وقال الفضل (١) :
ذكر المفسّرون من أهل السنّة أنّ الآية نزلت في عليّ ، وهو من فضائله ، ولا يثبت به مدّعى النصّ.
* * *
__________________
(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ٣ / ٢٥٢.
وأقول :
روى الواحدي في « أسباب النزول » ذلك عن ابن عبّاس ، ومجاهد ، والكلبي (١).
ونسب السيوطي في « الدرّ المنثور » روايته إلى ابن جرير ، وعبد الرزّاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن عساكر (٢).
ونسبه المصنّف رحمهالله في « منهاج الكرامة » إلى الثعلبي ، وأبي نعيم (٣).
ورواه أيضا الزمخشري ، والرازي ، وغيرهم (٤).
لكنّ ابن تيميّة ـ كعادته ـ زعم كذب الحديث ؛ بحجّة أنّ الإنفاق في السرّ والعلانية لا يخرج عن الإنفاق بالليل والنهار ، فكيف يكون مقابلا له (٥)؟! وأظهر التبجّح بكلامه كعادته.
وفيه : إنّ المراد هو الإنفاق بالليل سرّا وعلانية ، وبالنهار كذلك ، أو أنّ المراد أنّه أنفق درهمين بالليل والنهار ، ثمّ أنفق درهمين سرّا وعلانية ، فلحظ أوّلا : خصوصيّة الوقت ، ولحظ ثانيا : خصوصيّة الوصف.
__________________
(١) أسباب النزول : ٤٩ ، وانظر : تنوير المقباس : ٥١ ، تفسير الكلبي ١ / ٩٤.
(٢) الدرّ المنثور ٢ / ١٠٠ ، وانظر : تاريخ دمشق ٤٢ / ٣٥٨ ، المعجم الكبير ١١ / ٨٠ ح ١١١٦٤.
(٣) منهاج الكرامة : ١٣٧ ، وانظر : تفسير الثعلبي ٢ / ٢٧٩ ، ما نزل من القرآن في عليّ ـ لأبي نعيم ـ : ٤٣.
(٤) تفسير الكشّاف ١ / ٣٩٨ ، تفسير الفخر الرازي ٧ / ٩١ ، وانظر : تفسير ابن كثير ١ / ٣٠٨ ، مجمع الزوائد ٦ / ٣٢٤ ، أسد الغابة ٣ / ٦٠١ ، الصواعق المحرقة : ٢٠٢.
(٥) منهاج السنّة ٧ / ٢٢٩.
ووجه الدلالة على المطلوب ؛ أنّ ذكر الله سبحانه لهذه الصدقة الخاصّة ، وبشارته لأجلها ـ مع قلّتها وكثرة المتصدّقين بنحوها وأضعافها ـ ، أقوى دليل على فضله على غيره بالمعرفة والإخلاص ؛ فيكون أتقى الناس ، وأفضلهم ، وأولادهم بالإمامة.
هذا ، ونقل الزمخشري عن بعضهم ، أنّها نزلت في أبي بكر ، حيث تصدّق بأربعين ألف دينار ، عشرة بالليل ، وعشرة بالنهار ، وعشرة في السرّ ، وعشرة في العلانية (١)!
ولا أدري ، أ أعجب من تخيّل القائل أنّ مدار الفضل على الكثرة دون الإخلاص ، حتّى نسب لأبي بكر الصدقة بهذا المقدار ، ليعارض صدقة أمير المؤمنين عليهالسلام ويفوقها؟!
أم أعجب من إرادته إثبات منقبة هي بالمنقصة أشبه ؛ إذ لا يجتمع هذا المال مع ضعف المسلمين إلّا من نهاية الإمساك؟!
أم أعجب من دعوى وجود هذا المال عند أبي بكر ، البالغ أربعمئة ألف درهم ، وهو كان معلّما للصبيان في الجاهلية ، وخيّاطا في الإسلام (٢) ، ولم يكن قسمه من الغنائم إلّا كواحد من المسلمين ، وقد كان ماله عند الهجرة خمسة آلاف درهم أو ستّة آلاف ، كما رواه الحاكم عن ابنته أسماء (٣) ، ورواه أحمد عنها في مسنده (٤) ، فمن أين اجتمع له ذلك
__________________
(١) تفسير الكشّاف ١ / ٣٩٨.
(٢) انظر : الصوارم المهرقة : ٣٢٤ عن صحيح البخاري ، مصنّف ابن أبي شيبة ١ / ٣٢٦ ب ٦٨ ح ٩ ، وراجع الصفحة ٦٠ ه ٤ من هذا الجزء.
(٣) ص ٥ من الجزء الثالث من المستدرك [ ٣ / ٦ ح ٤٢٦٧ ]. منه قدسسره.
وانظر : البداية والنهاية ٣ / ١٤١.
(٤) ص ٣٥٠ من الجزء السادس. منه قدسسره.
المال؟!
أم أعجب من خفاء الصدقة بهذا المال على عامّة الناس حتّى أظهرها هذا الراوي ، وهي ممّا ينبغي أن تغني أكثر أهل المدينة في ذلك اليوم؟!
أم أعجب من سماحة نفسه بهذا المال ، وهو قد ضنّ (١) على أهله بالقليل؟!
فقد ذكرت أسماء في تتمّة الحديث المذكور ، أنّ أبا بكر انطلق بذلك المال لمّا هاجر ، ولم يترك لهم شيئا (٢)!
ولو كان من أهل الصدقة بمثل ذلك المقدار ، فلم أشفق من تقديم الصدقة اليسيرة في النجوى (٣)؟!
ولم أخذ من رسول الله حين الهجرة والضيق قيمة البعير الذي ابتاعه منه (٤) ، وهم قد زعموا أنّه واسى النبيّ بماله؟!
فانظر واعتبر!!
* * *
__________________
(١) الضّنّة والضّنّ والمضنّة والمضنّة : الإمساك والبخل ، وضنّ بالشيء ضنّا : بخل به ؛ انظر : لسان العرب ٨ / ٩٤ مادّة « ضنن ».
(٢) المستدرك على الصحيحين ٣ / ٦ ذ ح ٤٢٦٧.
(٣) انظر : الصفحة ٣١ وما بعدها من هذا الجزء.
(٤) انظر : الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ١ / ١٧٦ ، تاريخ الطبري ١ / ٥٦٨ و ٥٧٠ ، البداية والنهاية ٣ / ١٤٥ و ١٤٩.
٢٥ ـ آية الصلاة على النبيّ
قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ (١) :
الخامسة والعشرون : قوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (٢).
في صحيح مسلم : قلت : يا رسول الله! أمّا السلام عليك فقد عرفناه ، وأمّا الصلاة عليك فكيف هي؟
فقال : « قولوا : اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم (٣).
__________________
(١) نهج الحقّ : ١٨٧.
(٢) سورة الأحزاب ٣٣ : ٥٦.
(٣) صحيح مسلم ٢ / ١٦ ، وانظر : صحيح البخاري ٤ / ٢٨٩ ح ١٧٢ وج ٦ / ٢١٧ ح ٢٩١ ، سنن أبي داود ١ / ٢٥٥ ح ٩٧٦ ـ ٩٧٨ وص ٢٥٦ ح ٩٨٠ و ٩٨١ ، سنن الترمذي ٥ / ٣٣٤ ـ ٣٣٥ ح ٣٢٢٠ ، سنن النسائي ٣ / ٤٥ ، سنن ابن ماجة ١ / ٢٩٢ ـ ٢٩٣ ح ٩٠٣ ـ ٩٠٦ ، الموطّأ : ١٥٢ ح ٧٣ ، كتاب الأمّ ١ / ٢٢٨ ـ ٢٢٩ ، مسند أحمد ١ / ١٦٢ وج ٣ / ٤٧ وج ٤ / ١١٨ ـ ١١٩ وج ٥ / ٢٧٤ ، سنن الدارمي ١ / ٢٢١ ح ١٣٤٣ ـ ١٣٣٤ ، صحيح ابن خزيمة ١ / ٣٥١ ـ ٣٥٢ ح ٧١١ ، مسند البزّار ٣ / ١٥٧ ح ٩٤١ و ٩٤٢ ، مسند أبي يعلى ٢ / ٢١ ـ ٢٢ ح ٦٥٢ ـ ٦٥٤ ، المعجم الكبير ٥ / ٢١٨ ح ٥١٤٣ وج ١٧ / ٢٥١ ح ٦٩٧ و ٦٩٨ وج ١٩ / ١١٦ ح ٢٤١ ، المعجم الأوسط ٣ / ٨٨ ح ٢٣٨٩ وص ١٥٦ ح ٢٦٠٦ و ٢٦٠٨ وج ٥ / ٤١ ح ٤٤٨١ وج ٧ / ٩١ ح ٦٨٣٨ ، المعجم الصغير ١ / ٧٥ و ٨٦ ، مسند الطيالسي : ١٤٢ ح ١٠٦١ ، مصنّف عبد الرزّاق ٢ / ٢١٢ ـ ٢١٣ ح ٣١٠٥ ـ ٣١٠٩ ، مسند الحميدي ـ
وقال الفضل (١) :
كأنّه نسي المدّعى ، وهو إثبات النصّ ، وأخذ يذكر فضائل عليّ ، وهذا أمر مسلّم ، واتّفق العلماء على أنّه نزلت فيهم آيات كثيرة ، ومن يظنّ أنّه ينكر فضل محمّد وآله؟! فما ينكره إلّا من ينكر ضوء الشمس والقمر!!
* * *
__________________
ـ ٢ / ٣١١ ح ٧١١ و ٧١٢ ، مصنّف ابن أبي شيبة ٢ / ٣٩٠ ـ ٣٩١ ح ١ ـ ٥ ، مسند عبد بن حميد : ١٤٤ ح ٣٦٨ ، مسند الروياني ١ / ٣٥ ح ٥٧ ، مسند أبي عوانة ١ / ٥٢٦ ـ ٥٢٧ ح ١٩٦٦ ـ ١٩٧٢ ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان ٣ / ٢٠٦ ـ ٢٠٧ ح ١٩٥٤ ـ ١٩٥٦ ، سنن الدارقطني ١ / ٢٧٩ ح ١٣٢٣ و ١٣٢٤ ، المستدرك على الصحيحين ١ / ٤٠١ ـ ٤٠٢ ح ٩٨٨ و ٩٩١ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٢ / ١٤٧ ـ ١٤٨.
(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ٣ / ٢٧٢.
وأقول :
جهل المعترض أو تجاهل في مقصود المصنّف رحمهالله ؛ فإنّه يستدلّ بالآيات والروايات على إمامة أمير المؤمنين ؛ إمّا لدلالتها عليها بالمطابقة ، أو بالالتزام ؛ لدلالتها على أفضليّته المستلزمة للإمامة (١).
وأنت تعلم دلالة هذه الآية على أفضليّة آل محمّد ؛ لأنّها أوجبت الصلاة على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأرادت بها الصلاة عليه وعلى آله معا ، مشيرة بالاكتفاء بذكره إلى أنّه وإيّاهم كنفس واحدة ، وأنّه منهم وهم منه ، فلا بدّ أن يكونوا أفضل من سائر الأمّة.
على أنّ مجرّد وجوب الصلاة عليهم كالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم دليل على أنّ لهم فضلا ومنزلة يستحقّون بها الصلاة وإيجابها على الأمّة كالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وكفى بذلك فضلا باذخا.
والمراد بآل محمّد : « عليّ وفاطمة والحسن والحسين » كما نطقت به الأخبار المتواترة ك « حديث الكساء » وغيره (٢) ، ولا شكّ أنّ عليّا أفضلهم ، فيكون هو الإمام.
__________________
(١) أي إنّ الأدلّة على إمامة عليّ عليهالسلام تكون تارة بالدلالة المطابقية ، وهي النصّ ، وأخرى بلوازم الإمامة ، كالعصمة والأفضلية ؛ وإذا ثبتت أفضليّته على غيره أصبح ذلك صغرى لقاعدة قبح تقديم المفضول على الفاضل أو الأفضل.
(٢) صحيح مسلم ٧ / ١٢١ و ١٣٠ ، التاريخ الكبير ٢ ق ٢ / ٦٩ رقم ١٧١٩ ، سنن الترمذي ٥ / ٣٢٧ ح ٣٢٠٥ وص ٥٩٦ ذ ح ٣٧٢٤ وص ٦٢١ ح ٣٧٨٧ ، مسند أحمد ١ / ١٨٥ وج ٤ / ١٠٧ وج ٦ / ٢٩٢ و ٢٩٨ و ٣٠٤ ، وانظر : ج ٤ / ٣٥٧ وما بعدها من هذا الكتاب.
وإنّما قلنا : إنّ الآية أرادت الصلاة عليه وعلى آله معا ؛ لتصريح الأخبار المفسّرة لكيفية الصلاة على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بذلك ؛ كالرواية التي نقلها المصنّف رحمهالله عن مسلم ، فإنّه رواها من طرق في باب الصلاة على النبيّ بعد التشهّد ، من كتاب الصلاة (١).
ونحوها في « صحيح البخاري » ، في تفسير سورة الأحزاب (٢).
ولا يبعد عن الصواب من ادّعى تواترها (٣).
وأمّا قوله : « ومن يظنّ أنّه ينكر فضل محمّد وآله ... » إلى آخره.
ففيه : إنّه ليس الكلام في فضلهم ، بل أفضليّتهم وإمامتهم ، والقوم ـ كما ترى ـ قد اجتهدوا في إنكارهما مراغمة (٤) للأدلّة الواضحة ، بل اجتهدوا في درس فضائلهم بكلّ ما تناله أوهامهم ، وجدّوا في الإزراء بهم والغضّ من شأنهم.
كما يشهد له أنّهم مع وجود هذه الآية الشريفة وتلك الأخبار المستفيضة ـ وهي بمرأى منهم ومسمع ـ تراهم إذا ذكروا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أفردوه عن آله بالصلاة ، وإذا ذكروا واحدا من آله الطاهرين لم يصلّوا أو لم يسلّموا عليه كما أمر الله ورسوله ، بل يترضّون عليه كسائر المسلمين ، مع أنّه قد ورد عندهم أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، نهى عن الصلاة البتراء ، فقيل له : وما الصلاة البتراء؟
__________________
(١) صحيح مسلم ٢ / ١٦.
(٢) صحيح البخاري ٦ / ٢١٧ ح ٢٩١.
(٣) انظر : المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٦٠ ح ٤٧١٠ ، جامع الأحاديث الكبير ٢ / ١٣١ ح ٤٣٩٣.
(٤) المراغمة : الهجران والمنابذة والتباعد والمغاضبة والمعاداة والكراهية ، على المجاز هنا ؛ انظر : تاج العروس ١٦ / ٢٩٤ ـ ٢٩٥ مادّة « رغم ».
قال : « تقولون : اللهمّ صلّ على محمّد وتمسكون ، بل قولوا : اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد » ، كما ذكره ابن حجر في « الصواعق » ، في الآية الثانية من الآيات الواردة في أهل البيت (١).
نعم ، ربّما يصلّون على آله معه في أوائل مصنّفاتهم أو أواخرها ، ولكن يضيفون إليه صحبه ، كراهة لإفرادهم وتمييزهم على صحبه بالاقتران مع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، كما ميّزهم الله ورسوله.
ويشهد له أيضا ما ذكره الزمخشري في تفسير الآية ، فإنّه بعد ما ذكر الخلاف في وجوبها ، كلّما يذكر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أو في كلّ مجلس مرّة ، أو في العمر مرّة ، قال :
« القياس جواز الصلاة على سائر المؤمنين ؛ لقوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ) (٢) وقوله تعالى : ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) (٣) وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : اللهمّ صلّ على آل أبي أوفى.
ولكنّ للعلماء تفصيلا في ذلك ، وهو : إنّها إن كانت على سبيل التّبع كقولك : صلّى الله على النبيّ وآله ، فلا كلام فيها.
وأمّا إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة كما يفرد هو ، فمكروه ؛ لأنّ ذلك صار شعارا لذكر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولأنّه يؤدّي إلى الاتّهام بالرفض وقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفنّ
__________________
(١) الصواعق المحرقة : ٢٢٥ ، وانظر : سنن الدار قطني ١ / ٢٨١ ح ١٣٢٨ و ١٣٢٩ ، فردوس الأخبار ٢ / ٣١١ ح ٦٤٠٣ ، الشفا ٢ / ٦٤ ، جواهر العقدين : ٢١٧ و ٢٢١ ، كشف الغمّة عن جميع الأمّة ـ للشعراني ـ ١ / ٣٤٢ ، رشفة الصادي : ٦٨.
(٢) سورة الأحزاب ٣٣ : ٤٣.
(٣) سورة التوبة ٩ : ١٠٣.
مواقف التهم » (١)
ويرد عليه :
أوّلا : إنّه إذا لم يكن لهم كلام في الصلاة عليهم على سبيل التبع ، فلم التزموا بتركها إذا ذكروه صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ كما سبق ـ؟! فهل المنشأ غير الانحراف عن آل محمّد؟!
ثانيا : لا تصحّ كراهتها عند انفرادهم بالذكر ، وما ذكره من صيرورتها شعارا لذكر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فهو لا يوجب الكراهة ؛ لأنّهم منه وهو منهم ، وتعظيمهم تعظيمه ، وما بالهم جعلوها شعارا لذكره صلىاللهعليهوآلهوسلم دونهم ، وهم شركاؤه في أمر الله بالصلاة عليهم؟!
وأمّا الاتّهام بالرفض ؛ فهو لو اقتضى كراهة الصلاة على آل محمّد ، وتغيير حكم الله تعالى ، لأدّى إلى كراهة حبّهم ، ولعلّه لهذا تظهر منهم آثار العداوة لآل محمّد.
على أنّ الاتّهام إنّما يقتضي الكراهة في مقام التهمة ، فما بالهم تركوا الصلاة على آل محمّد في كلّ مقام؟!
وأمّا الحديث ؛ فلو صحّ لم يمكن أن يفهم منه مسلم إرادة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم النهي عن تعظيم آله الطاهرين ، الذي هو من علائم الإيمان ، ومأمور به في الكتاب العزيز.
* * *
__________________
(١) الكشّاف ٣ / ٢٧٣.
٢٦ ـ آية : ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ )
قال المصنّف ـ رفع الله درجته ـ (١) :
السادسة والعشرون : قوله تعالى : ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ ) (٢).
روى الجمهور ، قال ابن عبّاس : عليّ وفاطمة ، و ( بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ ) (٣) : النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ( يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ ) (٤) : الحسن والحسين (٥).
ولم يحصل لغيره من الصحابة هذه الفضيلة.
* * *
__________________
(١) نهج الحقّ : ١٨٨.
(٢) سورة الرحمن ٥٥ : ١٩.
(٣) سورة الرحمن ٥٥ : ٢٠.
(٤) سورة الرحمن ٥٥ : ٢٢.
(٥) تفسير الثعلبي ٩ / ١٨٢ ، ما نزل من القرآن في عليّ ـ لأبي نعيم ـ : ٢٣٦ ، الدرّ المنثور ٧ / ٦٩٧ ، مناقب الإمام عليّ عليهالسلام ـ لابن المغازلي ـ : ٢٧٧ ح ٣٩٠ ، شواهد التنزيل ٢ / ٢٠٨ ـ ٢١٢ ح ٩١٨ ـ ٩٢٣ ، مقتل الحسين عليهالسلام ـ للخوارزمي ـ : ١٦٨ ح ٧٥ ، تذكرة الخواصّ : ٢١٢ ، نور الأبصار : ١٢٤.
وقال الفضل (١) :
ليس هذا من تفاسير أهل السنّة ، ثمّ ما ذكره من أنّ النبيّ برزخ بين فاطمة وعليّ ، فلا وجه له ، وإن صحّ التفسير دلّ على فضيلته ، لا على النصّ المدّعى.
* * *
__________________
(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ٣ / ٢٧٧.
وأقول :
ذكره السيوطي في تفسيره « الدرّ المنثور » ، نقلا عن ابن مردويه عن ابن عبّاس وأنس بن مالك ، إلّا أنّ أنسا لم يذكر تفسير البرزخ بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم (١).
ونقله في « ينابيع المودّة » ، عن الثعلبي ، وأبي نعيم ؛ والمالكي عن أبي سعيد ، وابن عبّاس ، وأنس (٢).
ثمّ نقله عن الصادق عليهالسلام ، عن أبي ذرّ (٣).
ونقله عن سفيان الثوري (٤).
ونقله أيضا ابن تيميّة عن الثعلبي ، عن سفيان الثوري (٥) ، وناقش في سنده بما سبق جوابه في مقدّمة الكتاب وغيرها (٦) ، وأورد عليه بما شاء الجهل والنصب ؛ وفي نقله وردّه ضياع المداد والقرطاس!
وأمّا دلالته على المطلوب ، فظاهرة ؛ لأنّ الله سبحانه شبّه عليّا عليهالسلام بالبحر لغزارة علمه ، ولا مبالغة في قول الله سبحانه وشهادته لعبده ، فيكون
__________________
(١) الدرّ المنثور ٧ / ٦٩٧.
(٢) ينابيع المودّة ١ / ٣٥٤ ح ٤.
(٣) ينابيع المودّة ١ / ٣٥٥ ح ٥.
(٤) ينابيع المودّة ١ / ٣٥٤ ح ٤.
(٥) منهاج السنّة ٧ / ٢٤٦ ـ ٢٤٩.
(٦) راجع ج ١ / ٧ وما بعدها ، وج ٤ / ٣٩٦ و ٤١٩.
أمير المؤمنين ظاهر الامتياز على من لم يعرف الأبّ والكلالة (١) ، ومن كانت المخدّرات أفقه منه (٢) ؛ فيكون هو الإمام.
وأمّا تشبيه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بالبرزخ بينهما ؛ فلأنّه الهادي لهما ، ولا بدّ أن يتّبعاه ؛ لعصمتهما ، فلا يبغي أحدهما على الآخر.
ويقرّب إرادة عليّ وفاطمة عليهماالسلام من ( الْبَحْرَيْنِ ) ، أنّه لو أريد ظاهرهما ، احتاج الحكم بخروج اللؤلؤ والمرجان منهما إلى توسّع ؛ لأنّهما إنّما يخرجان من أحدهما كما قيل.
__________________
(١) هما أبو بكر وعمر ؛ انظر مثلا : سنن الدارمي ٢ / ٢٤٩ ح ٢٩٦٨ ، مصنّف عبد الرزّاق ١٠ / ٣٠٤ ـ ٣٠٥ ح ١٩١٩١ ـ ١٩١٩٥ ، مصنّف ابن أبي شيبة ٧ / ٣٦٣ ح ٧ ، تفسير الطبري ١٢ / ٤٥٣ ح ٣٦٣٨٧ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٦ / ٢٢٣ ، المستدرك على الصحيحين ٢ / ٥٥٩ ح ٣٨٩٧ ، الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٣ / ٢٦١ ، تاريخ بغداد ١١ / ٤٦٨ ـ ٤٦٩ ، شعب الإيمان ٢ / ٤٢٤ ح ٢٢٨١ ، النهاية في غريب الحديث والأثر ١ / ١٣ مادّة « أبب » ، الكشّاف ٤ / ٢٢٠ ، تفسير القرطبي ١٩ / ١٤٥ ، الدرّ المنثور ٨ / ٤٢١.
وسيأتي تفصيل ذلك في محلّه من الجزء السابع.
(٢) إشارة إلى قول عمر بن الخطّاب : « كلّ أحد أفقه من عمر ، حتّى المخدّرات » ؛ انظر مثلا : سنن سعيد بن منصور ١ / ١٦٧ ذ ح ٥٩٨ ، تمهيد الأوائل : ٥٠١ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ٢ / ٣٠٣ ـ ٣٠٤ ، الكشّاف ١ / ٥١٤ ، تفسير القرطبي ٥ / ٦٦ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٢ / ١٥ ، تفسير ابن كثير ١ / ٤٤٢ ، مجمع الزوائد ٤ / ٢٨٤ ، الدرّ المنثور ٢ / ٤٦٦ ، فتح القدير ١ / ٤٤٣.
وسيأتي تفصيل ذلك في محلّه من الجزء السابع.
٢٧ ـ آية : ( وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ )
قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ (١) :
السابعة والعشرون : قوله تعالى : ( وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) (٢).
روى الجمهور ، عن عبد الله بن سلّام ، قال : هو عليّ (٣).
__________________
(١) نهج الحقّ : ١٨٨.
(٢) سورة الرعد ١٣ : ٤٣.
(٣) انظر : تفسير الحبري : ٢٨٥ ـ ٢٨٦ ح ٤١ ، تفسير الثعلبي ٥ / ٣٠٣ ، ما نزل من القرآن في عليّ ـ لأبي نعيم ـ : ١٢٥ ، مناقب الإمام عليّ عليهالسلام ـ لابن المغازلي ـ : ٢٦٢ ح ٢٥٨ ، شواهد التنزيل ١ / ٣٠٧ ـ ٣١٠ ح ٤٢٢ ـ ٤٢٧ ، زاد المسير ٤ / ٢٦١ ، تفسير القرطبي ٩ / ٢٢٠ ، ينابيع المودّة ٢ / ٢٥٠ ح ٧٠٣.
وقال الفضل (١) :
جمهور المفسّرين على أنّ المراد به علماء اليهود الّذين أسلموا ، كعبد الله بن سلّام وأضرابه (٢).
وقيل : المراد به هو الله تعالى ، ويكون جمعا بين الوصفين (٣).
وأمّا نزوله في شأن عليّ ، فليس في التفاسير ؛ وإن سلّمنا لا يستلزم المطلوب.
* * *
__________________
(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ٣ / ٢٨٣.
(٢) انظر : تفسير الفخر الرازي ١٩ / ٧٦ القول الأوّل ، تفسير القرطبي ٩ / ٢٢٠ ، تفسير ابن كثير ٢ / ٥٠٢ ، الدرّ المنثور ٤ / ٦٦٩ ، وغيرها.
وراجع الآية الرابعة والسبعين الآتية في الصفحة ٣٣٠ وما بعدها من هذا الجزء.
نقول : لقد ردّ أغلب المفسّرين هذا القول فتعقّبوه بأنّ هذه الرواية شاذّة وغريبة ؛ لأنّ عبد الله بن سلّام أسلم في المدينة ، والآية نزلت في مكّة.
(٣) انظر : تفسير الفخر الرازي ١٩ / ٧٧ القول الرابع ، تفسير القرطبي ٩ / ٢٢٠ ، الدرّ المنثور ٤ / ٦٦٨ و ٦٦٩.
وأقول :
نقله المصنّف رحمهالله في « منهاج الكرامة » عن الثعلبي (١).
ونقل فيه أيضا مثله عن أبي نعيم ، عن ابن الحنفيّة (٢).
ونقله في « ينابيع المودّة » عن الثعلبي ، وأبي نعيم ، عن ابن الحنفيّة (٣).
ونقل أيضا عن الثعلبي ، وابن المغازلي ، عن عبد الله بن عطاء ، قال : « كنت مع محمّد الباقر في المسجد فرأيت ابن عبد الله بن سلّام ...
فقلت : هذا ابن الذي عنده علم الكتاب؟
قال : إنّما ذلك عليّ بن أبي طالب عليهالسلام » (٤).
ثمّ ذكر في « الينابيع » أنّه روي أيضا عن أبي سعيد الخدري ، والإمام موسى بن جعفر عليهالسلام ، وزيد بن عليّ ، وإسماعيل السّدّي ، أنّهم قالوا : هو عليّ بن أبي طالب (٥).
.. إلى غير ذلك ممّا في « الينابيع » (٦).
__________________
(١) منهاج الكرامة : ١٤٠ ، وانظر : تفسير الثعلبي ٥ / ٣٠٣.
(٢) منهاج الكرامة : ١٣٩ ، وانظر : ما نزل من القرآن في عليّ ـ لأبي نعيم ـ : ١٢٥.
(٣) ينابيع المودّة ١ / ٣٠٥ ح ٢.
(٤) ينابيع المودّة ١ / ٣٠٥ ح ١ ، وانظر : مناقب الإمام عليّ عليهالسلام ـ لابن المغازلي ـ : ٢٦٢ ح ٢٥٨ ، شواهد التنزيل ١ / ٣٠٨ ح ٤٢٥.
(٥) ينابيع المودّة ١ / ٣٠٧ ح ٧ و ٨ ، وانظر : شواهد التنزيل ١ / ٣٠٧ ح ٤٢٢.
(٦) انظر : ينابيع المودّة ١ / ٣٠٨ ح ١١ ـ ١٣.
ويؤيّده الأخبار الكثيرة الآتية في الآية التاسعة والثلاثين ، الواردة في تفسير الشاهد بقوله تعالى : ( أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ ) (١) ؛ إذ فسّرته بعليّ (٢) ، فإنّها تؤيّد أن يكون الذي عنده علم الكتاب ، المجعول شهيدا مع الله تعالى في قوله عزّ وجلّ : ( كَفى بِاللهِ شَهِيداً ... وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) (٣) ، هو أمير المؤمنين.
ويشهد لإرادة عليّ عليهالسلام في الآية ، التعبير عنه ب ( مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) ، الدالّ على إحاطة علمه بما في الكتاب ـ أعني القرآن ـ كما هو المنصرف ؛ إذ لا يحيط به علما غير قرينه الذي أمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بالتمسّك به معه.
كما يشهد لعدم إرادة ابن سلّام ، ما في « الدرّ المنثور » ، عن سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وغيرهم ، أنّهم أخرجوا عن سعيد بن جبير ، أنّه سئل عن قوله تعالى : ( وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) أهو عبد الله ابن سلّام؟
قال : وكيف؟! وهذه السورة مكّيّة!! (٤).
وفي « الدرّ المنثور » أيضا : عن ابن المنذر ، أنّه أخرج عن الشعبي ، قال : ما نزل في عبد الله بن سلّام شيء من القرآن (٥).
__________________
(١) سورة هود ١١ : ١٧.
(٢) تأتي في الصفحة ١٨٨ من هذا الجزء.
(٣) سورة الرعد ١٣ : ٤٣.
(٤) الدرّ المنثور ٤ / ٦٦٩ ، وانظر : الإتقان في علوم القرآن ١ / ٣٦ ، تفسير الثعلبي ٥ / ٣٠٢ ، تفسير القرطبي ٩ / ٢٢٠ ، ينابيع المودّة ١ / ٣٠٨ ح ١٠ وزاد فيه : « وعبد الله بن سلّام أسلم في المدينة بعد الهجرة ».
(٥) الدرّ المنثور ٤ / ٦٦٩.
وأمّا ما حكاه من قول بعضهم : إنّ المراد به هو الله سبحانه (١) ، فغير متّجه ؛ لأنّ ظاهر العطف التعدّد ، مع أنّه يبعد التعبير عن الله سبحانه ب ( مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) ، ولا سيّما مع عطفه على لفظ الجلالة ، فإنّه لا يحسن أو لا يصحّ عطف الصفة على الموصوف.
ولا إشكال بدلالة الآية الكريمة على إمامة أمير المؤمنين ؛ لاقتضائها فضله الظاهر على غيره ، وعصمته ؛ لجعل الله سبحانه شهادته كافية في ثبوت نبوّة نبيّنا صلىاللهعليهوآلهوسلم ، من حيث ظهور فضله ومعرفته وفهمه وكماله وعصمته ، واجتنابه الكذب والنقائص ، حتّى عدّت شهادته بقرن (٢) شهادة الله تعالى ، فلا بدّ أن يكون هو الإمام ، ولا سيّما أنّ عنده علم الكتاب.
__________________
(١) تقدّم في الصفحة ١١٦ من هذا الجزء.
(٢) القرن : لدة الرّجل ، ومثله في السّنّ ، ويقال : هو على قرني ، أي على سنّي وعمري ، كالقرين ، فهما إذا متّحدان ؛ انظر : تاج العروس ١٨ / ٤٤٣ مادّة « قرن ».
والمعنى هنا على المجاز : إنّ شهادة الإمام عليّ عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي بدرجة شهادة الله تعالى له ، ومساوقة لها في الأثر.
٢٨ ـ آية : ( يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ ... )
قال المصنّف ـ نوّر الله ضريحه ـ (١) :
الثامنة والعشرون : قوله تعالى : ( يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) (٢).
قال ابن عبّاس : عليّ وأصحابه (٣).
* * *
__________________
(١) نهج الحقّ : ١٨٩.
(٢) سورة التحريم ٦٦ : ٨.
(٣) ما نزل من القرآن في عليّ ـ لأبي نعيم ـ : ٢٦٢.