهار أمره في قريش بعليّ بن أبي طالب » ، وانظر : تفسير البغوي ٤ / ١٨٦.
وقال الفضل (١) :
جاء في التفسير ، أنّ هذه نزلت في الخلفاء الأربع : ( كَزَرْعٍ ) : رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ( أَخْرَجَ شَطْأَهُ ) : أبو بكر ، ( فَآزَرَهُ ) : عمر ، ( فَاسْتَغْلَظَ ) : عثمان ، ( فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ ) : عليّ (٢).
وهو من فضائله الكبيرة ، ولا يدلّ على النصّ.
* * *
__________________
(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ٣ / ٣٥٩.
(٢) تفسير البغوي ٤ / ١٨٦ ، الكشّاف ٣ / ٥٥١ ، زاد المسير ٧ / ٢١٦ ـ ٢١٧ ، شواهد التنزيل ٢ / ١٨٤ ـ ١٨٥ ح ٨٩٠ و ٨٩١ ، الدرّ المنثور ٧ / ٥٤٤.
وأقول :
نعم ، قاله بعض مفسّريهم برأيه ، وذكر بعضهم قريبا منه (١).
ولعلّه أيضا مذكور في ما حكاه المصنّف رحمهالله عن الحسن ، وإن خلا عنه ما نقله في « كشف الغمّة » عن ابن مردويه عن الحسن (٢).
لكن لعلم المصنّف رحمهالله بخطئه في حقّ الخلفاء الثلاثة ترك ذكره ، لا سيّما مع عدم مناسبته للترتيب والعطف بالفاء بالآية ؛ لأنّ الإسلام لم يكن استغلاظه بأيّام عثمان ، بل قبله ، خصوصا في أيّام عمر ، فلو قال : فاستغلظ : في أيّام عمر ، فآزره : عثمان ؛ كان له وجه ، لكنّه لا يناسب ترتيب الآية والعطف بالفاء.
كما أنّ الإسلام قد استوى بسيف عليّ في أيّام النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وكذا الاستغلاظ وغيره.
وبالجملة : ما ذكره الحسن وغيره ، من استواء الإسلام بسيف عليّ عليهالسلام ، حجّة عليهم بإقرارهم ، كما هو ضروريّ ، وهو دالّ على كبير جهاد أمير المؤمنين دون غيره.
ومن كثر جهاده ، وفاق غيره ، حتّى استوى الإسلام بسيفه ، كان
__________________
(١) راجع الصفحة السابقة ه ٢ ، وانظر : روح المعاني ٢٦ / ١٩٤ وقال بعد إيراده جملة من هذه الأخبار : « وكلّ هذه الأخبار لم تصحّ في ما أرى ، ولا ينبغي تخريج ما في الآية عليها ».
(٢) كشف الغمّة ١ / ٣١٦.
الأفضل عند الله تعالى ، والأحقّ بالإمامة ؛ لفضله ، ولكونه لمّا استوى الإسلام بسيفه أوّلا ، كان أولى بنصره أخيرا ، وأرعى له فروعا وأصولا.
* * *
٤١ ـ آية : ( يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ )
قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ (١) :
الحادية والأربعون : قوله تعالى : ( يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ ) (٢).
قال جابر الأنصاري : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : « الناس من شجر شتّى ، وأنا وأنت يا عليّ من شجرة واحدة » (٣).
* * *
__________________
(١) نهج الحقّ : ١٩٥.
(٢) سورة الرعد ١٣ : ٤.
(٣) المعجم الأوسط ٤ / ٤٤٣ ح ٤١٥٠ ، المستدرك على الصحيحين ٢ / ٢٦٣ ح ٢٩٤٩ ، تفسير الثعلبي ٥ / ٢٧٠ ، موضّح أوهام الجمع والتفريق ١ / ٤٩ ، فردوس الأخبار ١ / ٤٣ ح ١١٢ عن ابن عبّاس وج ٢ / ٣٧٦ ح ٧١٣٩ عن ابن عمر ، مناقب الإمام عليّ عليهالسلام ـ للخوارزمي ـ : ١٤٣ ح ١٦٥ ، تاريخ دمشق ٤٢ / ٦٤ و ٦٥ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٠٠ ، كنز العمّال ١١ / ٦٠٨ ح ٣٢٩٤٣ و ٣٢٩٤٤.
وقال الفضل (١) :
قوله : ( يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ ) نزل في بيان أنّ الفواكه تختلف طعومها ، مع أنّها تسقى بماء واحد ، هذا من غرائب صنع الله ، وما ذكره من الحديث لا ربط له بالآية.
والعجب أنّ كلام هذا الرجل في غاية التشويش ، وكأنّه يزعم أنّ أحدا لا ينظر في كتابه ، أو كان ضعيف الرأي لا يعرف ربط الدليل بالمدّعى.
* * *
__________________
(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ٣ / ٣٦١.
وأقول :
قال السيوطي في « الدرّ المنثور » : أخرج الحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، عن جابر : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : « يا عليّ! الناس من شجر شتّى ، وأنا وأنت من شجرة واحدة » ، ثمّ قرأ النبيّ : ( وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ ) (١) (٢).
وفي « كنز العمّال » (٣) ، عن الديلمي ، عن جابر ، نحوه.
والآية وإن استفيد من ظاهرها بيان قدرة الله تعالى حيث أخرج من الأرض بماء واحد أشجارا وزروعا مختلفة ، وفضّل بعضها على بعض في الأكل ، لكن لا ينافي أنّ الله سبحانه ضرب بها مثلا لفضل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأمير المؤمنين عليهالسلام على الناس ، مع اتّفاقهم بأصل واحد.
أو أنّ للآية باطنا ، كما ورد أنّ للكتاب الشريف ظهرا وبطنا (٤) ؛ ولذا كان فيه بيان كلّ شيء لا يعلمه إلّا الله والراسخون في العلم.
وكيف كان ، فالمراد أنّ النبيّ وعليّا مخلوقان من نور واحد ، متّفقان بالصفات الفاضلة والمنافع ، ومخالفان للناس ، كما أنّ الناس مختلفون في ما بينهم ، فهما صنوان ، أي كنخلتين أو نخيل على أصل واحد ، ومن
__________________
(١) سورة الرعد ١٣ : ٤.
(٢) الدرّ المنثور ٤ / ٦٠٥ ، وانظر : المستدرك على الصحيحين ٢ / ٢٦٣ ح ٢٩٤٩.
(٣) ص ١٥٤ من الجزء السادس [ ١١ / ٦٠٨ ح ٣٢٩٤٣ ]. منه قدسسره.
وانظر : فردوس الأخبار ١ / ٤٣ ح ١١٢ عن ابن عبّاس وج ٢ / ٣٧٦ ح ٧١٣٩ عن ابن عمر.
(٤) حلية الأولياء ١ / ٦٥.