وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى - ج ٢

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى - ج ٢

المؤلف:

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي


المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨١

ورواه مسلم من طريق مالك بن أنس بنحوه ، وقال : لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر.

والخوخة : طاقة في الجدار تفتح لأجل الضوء ، ولا يشترط علوها ، وحيث تكون سفلى يمكن الاستطراق منها لاستقراب الوصول إلى مكان مطلوب ، وهو المقصود هنا ، لهذا أطلق عليها باب ، وقيل : لا يطلق عليها باب إلا إذا كانت تغلق.

وفي حديث ابن عباس المشار إليه في الصلاة أن ذلك في مرضه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي مات فيه ، ولمسلم من حديث جندب : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول قبل أن يموت بخمس ليال ، وذكر الحديث.

وروى عبد الله بن أحمد برجال ثقات عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أبو بكر صاحبي ومؤنسي في الغار ، سدوا كل خوخة في المسجد غير خوخة أبي بكر.

وروى الطبراني بإسناد حسن عن معاوية رضي‌الله‌عنه نحوه ، وفيه أن ذلك بعد أن صب عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سبع قرب من آبار شتى ، ولفظه : انظروا هذه الأبواب الشوارع في المسجد فسدوها إلا ما كان من باب أبي بكر.

وروى أبو يعلى ـ ورجاله ثقات ـ عن عائشة نحوه أيضا.

وفي طبقات ابن سعد : أخبرنا قتيبة بن سعيد البلخي ثنا الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن أعظم الناس علي منّا في صحبته وذات يده أبو بكر ، فأغلقوا هذه الأبواب الشارعة كلها في المسجد إلا باب أبي بكر.

وقال قتيبة بن سعيد : قال الليث بن سعد : قال معاوية بن صالح : فقال ناس : أغلق أبوابنا وترك باب خليله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد بلغني الذي قلتم في باب أبي بكر ، وإني أرى على باب أبي بكر نورا ، وأرى على ابوابكم ظلمة.

وفيها أيضا : أخبرنا محمد بن عمر قال : حدثني الزبير بن موسى عن أبي الحويرث قال : لما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأبواب تسد إلا باب أبي بكر قال عمر : يا رسول الله دعني افتح كوة أنظر إليك حين تخرج إلى الصلاة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا.

قال الخطابي وابن بطال : في هذا الحديث إشارة قوية إلى استحقاق أبي بكر رضي‌الله‌عنه للخلافة ، ولا سيما وقد ثبت أن ذلك كان في آخر حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الوقت الذي أمرهم فيه أن لا يؤمهم إلا أبو بكر.

قال الحافظ ابن حجر : وقد ادعى بعضهم أن الباب كناية عن الخلافة ، والأمر بالسد كناية عن طلبها ، كأنه قال : لا يطلبن أحد الخلافة إلا أبا بكر فإنه لا حرج عليه في طلبها ،

٦١

وإلى هذا جنح ابن حبان ، وقوى بعضهم ذلك بأن منزل أب بكر كان بالسّنح (١) من عوالي المدينة فلا يكون له خوخة إلى المسجد.

قال الحافظ ابن حجر : وهذا الاستناد ضعيف ؛ لأنه لا يلزم من كون منزله كان بالسّنح أن لا يكون له دار مجاورة للمسجد ، ومنزله الذي كان بالسنح هو منزل أصهاره من الأنصار ، وقد كان له إذ ذاك زوجة أخرى ، وهي أسماء بنت عميس ، بالاتفاق ، وأم رومان على القول بأنها كانت باقية يومئذ ، وقد ذكر عمر بن شبة في أخبار المدينة أن دار أبي بكر التي أذن له في إبقاء الخوخة منها إلى المسجد كانت ملاصقة للمسجد ، ولم تزل بيد أبي بكر حتى احتاج إلى شيء يعطيه لبعض من وفد عليه فباعها فاشترتها منه حفصة أم المؤمنين بأربعة آلاف درهم.

قلت : وسيأتي بقية ما ذكره في إدخالها في المسجد في زيادة عمر رضي‌الله‌عنه.

وقال ابن شبة أيضا في ذكر دور بني تيم : اتخذ أبو بكر رضي‌الله‌عنه دارا في زقاق البقيع قبالة دار عثمان الصغرى ، واتخذ منزلا آخر أيضا عند المسجد ، وهو المنزل الذي قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سدوا عني هذه الأبواب إلا ما كان من باب أبي بكر.

قال أبو غسان : أخبرني محمد بن إسماعيل بن أبي فديك أن عمه أخبره أن الخوخة الشارعة في دار القضاء في غربي المسجد خوخة أبي بكر الصديق التي قال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سدوا عني هذه الأبواب إلا ما كان من خوخة أبي بكر الصديق ، واتخذ أبو بكر أيضا بيتا بالسنح ، اه كلام ابن شبة.

وقال الجمال المطري : وأما خوخة أبي بكر رضي‌الله‌عنه فإن ابن النجار قال : قال أهل السير : إن باب أبي بكر كان عربي المسجد ، ونقل أيضا أنه كان قريب المنبر ، ولما زادوا في المسجد إلى حده في الغرب نقلوا الخوخة (٢) وجعلوها في مثل مكانها أولا ، كما نقل باب عثمان إلى موضعه اليوم.

قال المطري : وباب خوخة أبي بكر اليوم هو باب خزانة لبعض حواصل الحرم ، إذا دخلت من باب السلام كانت على يسارك قريبا من الباب.

قلت : وهذه الخزانة جعل في جهتها عند عمارة المدرسة الأشرفية ثلاثة أبواب ، ومحل الخوخة من ذلك الباب الثالث من على يسارك إذا دخلت من باب السلام ، وتعرف قديما بخزانة النورة لوضعها فيها للعمارة.

__________________

(١) السّنح : موضع بعوالي المدينة فيه منازل بني الحارث بن الخزرج.

(٢) الخوخة : باب صغير وسط باب كبير نصب حاجزا بين دارين ـ وهو الكوّة في البيت تؤدّي إليه الضوء.

٦٢

وكلامه في ذلك يوافق ما ذكره ابن زبالة فإنه قال : وحدثني محمد بن إسماعيل عن إسحاق بن مسلم أن الخوخة التي إلى جنب باب زياد في غربي المسجد الشارعة في رحبة القضاء هي يمنى خوخة أبي بكر ، لما زيد في المسجد نحّيت فجعلت يمناها : أي : في موازاتها من جهة اليمين ، ورحبة القضاء خلف الخوخة المتقدم وصفها من جهة الحصن العتيق المتخذ مدرسة للسلطان الأشرف بعد الحريق الذي أدركناه.

قال الحافظ ابن حجر : وقد جاء في سد الأبواب التي حول المسجد أحاديث يخالف ظاهرها ما تقدم : منها حديث سعد بن أبي وقاص قال : أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسد الأبواب الشارعة في المسجد ، وترك باب علي ، أخرجه أحمد والنسائي وإسناده قوي ، وفي رواية للطبراني في الأوسط رجالها ثقاة : فقالوا يا رسول الله سددت أبوابنا ، فقال : ما أنا سددتها ولكن الله سدها ، وعن زيد بن أرقم قال : كان لنفر من الصحابة أبواب شارعة في المسجد ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سدوا هذه الأبواب إلا باب علي ، فتكلم ناس في ذلك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني والله ما سددت شيئا ولا فتحته ، ولكن أمرت بشيء فاتبعته ، أخرجه أحمد والنسائي والحاكم ورجاله ثقات.

قلت : لفظ رواية أحمد : عن زيد بن أرقم قال : كان لنفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبواب شارعة في المسجد ، قال : فقال يوما : سدوا هذه الأبواب إلا باب علي ، فتكلم أناس في ذلك ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحمد الله وأثنى عليه وقال : أما بعد فإني قد أمرت بسد هذه الأبواب غير باب علي ، فقال فيه قائلكم ، وإني والله ما سددت شيئا ولا فتحته ، الحديث.

وعن ابن عباس قال : أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأبواب المسجد فسدت إلا باب علي ، وفي رواية : وأمر بسد أبواب المسجد غير باب علي ؛ فكان يدخل المسجد وهو جنب ليس له طريق غيره ، أخرجهما أحمد والنسائي ، ورجالهما ثقات.

وعن جابر بن سمرة قال : أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسد الأبواب كلها غير باب علي ، فربما مر فيه وهو جنب ، أخرجه الطبراني.

وعن ابن عمر : كنا نقول في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : رسول الله «خير الناس ، ثم أبو بكر ، ثم عمر ، ولقد أعطى علي بن أبي طالب ثلاث خصال لأن يكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم : زوجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابنته وولدت له ، وسد الأبواب إلا بابه في المسجد ، وأعطى له الراية يوم (١) خيبر ، أخرجه أحمد ، وإسناده حسن.

وأخرج النسائي من طريق العلاء بن عرار ـ بمهملات ـ قال : قلت لابن عمر : أخبرني عن علي وعثمان ، فذكر الحديث ، وفيه : وأما علي فلا تسأل عنه أحدا ، وانظر إلى منزله من

__________________

(١) يوم خيبر : يوم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لأعطين الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله».

٦٣

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قد سد أبوابنا في المسجد وأقر بابه ، ورجاله رجال الصحيح ، إلا العلاء وقد وثقه يحيى بن معين وغيره.

قال الحافظ ابن حجر : وهذه الأحاديث تقوي بعضها بعضا ، وكل طريق منها صالحة للاحتجاج ، فضلا عن مجموعها ، وقد أورد ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات ، وأخرجه من حديث سعد بن أبي وقاص وزيد بن أرقم وابن عمر مقتصرا على بعض طرقه عنهم ، وأعلّه ببعض من تكلم فيه من رواته ، وليس ذلك بقادح لما ذكرت من كثرة الطرق ، وأعله أيضا بأنه مخالف للأحاديث الصحيحة الثابتة في باب أبي بكر ، وزعم أنه من وضع الرافضة قابلوا به الحديث الصحيح في باب أبي بكر.

قال الحافظ ابن حجر : وقد أخطأ في ذلك خطأ شنيعا ؛ فإنه سلك رد الأحاديث الصحيحة بتوهمه المعارضة ، مع أن الجمع بين القصتين ممكن.

وقد أشار إلى ذلك البزار في مسنده فقال : ورد من روايات أهل الكوفة بأسانيد حسان في قصة علي ، وورد من روايات أهل المدينة في قصة أبي بكر فإن ثبتت روايات أهل الكوفة فالجمع بينهما بما دل عليه حديث أبي سعيد الخدري ـ يعني الذي أخرجه الترمذي ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لا يحل لأحد أن يطرق هذا المسجد جنبا غيري وغيرك ، والمعنى أن باب علي كان إلى جهة المسجد ، ولم يكن لبيته باب غيره ؛ فلذلك لم يؤمر بسده.

ويؤيد ذلك ما أخرجه إسماعيل القاضي في أحكام القرآن من طريق المطلب بن عبد الله بن حنطب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يأذن لأحد أن يمر في المسجد وهو جنب إلا لعلي بن أبي طالب ؛ لأن بيته كان في المسجد ، ومحصل الجمع أن الأمر بسد الأبواب وقع مرتين ، ففي الأولى استثنى عليا لما ذكره من كون بابه كان إلى المسجد ولم يكن له غيره ، وفي الأخرى استثنى أبا بكر ، ولكن لا يتم ذلك إلا بأن يحمل ما في قصة علي على الباب الحقيقي ، وما في قصة أبي بكر على الباب المجازي ، والمراد به الخوخة كما صرح به في بعض طرقه ، وكأنهم لما أمروا بسد الأبواب سدوها وأحدثوا خوخا يستقربون الدخول إلى المسجد منها ، فأمروا بعد ذلك بسدها.

فهذه طريقة لا بأس بها في الجمع بين الحديثين المذكورين ؛ وبها جمع بينهما الطحاوي في مشكل الآثار ، والكلاباذي في معاني الأخبار ، وصرح بأن بيت أبي بكر كان له باب من خارج المسجد وخوخة إلى داخل المسجد ، وبيت علي لم يكن له باب إلا من داخل المسجد ، انتهى ما أورده الحافظ بن حجر في ذلك.

قلت : والعبارة تحتاج إلى تنقيح ؛ لأن ما ذكره بقوله «ومحصل الجمع» طريقة أخرى في الجمع غير الطريقة المتقدمة ؛ إذ محصل الطريقة المتقدمة أن البابين بقيا ، وأن المأمورين بالسد

٦٤

هم الذين كان لهم أبواب إلى غير المسجد مع أبواب من المسجد ، وأما علي فلم يكن بابه إلا من المسجد ، وأن الشارع صلى‌الله‌عليه‌وسلم خصّه بذلك ، وجعل طريقه إلى بيته المسجد لما سبق ، فباب أبي بكر هو المحتاج إلى الاستثناء ، ولذلك اقتصر الأكثر عليه ، ومن ذكر باب علي فإنما أراد بيان أنه لم يسد ، وأنه وقع التصريح بإبقائه أيضا ، والطريقة الثانية تعدد الواقعة ، وأن قصة علي كانت متقدمة على قصة أبي بكر رضي‌الله‌عنهما.

ويؤيد ذلك ما أسنده يحيى من طريق ابن زبالة وغيره عن عبد الله بن مسلم الهلالي عن أبيه عن أخيه قال : لما أمر بسد أبوابهم التي في المسجد خرج حمزة بن عبد المطلب يجر قطيفة له حمراء ، وعيناه تذرفان يبكي يقول : يا رسول الله أخرجت عمك وأسكنت ابن عمك ، فقال : ما أنا أخرجتك ولا أسكنته ، ولكن الله أسكنه ، فذكر حمزة رضي‌الله‌عنه في القصة يدل على تقدمها.

وروى البزار وفيه ضعفاء قد وثقوا عن علي رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :انطلق فمرهم فليسدوا أبوابهم ، فانطلقت فقلت لهم ، ففعلوا إلا حمزة ، فقلت : يا رسول الله قد فعلوا إلا حمزة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قل لحمزة فليحول بابه ، فقلت : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمرك أن تحول بابك ، فحوله ، فرجعت إليه وهو قائم يصلي ، فقال : ارجع إلى بيتك.

وروى البزار بإسناد قال الهيثمي : فيه من لم أعرفه ، عن علي رضي‌الله‌عنه قال : أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيدي ، فقال : إن موسى سأل ربه أن يطهر مسجده بهارون ، وإني سألت ربي أن يطهر مسجدي بك وبذريتك ، ثم أرسل إلى أبي بكر أن سد بابك ، فاسترجع ثم قال : سمع وطاعة ، فسد بابه ، ثم أرسل إلى عمر ، ثم أرسل إلى العباس بمثل ذلك ، ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما أنا سددت أبوابكم وفتحت باب علي ، ولكن الله فتح باب علي وسد أبوابكم».

قلت : ذكر العباس بدل حمزة هنا وفيما سيأتي فيه نظر ؛ لأنه يقتضي تأخر ذلك ؛ لأنه إنما قدم المدينة عام الفتح.

وأسند ابن زبالة ويحيى من طريقه عن رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : بينما الناس جلوس في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ خرج مناد فنادى : أيها الناس سدوا أبوابكم ، فتحسحس (١) الناس لذلك ولم يقم أحد ، ثم خرج الثانية فقال : أيها الناس سدوا أبوابكم ، فلم يقم أحد ، فقال الناس : ما أراد بهذا؟ فخرج فقال : أيها الناس سدوا أبوابكم قبل أن ينزل العذاب ، فخرج الناس مبادرين ، وخرج حمزة بن عبد المطلب يجر كساءه حين نادى

__________________

(١) تحسحس الناس : تحركوا ببطء. حسحس للشيء : توجّع وأظهر إحساسه بالألم منه.

٦٥

سدوا أبوابكم ، قال : ولكل رجل منهم باب إلى المسجد أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم ، قال : وجاء علي حتى قام على رأس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ما يقيمك؟ ارجع إلى رحلك ، ولم يأمره بالسد ، فقالوا : سدّ أبوابنا وترك باب علي وهو أحدثنا ، فقال بعضهم : تركه لقرابته ، فقالوا : حمزة أقرب فيه ، وأخوه من الرضاعة وعمه ، وقال بعضهم تركه من أجل ابنته ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخرج إليهم بعد ثالثة فحمد الله وأثنى عليه محمرا وجهه ـ وكان إذا غضب احمر عرق في وجهه ـ ثم قال : أما بعد ذلكم فإن الله أوحى إلى موسى أن اتخذ مسجدا طاهرا لا يسكنه إلا هو وهارون وأبناء هارون شبرا وشبيرا ، وإن الله أوحى إلي أن أتخذ مسجدا طاهرا لا يسكنه إلا أنا وعلي وأبناء علي حسن وحسين ، وقد قدمت المدينة ، واتخذت بها مسجدا ، وما أردت التحول إليه حتى أمرت ، وما أعلم إلا ما علّمت ، وما أصنع إلا ما أمرت ، فخرجت على ناقتي ، فلقيني الأنصار يقولون : يا رسول الله انزل علينا ، فقلت : خلوا الناقة فإنها مأمورة حتى نزلت حيث بركت ، والله ما أنا سددت الأبواب وما أنا فتحتها ، وما أنا أسكنت عليا ، ولكن الله أسكنه.

وروى أحمد بإسناد حسن عن سعد بن مالك قال : أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسد الأبواب الشارعة في المسجد ، وترك باب علي رضي‌الله‌عنه ، ورواه أبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط ، وزاد : قالوا : يا رسول الله سددت أبوابنا كلها إلا باب علي ، قال : ما أنا سددت أبوابكم ، ولكن الله سدها.

وأسنده يحيى عنه بلفظ : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بالأبواب فسدت إلا باب علي ، فقال العباس : يا رسول الله سددت أبوابنا إلا باب علي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أنا سددتها ولا أنا فتحتها.

وعن جابر بن سمرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : سدوا أبواب المسجد إلا باب علي ، فقال رجل : اترك لي قدر ما أخرج وأدخل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لم أومر بذلك ، قال : اترك بقدر ما أخرج صدري يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لم أومر بذلك ، وانصرف ، قال رجل : فبقدر رأسي يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لم أومر بذلك ، وانصرف واجدا (١) باكيا حزينا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لم أومر بذلك ، سدوا الأبواب إلا باب علي.

ورواه الطبراني عن جابر مختصرا ، وفي ناصح بن عبد الله ، وهو متروك ، ولفظ الطبراني : أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسد الأبواب كلها غير باب علي رضي‌الله‌عنه ، فقال

__________________

(١) واجدا : حزينا غاضبا.

٦٦

العباس : يا رسول الله اترك لي قدر ما أدخل أنا وحدي وأخرج ، فقال : ما أمرت بشيء من ذلك ، فسدها كلها غير باب علي ، قال : وربما مر وهو جنب.

وأسند ابن زبالة ويحيى من طريقه عن عمرو بن سهل أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بسد الأبواب الشوارع في المسجد ، قال له رجل من أصحابه : يا رسول الله دع لي كوة أنظر إليك منها حين تغدو وحين تروح ، فقال : لا والله ولا مثل ثقب الإبرة.

قلت : وقد اقتضى ذلك المنع من الخوخة أيضا ، بل ومما دونها ، عند الأمر بسد الأبواب أولا ، فإن صح ذلك فيحمل الإذن بعده في اتخاذ الخوخ ، ثم كانت قصة أبي بكر بعد ذلك.

وفي طبقات ابن سعد : أخبرنا محمد بن عمر قال : حدثني عبد الرحمن بن الواقفي عن صالح ابن حسان عن أبي البداح بن عاصم بن عدي قال : قال العباس بن عبد المطلب : يا رسول الله ما بالك فتحت أبواب رجال في المسجد ، وما بالك سددت أبواب رجال في المسجد؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا عباس ما فتحت عن أمري ولا سددت عن أمري ، والله أعلم.

الفصل الثاني عشر

في زيادة عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه في المسجد

سيأتي في الفصل الرابع عشر من رواية البخاري وأبي داود عن ابن عمر أن أبا بكر رضي‌الله‌عنه لم يزد في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا ، وزاد فيه عمر ، وسيأتي في رواية لأبي داود أن سواري المسجد نخرت في خلافة أبي بكر ، فبناها بجذوع النخل ، وهو لا ينافي رواية أنه لم يزد فيه ، وقال أهل السير : لم يزد أبو بكر في المسجد شيئا لأنه اشتغل بالفتح ، فلما ولي عمر قال : إني أريد أن أزيد في المسجد ، ولو لا أني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ينبغي أن يزاد المسجد» ما زدت فيه شيئا.

وفي تاريخ اليافعي أن زيادته فيه كانت في سنة سبع عشرة ، وذكر غيره أنه زاد في هذه السنة في المسجد الحرام ، ولم يتعرض لتاريخ زيادته في مسجد المدينة.

وأسند ابن زبالة عن أنس قال : لما توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وولي أبو بكر لم يحول المسجد ، فلما ولي عمر جعل أساطينه من لبن ، ونزع الخشب ، ومده في القبلة ، وكان حد جدار عمر من القبلة ، على أول أساطين القبلة التي إليها المقصورة : أي التي كانت بين صف الأساطين التي تلي القبلة على الرواق القبلي.

والذي في صحيح البخاري وسنن أبي داود كما سيأتي أن عمر رضي‌الله‌عنه زاد في المسجد ، وبناه على بنائه في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم باللّبن والجريد ، وأعاد عمده خشبا ، وهذا

٦٧

مخالف لما في رواية ابن زبالة من أن عمر جعل أساطينه من لبن ، والمعوّل عليه رواية الصحيح.

وروى أحمد عن نافع أن عمر رضي‌الله‌عنه زاد في المسجد من الأسطوانة إلى المقصورة ، وقال عمر : لو لا أني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ينبغي أن نزيد في مسجدنا» ما زدت.

وأسند يحيى عن ابن عمر أن عمر رضي‌الله‌عنهما قال : لو لا أني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ينبغي أن نزيد في المسجد» ما زدت في المسجد شيئا.

وفي رواية له أن ابن عمر قال : إن الناس كثروا في عهد عمر ، فقال له قائل : يا أمير المؤمنين لو وسّعت في المسجد ، فقال عمر : لو لا أني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إني أريد أن أزيد في قبلة مسجدنا» ما زدت فيه.

وأسند ابن زبالة عن مسلم بن حباب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوما وهو في مصلاه في المسجد : «لو زدنا في مسجدنا» وأشار بيده نحو القبلة ، فأدخلوا رجلا وأجلسوه في موضع مصلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم رفعوا يد الرجل وخفضوها حتى رأوا أن ذلك نحو ما رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رفع يده ، ثم مدوا مقاطا (١) فوضعوا طرفه بيد الرجل ، ثم مدوه ، فلم يزالوا يقدمونه ويؤخرونه حتى رأوا أن ذلك فيه بما أشار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الزيادة ، فقدم عمر القبلة ، فكان موضع جدار عمر في موضع عيدان المقصورة.

بين عمر والعباس

وقال ابن سعد : أنا يزيد بن هارون ، أنا أبو أمية بن يعلى عن سالم أبي النضر قال : لما كثر المسلمون في عهد عمر رضي‌الله‌عنه وضاق بهم المسجد فاشترى عمر ما حول المسجد من الدور إلا دار العباس بن عبد المطلب وحجر أمهات المؤمنين ، فقال عمر للعباس : يا أبا الفضل ، إن مسجد المسلمين قد ضاق بهم ، وقد ابتعت ما حوله من المنازل نوسع به على المسلمين في مسجدهم إلا دارك وحجر أمهات المؤمنين ، فأما حجر أمهات المؤمنين فلا سبيل إليها ، وأما دارك فبعنيها بما شئت من بيت مال المسلمين أوسّع بها في مسجدهم ، فقال العباس : ما كنت لأفعل ، قال : فقال له عمر : اختر مني إحدى ثلاث : إما أن تبيعنيها بما شئت من بيت المال ، وإما أن أخطك حيث شئت من المدينة وأبنيها لك من بيت مال المسلمين ، وإما أن تصدّق بها على المسلمين فتوسع في مسجدهم ، فقال : لا ، ولا واحدة

__________________

(١) المقاط : الحبل. و ـ ومقود الفرس. و ـ رشاء الدّلو. (ج) مقط.

٦٨

منها ، فقال عمر : اجعل بيني وبينك من شئت ، فقال : أبي بن كعب ، فانطلقا إلى أبي فقصّا عليه القصة ، فقال أبي : إن شئتما حدثتكما بحديث سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالا : حدّثنا ، فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إن الله أوحى إلى داود أن ابن لي بيتا أذكر فيه ، فخط له هذه الخطة خطة بيت المقدس ، فإذا تربيعها بزاوية بيت رجل من بني إسرائيل ، فسأله داود أن يبيعه إياها ، فأبى ، فحدث داود نفسه أن يأخذه منه ، فأوحى الله إليه : أن يا داود أمرتك أن تبني لي بيتا أذكر فيه ، فأردت أن تدخل في بيتي الغصب ، وليس من شأني الغصب ، وإن عقوبتك ألّا تبنيه ، قال : يا رب فمن ولدي ، قال : فمن ولدك ، فأخذ عمر بمجامع أبي بن كعب فقال : جئتك بشيء فجئت بما هو أشد منه ، لتخرجن مما قلت ، فجاء يقوده حتى دخل المسجد ، فأوقفه على حلقة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم أبو ذر ، فقال أبي : نشدت الله رجلا سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر حديث بيت المقدس حين أمر الله داود أن يبنيه إلا ذكره ، فقال أبو ذر : أنا سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال آخر : أنا سمعته ، يعني من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : فأرسل أبيا ، قال : فأقبل أبي على عمر فقال : يا عمر أتتهمني على حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال عمر : والله يا أبا المنذر ما اتهمتك عليه ، ولكن أردت أن يكون الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظاهرا ، قال : وقال عمر للعباس : اذهب فلا أعرض لك في دارك ، فقال العباس : أما إذا قلت ذلك فإني قد تصدقت بها على المسلمين أوسع عليهم في مسجدهم ، فأما وأنت تخاصمني فلا ، قال : فخط له عمر داره التي هي اليوم ، وبناها من بيت مال المسلمين.

في سنن البيهقي قبل كتاب الرجعة عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال : لما أراد عمر رضي‌الله‌عنه أن يزيد في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقعت زيادته على دار العباس رضي‌الله‌عنه ، فأراد عمر أن يدخلها في المسجد ويعوضه منها ، فأبى ، وقال : قطيعة (١) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاختلفا ، فجعل بينهما أبيّ بن كعب رضي‌الله‌عنه ، فأتياه في منزله ، وكان يسمى سيد المسلمين ، فأمر لهما بوسادة ، فألقيت لهما فجلسا عليها بين يديه ، فذكر عمر ما أراد ، وذكر العباس قطيعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال أبيّ رضي‌الله‌عنه : إن الله عزوجل أمر عبده ونبيه داود أن يا بني له بيتا ، قال : أي رب ، وأين هذا البيت؟ قال : حيث ترى الملك شاهرا

__________________

(١) القطيعة : الجزء من الأرض يملّكه الحاكم لمن يريد من أتباعه منحة. (ج) قطائع.

٦٩

سيفه ، فرآه على الصخرة ، وإذا ما هناك يومئذ أندر لغلام من بني إسرائيل ، فأتاه داود عليه‌السلام. فقال : إني قد أمرت أن أبني هذا المكان بيتا لله تعالى ، فقال له الفتى : الله أمرك أن تأخذ مني بغير رضاي؟ قال : لا ، فأوحى الله إلى داود إني قد جعلت في يدك خزائن الأرض فأرضه ، فأتاه داود عليه‌السلام فقال : إني قد أمرت برضاك ، فلك بها قنطار من ذهب ، فقال : قد قبلت ، فيا داود هي خير أم القنطار؟ فقال : بل هي ، قال : فأرضني ، قال : فلك بها ثلاث قناطير ، فلم يزل يشدد على داود حتى رضي منه بتسع قناطير ، قال العباس رضي‌الله‌عنه : اللهم لا آخذ لها ثوابا ، وقد تصدقت بها على جماعة المسلمين ، فقبلها عمر ، فأدخلها في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قلت : وهذا يفهم أن داود صلوات الله وسلامه عليه بنى بين المقدس ، وأنه أول من بناه ، والرواية المتقدمة تقتضي أن سليمان صلوات الله وسلامه عليه هو الذي بناه ، ويؤيده ما روى الطبراني من حديث رافع بن عميرة مرفوعا قال : قال الله عزوجل لداود : ابن لي بيتا في الأرض ، وإن داود ـ عليه‌السلام ـ بنى المسجد ، فلما تم السور سقط ثلثاه ، فشكا ذلك إلى الله تعالى ، فأوحى الله إليه إنه لا يصلح أن يا بني لي بيتا ، وذكر قصة غير ما تقدم ، فشق ذلك على داود ، فأوحى الله تعالى إليه : إني سأقضي بناءه على يد ابنك سليمان.

وروى النسائي من حديث عمرو بن العاص مرفوعا بإسناد صحيح أن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل الله تعالى خلالا ثلاثا ـ الحديث.

وسواء كان الباني له داود أو سليمان عليهما‌السلام يشكل عليه ما في الصحيحين عن أبي ذر : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أول مسجد وضع على الأرض ، فقال : المسجد الحرام ، قلت : ثم أي؟ قال : المسجد الأقصى ، قلت : وكم بينهما؟ قال : أربعون عاما ، ووجه الإشكال كما ذكره ابن الجوزي أن إبراهيم عليه‌السلام بنى الكعبة وبينه وبين سليمان أكثر من ألف سنة ، وقد مشى ابن حبان على ظاهر الحديث المذكور ، فقال : فيه رد على من زعم أن بين داود وإبراهيم ألف سنة ، ولو كان كما قال لكان بينهما أربعون سنة ، وهذا عين المحال ؛ للاتفاق على طول الزمان بين إبراهيم وموسى عليهما‌السلام ، ثم إن نص القرآن أن قصة داود في قتل طالوت كانت بعد موسى بمدة.

وأجاب ابن الجوزي بأن الإشارة في حديث الصحيحين إلى أول البناء ، ووضع أساس المسجد ، وليس إبراهيم أول من بنى الكعبة ، ولا سليمان أول من بنى بيت المقدس ؛ فقد روى أن أول من بنى الكعبة آدم ، ثم انتشر ولده في الأرض ، فجائز أن يكون بعضهم قد وضع بيت المقدس بعد ذلك بأربعين سنة ، ثم بنى إبراهيم الكعبة بنص القرآن.

٧٠

وذكر ابن هشام في كتاب التيجان أن آدم عليه‌السلام لما بنى البيت أمره جبريل عليه‌السلام بالمسير إلى بيت المقدس وأن يبنيه ، فبناه ونسك فيه (١).

وأجاب بعضهم بأن داود وسليمان عليهما‌السلام إنما كان لهما من المسجد الأقصى تجديده لا تأسيسه ، والذي أسسه هو يعقوب بن إسحاق عليهما‌السلام بعد بناء إبراهيم الكعبة بهذا القدر.

ويشكل على ذلك ذكر القصة المتقدمة ؛ لأنه حينئذ لا يحتاج إلى شراء أرضه ، نعم قال الخطابي : يشبه أن يكون المسجد الأقصى وضع قبل داود وسليمان ، ثم زادا فيه ووسعاه فأضيف إليهما بناؤه ، فيحتمل حينئذ أن القصة المتقدمة وقعت فيما وقع الأمر بزيادته فيه ، ويؤيد ذلك ما رواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي يحيى الضرير زيد بن الحسن البصري حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب أنه قال للعباس رضي‌الله‌عنهما : إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : نزيد في المسجد ، ودارك قريبة من المسجد ، فأعطناها نزيدها فيه ، وأقطع لك أوسع منها ، قال : لا أفعل ، قال : إذا أغلبك عليها ، قال : ليس لك ذلك ، قال : فأجعل بيني وبينك من يقضي بالحق ، قال : ومن هو؟ قال : حذيفة بن اليمان ، قال : فجاؤوا إلى حذيفة رضي‌الله‌عنه ، فقصوا عليه ، فقال حذيفة : عندي في هذا خبر ، قالوا : وما ذاك؟ قال : إن داود النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد أن يزيد في بيت المقدس ، وقد كان بيت قريب من المسجد ليتيم ، فطلب إليه فأبى ، فأراد أن يأخذه منه ، فأوحى الله عزوجل إليه إن أنزه البيوت عن الظلم لبيتي ، قال : فتركه ، فقال له العباس : فبقي شيء؟ قال : لا ، قال : فدخل عمر المسجد فإذا ميزاب للعباس شارع في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسيل ماء المطر منه ، فقال عمر بيده فقلع الميزاب ، فقال : هذا الميزاب لا يسيل في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له العباس : والذي بعث محمدا بالحق إنه هو الذي وضع هذا الميزاب في هذا المكان ونزعته أنت يا عمر ، فقال عمر رضي‌الله‌عنه : ضع رجليك على عنقي لترده إلى ما كان ، ففعل ذلك العباس ، ثم قال العباس رضي‌الله‌عنه [قد أعطيتك الدار تزيدها] في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فزادها عمر في المسجد ، ثم قطع للعباس دارا أوسع منها بالزوراء ، وقال الحاكم : هذا الحديث كتبناه [عن أبي جعفر وأبي علي الحافظ](٢) ولم يكتبه إلا بهذا الإسناد ، والشيخان لم يحتجا بعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ،

__________________

(١) نسك فيه : تزهد وتعبّد فيه. ـ وأصل مأخذه النسيكة : سبيكة الفضة الخالصة.

(٢) ما بين [] بياض بالأصل ، وهذه الزيادة من كتاب المستدرك لأبي عبد الله الحاكم.

٧١

قال : وقد وجدت له شاهدا من حديث أهل الشام ، ثم ساقه من طريق شعيب الخراساني عن عطاء الخراساني عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه لما أراد أن يزيد في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقعت منازعة على دار العباس ، فذكر نحوه.

وروى ابن زبالة ويحيى من طريقه عن عبد الله بن أبي بكر قال : كان للعباس بيت في قبلة المسجد ، وكثر الناس ، وضاق المسجد ، فقال عمر للعباس : إنك في سعة فأعطني بيتك هذا أوسع به في المسجد ، فأبى العباس ذلك عليه ، فقال عمر : إني أثمنك وأرضيك ، قال : لا أفعل ، لقد ركب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عاتقي وأصلح ميزابه بيده فلا أفعل ، قال عمر : لآخذنه منك ، فقال أحدهما لصاحبه : فاجعل بيني وبينك حكما ، فجعلا بينهما أبي بن كعب ، فأتياه فاستأذنا على الباب ، فحبسهما ساعة ثم أذن لهما وقال : إنما حبستكما أني كنت كما كانت الجارية تغسل رأسي ، فقص عليه عمر قصته ، ثم قص عباس قصته ، فقال : إن عندي علما مما اختلفتما فيه ، ولأقضين بينكما بما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، سمعته يقول : إن داود لما أراد أن يا بني بيت المقدس وكان بيت ليتيمين من بني إسرائيل في قبلة المسجد فأراد منهما البيع فأبيا عليه ، فقال : لآخذنه ، فأوحى الله عزوجل إلى داود : إن أغنى البيوت عن المظلمة بيتي ، وقد حرمت عليك بنيان بيت المقدس ، قال : فسليمان ، فأعطاه سليمان ، فقال عمر لأبي : ومن لي بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال هذا؟ فقال أبي لعمر : أتظن أني أكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ لتخرجن من بيتي ، فخرج إلى الأنصار فقال : أيكم سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول كذا وكذا؟ فقال هذا : أنا ، وقال هذا : أنا ، حتى قال ذلك رجال ، فلما علم ذلك عمر قال : أما والله لو لم يكن غيرك لأجزت قولك ، ولكني أردت أن أستثبت.

وفي رواية ليحيى عن أبي الزناد أن عمر بن الخطاب لما زاد في المسجد دعا من كان له إلى جانبه منزل فقال : اختاروا مني بين ثلاث خصال : إما البيع فأثمن ، وإما الهبة فأشكر ، وإما الصدقة على مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأجابه الناس ، وكان للعباس دار عن يمين المسجد ، فدعاه عمر ، فقال : يا أبا الفضل اختر مني بين ثلاث خصال ، وذكر نحو ما تقدم ، فقال العباس : ما أجيبك إلى شيء مما دعوتني إليه ، فقال عمر : إذا أهدمها ، فقال العباس : مالك ذلك ، وذكر التحاكم إلى أبي ، وقصة بيت المقدس مع مخالفة في ذكر قصته لبعض ما تقدم.

وفي رواية له عن ابن عمر أن عمر رضي‌الله‌عنه كلّم العباس في داره ، وكانت في ما بين موضع الأسطوان المربعة التي تلي دار مروان بن الحكم ، قطيعة كان قطع له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكلمه عمر رضي‌الله‌عنه يدخلها في المسجد ، وأعطاه بها ثمنا حسنا ، وقال : يا أبا الفضل إن الناس قد شكوا ضيق مسجدهم ، وأحبوا الاتساع ، فأبى العباس أن يبيعه ، فقال عمر :

٧٢

أنا أعطيك خيرا منها في أي نواحي المدينة شئت ، فأبى العباس ذلك ، فقال عمر : فتصدق على الناس ، فأبى فقال عمر : لآخذنه ، فقال العباس : ليس ذلك لك ، قال عمر : اجعل بيني وبينك رجلا ، فجعلا أبي بن كعب ، فأتياه فحبسهما ساعة ثم أذن لهما ثم قال : إن جاريتي كانت تغسل رأسي ، فأيكما يستعدي على صاحبه؟ فقال عمر : أنا ، جعلناك حكما بيننا ، وما رأيت من أمر لزمنا ، فقال أبي : ما تقول يا أبا الفضل؟ قال : أقول ذلك ، فذهب عمر يتكلم ، فقال أبي : تكلم يا أبا الفضل ، دعه يا ابن الخطاب يتكلم لمكانه من نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتكلم العباس فقال : هذه خطة خطها لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وابتنيتها وبناها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معي ، وهو والله شد هذا الميزاب الذي يصب في المسجد ، وذكر القصة أيضا ، وأن العباس قال : أما إذ قضيت به لي فهو صدقة على المسلمين أما والله يا عمر لقد هدمت الميزاب وما شددته إلا ورجلاي على عاتقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال عمر : فو الله لا تشده إلا ورجلاك على عاتقي ، قال : ثم هدم الدار ووسع في المسجد وغيّر جذوعا كانت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أسفلها قد أكلته الأرضة.

وقد أورد رزين في كتابه خبر ابن عمر المتقدم ، ولفظه : عن نافع عن ابن عمر قال : إن الناس كثروا في عهد عمر رضي‌الله‌عنه ، فقالوا له : يا أمير المؤمنين لو وسّعت لنا في المسجد ، فزاد فيه عمر ، فكلم عمر العباس في داره ، وكانت لاصقة بالمسجد ، وقال له : أعطيك خيرا منها وتصدق بها على الناس ، فأبى العباس ، وقال : خطها لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووضع ميزابها بيده ، فقال عمر : فإني آخذها ، قال العباس : ليس لك ذلك ، فجعلا بينهما أبيا ، فحجبهما ساعة ثم أذن لهما فقصا عليه خبرهما ، فقال : إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : لما أراد داود عليه‌السلام أن يا بني بيت المقدس كان ليتيمين من بني إسرائيل بيت في الموضع الذي خط أن يا بني المسجد عليه ، فقال لهما : بيعاه مني ورغبهما في الثمن ، فباعاه ثم قالا له : الذي أخذت منا خير أم الذي أعطيتنا؟ قال الذي أخذت ، قالا : فإنا لا نجيز البيع ، فزادهما حتى كان ذلك منهما ومنه سبع مرات ، فقال : أزيدكما كذا وكذا على أن لا تسألاني ، فقالا له : نبيعك بحكمنا ولا نسألك ، قال : افعلا ، فطلبا منه مالا كثيرا ، فتعاظم ذلك داود ، فأوحى الله سبحانه وتعالى إلى داود : إن كنت إنما تعطيهما من مالك فأنت أعلم ، وإن كنت إنما تعطيهما من رزقنا فأعطهما حتى يرضيا فإن أغنى البيوت عن مظلمة بيتي ، وقد حرمت عليك بناءه ، فقال داود : يا رب فأعطه سليمان ، فقضى به أبي للعباس.

فقال العباس : أما إذ قضيت لي به فهو صدقة على المسلمين ، فذهب عمر فهدم الميزاب

٧٣

فأسف العباس لما وضعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده ، وقال : والله لقد وضعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن رجليه لعلى عاتقي ، فقال عمر للعباس : والله لتردنه ورجلاك على عاتقي ، فرده ، ثم قال عمر للعباس : اهدم الآن بيدك.

وقد روى أن نزع الميزاب كان قبل ذلك لأجل أنه كان يسكب الماء داخل المسجد للزوقه به (١) ، انتهى لفظ رواية رزين.

وروى يحيى بسند جيد عن سفيان ابن عيينة عن موسى بن أبي عيسى قال : كان في دار العباس ميزاب يصب في المسجد ، فجاء عمر فقلعه ، فقال العباس : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي وضعه بيده ، فقال عمر للعباس : لا يكن لك سلّم إلا ظهري حتى ترده مكانه.

وروى ابن إسحاق عن أسباط بن محمد عن هشام بن سعد عن عبد الله بن عباس قال : كان للعباس ميزاب على طريق عمر ، فلبس عمر ثيابه يوم الجمعة وقد كان ذبح للعباس فرخان ، فلما وافى الميزاب صب فيه ماء من دم الفرخين ، فأصاب عمر ، فأمر عمر بقلعه ، ثم رجع فطرح ثيابه ، ثم لبس غيرها ، ثم جاء فصلى بالناس ، فأتاه العباس فقال : والله إنه الموضع الذي وضعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال عمر للعباس : فأنا أعزم عليك لما صعدت على ظهري حتى تضعه في الموضع الذي وضعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه ، ففعل ذلك العباس.

ورواه الإمام أحمد في مسنده من حديث هشام بن سعد عن عبيد الله بن عباس أخي عبد الله فذكره ، وكذا رواه ابن سعد ، وقال ابن أبي حاتم : إنه سأل أباه عنه ، وقال : هو خطأ ، وأخرجه ابن سعد من طريق موسى بن عبيدة عن يعقوب أن عمر خرج في يوم جمعة ، فذكره بنحوه.

وروى يحيى عن أبي مصعب الزهري الفقيه قال : حدثنا يوسف بن الماجشون عن الثقة أنه كان في دار مروان ميزاب يصب على الناس إذا خرجوا من المسجد في المطر ، وكانت دار مروان للعباس بن عبد المطلب ، فأمر عمر بن الخطاب بذلك الميزاب فنزع ، فجاءه العباس ابن عبد المطلب فقال : أما والله لوضعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده ، قال : فأعاده عمر حيث كان ، وقال : والله لا تعيده إلا وأنت على رقبتي ، فأعاده العباس يومئذ على رقبة عمر.

قلت : وهذه الدار بقية من التي وقع النزاع المتقدم فيها ، ونسبتها إلى مروان لما سيأتي أنها دخلت في داره ، وروى أنها مربدها ، فكأن هذا الميزاب كان في تلك البقية ، فيجمع بين الروايات بأنه كان للدار المذكورة ميزابان : ميزاب يصب في المسجد ، وميزاب يصب في الطريق ، واتفق في كل منهما قصة ، ويؤيد ذلك ما رواه يحيى في زيادة عثمان رضي الله

__________________

(١) لزق به : اتصل به ، لا يكون بينهما فجوة.

٧٤

عنه عن الأعمش قال : بنى عباس بن عبد المطلب داره التي إلى جنب المسجد ، فجعل يرتجز يقول:

بنيتها باللبن والحجاره

والخشبات فوقها مطاره

يا ربنا بارك لأهل الداره

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اللهم بارك في هذه الداره ، قال : وجعل العباس ميزابها لاصقا بباب المسجد يصب عليه ، فطرحه عمر بن الخطاب ، فقال عباس : أما والله ما شده إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنه لعلى منكبي ، فقال له عمر : لا جرم والله لا تشده إلا وأنت على منكبي ، فشده عمر ، وابتاع عثمان بن عفان تلك الدار فزادها في المسجد إلا ثلاثة عشر ذراعا أو أربعة عشر ذراعا ، فقال : لا أدري كان ابتاع البقية أم لا؟

قلت : فالذي يظهر أن العباس أبقى لنفسه بقية الدار بعد أخذ ما احتيج إلى زيادته منها ، وأنه كان في تلك البقية ميزاب ، فلما أحدث عمر الباب الذي عند دار مروان كما سيأتي صار الميزاب يصب على الباب في طريق المسجد ، ثم اشترى عثمان من تلك البقية ما احتاج إلى إدخاله في زيادته.

وروى ابن أبي الدنيا قصة دار العباس هذه مطولة ، وقال : إن العباس قال لعمر : أما والله ما شده إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا معه ، حملني والله على عاتقه حين شده ، قال : وبعض الناس يقول : بل العباس حمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال محمد بن عقبة ـ يعني رواية ـ : ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليضع قدميه على رقبة أبيه أو عمه ، ولكنه حمل العباس على عاتقه ، وقول يحيى في رواية ابن عمر المتقدمة «وكانت ـ يعني دار العباس ـ فيما بين الأسطوان المربعة التي تلي دار مروان بن الحكم» أي والباب الذي يلي دار مروان لدخول بعضها في دار مروان. قال الزين المراغي : وسيأتي بيان المربعة ، أي في زيادة عثمان رضي‌الله‌عنه ، وقد ذكر هناك تبعا للمطري أنها الأسطوانة التي في وصف الأساطين التي تلي القبلة ، وقد رفع أسفلها مربعا قدر الجلسة.

قلت : والتي تليها مربعة أيضا ، وهي التي تلي دار مروان ؛ فهي المراد هنا كما قدمنا الإشارة إليه في تحديد المسجد النبوي ، وهي الخامسة من المنبر في جهة المغرب ، فيكون ابتداء زيادة عمر رضي‌الله‌عنه من جهة المغرب من الأسطوانة المذكورة ، خلاف قول المطري والمراغي إن المربعة التي ذكراها قبل هذه منتهى زيادة عمر رضي‌الله‌عنه ، وكيف يكون منتهى زيادته مع كونها مبتدأ دار العباس التي هي أول الزيادة؟ وأيضا فذرع ما بين الأسطوان التي ذكراها والحجرة الشريفة نحو تسعين ذراعا ، وقد قال يحيى في رواية ابن عمر أيضا «إن المسجد كان طوله أي من القبلة إلى الشام على عهد عمر رضي‌الله‌عنه أربعين

٧٥

ومائة ذراع وعرضه عشرون ومائة ، وطول السقف أي ما بينه وبين الأرض أحد عشر ذراعا» انتهى. وكيف يصح أن يكون الأسطوان المذكور نهاية زيادته؟ بل ابتداء زيادته من الأسطوان التي تليها ، فيكون زيادته بعد الأسطوان المذكورة في جهة المغرب عشرين ذراعا ، لما قدمناه من رواية أن المسجد كان عرضه مائة ذراع فزيادته عشرون ، وذلك نحو أسطوانين ، فيكون نهاية المسجد في زمنه من تلك الجهة الأسطوانة السابعة من غربي المنبر ، ومن المشرق الحجرة الشريفة ، لأنه لم يزد في تلك الجهة شيئا ، ومن القبلة صف الأساطين التي تلي القبلة ، وكانت إليها المقصورة الآتي ذكرها ، وقد احترقت ، ومن بقاياها خشبة في سفل الأسطوان التي في هذا الصف عن يسار مستقبل المحراب العثماني ، مثبتة تلك الخشبة في الأسطوان المذكور مما يلي الأرض ، وقد زالت في الحريق الثاني ؛ فزيادة عمر رضي‌الله‌عنه من جهة القبلة الرواق المتوسط بين الروضة ورواق القبلة ، وذلك نحو عشرة أذرع ، وأما الشام فيستفاد من كون المسجد كان طوله في زمنه أربعين ومائة ذراع ، وأن منها في جهة القبلة نحو عشرة أذرع أنه يمتد في زمنه بعد الحجرين المتقدم ذكرهما في حدود المسجد الأصلي اللذين في صحنه نحو ستين ذراعا ؛ لأنا قدمنا أن من مقدم المسجد الأصلي إليها نحو السبعين فقط.

وبقي أمر آخر لم أر من نبه عليه ، وهو أن حجر أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان بعضها في جهة الشام كما تقدم ، ومقتضى ما قدمناه من رواية ابن سعد ـ وهو ظاهر ما سيأتي في زيادة الوليد ـ أن عمر رضي‌الله‌عنه لم يدخل منها شيئا في المسجد ، وإنما أدخلها الوليد ، فكأن عمر ترك ما كان منها في جهة الشام قائما على حاله ، وصار المسجد حواليها.

وقال السيد القرافي في ذيله : واشترى عمر أيضا نصف موضع كان خطه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجعفر بن أبي طالب وهو بالحبشة دارا بمائة ألف فزاده في المسجد.

قلت : سيأتي من رواية يحيى أن الذي شرى ذلك عثمان رضي‌الله‌عنه ، كذا في النسخة التي رواها ابن ابنه الحسن بن محمد عنه ، ثم رأيت في النسخة التي رواها ابنه طاهر عنه ما ذكره القرافي ، ولم يذكر ابن زبالة ويحيى وغيرهما إدخال عمر دار أبي بكر رضي‌الله‌عنه في المسجد ، ويتعين أن يكون عمر هو الذي أدخلها ؛ لما سبق في الفصل قبله من أن باب خوختها كان غربي المسجد ، وأن الخوخة المجعولة في محاذاتها عند إدخال الدار هي الخوخة الموجودة اليوم غربي المسجد ، وهذا لا خلاف فيه عند المؤرخين ، ولهذا قال ابن النجار نقلا عن أهل السير : كانت خوخة أبي بكر في غربي المسجد ، فعلمنا بذلك أن دار أبي بكر كانت في غربي المسجد ، وأن عمر رضي‌الله‌عنه أدخلها ، لكن قال الحافظ ابن حجر : إن ابن شبة ذكر في أخبار المدينة أن دار أبي بكر التي أذن له في إبقاء الخوخة منها إلى

٧٦

المسجد كانت ملاصقة للمسجد ، ولم تزل بيد أبي بكر حتى احتاج إلى شيء يعطيه لبعض من وفد عليه ، فباعها ، فاشترتها منه حفصة أم المؤمنين بأربعة آلاف درهم ، فلم تزل بيدها إلى أن أرادوا توسيع المسجد في خلافة عثمان ، فطلبوها منها ليوسعوا بها المسجد ، فامتنعت وقالت : كيف بطريقي إلى المسجد؟ فقيل لها : نعطيك دارا أوسع منها ونجعل لك طريقا مثلها ، فسلّمت ورضيت.

قلت : هذه القصة إنما ذكرها ابن شبة في دار حفصة التي في قبلة المسجد ، وذكر معها شراءها لدار أبي بكر المذكورة بصيغة تقتضي التضعيف ، واقتضى ذلك أن دار أبي بكر كانت في قبلة المسجد على تلك الرواية الضعيفة ، وأن طريق آل عمر اليوم منها ، فنسب إليه الحافظ ابن حجر الجزم به ، وليس الأمر كذلك كما سنوضحه إن شاء الله تعالى في الفصل الرابع عشر.

وقال يحيى في روايته المتقدمة : وجعل أساطينه من جذوع نخل وسقفه بالجريد ذراعين فوق المسجد سترة حائطه ثلاثة أذرع ، وعبر ابن النجار عن ذلك بقوله : وسقفه جريد ذراعان ، وبنى فوق ظهره سترة ثلاثة أذرع ، انتهى. والذي يظهر أن في عبارة يحيى خللا ، وتبعه عليه ابن النجار ، وأن المراد ما ذكره رزين في هذه الرواية بعينها ، فإنه قال فيها : وجعل عمر سترة المسجد فوقه ذراعين أو ثلاثة ، فكأن لفظ «أو» سقط قبل قوله ثلاثة أذرع.

وقال يحيى ورزين عقب ذلك : وكان بنى أساسه بالحجارة إلى أن بلغ قامة ، زاد يحيى : وكان لبنه ضربه بالبقيع ، وجعل له ستة أبواب : بابين عن يمين القبلة ، وبابين عن يسارها ، وبابين خلف القبلة ، ولم يغير باب عاتكة ـ أي المعروف بباب الرحمة ـ ولا الباب الذي كان يدخل منه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو فتح الباب الذي عند القبر ، فهذان البابان من الشق الأيسر : أي المشرق ، وفتح الباب الذي عند دار مروان بن الحكم ، وفتح بابين من مؤخر المسجد ، انتهى.

وقوله : «إنه لم يغير باب عاتكة ، ولا الباب الذي كان يدخل منه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم» مسلم في الباب الذي كان يدخل منه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال المراغي تبعا للمطري : وهو باب جبريل ؛ لأنه لم يزد في جهة المشرق شيئا ، وأما باب عاتكة ففيه نظر ؛ لأنه زاد من جهة المغرب كما تقدم ، فالمراد بكونه لم يغير أنه أخره في محاذاة الباب الأول ، وهذه الرواية تقتضي أن الباب المعروف اليوم بباب النساء لم يكن موجودا في زمن عمر رضي‌الله‌عنه ؛ لأن المستفاد مما ذكره أن الباب الذي زاده في جهة المشرق جعله عند القبر ، ولعله تصحيف ؛ لأنه إذا لم يزد من جهة المشرق شيئا كيف يحدث بابا عند القبر ويترك الجهة التي زادها من جهة الشام بغير باب؟ والمنقول كما سيأتي أن إحداث الباب الذي عند القبر إنما هو في زيادة الوليد ، وسيأتي

٧٧

في سبب تسميته باب النساء أن عمر رضي‌الله‌عنه قال حين بنى المسجد : هذا باب النساء ، كما رواه يحيى ؛ فتبين أن باب النساء هو الباب الباقي في جهة المشرق على عهد عمر رضي‌الله‌عنه ، وأنه الذي أحدثه ، وسيأتي في زيادة عثمان عند ذكر اقتصاره على الأبواب التي جعلها عمر ما هو كالصريح في ذلك ، والله أعلم.

وفي البخاري تعليقا عن أبي سعيد قال : أمر عمر ببناء المسجد ، وقال : أكنّ الناس (١) من المطر ، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس.

وروى ابن شبة ويحيى من طريق عبد العزيز بن عمران عن مليح بن سليمان عن ابن أبي عمرة قال : زاد عمر بن الخطاب في المسجد من شاميه ، ثم قال : لو زدنا فيه حتى نبلغ به الجبانة كان مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، زاد يحيى : وجاء الله بعامر ، وعبد العزيز هو ابن أبي ثابت ، تركوه ، كانت كتبه قد احترقت فحدّث من حفظه فاشتد غلطه.

وروى يحيى من طريق ابن زبالة وهو ضعيف : حدثني محمد بن إسماعيل عن ابن أبي ذئب قال : قال عمر بن الخطاب : لو مد مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى ذي الحليفة لكان منه ، ورواه ابن شبة من طريق أبي غسان المدني بدل ابن زبالة ، وعلى كل حال هو معضل.

وروى ابن شبة ويحيى والديلمي في مسند الفردوس بسند فيه متروك عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لو بنى هذا المسجد إلى صنعاء كان مسجدي ، وكان أبو هريرة يقول : لو مد هذا المسجد إلى باب داري ما عدوت أن أصلي فيه ، ثم قال يحيى : وحدثنا هارون بن موسى نبأ عمر بن أبي بكر الموصلي عن ثقات من علمائه قالوا : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذا مسجدي ، وما زيد فيه فهو منه ، ولو بلغ بمسجدي صنعاء كان مسجدي.

قلت : وهو منقطع ، لكن اجتماع هذه الروايات تقوي ما قدمناه في آخر الفصل الثاني عن مالك رحمه‌الله من أن المضاعفة الواردة في المسجد النبوي تعم ما زيد فيه ، والله أعلم.

الفصل الثالث عشر

في البطيحاء التي بناها عمر رضي‌الله‌عنه بناحية المسجد ، ومنعه من

إنشاد الشعر ورفع الصوت فيه ، وما جاء في ذلك

روى ابن شبة ويحيى بسند جيد عن سالم بن عبد الله أن عمر ـ يعني ابن الخطاب ـ اتخذ

__________________

(١) أكنّ الناس من المطر : أحميهم وأسترهم منه.

٧٨

مكانا إلى جانب المسجد يقال له «البطيحاء» وقال : من أراد أن يلغط أو يرفع صوتا أو ينشد شعرا أو يرفع صوتا فليخرج إليه ، ولفظ يحيى : أن عمر بن الخطاب بنى في ناحية المسجد رحبة تدعى البطيحاء ، ثم قال : من أراد أن يلغظ أو ينشد شعرا أو يرفع صوتا فليخرج إلى هذه الرحبة ، زاد ابن شبة عقيب روايته من طريق محمد بن يحيى : قال محمد : وقد دخلت تلك البطيحاء في المسجد فيما زيد فيه بعد عمر رضي‌الله‌عنه.

وذكر ابن شبة في موضع آخر ما يبين أن البطيحاء كانت في جهة شرقي المسجد مما يلي مؤخره زمن عمر رضي‌الله‌عنه ، فإنه قال : اتخذ خالد بن الوليد داره التي كانت بالبطيحاء ، إلى آخر ما سيأتي عنه ، مع بيان أنها الرباط المعروف اليوم برباط السبيل في شرقي المسجد.

وروى ابن شبة أيضا بسند جيد عن ابن عمر أن عمر رضي‌الله‌عنه كان إذا خرج من الصلاة نادى في المسجد : إياكم واللغط ، ويقول : ارتفعوا في أعلى المسجد.

ورواه يحيى بلفظ : كان إذا خرج إلى الصلاة.

وروى ابن شبة بسند جيد إلا أن فيه عنعنة ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة أن عمر رضي‌الله‌عنه سمع ناسا من التجار يذكرون تجارتهم والدنيا في المسجد ، فقال : إنما بنيت هذه المساجد لذكر الله ، فإذا ذكرتم تجاراتكم ودنياكم فاخرجوا إلى البقيع.

وروى أيضا عن شيخه سليمان بن داود قال : حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده أن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه سمع صوت رجل في المسجد ، فقال : أتدري أين أنت؟ كأنه كره الصوت.

وعن عبد الرحمن بن حاطب قال : كان بين عثمان وطلحة تلاح في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبلغ عمر رضي‌الله‌عنه ، فأتاهم وقد ذهب عثمان وبقي طلحة ، فقال : أفي مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تقولان الهجر وما لا يصلح من القول؟ قال : فجثا طلحة على ركبتيه وقال : إني والله لأنا المظلوم المشتوم ، فقال : أفي مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تقولان الهجر وما لا يصلح من القول؟ ما أنت مني بناج ، فقال : الله الله يا أمير المؤمنين ، فو الله إني أنا المظلوم المشتوم ، فقالت أم سلمة من حجرتها : والله إن طلحة لهو المظلوم المشتوم ، قال : فكف عمر رضي‌الله‌عنه.

وعن السائب بن يزيد قال : كنت مضطجعا في المسجد ، فحصبني رجل (١) ، فرفعت رأسي ، فإذا عمر رضي‌الله‌عنه فقال : اذهب فأتني بهذين الرجلين ، فجئت بهما ، فقال : من أنتما؟ أو من أين أنتما؟ قالا : من أهل الطائف ، قال : لو كنتما من أهل البلد ما فارقتماني حتى أوجعكما جلدا ، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟!

__________________

(١) حصبني : رماني بحجارة صغيرة.

٧٩

وعن طارق بن شهاب أن عمر رضي‌الله‌عنه أتى برجل في المسجد وقد أخذ في شيء ، فقال : أخرجاه من المسجد فاضرباه ، أو اضربوه.

وروى يحيى عن نافع أن عمر بينما هو في المسجد عشاء إذ سمع ضحك رجل ، فأرسل إليه فقال : من أنت؟ فقال : أنا رجل من ثقيف ، فقال : أمن أهل البلد أنت؟ فقال : بل من أهل الطائف ، فتوعده فقال : لو كنت من أهل البلد لنكّلت بك ، إن مسجدنا هذا لا ترفع فيه الأصوات.

وعن ابن سيرين أن ابن مسعود سمع رجلا يرفع صوته في المسجد ، فسبه ، فقيل له : ما كنت فحّاشا ، فقال : أمرنا بهذا.

وروى ابن زبالة ويحيى عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب مر بحسان بن ثابت وهو ينشد في المسجد ، فلحظ إليه ، فقال حسان : قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك ، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال : أنشدك الله هل سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «أجب عني ، اللهم أيده بروح القدس» قال : اللهم نعم ، وقد رواه البخاري في الصحيح بنحوه ، وفي رواية ليحيى عقب قوله : «قد كنت أنشد فيه من هو خير منك» فانصرف عمر وقد عرف أنه يريد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي رواية ذكرها الحافظ ابن حجر فقال : كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك ، وفي الترمذي من طريق أبي الزناد عن عروة عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينصب لحسان منبرا في المسجد ، فيقوم عليه يهجو الكفار.

وأما ما رواه ابن خزيمة في صحيحه والترمذي وحسنه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تناشد الأشعار في المساجد ، قال الحافظ ابن حجر : صحيح إلى عمرو ، فمن يصحح نسخته يصححه ، وفي هذا المعنى عدة أحاديث ، لكن في أسانيدها مقال ، والجمع بينها وبين ما تقدم أن يحمل النهي على تناشد أشعار الجاهلية والمبطلين ، وهو مراد عمر بقوله : من أراد أن ينشد شعرا فليخرج إلى هذه ، يعني البطيحاء ، والمأذون فيه ما سلّم من ذلك ، وقيل : المنهي عنه ما إذا كان غالبا على المسجد حتى يتشاغل به من فيه ، وأبعد بعضهم فأعمل أحاديث النهي ، وادعى نسخ الإذن ، ولم يوافق على ذلك. وروى ابن زبالة عن علي بن زيد بن جدعان قال : أنشد كعب بن زهير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسجد أبياتا :

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول (١)

والله أعلم.

__________________

(١) وعجزه :

متيم إثرها لم يفد مكبول

٨٠