وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى - ج ٢

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى - ج ٢

المؤلف:

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي


المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨١

قلت : واستمر عمل الملوك وأرباب الحشمة إلى زماننا هذا على الإهداء إلى الحجرة الشريفة قناديل الذهب والفضة.

ورأيت بحط شيخنا العلامة ناصر الدين العثماني أشياء نقلها من خط قاضي طيبة الزين عبد الرحمن بن صالح يتضمن ما كان يرد في كل سنة من ذلك ؛ فذكر في سنة خمسة عشر قنديلا ، وفي أخرى ثلاثة عشر ، وفي أخرى عشرة ، وفي أخرى إحدى وعشرين.

قلت : وفي زماننا هذا يرد في غالب السنين ما يزيد على العشرين ، ولا ضابط لذلك ؛ فإنه يرد من نذور من ناس مختلفين ، وكأن هذه القناديل كانت إذا كثرت رفعوا بعضها ووضعوه بالحاصل الذي في وسط المسجد ، فاجتمع فيه شيء كثير فاتفق على ما ذكره الحافظ ابن حجر في سنة إحدى عشرة وثمانمائة أن فوض السلطان الناصر فرج لحسن بن عجلان سلطنة الحجاز ، فاتفق موت ثابت بن نغير ، وقرر حسن مكانه أخاه عجلان ابن نغير المنصوري ، فثار عليهم جماز بن هبة بن جماز الجمازي الذي كان أمير المدينة ، وأرسل إلى الخدام بالمدينة يستدعيهم ، فامتنعوا من الحضور إليه ، فدخل المسجد الشريف ، وأخذ ستارتي باب الحجرة ، وطلب من الخدام تسعة آلاف درهم على أن لا يتعرض لحاصل الحرم ، فامتنعوا ، فضرب شيخهم ، وكسر قفل الحاصل ، هكذا رأيته في «أنباء الغمر» للحافظ ابن حجر.

والذي رأيته في محضر عليه خطوط غالب أعيان المدينة الشريفة ما حاصله : أن جماز بن هبة المذكور كان أمير المدينة ، فبرزت المراسيم الشريفة بتولية ثابت بن نغير إمرة المدينة وأن يكون النظر في جميع الحجاز لحسن بن عجلان ، ولم يصل الخبر بذلك إلا بعد وفاة ثابت بن نغير ، فأظهر جماز بن هبة الخلاف والعصيان وجمع جموعا من المفسدين وأباح نهب بعض بيوت المدينة ، ثم حضر مع جماعة إلى المسجد الشريف ، وأهان من حضر معه من القضاة والمشايخ وشيخ الخدام باليد واللسان ، وشهر سيفه عليهم ، وكسر باب القبة حاصل الحرم الشريف ، وأخذ جميع ما فيها من قناديل الذهب والفضة التي تحمل على تعاقب السنين من سائر الآفاق تقربا إلى الله ورسوله وأشياء نفيسة وختمات شريفة وزيت المصابيح وشموع التراويح وأكفان ودراهم يواري بها البطحاء ، وقطع مكاتيب الأوقاف وغسلها ، وقصد الحجرة الشريفة ، وأحضر السلم لإنزال كسوة الضريح الشريف والقناديل المعلقة حوله ، فلم يقدّر له ذلك ومنعه الله منه ، وأخذ ستر أبواب الحجرة الشريفة من خزانة الخدام ، وتعطل في ذلك اليوم وليلته والذي يليها المسجد الشريف من الأذان والإقامة والجماعة ، وأخذ جماعته وأقاربه في نهب بيوت الناس ومصادرتهم ، وأخذ جمال السواني ، وارتحل هاربا عقب ذلك ، ولما اتصل بحسن بن عجلان ما فوض إليه من أمر الحجاز استدعى بعجلان بن نغير وأقامه في إمرة المدينة ، وعرفه ما برزت به المراسيم أولا في ولاية أخيه ، انتهى.

١٤١

وذكر الحافظ ابن حجر أنه أخذ من الحاصل المذكور إحدى عشر خوشخانا وصندوقين كبيرين وصندوقا صغيرا بما في ذلك من المال وخمسة آلاف شقة من البطاين ، وصادر بعض الخدام ، ونزح عنها ؛ فدخل عجلان بن نغير ومعه آل منصور فنودي بالأمان ، ثم قدم عقبه أحمد بن حسن بن عجلان ومعه عسكر ، يعني من مكة.

قلت : ورأيت بخط شيخنا العلامة ناصر الدين المراغي قائمة ذكر أنه نقلها من خط قاضي طيبة الزين عبد الرحمن بن صالح صورتها : الذي كان في القبة ، وأخذه جماز بن هبة ، هو من القناديل الفضة ثلاثة وعشرون قنطارا وثلث قنطار ، غير الذي في الرفوف ، والصندوقين الذهب ، ثم ذكر تفصيل ذلك في ثمان عشرة وزنة ، ثم كتب ما صورته : خوشخانة مختومة لم تفتح ، والظاهر أنها ذهب ، وزنة القناديل التي في الرفوف أربع قناطير إلا ثلث ، وتسع قناديل ذهب بالعدد في صندوق ، وصندوق صغير مقفول ، انتهى.

وبلغنا أنه دفن غالب ذلك ، ثم أخذه الله أخذا وبيلا فقتل هو ومن اطلع معه على دفن ذلك ، فلم يعلم مكانه إلى اليوم.

وقد ذكر الحافظ ابن حجر قتله في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة فقال : وفيها قتل جماز بن هبة ابن جماز بن منصور الحسيني أمير المدينة ، وقد كان أخذ حاصل المدينة ونزح عنها ، فلم يمهل وقتل في حرب جرت بينه وبين أعدائه ، انتهى.

قلت : إنما بيتته بعض عرب مطير فاغتاله وهو نائم.

ورأيت في القائمة المتقدم ذكرها التي نقلها شيخنا المتقدم ذكره ما صورته : وزن ما في الحجرة من قناديل الذهب تسع قناطير ، وورد بعد ذلك من أم السلطان قنديل زنته ألف مثقال ، وورد من أخت السلطان قنديل زنته ألف وخمسمائة ، وأربع قناديل كبار في الواحد منهم أربعة صغار ، وفي الثاني اثنان صغار ، وفي الثالث عدة قناديل معفوسة ، وفي الرابع قنديل ، زنة الجميع ثلاثة آلاف وسبعمائة وعشرون مثقالا ، وعلى يد الطواشي صندل قنديلين صغار ، ومعلق بعد ذلك عدة قناديل لم تكتب ، انتهى.

والظاهر أنه سقط بعد قوله «من قناديل الذهب» لفظ «والفضة» وفي هذه القائمة أيضا أن بالقبة ـ يعني قصة جماز المتقدمة ـ من قناديل الفضة مائة رطل وسبعة عشر رطلا وضعها بيسق بيده ، انتهى.

ثم إن الأمير غرير بن هيازع بن هبة الحسيني الجمازي أخذ جانبا من الحاصل المذكور في سنة أربع وعشرين وثمانمائة ، زاعما أنه على سبيل القرض ، وامتحن بعض قضاة المدينة لسبب ذلك ، ثم حمل غرير المذكور إلى القاهرة محتفظا به ، ومات بها مسجونا.

ولم تزل هذه القناديل في زيادة حتى عدا عليها في ليلة السابع والعشرين من ذي الحجة

١٤٢

سنة ستين وثمانمائة برغوث بن بتير بن جريس الحسيني ؛ فدخل الدار المعروفة بدار الشباك بجانب باب الرحمة ليلا ، ولم يكن بها ساكن ، وتسوّر جدار المسجد ، ودخل بين سقفي المسجد الشريف من شباك هناك ، ومشى حتى بلغ ما يحاذي سقف الحجرة الشريفة ، فأخذ من تلك القناديل شيئا كثيرا ، وكأنه تردد لذلك المرة بعد الأخرى ، ولم يشعر أهل المسجد ونظاره بشيء من ذلك ، غير أن أمة لبعض جيران الدار المذكورة رأت من سطح دارهم شخصين في أعلى دار الشباك يتعاطيان شيئا له حجم كبير وصوت صليل ، فلما أصبحت أخبرت بواب المسجد فلم يعبأ بذلك لخلو تلك الدار ، وبعد ذلك الأمر عن الأفكار ، ولكن الله أراد هتك المذكور وحلول النقمة به ، فأنهى بعض الناس إلى أمير المدينة أن المذكور معه شيء كثير من المال غير معهود ، فأمسكه الأمير وضيّق عليه بالسجن ، فانخلس ليلا ، ثم شاع بالمدينة بيع شبابيك من الفضة والذهب ، فكثر القال والقيل ، ثم في شهر ربيع الأول من سنة إحدى وستين استفاض أن برغوثا بالينبع ومعه قطع من ذهب القناديل ، فافتقد النظار الحجرة الشريفة ، فرأوا أكثر القناديل مأخوذا ، فعلموا الحال ، لكن لم يعلموا الكيفية ، واتهمت ابنة السراج النفطي بممالأة برغوث على ذلك وأنه إنما تسور من بيت أبيها لكونه متصلا بالمسجد في قبلته ، وأظهر الله براءتها بعد ذلك ، وكان بالمدينة إذ ذاك زين الدين استدار الصحبة فعقد مجلسا لذلك ، واجتمع أعيان أهل المدينة ، وكتبوا إلى أمير الينبع بالقبض على برغوث وإرساله ، فقبض عليه ، فاعترف أنه فعل ذلك هو ودبوس بن سعد الحسيني الطفيلي ، وجعل أن دخوله من بيت المرأة المتقدم ذكرها ، وأن بعض الخدام اطأه على ذلك ، ثم أظهر الله الحق ، وأن دخوله إنما كان من دار الشباك ، وأن شريكه المعين له على ذلك دبوس المذكور ، ولم ير أمير ينبع إرساله إلى المدينة ، بل تركه عنده منتظرا الأوامر السلطانية ، ثم إن أمير المدينة أمسك دبوسا وبعض أقاربه ، فأنكر هو ، وأقر عليه بعض جماعته وأحضروا جانبا من الذهب والفضة ، ثم هرب برغوث من الحبس بالينبع ، ثم ساقه الله إلى المدينة ، فلما وصل دلّ عليه أميرها ، فأمسكه وحبسه مع دبوس وذويه ، فهربوا ، ثم أظفر الله بهم ، ولم يغب منهم إلا دبوس ، وبرزت المراسيم بقتل من تجرأ على هذه العظيمة ، فقتل أمير المدينة برغوثا وآخر معه من أقاربه يسمى ركابا ، وصلبهما ، ثم ظفر بدبوس وقتله أيضا.

وأخبرت عن برغوث أنه قال : كنت كلما توجهت في حال هربي لغير جهة المدينة كأني أجد من يصدني عن ذلك ، وإذا قصدت جهة المدينة تيسرت لي وكأن شخصا يقودني إليها حتى دخلتها.

وأما عدة القناديل الموجودة في زماننا هذا بالحجرة الشريفة فقد ضبطت في أول سنة

١٤٣

إحدى وثمانين وثمانمائة بأمر السلطان الأشرف لشيخ الحرم الأمير انيال والقضاي الزكوي ؛ فكان عدة معاليق الذهب ثمانية عشر قنديلا وبعض قنديل ، وأربع مشنات ، ومغرافان ، وسواران ، وزنة ذلك سبعة آلاف قفلة وستمائة وخمسة وثلاثون ، من ذلك قنديل كبير في جهة الوجه الشريف زنته أربعة آلاف وستمائة قفلة ، أهداه سلطان الكلرجه شهاب الدين أحمد ، وعدة معاليق الفظة ثلاثمائة قنديل وأربعة وأربعون قنديلا ، وثرية كبيرة ، زنة ذلك ستة وأربعون ألف وأربعمائة وخمسة وثلاثون قفلة ، وكانت ضبطت قبل ذلك في سنة اثنتين وستين وثمانمائة على يد الأمير بردبك التاجي فتحرر من النظر بين المقدارين أن الزائد على ما ضبط في التاريخ المتقدم من الذهب ألف قفلة ومائة وخمسة وخمسون ، ومن الفضة ثلاثة عشر ألف قفلة وسبعمائة وخمسة وثمانون قفلة ، فذلك القدر هو الوارد من عام ثلاث وستين إلى آخر عام تسع وسبعين ، وهناك من المعاليق أيضا غير ما تقدم قنديل من بلور بتابوت من فضة ، وقناديل نحاس أربعة ، وفولاذ واحد مكفّت بالذهب مشبك مكتوب عليه أن الناصر محمد بن قلاوون علقه من يده إلى عام حجه ، ثم ورد في سنة ثمانين في مشيخة الشيخ انيال ولم يدخل في الجملة المتقدمة قنديلان من الذهب زنتهما مائة وخمسة وعشرون قفلة ، ومن الفضة اثنان وثلاثون قنديلا زنتها ألف ومائتان وخمسة وسبعون قفلة ، وفي سنة إحدى وثمانين قنديل ذهب زنته مائة واثنان وأربعون قفلة ، وأربعة وعشرون قنديلا من الفضة زنتها تسعمائة وخمسون قفلة ، وفي سنة اثنين وثمانين من الفضة أحد وثلاثون قنديلا زنتها ألف وخمسمائة وخمسون قفلة ، ولم يرد شيء من الذهب ، وفي سنة ثلاث وثمانين من الذهب قنديل واحد زنته عشرون قفلة ، ومن الفضة خمسة وعشرون قنديلا زنتها ألف ومائة وخمسة وثلاثون قفلة ، وفي سنة أربع وثمانين من الفضة تسعة عشر قنديلا زنتها سبعمائة وخمسة وأربعون قفلة ، ولم يرد شيء من الذهب ؛ فجملة ما ورد في ولاية الأمير انيال في المدة المذكورة من الذهب أربعة قناديل جملة زنتها مائتان وسبعة وثمانون قفلة ، ومن الفضة مائة قنديل وتسعة وعشرون قنديلا جملة زنتها خمسة آلاف وستمائة وخمسة وخمسون قفلة ، ولما شرعوا في عمارة الحجرة الشريفة الآتي ذكرها في سنة إحدى وثمانين وثمانمائة رفعوا جمع المعاليق التي كانت حولها ، ووضعت بالقبة التي بصحن المسجد بأمر متولي العمارة الجناب الشمسي ، ولم يزل بها إلى تاريخه ، ولم يكن اليوم حول الحجرة الشريفة من المعاليق إلا ما تجدد في آخر سنة إحدى وثمانين إلى آخر سنة أربع وثمانين ، ثم حسّن متولي العمارة للسلطان صرف ذلك في مصالح المسجد والمدينة الشريفة ، فحمل بعضه من الحاصل المذكور إلى مصر قبيل الحريق الثاني ، ثم وجدوا ما سقط لسبب الحريق من القناديل التي كانت معلقة بحالها ، ثم صرف متولي العمارة بعض ذلك في تذهيب السقف المعادة بعد الحريق ، ثم

١٤٤

وضع بهذه القبة ما تجمد من مصاريف حب السماط المجدد ، فاجتمع بها نحو ثلاثة عشر ألف دينار ، فاتفق أن أمير المدينة حسن بن زبيري المنصوري حضر بجماعة مع الاستعداد بالأسلحة والسيوف المسلولة ؛ فدخل المسجد الشريف على تلك الحالة وقت الظهر من سادس ربيع الأول عام أحد وتسعمائة ، وأمر خازندار الحرم الشريف بإحضار مفاتيح الحاصل المذكور ، فامتنع من ذلك ، فضربه ضربا مبرحا ، ثم عمد إلى باب الحاصل المذكور وأحضر فأسا وكسره وأخذ جميع ما فيه من النقد والقناديل والسبائك ، فحمل منه ثلاثة أحمال على فرسين وبغل وغرائر تسع على ظهور الحمالين ، ثم ذهب إلى حصنه وأحضر الصياغ وسبك تلك القناديل ، وذكر أنه صنع ذلك رغبة عن إمرة المدينة ؛ لأن ولايته كانت بطريق النيابة عن السيد الشريف محمد بن بركات لتفويض السلطان الأشرف إليه أمر الحجاز وأن المشار إليه صار يأخذ حصته مما يحمل له من الإقطاع ومن الصدقات ، وعطل عليه أهل مصر بعض إقطاعه ، فحمله ذلك على ما سبق.

حكم معاليق المسجد النبوي

أما حكم هذه المعاليق ونحوها من تحلية الصندوق المتقدم ذكره والقائم الذي بأعلاه فحكم معاليق الكعبة الشريفة وتحليتها ، وقد تكلم السبكي في حكم قناديل الكعبة وحليتها والقناديل التي حول الحجرة الشريفة ، وألّف في ذلك كتابا سماه «تنزل السكينة ، على قناديل المدينة» فأورد حديث البخاري وغيره في كنز الكعبة وما تضمنه من إقرار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم له بمحله ، ثم أبي بكر بعده ، ورجوع عمر رضي‌الله‌عنه لذلك لما ذكره به ابن شبة ، وقال : هما المرآن يقتدي بهما ، قال : فهذا الحديث عمدة في مال الكعبة ، وهو ما يهدى إليها أو ما ينذر لها وما يوجد فيها من الأموال.

قال ابن بطال : أراد عمر إنفاقه في منافع المسلمين ، ثم لما ذكر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يتعرض له أمسك ، وإنما ترك ذلك والله أعلم لأن ما جعل في الكعبة وسبّل لها يجري مجرى الأوقاف ؛ فلا يجوز تغييره عن وجهه ، وفي ذلك تعظيم للإسلام وترهيب للعدو.

قلت : قد تعقب ذلك الحافظ ابن حجر باحتمال أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما تركه رعاية لقلوب قريش ، كما ترك بناء الكعبة على قواعد إبراهيم ، ويؤيده ما وقع عند مسلم في بعض طرق حديث عائشة رضي‌الله‌عنه ولفظه «لو لا أن قومك حديثو عهد بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ، ولجعلت بابها بالأرض» الحديث ، فهذا التعليل هو المعتمد.

قلت : لكن قد يقال : حيث تركه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهذه العلة ثم تركه أبو بكر ثم عمر بعد الهم به ورجوعه عن ذلك ثم من بعده فهو إجماع على تركه ؛ فلا نتعرض له ؛ لما يترتب عليه من الشناعة والله أعلم.

١٤٥

قال السبكي : ولا يغلط في أن ذلك يصرف إلى فقراء الحرم ، فإنما يكون ذلك إذا كان الإهداء إلى الحرم أو إلى مكة ، أما إذا كان للكعبة نفسها فلا يصرف إلا إليها ، كأن تعرض لها عمارة فحينئذ ينظر : فإن كانت تلك الأموال قد أرصدت لذلك صرفت فيه ، وإلا فيختص بها الوجه الذي أرصد له ، فالمرصد للبخور مثلا لا يصرف للسترة.

قال : وأما القناديل التي فيها والصفائح التي عليها فلا يصرف منها شيء ، بل تبقى على حالها ، وقول عمر «لقد هممت ألّا أدع فيها صفرا ولا بيضا» محتمل للنوعين ، ولم ينقل إلينا صفتها التي كانت ذلك الوقت ، ومن قال أول من ذهّب البيت في الإسلام الوليد لا ينفي أن يكون البيت ذهّب في الجاهلية وبقي إلى عهد عمر.

قلت : قد نقل التقي الفاسي عن خط الحافظ رشيد الدين بن المنذري في اختصاره لتاريخ المسبحي ما لفظه : وفيها ـ أي سنة خمس وستين ـ استتم ابن الزبير بناء الكعبة ، ويقال : إنه بناها بالرصاص المذوب المخلوط بالورس ، وجعل على الكعبة وأساطينها صفائح الذهب ومفاتحها ذهبا ، اه. فإن صح فهو أولى ما يحتج به.

ثم نقل السبكي عن الرافعي أنه قال : لا يجوز تحلية الكعبة بالذهب والفضة وتعليق قناديلها. ثم نقل أن في تحلية الكعبة والمساجد بالذهب والفضة وتعليق قناديلها وجهين مرويين في الحاوي وغيره : أحدهما : الجواز ، تعظيما كما في المصحف ، وكما يجوز ستر الكعبة بالديباج ، وأظهرهما المنع ؛ إذ لم ينقل ذلك عن فعل السلف ، ثم استشكل كلام الرافعي فقال : وأما التسوية بين الكعبة والمساجد فلا ينبغي ؛ لأن للكعبة من التعظيم ما ليس للمساجد ، بدليل جواز سترها بالحرير إجماعا ، وفي ستر المساجد به خلاف ، فحكاية الخلاف فيها مشكل ، وترجيح المنع أشكل ، وكيف وقد فعل ذلك في صدر هذه الأمة ، وقد تولى عمر بن عبد العزيز عمارة مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الوليد وذهّب سقفه بأمره من غير مراجعة ، بل لما ولي الخلافة بعد ذلك أراد أن يزيل ما في جامع بني أمية من الذهب فقيل له : إنه لا يتحصل منه شيء يقوم بأجرة حكّه ، فتركه. والصفائح التي على الكعبة يتحصّل منها شيء كثير ، فلو كان فعلها حراما لأزالها في خلافته ، فلما تركها ومعه جميع من يحج كل عام وجب القطع بجوازها ، وهذا في تحلية الكعبة بالصفائح ، ولا منع من جريان الخلاف في التمويه لإزالة المالية ، ولا من إجراء الخلاف في سائر المساجد تمويها وتحلية ، على أن القاضي حسين جزم بحل تحلية المسجد بالقناديل من الذهب ونحوها ، وأن حكمها حكم الحلي المباح ، وهذا أرجح مما قال الرافعي ؛ لأنه ليس على تحريمهما دليل ، والحرام من الذهب إنما هو استعمال الذكور له ، والأكل والشرب ونحوهما ، وليس في تحلية المسجد بالقناديل ونحوها شيء من ذلك ، لكن لا أقول إنه ينتهي إلى حد القربة في سائر المساج ،

١٤٦

وتعليل الرافعي لما قاله بأن ذلك لم ينقل عن فعل السلف عجيب ؛ إذ لا يقتضي ذلك التحريم ، ومن حرّم اتخاذ الآنية وهو الأصح فإنما حرمه لأن النفس تدعو إلى الاستعمال المحرّم ، وذلك إذا كانت له ، وأما إذا جعلها للمسجد فلا تدعو النفس لذلك ، فكيف يحرم وهي لا تسمى أواني؟

قال : ورأيت الحنابلة قالوا بتحريمها للمسجد ، وجعلوها من الأواني أو مقيسة عليها ، وليس بصحيح ، ومن يقول بجواز التحلية والقناديل في سائر المساجد فلا شك أنه يقول بها في المساجد الثلاثة بطريق الأولى ، ومن منع فلم يصرح في المساجد الثلاثة بشيء ، لكن عموم كلامهم يشملها ، وينبغي ترتيب الخلاف : ففي المساجد غير الثلاثة وجهان أصحهما الجواز ، ومسجد بيت المقدس أولى بالجواز ، والمسجدان مسجد مكة ومسجد المدينة أولى منه ، ثم المسجدان على الخلاف في تفضيلهما ، وقد يقال إن مسجد المدينة أولى لمجاورة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقصد تعظيمه بما في مسجده من ذلك ، هذا كله بحث ، والمنقول ما تقدم.

وهذا في الاتخاذ من غير وقف ، فإن وقف المتخذ من ذلك فقد قطع القاضي حسين والرافعي بأنه لا زكاة فيه ، وقد رجح الرافعي فيها التحريم ، فكيف يرجح ذلك؟ إذ مقتضاه صحة وقفها ، فلعل مراد الرافعي إذا وقفت على قصد صحيح وإذا فرعنا على صحة وقفها. قال : وهذا حكم المساجد في ذلك ، وأما الحجرة الشريفة فتعليق القناديل فيها أمر معتاد من زمان ، ولا شك أنها أولى بذلك من غيرها ، والذين ذكروا الخلاف في المساجد لم يذكروها ، وكم من عالم وصالح قد أتى للزيارة ولم يحصل من أحد إنكار لذلك.

فهذا وحده كاف في جواز ذلك مع ما تقدم ، واستقراء الأدلة فلم يوجد فيها ما يدل على المنع. قال : فنحن نقطع بالجواز ، والحجرة الشريفة هي بيت عائشة وما حوله ، وأشار إلى بيان أن ما حوله إما منه أو من بقية الحجر المدخلة في المسجد.

قال : والمدفن الشريف بالحجرة له شرف على جميع المساجد وعلى الكعبة ؛ فلا يلزم من المنع في المساجد والكعبة المنع هنا.

قال : ولم نر أحدا قال بالمنع هنا ، فما وقف من ذلك إكراما لذلك المكان صح وقفه ، وإن اقتصر على إهدائه صح أيضا كالمهدى للكعبة ، وكذلك المنذور له ، وقد يزاد هنا فيقال : إنه مستحق للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حي ، وإنما يحكم بانقطاع ملكه بموته عما كان في ملكه وجعله صدقة بعده.

وأما هذا النوع فلا يمتنع ملكه له ، وهو الذي في أذهان كثير من الناس حيث يقولون : هذا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم أورد ما رواه يحيى بن الحسين بسنده من الخبر الآتي في إجمار المسجد عن عبد الله بن

١٤٧

محمد بن عمار عن أبيه عن جده قال : أتى عمر بن الخطاب بمجمرة من فضة فيها تماثيل ، فدفعها إلى سعد أحد المؤذنين ، وقال : أجمر بها في الجمعة وفي شهر رمضان ، فكان سعد يجمر بها بين يدي عمر بن الخطاب ، الخبر الآتي.

ثم قال : عبد الله بن محمد بن عمار بن سعد القرظ ضعفه ابن معين ، وكذا الراوي عنه ، ومحمد بن عمار حسن له الترمذي ، فلو سلم ممن دونه كان جيدا ، ومقتضى اشتراط الفقهاء الاحتواء في المجمرة عدم تحريم هذا الصنيع ، لكن العرف دال على عد ذلك استعمالا ، فإما أن يكون الحديث ضعيفا ، وإما أن يكون احتمل ذلك لأجل المسجد تعظيما له ، فتكون القناديل بطريق الأولى ؛ إذ لا استعمال فيها.

قال : ولا يجوز صرف شيء من قناديل الحجرة في عمارتها ، ولا في عمارة المسجد ؛ لأنها إنما أعدت للبقاء ، وليس قصد بها جهات إلا ذلك ، سواء وقفها أو اقتصر على إهدائها.

قال : وقد سئلت عن جواز بيعها لعمارة المسجد النبوي ، فأنكرته واستقبحته ، وكيف يبلغ ملوك الأرض أنا بعنا قناديل نبينا لعمارة حرمه ونحن نفديه بأنفسنا فضلا عن أموالنا؟ وما برحت الملوك يفتخرون بعمارته.

قلت : وقد تعقبه جماعة ، والمحل قابل للمناقشة ، وليس ذلك من غرضنا ، غير أنا نقول : ستر الكعبة بالديباج قام عليه الإجماع ، وأما التحلية بما ذكر فلم يثبت عن من يحتج بفعله ، وترك عمر بن عبد العزيز يحتمل أعذارا ليس هذا محل بيانها.

وقد نقل الشيخ الموفق الإجماع على تحريم استعمال أواني الذهب ، والقناديل من الأواني بلا شك ، واستعمال كل شيء بحسبه ؛ فاستعمال ما ذكر بتعليقه للزينة ، وقد سلم تحريم اتخاذ الأبنية منها أيضا.

وقد ذكر الجمال الكازروني المدني أشياء أيّد بها كلام السبكي : منها أن الله تعالى قال : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) [النور : ٣٦] قال : وهي بيوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله مجاهد ، ومعنى ترفع تعظم ويرفع شأنها وتزين ، وتزيينها تعليق قناديل الذهب فيها ، وتطهر من الأنجاس والأقذار وتطيب.

قلت : قوله «ومن تعظيمها تعليق ذلك فيها» هو محل النزاع ؛ لأن من حرم ذلك لا يسلمه ، والله أعلم.

ومنها : أنه روي عن عثمان تعليق قناديل الذهب بالمسجد النبوي.

قلت : ولعله من اختلاف أعدائه عليه ، ولم أره مسطورا في تأليف ، ولو كان له أصل لذكره مؤرخو المدينة.

١٤٨

ومنها : أن عمر بن عبد العزيز فعله في بنيانه للوليد ولم ينكر عليه.

قلت : ولم أره في تأليف أيضا.

ومنها : أنه روي أن سليمان بن داود عليه‌السلام بنى مسجد بيت المقدس ، وبالغ في زينته وتعليق القناديل فيه ، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ.

قلت : لم ينقل تعليق داود عليه‌السلام لقناديل الذهب به ، ولو صح ذلك فالناسخ في شرعنا تحريم الآنية ، وهذا آنية ، وما تقدم عن السبكي في كونه ليس بانية ممنوع.

ومنها : ما رواه الثعلبي في حديث إتيان المساجد يوم القيامة ، وفيه «وأئمتها يسوقونها ، وعمارها ومزينوها ومحلوها متعلقون بها» الحديث.

قلت : أخذ ذلك من رواية القرطبي عن الثعلبي ، كما رأيته في بعض النسخ ، وقد راجعت القرطبي أيضا في ذلك فرأيته روى الحديث المذكور من طريق الثعلبي ، وليس فيه «ومزينوها ومحلوها» بل لفظه «وعمارها متعلقون بها».

ومنها : ما رواه سعيد بن ربان ـ بالموحدة المشددة ـ قال : حدثني أبي عن أبيه عن جده عن أبي هند قال : حمل تميم يعني الداري من الشام إلى المدينة قناديل وزيتا ومقطا وقنديلا أو قنديلين من الذهب ، فلما انتهى إلى المدينة وافق ذلك ليلة الجمعة ، فأمر غلاما يقال له أبو البراد ، فقام فبسط المقط وعلق القناديل ، وصب فيها الماء والزيت ، وجعل فيها الفتل ، فلما غربت الشمس أمر البراد فأسرجها ، وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المسجد ، فإذا هو بها تزهر ، فقال : من فعل هذا؟ قالوا : تميم الداري يا رسول الله ، فقال : نورت الإسلام ، وحليت مسجده ، نور الله عليك في الدنيا والآخرة! ـ الحديث.

قلت : قد أخذ ذلك من تفسير القرطبي ، كما رأيته في بعض النسخ ، وفي بعضها إسقاط عروة للقرطبي ، وقد راجعت تفسير القرطبي فرأيته أورد الحديث المذكور بحروفه ، وليس فيه قوله «وقنديلا أو قنديلين من الذهب» ولا قوله «وحليت مسجده».

ومنها : ما روي أن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه لما دخل الشام تلقاه معاوية بعساكر وجنود كثيرة وخيول مسومة وأسلحة مخوصة بالذهب والفضة ولبوس الحرير والديباج وزينة حسنة كزينة فارس والروم ، فقال عمر : ما هذا يا معاوية؟ وما هذه الزينة والفخار؟ لقد أتيت أمرا إمرا وارتقيت مرتقى صعبا ، فقال : يا أمير المؤمنين هذا غيظ كفارنا ، ومقهرة لأعدائنا ، وإن فرائصهم لترتعد ، وإن قوائمهم لتخور من ذلك ، وإنا لنجد بذلك المظهر عليهم والذلة والصغار فيهم ، وأشربوا في قلوبهم الرعب حين يرون مساجدنا محلاة بالذهب وسقوفها منقطة بقناديل الذهب ـ الخبر ، وفيه أن عمر سكت عنه.

قلت : الخبر ذكره المؤرخون ، ومثله لا تقوم الحجة به ، ولم أر فيه الزيادة المتعلقة بتحلية

١٤٩

المساجد ، وقد رأيت في بعض النسخ نسبة ذلك للذهبي في تاريخ الإسلام ، وأسقط العزو في نسخة أخرى ، فليراجع ذلك من تاريخ الإسلام ، فإن لم يكن فيه هذه الزيادة فالذي يظهر لي أن بعض المتعصبين ألحق هذه الأشياء في الروايات المتقدمة ليتم بها الاستدلال ، فإن المسألة وقع فيها تعصبات ، وكأن الجمال الكازروني إنما أراد إفادة أصل وضع القناديل ، وذكر ما يشعر بهذا الأمر ، فلما رأى ذلك المتعصب أن الاستدلال لا يتم إلا بذلك ألحقه ، ولم يشعر أنه لو كان ذلك موجودا لم يكن فيه حجة لعدم اتصال السند الصحيح في ذلك.

ومن تأمل سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأحواله لم يخف عليه أن كل ذلك لم يكن يعجبه في حياته ، هذا الذي أعتقده ، والله أعلم.

الفصل السادس والعشرون

في الحريق الأول القديم المستولي على تلك الزخارف المحدثة بالحجرة

الشريفة والمسجد وسقفهما ، وما أعيد من ذلك ، وما تجدد من توسعة المسقف

القبلي بزيادة الرواقين فيه ، وغير ذلك

سبب الحريق وتاريخه

قال المؤرخون : احترق المسجد النبوي ليلة الجمعة أول شهر رمضان من سنة أربع وخمسين وستمائة في أول الليل ، ونقل أبو شامة أن ابتداء حرقه كان من زاويته الغربية من الشمال ، وسبب ذلك ـ كما ذكره أكثرهم ـ أن أبا بكر بن أوحد الفراش أحد القوّام بالمسجد الشريف دخل إلى حاصل المسجد هناك ومعه نار ، فغافل عنها إلى أن علقت في بعض الآلات التي كانت في الحاصل ، وأعجزه طفيها ، ثم احترق الفراش المذكور والحاصل وجميع ما فيه.

وقد صنف القطب القسطلاني في ذلك وفي النار المتقدم ذكرها في الفصل الثالث من الباب الثاني وهي نار الحجاز التي ظهرت بالمدينة الشريفة في ذلك العام كتابا سماه «عروة التوثيق ، في النار والحريق» ذكر فيه بدائع من حكم الله تعالى في حدوث ذلك ، وقد كان القطب بمكة حين وقع ذلك ، وقد نبه فيه على ما يوافق ما قدمناه عن المؤرخين.

فقال : كتب إلى الصادق في الخبر ، وشافهني من شاهد الأثر ، أن السبب في حريق المسجد الشريف دخول أحد قومة المسجد في المخزن الذي في الجانب الغربي من آخر باب المسجد لاستخراج قناديل لمنائر المسجد ، فاستخرج منها ما احتاج إليه ، ثم ترك الضوء الذي كان في يده على قفص من أقفاص القناديل وفيه مشاق ، فاشتعل فيه ، وبادر لأن يطفأه فغلبه وعلق بحصر وبسط وأقفاص وقصب كان في المخزن ، ثم تزايد الالتهاب وتضاعف إلى أن علا إلى سقف المسجد ، انتهى.

١٥٠

وفي العبر للذهبي أن حرقه كان من مسرجة القوّام.

قال المؤرخون : ثم دبت النار في السقف بسرعة آخذة قبله ، وأعجلت الناس عن إطفائها بعد أن نزل أمير المدينة فاجتمع معه غالب أهل المدينة فلم يقدروا على قطعها ، وما كان إلا أقل من القليل حتى استولى الحريق على جميع سقف المسجد الشريف واحترق جميعه حتى لم تبق خشبة واحدة.

قلت : لعل مرادهم لم تبق خشبة كاملة ؛ لما قدمناه من مشاهدة بقايا خشب كثير عند إخراج الهدم الذي كان بالحجرة.

قال القطب القسطلاني : وتلف جميع ما احتوى عليه المسجد الشريف من المنبر النبوي والأبواب والخزائن والشبابيك والمقصير والصناديق وما اشتملت عليه من كتب وكسوة الحجرة وكان عليها إحدى عشرة ستارة.

حكمة الله في الحريق

ثم ذكر القطب حكما لذلك وأسرارا ، لكون تلك الزخارف لم ترضه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وككون القلوب لما لاحظت المساجد الثاثة بعين التعظيم ولا يجوز في ذلك أن تنزل فوق قدرها ، بل لا بد أن يعتقد أن صفة قهره تعالى وعظمته مستولية على الجميع ؛ فهو الواحد القهار ، فوقع الحريق في الكعبة وبيت المقدس قديما ، ثم وقع بهذا المسجد في هذا الزمان عقب ظهور المعجزة العظيمة في ظهور نار الحجاز التي أخبر بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحماية جيرانه منها لما التجئوا إليه وانطفائها عند الوصول إلى حرمه كما سبق ، وربما خطر ببال العوام أن حبس النار عنهم ببركة الجوار موجب لحبسها عنهم في الآخرة ، فاقتضى الحال التبيين بذلك.

ونظم الأقشهري أبياتا مضمونها أن تسليط النار كان على تلك الزخارف المنهي عنها ، وأن ما كان حقا فيبقى ، وما كان زورا فبالنار يحرق ، قال : وأنشدني الحافظ الصالح الشيخ إبراهيم بن محمد الكناني رئيس المؤذنين هو وأبوه قال : وجد بعد الحريق في بعض جدران المسجد بيتان وهما :

لم يحترق حرم النبيّ لريبة

يخشى عليه وما به من عار

لكنه أيدي الروافض لامست

تلك الرسوم فطهّرت بالنار

قلت : وأوردهما المجد بلفظ :

لم يحترق حرم النبي لحادث

يخشى عليه ولا دهاه العار

لكنما أيدي الروافض لامست

ذاك الجناب فطهرته النار

وأورد بعدهما بيتين آخرين هما :

قل للروافض بالمدينة ما بكم

لقيادكم للذم كل سفيه

١٥١

ما أصبح الحرم الشريف محرّقا

إلا لسبكم الصحابة فيه

قلت : وهذا لأن الاستيلاء على المسجد والمدينة كان في ذلك الزمان للشيعة وكان القاضي والخطيب منهم ، حتى ذكر ابن فرحون أن أهل السنة لم يكن أحد منهم يتظاهر بقراءة كتب أهل السنة.

قال المؤرخون : ولم يسلم سوى القبة التي أحدثها الناصر لدين الله لحفظ ذخائر الحرم مثل المصحف الكريم العثماني وعدة صناديق كبار متقدمة التاريخ صنعت ـ يعني تلك الصناديق ـ بعد الثلاثمائة ، وهي باقية إلى اليوم ، يعني في زمانهم ، وذلك لكون القبة المذكورة بوسط صحن المسجد وببركة المصحف الشريف العثماني.

وكانت عمارة القبة المذكورة ـ على ما ذكره ابن فرحون ـ سنة ست وسبعين وخمسمائة.

قالوا : وبقيت سواري المسجد قائمة كأنها جذوع النخل إذا هبت الرياح تتمايل ، وذاب الرصاص من بعض الأساطين فسقطت ، ووقع السقف الذي كان على أعلى الحجرة على سقف بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوقعا جميعا في الحجرة الشريفة وعلى القبور المقدسة. وعبارة الذهبي وتبعه التقي السبكي : فوقع بعض سقف الحجرة ، وكل ذلك قبل أن ينام الناس ، وأصبحوا يوم الجمعة فعزلوا موضعا للصلاة ، وكتب بذلك للخليفة المستعصم بالله أبي أحمد عبد الله بن المستنصر بالله في شهر رمضان ، فوصلت الآلات صحبة الصناع مع ركب العراق في الموسم ، وابتدئ بالعمارة أول سنة خمس وخمسين وستمائة.

الشروع في العمارة بعد الحريق

قال المطري : ولما شرعوا في العمارة قصدوا إزالة ما وقع من السقوف على القبور الشريفة فلم يجسروا على ذلك ، واتفق رأي صاحب المدينة يومئذ ـ وهو الأمير منيف بن شيحة بن هاشم بن قاسم بن مهني الحسيني ـ ورأى أكابر أهل الحرم الشريف من المجاورين والخدام أن يطالع الإمام المستعصم بذلك ليفعل ما يصل به أمره ، فأرسلوا بذلك ، وانتظروا الجواب ، فلم يصل إليهم جواب لاشتغال الخليفة وأهل دولته بإزعاج التتار لهم ، واستيلائهم على أعمال بغداد في تلك السنة ، فتركوا الردم على ما كان عليه ، ولم ينزل أحد هناك ، ولم يتعرضوا له ولا حركوه.

وعبارة المجد الشيرازي : فتركوا الردم على ما كان عليه ، ولم يجسر أحد على التعرض لهذه العظيمة التي دون مرامها تزل الأقدام ، ولا يتأتى من كل أحد بادئ بدئه الدخول فيه والإقدام.

قلت : وقد كنت في تعجب عظيم من أهل ذلك الزمان في تركهم لذلك ، وألفت كتابا سميته «الوفا ، بما يجب لحضرة المصطفى» بينت فيه أن الواجب في سلوك الأدب مع هذا

١٥٢

النبي العظيم والقيام بما وجب على الأمة من تعظيمه وتعظيم قبره الشريف هو إزالة ذلك عنه وقمّه من حجرته الشريفة ، حتى اتفقت العمارة الآتي بيانها ، ولم يكن تأليفي السابق سببا في شيء من ذلك كما سيأتي بيانه ، حتى إني لم أطلع عليه متولي العمارة إلا بعد هدمه لشيء من جدار الحجرة ، فلما نقبوا الجدار الظاهر شاهدت بين الجدارين في الفضاء الذي خلف الحجرة أمرا مهولا من الهدم الذي خص ذلك الموضع ، فإنه كما سيأتي كان فيه نحو القامة ، فعلمت أن أهل ذلك الزمان لم يتركوه إلا لعلمهم بأن إزالته لا تتأتى إلا بانتهاك الحرمة ، فتوقفوا في ذلك ، فجزاهم الله تعالى خيرا ، وما كنت أعتقد إلا أنه أمر خفيف يتأتى قمّه مع رعاية الأدب ، فوجدته أمرا مهولا معظمه ردم سقف المسجد الأعلى وما بين السقفين من البناء الذي على رءوس السواري وغير ذلك ، ولذلك استخرت الله تعالى في عدم حضور ذلك عند إخراجه ، ووقفت بين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسألت منه المدد في أن يوفقني الله تعالى لما يرضيه في ذلك ، فحفظني الله من حضور ذلك.

وقال المطري عقب قوله ولم يتعرضوا له ولا حركوه : إنهم أعادوا سقفا فوقه على رءوس السواري التي حول الحجرة الشريفة ؛ فإن الحائط الذي بناه عمر بن عبد العزيز حول بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين هذه السواري التي حول بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يبلغ به السقف.

قلت : تبع المطري على ذلك من جاء بعده ، فتوافقوا على أنهم لم يجعلوا للحجرة بعد الحريق سقفا ؛ لأن السقف الذي على رءوس السواري هو سقف المسجد ، فاقتضى ذلك أنهم جعلوا سقف المسجد سقف الحجرة ، وذكروا أنهم أداروا الشباك على رأس جدار عمر بن عبد العزيز حتى بلغوا به سقف المسجد ؛ وأول شيء ابتدءوا به من سقف المسجد ما حاذى الحجرة الشريفة منه ، وفيه مخالفة لما شاهدناه في العمارة الآتي بيانها ، فإنهم وجدوا عليها سقفا مربعا على جدارها الداخل ، ويتصل بالخارج من المشرق والمغرب ، وهو دوين رأس الجدار الخارج بنحو شبر ، ثم تبين عند كشفه آثار السقف المنهدم وأن أخشابه كانت في الجدار الداخل ، ولم يعيدوا هذا السقف المجدد موضع الأول ؛ لأنه لا يتأتى إلا بهدم سترته وإصلاح أماكن لرؤوس الخشب ، فتركوا ذلك تأدبا واحتراما ، ووضعوا ذلك السقف على أعلى سترة الجدار ، وبنوا فوقه سترة لطيفة ، وجعلوا على ذلك السقف ستارة من المحابس اليمنية المبطنة بقماش أزرق مربوطة بمقط في الشباك الذي بأعلى الحائز الظاهر ، وليس ذلك السقف مطينا ، وهو سقف محكم من ألواح ثخينة جدا من الساج الهندي ، وسمروا بعضها إلى بعض على قوائم من خشب ، وجعلوه أربع قطع كل قطعة كالباب العظيم ، وجعلوا عند ملتقى كل قطعتين من تلك القطع مقصاة من حديد ، وكلّبوا بعضها إلى بعض تكليبا محكما ، وجعلوا تحت ثلاث جزم من الساج الهندي تحمله ، وأوصلوا أطراف تلك الألواح بالجدار

١٥٣

الظاهر كما تقدم ، ولم يجعلوا في تلك الألواح دهانا ولا نقوشا ولا كتابة ، غير أن النجار الذي صنع السقف المذكور كتب اسمه على طرفه نقرا ، وكذلك سقف المسجد المحاذي للحجرة الشريفة مما يلي هذا السقف جميعه من الساج النقي ليس عليه دهان ولا نقوش وفي وسطه طابق عليه قفل فوقه أنطاع ومشمع ، ولم يزل موجودا إلى أن عملت القبة الثانية بعد الحريق الثاني ، وجعلوا على جدار الحجرة الداخل من جهة الشام ألواحا من رأس الجدار إلى سقف المسجد.

والعجب أنهم عند رفع هذا السقف وجدوا جزمتين من الأخشاب التي تحته قد تأكلتا ولم يبق إلا جزمة واحدة ، ومع ذلك كانت كافية في حمله ، فجزى الله تعالى أهل ذلك الزمان خيرا ، والظاهر أن ذلك فعل عند إعادة سقف المسجد الذي ذكره المطري.

ولنرجع إلى ما ذكره عقب ما تقدم عنه ، قال : وسقفوا في هذه السنة ـ وهي سنة خمس وخمسين ـ الحجرة

الشريفة وما حولها إلى الحائط القبلي وإلى الحائط الشرقي إلى باب جبريل عليه‌السلام المعروف قديما بباب عثمان ، ومن جهة المغرب الروضة الشريفة جميعها إلى المنبر الشريف.

ثم دخلت سنة ست وخمسين وستمائة فكان في المحرم منها واقعة بغداد واستيلاء التتار عليها وقتلهم الخليفة المذكور مع أهلها.

قلت : وهي من أعظم الوقائع ، وقد ذكرتها في كتابي «الوفا» وأشرت إليها في الفصل الثالث من الباب الثاني عند ذكر نار الحجاز ، وذكرت ما أفاده الذهبي من استيلاء الحريق على بغداد أيضا حتى تربة الخلفاء ، وكانوا في العام قبله قد أشرفوا على الغرق ، فسبحان الملك العظيم.

قال المطري عقب ما تقدم : فوصلت الآلات من مصر ، وكان المتولي عليها حينئذ الملك المنصور نور الدين علي بن الملك المعز عز الدين أيبك الصالحي ، ووصل أيضا آلات وأخشاب من صاحب اليمن يومئذ وهو الملك المظفر شمس الدين يوسف بن منصور عمر ابن علي بن رسول ، فعملوا إلى باب السلام المعروف قديما بباب مروان ، ثم عزل صاحب مصر المذكور ـ يعني في آخر سنة سبع وخمسين في ذي القعدة منها ـ وتولى مكانه مملوك أبيه الملك المظفر سيف الدين قطز المعزي ، واسمه الحقيقي محمود بن ممدود ، وأمه أخت السلطان جلال الدين خوارزم شاه ، وأبوه ابن عمه أسر عند غلبة التتار ، فبيع بدمشق ، ثم انتقل بالبيع إلى مصر ، وتملك في سنة ثمان وخمسين.

قلت : إنما ولي في يوم السبت ثامن عشر ذي القعدة من سنة سبع ، وفي شهر رمضان من سنة ثمان كانت وقعت عين جالوت التي أعز الله فيها الإسلام وأهله على يديه ، ولم

١٥٤

يستكمل في ملكه السنة بكمالها ، بل قتل بعد الوقعة بشهر وهو داخل إلى مصر ، فكان العمل بالمسجد الشريف تلك السنة من باب السلام إلى باب الرحمة المعروف قديما بباب عاتكة ، ومن باب جبريل إلى باب النساء المعروف قديما بباب ريطة ابنة أبي العباس السفاح ، وتولى مصر آخر تلك السنة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس الصالحي ، ويعرف بالبندقداري ، فعمل في أيامه باقي سقف المسجد الشريف من باب الرحمة إلى شمالي المسجد ، ثم إلى باب النساء ، وكمل سقف المسجد كما كان قبل الحريق سقفا فوق سقف.

قلت : وذكر المؤرخون أن الظاهر ركن الدين المذكور لما ولي حصل منه الاهتمام بذلك ؛ فجهز الأخشاب والحديد والرصاص ، ومن الصناع ثلاثة وخمسين صانعا وما يمونهم ، وأنفق عليهم قبل سفرهم ، وأرسل معهم الأمير جمال الدين محسن الصالحي وغيره ، ثم صار يمدهم بما يحتاجون إليه من الآلات والنفقات ، ثم لم يزل المسجد على ذلك حتى جددوا السقف الشرقي والسقف الغربي ـ أي الذي عن يمين صحن المسجد وشماله ـ في سنتي خمس وست وسبعمائة في أوائل دولة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون الصالحي ، فجعلا سقفا واحدا نسبة السقف الشمالي أي سقف الدكاك فإنه جعل في عمارة الملك الظاهر كذلك.

ثم في سنة تسع وعشرين وسبعمائة أمر السلطان الملك الناصر محمد المذكور بزيادة رواقين في المسقف القبلي متصلين بمؤخره ، فاتسع مسقفه بهما وعم نفعهما.

قلت : ثم حصل فيهما خلل فجددهما الملك الأشرف برسباي في ذي القعدة سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة على يد مقبل القديدي من مال جوالي قبرص ، على ما أخبرني به بعض مشايخ الحرم ، ورأيته مكتوبا كذلك باللوح التي كانت بظاهر العقود من المسقف القبلي مما يلي رحبة المسجد ، وهو سقف واحد في موازاة سقف المسجد الأسفل ، ولذلك صار سقف مقدم المسجد القديم مرتفعا من أعلاه على هذين الرواقين وغيرهما من بقية المسجد ، وله باب يدخل إليه من بين السقفين شارع في مبدأ الرواقين المذكورين مما يلي المشرق ، وجدد الأشرف المذكور أيضا شيئا من السقف الشامي مما يلي المنارة السنجارية ، ثم حصل خلل في سقف الروضة الشريفة وغيرها من سقف المسجد في دولة الظاهر جقمق فجدد ذلك في سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة وما قبلها على يد الأمير بردبك الناصر المعمار وغيره.

ثم في دولة مولانا السلطان الملك الأشرف قايتباي أدام الله تعالى تأييده ونصره أنهى إليه احتياج سقوف المسجد الشريف للعمارة فبرز أمره الشريف بذلك كما ستأتي الإشارة إليه للجناب الخواجكي الشمسي شمس الدين بن الزمن أعزه الله بعز طاعته ، فحضر لذلك في أثناء سنة تسع وسبعين صحبة أمير جدة ورتب أمر العمارة وسافر صحبته أيضا ، فهدموا

١٥٥

عقود المسجد التي تلي رحبته من جهة المشرق وسقف الرواق الذي كان عليها ؛ لاقتضاء نظرهم ذلك ، ونقضوا بعض أساطينه فوجد بعضها لا رصاص فيه ، وبعضها فيه رصاص ، ثم أعادوا ذلك في سنتهم ، وهدموا أيضا جانبا من سور المسجد الشريف مما يلي المشرق من جهة المنارة الشرقية المعروفة بالسنجارية من باب سلّمها ، وهو الباب الثاني جوف بابها الظاهر ، إلى ما يوازي حرف الدكاك من القبلة ، وذلك آخر المسقف الشامي ، ومقدار ذلك سبعة وعشرون ذراعا بذراع اليد المتقدم وصفه ، هدموا ذلك من أعلاه إلى أسفله ، وبلغوا به دك الأس القديم ، وظهر في أصل جدار المنارة المذكورة انشقاق وكانت تضطرب عند الهدم بحيث خشي سقوطها ، فسكبوا في ذلك الشق كثيرا من الجص المذاب حتى امتلأ ، وكان ما هدموه من سور المسجد وعقوده مبنيا بالجص السكب ، فذكر مهندس العمارة أن الجدار إنما اختل لأن السباخ له تأثير في إذابة الجص ، واقتضى رأيه أن يؤسسه بالطين والنورة المخلوطة بناعم الحصباء ، ففعلوا ذلك في الجدار المذكور كله وفي العقود المذكورة أيضا ، وكحلوا أطراف وجوه الأحجار بالجص من داخل المسجد وخارجه ، ورفعوا السقف الكائن أمام المنارة المذكورة إلى جنب ما هدموه من الجدار المذكور ، وأعادوا ذلك من سنتهم أيضا. ثم اتفقت أمور اقتضت تأخير العمارة ، فتعطلت في سنة ثمانين. ثم ورد الخواجا الشمسي ابن الزمن إلى المدينة الشريفة صحبة أمير جدة في جمادى الأولى سنة إحدى وثمانين وأقام لمباشرة العمارة بنفسه ، فرفعوا سقف الروضة الأعلى وما اتصل به مما حول القبة الزرقاء الآتي ذكر عملها بأعلى الحجرة الشريفة في سقف المسجد الأعلى ، ورفعوا أيضا شيئا مما يلي ذلك من جهة ما يوازي غربي المنبر الشريف لتكسر كثير من أخشابه ، وكان ذلك السقف مع بقية سقف مقدم المسجد على عبارات من خشب موضوعة على أبنية فوق رءوس السواري بعرض تلك السواري ، كما أن السقف الأسفل المشاهد مما يلي المسجد موضوع على عبارات كذلك فوق رءوس السواري ، فاقتضى رأي متولى العمارة إبدال تلك الأخشاب بعقود من آجر كهيئة القناطر التي حول رحبة المسجد ، ورأى أن ذلك أبقى وأحكم من الأخشاب ، مع أن عبارات السقف الأسفل كما قدمناه على رءوس السواري بأصل تلك العقود ، ولكنه رأى الإحكام في ذلك ، ففعله في القطعة التي رفعها من السقف المذكور فقط ، ووضع أخشاب ذلك السقف على تلك القناطر ، فارتفع بسببه ذلك المكان من السقف الأعلى على بقية ما حوله منه ، وصار الماشي بين السقفين في تلك الجهة يمشي منتصبا أو منحنيا قليلا ، وكان لا يتأتى قبل ذلك المشي هناك إلا مع انحناء كثير ، وتلك القناطر موضوعة على ما يحاذي صف الأساطين التي هي قبلة الروضة والمصلى الشريف من أولها ومن جهة المشرق إلى الأسطوانة التي تلي المنبر من جهة المغرب وعلى ما يحاذي الصف الثاني وهو صف أسطوان عائشة

١٥٦

رضي‌الله‌عنها في موازاة الصف المتقدم ذكره من المشرق إلى المغرب ، وعلى ما يوازي الصف الثالث وهو صف أسطوان المحرس من المشرق إلى المغرب أيضا ، وأما ما يوازي صف أسطوان الوفود فقد كان عليه بناء حائط حاجز لما بين السقف الأسفل والأعلى فيه باب يدخل منه إلى ما بين السقفين ، فهدموا ذلك الحائط ، وأحكموا بناءه ، وجعلوا أطراف الخشب عليه أيضا ، فهذه الثلاثة الأروقة هي التي ارتفع سقفها الأعلى على ما حوله من الأساطين اللاصقة بالمقصورة إلى الأساطين التي تلي المنبر وصار سقف الرواقين اللذين بين الروضة والجدار القبلي مع سقف ما يحاذي الحجرة الشريفة إلى الجدار الشرقي وسقف ما كان غربي المنبر من مقدم المسجد كله منخفض عن ذلك.

ووجدوا أخشابا كثيرة متفرقة نحو الأربعين من السقف الأعلى أيضا قد تكسرت ، فزرقوا بدلها ، ووضعوا إلى جانب بعضها أخشابا مزرقة ، وسمروها من غير كشف للسقف ، وقلعوا السقف الأسفل الذي بالرواق الشرقي مما يلي الأرجل الشريفة ، وجانبا من سقف رواق باب جبريل إلى باب النساء ، وسقف الرواق الأوسط الذي يلي الرواق الذي سبقت عمارتهم إياه في العام الماضي ، وأعادوا ذلك ، وقلعوا السقف الأسفل المحاذي لموقف الزائرين تجاه الوجه الشريف وكان من أقدم السقف ، ومع ذلك تعبوا في قلعه أكثر من غيره لإتقانه وإحكامه فإنه من عمل الأقدمين ، وأظنهم وجدوا اسم الظاهر بيبرس عليه ، ثم أعادوه وأصلحوا شيئا في المسقف الشامي وغيره ، وجددوا أيضا دهان بعض السقف التي حول الحجرة داخل المقصورة التي تعرف اليوم بالحجرة من غير قلع لتلك السقف. ثم احترق ذلك كله في جملة حريق المسجد الثاني الآتي ذكره في الفصل التاسع والعشرين ، وجعلوا سقف المسجد عند إعادته سقفا واحدا جميعه كما سيأتي.

الفصل السابع والعشرون

في اتخاذ القبة الزرقاء التي جعلت على ما يحاذي سقف الحجرة الشريفة

بأعلى سقف المسجد ، تمييزا لها ، وإبدالها بالقبة الخضراء والمقصورة الدائرة

بالحجرة الشريفة

القبة الزرقاء

أما القبة المذكورة فاعلم أنه لم يكن قبل حريق المسجد الشريف الأول وما بعده على الحجرة الشريفة قبة ، بل كان حول ما يوازي حجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سطح المسجد حظير مقدار نصف قامة مبنيا بالآجر تمييزا للحجرة الشريفة عن بقية سطح المسجد ، كما ذكره ابن النجار وغيره ، واتمر ذلك إلى سنة ثمان وسبعين وستمائة في أيام الملك المنصور قلاوون الصالحى ، فعملت تلك القبة ، وهي مربعة من أسفلها مثمنة من أعلاها بأخشاب أقيمت على رءوس

١٥٧

السواري ، وسمر عليها ألواح من خشب ، ومن فوقها ألواح الرصاص ، وفيها طاقة إذا أبصر الشخص منها رأى سقف المسجد الأسفل الذي فيه الطابق ، وعليه المشمع المتقدم ذكره ، وحول هذه القبة على سقف المسجد ألواح رصاص مفروشة فيما قرب منها ، ويحيط به وبالقبة درابزين من الخشب جعل مكان الحظير الآجر ، وتحته أيضا بين السقفين شباك خشب يحكيه محيط بالسقف الذي فيه الطابق ، وعليه المشمع المتقدم ذكره ، ولم أر في كلام مؤرخي المدينة تعرض لمن تولى عمل هذه القبة.

ورأيت في «الطالع السعيد الجامع أسماء الفضلاء والرواة بأعلى الصعيد» في ترجمة الكمال أحمد بن البرهان عبد القوي الربعي ناظر قوص أنه بنى على الضريح النبوي هذه القبة المذكورة ، قال : وقصد خيرا وتحصيل ثواب ، وقال بعضهم : أساء الأدب بعلو النجارين ودق الحطب ، قال : وفي تلك السنة وقع بينه وبين بعض الولاة كلام ، فوصل مرسوم بضرب الكمال ، فضرب ، فكان من يقول إنه أساء الأدب [يقول :] إن هذا مجازاة له ، وصادره الأمير علم الدين الشجاعي ، وخرب داره ، وأخذ رخامها وخزائنها ، ويقال : إنهم بالمدرسة المنصورية اه.

ويؤيد ما نقله عن بعضهم ما رواه أبو داود في سننه عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خرج فرأى قبة مشرفة ، فقال : ما هذه؟ قال له أصحابه : هذه لفلان ، رجل من الأنصار ، قال : فسكت وحملها في نفسه ، حتى إذا جاء صاحبها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سلم عليه في الناس فأعرض عنه ، صنع ذلك مرارا ، حتى عرف الرجل الغضب فيه والإعراض عنه ، فشكا ذلك إلى أصحابه ، فقال : والله إني لأنكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالوا : خرج فرأى قبتك ، قال : فرجع الرجل إلى قبته فهدمها حتى سوّاها بالأرض ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم ، فلم يرها ، قال : ما فعلت القبة؟ قالوا : شكا إلينا صاحبها إعراضك عنه فأخبرناه فهدمها ، فقال : أما إنّ كلّ بناء وبال على صاحبه إلا ما لا إلا ما لا» أي : إلا ما لا بد منه.

وجد جدّدت هذه القبة في أيام الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون ، فاختلت الألواح الرصاص عن وضعها ، فخشوا من كثرة الأمطار ، فجددت وأحكمت في أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد في سنة خمس وستين وسبعمائة ، قاله الزين المراغي.

وقد ظهر في بعض أخشابها خلل في سنة إحدى وثمانين وثمانمائة فعضّدها متولي العمارة الشمس بن الزمن بأخشاب سمرت معها ، وقلع ما حولها من ألواح الرصاص التي على أعلى السطح بينها وبين الدرابزين المتقدم ذكره ، فوجدوا تحت ذلك أخشابا قد تأكلت من طول الزمان ونداوة مياه الأمطار فأصلحوا ذلك وأعادوه بعد أن أضافوا إليه كثيرا من الرصاص من حاصل المسجد ومما أحضر من مصر ، وجددوا الدرابزين المحيط بها أيضا ،

١٥٨

وقد كانت مياه الأمطار تتسرّب من بين تلك الألواح وتصل إلى سقف الحجرة الشريفة ، فإن آثار المياه قد وجدت هناك ، وأثّرت في الشباك الذي بأعلى حائز عمر بن عبد العزيز بحيث تأكل بعضه ، فأصلحه متولي العمارة أيضا ، وأثّرت الأمطار أيضا في الستارة التي على سقف الحجرة الشريفة بحيث تأكل بعضها ، ثم احترق ذلك كله في حريق المسجد الثاني ، فاقتضى رأيهم تأسيس القبة البيضاء الموجودة اليوم على دعائم بأرض المسجد وعقود من الآجر ، وجعلوا تلك الدعائم في موازاة الأساطين التي كان بينها درابزين المقصورة الآتي وصفها ، وزادوا من جهة الشام دعائم بعضها عند المثلث الذي بالحجرة الشريفة من بناء عمر بن عبد العزيز ، وزادوا هناك أسطوانا ، وعند التأسيس لذلك وجدوا عند صفحة المثلث الشرقية قبرا بدا لحده وبعض عظامه ، وإن صح القول بدفن فاطمة رضي‌الله‌عنها في بيتها كما ستأتي الإشارة إليه فهو قبرها ، وأبدلوا بعض الأساطين بدعائم ، وأضافوا إلى بعضها أسطوانة أخرى ، وقرنوا بينهما ليتأتى لهم العقد عليها ، وحصل فيما بين جدار المسجد الشرقي وبين تلك الدعائم ضيق لاتحاد بعض تلك الدعائم هناك ، فخرجوا بجدار المسجد الشرقي في البلاط الذي يلي الجدار المذكور نحو ذراع ونصف ، فإنهم هدموا ذلك الجدار ، وأعادوه إلى باب جبريل عليه‌السلام ، ولم ينقلوا باب جبريل عن محله.

ثم إن القبة المذكورة تشققت من أعاليها ولم ينفع الترميم فيها ، ففوّض السلطان للشجاعي شاهين الجمالي النظر في أمرها وأمر المنارة الرئيسية أيضا عند توليته شيخ الحرم الشريف ، فاقتضى رأيه بعد مراجعة أهل الخبرة هدم أعالي المنارة المذكورة واختصار قليل منها ، فاتخذ أخشابا في طاقاتها وجعل عليها سقفا يمنع ما يسقط عند الهدم للحجرة الشريفة ، ثم هدم أعاليها وأعاد بناءها أحكم من البناء الأول ، بحيث حمل لها الجبس الأبيض من مصر وجعله في بنائها ، فجاءت محسنة محكمة ، وأزيل ذلك السقف عند تمامها ، وذلك في عام اثنتين وتسعين وثمانمائة.

المقصورة الدائرة على الحجرة

وأما المقصورة الدائرة على الحجرة الشريفة بين الأساطين حول جدار الحجرة الظاهر وحول بيت فاطمة رضي‌الله‌عنها فقد أحدثها السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس ، وذلك أنه لما حج سنة سبع وستين وستمائة أراد أن يجعل على الحجرة الشريفة درابزينا من خشب ـ وهو المقصورة المذكورة ـ فقاس ما حول الحجرة الشريفة بيده وقدره بحبال وحملها معه ، وعمل الدرابزين ، وأرسله في سنة ثمان وستين ، وأداره عليها ، وعمل له ثلاثة أبواب قبليا وشرقيا وغربيا ، ونصبه بين الأساطين التي تلي الحجرة إلا من ناحية الشام فإنه زاد فيه إلى متهجّد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٥٩

ثم زيد لهذه المقصورة باب رابع أحدث عند زيادة الرواقين المتقدم ذكرهما في سنة تسع وعشرين وسبعمائة ، وهو من جهة الشمال في رحبة المسجد ، وكان عليه قبل الحريق الأول سقف مرتفع يحيط به رفرف ، ثم أحدث هذا الباب ، وأمامه من جهة رحبة المسجد سقف لطيف أيضا نحو ستة أذرع دوين السقف المتقدم وجعل له رفرف أيضا يمنع الشمس ، وبسط تحته الرخام الملون شبه الرخام الذي تقدم ذكره حول حائز عمر بن عبد العزيز بالأرض داخل هذه المقصورة ، وذلك في دولة الظاهر جقمق سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة.

قال الزين المراغي : واعلم أن الذي عمله الملك الظاهر ـ أي ركن الدين ـ من الدرابزين نحو القامتين ، فلما كان في سنة أربع وتسعين وستمائة زاد عليه الملك العادل زين الدين كتبغا شباكا دائرا عليه ، ورفعه حتى وصله سقف المسجد ، انتهى.

وقد جدد متولي العمارة المتقدم ذكره بعض هذه المقصورة أيضا مما يلي الروضة الشريفة في العمارة الأولى ، ثم احترقت في الحريق الثاني ، فجعلوا بدلها شبابيك من النحاس في جهة القبلة ، وعلى أعلاها شبكة من شريط النحاس كالزرد ، بين أخشاب متصلة بالعقود المحيطة بالحجرة الشريفة ، وجعلوا لبقيتها من جهة الشام وما اتصل بها من المشرق والمغرب مشبكا من الحديد المشاجر ، وبأعلاه شريط النحاس أيضا ، وأحدثوا مشبكا من الحديد المشاجر أيضا لم يكن قبل ذلك ، جعلوه فاصلا بين الرحبة التي خلف مثلث الحجرة الشريفة وبينها ، وبها بعض المثلث المذكور ، وبه بابان أحدهما عن يمين المثلث ، والآخر عن يساره ، وصار هذا المشبك متوسطا بين مشبك الحجرة الشامي وما يقابله. وقد صارت هذه المقصورة تعرف بالحجرة الشريفة ، وأبوابها بأبواب الحجرة ، وما يعلق بسقفها بقناديل الحجرة كما تقدم في عبارة السبكي.

وفي كلام البدر ابن فرحون ما يقتضي أنه كان ثمّ مقصورة متصلة بهذه المقصورة من جهة المغرب ، ثم أزيلت ، ولفظه : وقد تساهل من كان قبلنا فزادوا على الحجرة الشريفة مقصورة كبيرة عملت وقاية من الشمس إذا غربت ، وكانت بدعة وضلالة تصلي فيها الشيعة ؛ لأنها قطعت الصفوف ، واتّسمت بمن ذكر من الصنوف ، وندم على ذلك واضعها ، ولقد كنت أسمع بعضهم يقف على بابها ويؤذن بأعلى صوته «حي على خير العمل» وكانت مواطن تدريسهم ، وخلوة علمائهم حتى قيّض الله لها من سعى فيها فأصبحت ليلة منخلعة أبوابها ، مقوسة أخشابها ، متصلة صفوفها ، وأدخل بعضها في الحجرة الشريفة ـ يعني ما اشتمل عليه الدرابزين المذكور ـ وجعل فيها الباب الشامي ، وكان ذلك مع زيادة الرواقين اللذين زادهما الملك الناصر ، انتهى.

وذكر لي بعض مشايخ المدينة نقلا عمن أدركه من المشايخ أن هذه المقصورة كانت في

١٦٠