نور الدين علي بن أحمد السّمهودي
المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3818-9
الصفحات: ٢٩٤
وروى رزين أنه صلىاللهعليهوسلم سار من قباء ومعه جماعة من الأنصار في السلاح وجميع المهاجرين ، وذكر صلاة الجمعة ، قال : ثم ركب فجاء بني الحبلى فأراد أن ينزل على عبد الله بن أبي بن سلول ، وكان جالسا محتبيا عند أطم له ، فقال : اذهب إلى الذين دعوك فانزل عليهم ، فقال سعد بن عبادة لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : لا تجد عليه ، فإن أهل هذه البحرة كانوا قد أجمعوا على أن يعصّبوه (١) ويتوّجوه ، فلما رد الله عليه ذلك بالحق الذي أعطاك شرق لذلك (٢).
قلت : الذي في الصحيح ذكر سعد لذلك في قصة عيادته صلىاللهعليهوسلم له من مرض بعد سكناه بالمدينة ، والذي في كتب السير عن ابن إسحاق أن الجمعة أدركته في وادي رانونا فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة ، وكانوا أربعين ، وقيل : مائة ، فأتاه عتبان بن مالك في رجال من بني سالم فقالوا : يا رسول الله أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة ، قال : خلوا سبيلها فإنها مأمورة ، لناقته ، فخلوا سبيلها ، فانطلقت حتى إذا وازنت دار بني بياضة تلقاه زياد بن لبيد وفروة بن عمرو في رجال من بني بياضة ، فأجابهم بمثل ما تقدم ، فخلوا سبيلها ، حتى إذا وازنت دار بني الحارث بن الخزرج اعترضه سعد بن الربيع وخارجة بن زيد وعبد الله بن رواحة في رجال من بلحارث ، فأجابهم بما تقدم ، فخلوا سبيلها ، فانطلقت حتى إذا مرت بدار عدي بن النجار ـ وهم أخواله دنيا ـ اعترضهم سليط بن قيس في رجال منهم ، فأجابهم بمثل ما تقدم ، حتى إذا أتت دار بني مالك بن النجار بركت على باب مسجده صلىاللهعليهوسلم ثم وثبت وسارت غير بعيد ورسول الله صلىاللهعليهوسلم واضع لها زمامها لا يثنيها به ، ثم التفتت خلفها فرجعت إلى مبركها أول مرة فبركت فيه ، ثم تلحلحت وأرزمت (٣) ووضعت جرانها (٤) فنزل عنها رسول الله صلىاللهعليهوسلم وفي رواية أنها لما وثبت من مبركها الأول بركت على باب أبي أيوب الأنصاري ، ثم ثارت منه وبركت في مبركها الأول ، وفي رواية فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : هذا المنزل إن شاء الله.
وذكر ابن سيد الناس بعد قصة بني سالم أن راحلته انطلقت حتى وازنت دار بني بياضة ، فذكر قصتهم ، ثم قال : فانطلقت حتى إذا مرت بدار بني ساعدة اعترضه سعد بن عبادة ، وذكر قصتهم ، ثم قال : فانطلقت حتى إذا وازنت دار بني الحارث بن الخزرج اعترضه سعد بن الربيع ، وذكر قصتهم ، ثم ذكر القصة كما قدمناه.
__________________
(١) عصّبه القوم : سوّدوه وجعلوه سيدا عليهم.
(٢) شرق لذلك : غصّ وضاق صدره لذلك.
(٣) تحلحلت : تحركت عن موضعها. أرزمت : اشتد صوتها.
(٤) الجران : باطن العنق من البعير وغيره.
وذكر يحيى في رواية أخرى أنه صلىاللهعليهوسلم بعد أن سار من بني سالم تيامن ، فأتى منزل ابن أبي ، ثم مضى في الطريق والطريق يومئذ فضاء حتى انتهى إلى سعد بن عبادة ، ثم اعترضت له بنو بياضة عن يساره ، ثم مضى حتى أتي بني عدي بن النجار ، ثم أتى إلى بني مازن بن النجار ، فقامت إليه وجوههم ، ثم مضى حتى انتهى إلى باب المسجد وقد حشدت (١) بنو مالك بن النجار فهم قيام ينتظرونه إلى أن طلع فهش إليه أسعد بن زرارة وأبو أيوب وعمارة بن حزم وحارثة بن النعمان يقول : يا رسول الله قد علمت الخزرج أنه ليس ربع أوسع من ربعي ، قال : فبركت بين أظهرهم ، فاستبشروا ، ثم نهضت كأنها مذعورة ترجّع الحنين (٢) ، فساءهم ذلك ، وجعلوا يعدون بجنبها حتى أتت إلى زقاق الحبشي ببئر جمل فبركت والنبي صلىاللهعليهوسلم عليها مرخ لها زمامها ثم قامت عودها على بدئها تزيد في المشي حتى بركت على باب المسجد وضربت بجرانها وعدلت ثفناتها (٣) ، وجاء أبو أيوب والقوم يكلمونه في النزول عليهم ، فأخذ رحله فأدخله ، فنظر رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى رحله وقد حط فقال : «المرء مع رحله».
وذكر رزين اعتراض بني سالم له وقوله «خلوا سبيلها فإنها مأمورة» ثم قال : فمر ببني بياضة فكذلك ، ثم ببني ساعدة فكذلك ، ثم بدار بني الحارث بن الخزرج فكذلك ، ثم مر بدار عدي بن النجار فكذلك ، فمضت حتى إذا أتت دار بني مالك بن المجار بركت على باب المسجد اليوم ، ولم ينزل رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين بركت ، ثم وثبت فسارت غير بعيد ثم التفتت خلفها فرجعت إلى مبركها الأول ، فنزل إذا ذاك رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : أي الدور أقرب؟ فقال أبو أيوب : داري ، هذا بابي ، وقد حططنا رحلك فيها ، فقال : «المرء مع رحله» فمضت مثلا.
وروى ابن زبالة أنها لما بركت بباب أبي أيوب جعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم يريد أن ينزل فتحلحل فيطيف حولها أبو أيوب فيجد جبار بن صخر أخا بني سلمة ينخسها برجله ، فقال أبو أيوب : يا جبار عن منزلي تنخسها؟ أما والذي بعثه بالحق لو لا الإسلام لضربتك بالسيف ، فنزل رسول الله صلىاللهعليهوسلم في منزل أبي أيوب ، وقر قراره ، واطمأنت داره ، ونزل معه زيد بن حارثة.
وعند الحاكم عن أنس : جاءت الأنصار فقالوا : إلينا يا رسول الله ، فقال : دعوا الناقة فإنها مأمورة ، فبركت على باب أبي أيوب.
__________________
(١) احتشد القوم : اجتمع القوم.
(٢) ترجع الحنين : عادت ومدّت صوتها.
(٣) الثفنة : الركبة. و ـ الجزء من جسم الدابة تلقى به الأرض فيغلظ ويجمد.
وروى الطبراني في الأوسط وفيه صديق بن موسى ـ قال الذهبي : ليس بالحجة ـ عن عبد الله بن الزبير أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قدم المدينة فاستناخت راحلته بين دار جعفر بن محمد بن علي ودار الحسن بن زيد ، فأتاه الناس فقالوا : يا رسول الله المنزل ، فانبعثت به راحلته ، فاستناخت ثم تحلحلت ، وللناس ثم عريش كانوا يرشونه ويعمرونه ويبردون فيه ، حتى نزل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن راحلته فآوى إلى الظل فنزل فيه ، فأتاه أبو أيوب فقال : يا رسول الله منزلي أقرب المنازل إليه أفأنقل رحلك؟ قال : نعم ، فذهب برحله إلى المنزل ، ثم أتاه آخر فقال : يا رسول الله انزل علي ، فقال : إن الرجل مع رحله حيث كان ، وثبت رسول الله صلىاللهعليهوسلم في العريش اثنتي عشرة ليلة حتى بنى المسجد.
قلت : دار جعفر بن محمد هي التي في قبلة دار أبي أيوب ملاصقة لها ، ودار الحسن ابن زيد تقابلها من جهة المغرب ، بينهما الشارع.
وعند ابن عائذ وسعيد بن منصور أن ناقته صلىاللهعليهوسلم استناخت به أولا ، فجاءه ناس فقالوا : المنزل يا رسول الله ، فقال دعوها ، فانبعثت حتى استناخت عند موضع المنبر من المسجد ، ثم تحلحلت ، فنزل عنها ، فأتاه أبو أيوب فقال : منزلي أقرب المنازل فاذن لي أن أنقل رحلك ، قال : نعم ، وأناخ الناقة في منزله.
وقال الواقدي : أخذ أسعد بن زرارة بزمام راحلته فكانت عنده ، ونقله الحافظ ابن حجر عن ابن سعد ونقل الأقشهري ، في روضته عن ابن نافع صاحب مالك في أثناء كلام نقله عن مالك أن ناقته صلىاللهعليهوسلم لما أتت موضع مسجده بركت وهو عليها ، وأخذه الذي كان يأخذه عند الوحي ، ثم ثارت من غير أن تزجر وسارت غير بعيد ، ثم التفتت ، ثم عادت إلى المكان الذي بركت فيه أول مرة فبركت ، فسرّي عنه ، فأمر أن يحط رحله ، في بعض الروايات أن القوم لما تنازعوا أيهم ينزل عليه قال : إني أنزل على أخوال عبد المطلب أكرمهم بذلك.
وفي البخاري من حديث عائشة أنه صلىاللهعليهوسلم أقبل يسير حتى نزل جانب دار أبي أيوب ، فقال : أيّ بيوت أهلنا أقرب؟ أيّ أخوال جده ، فقال أبو أيوب : أنا يا نبي الله ، هذه داري ، وهذا بابي ، قال : فانطلق فهيئ لنا مقيلا (١).
وفي رواية لابن زبالة : اختار رسول الله صلىاللهعليهوسلم على عينه ، فنزل منزله وتخيره ، وأراد أن يتوسط الأنصار كلها.
قال المطري : وهو غير مناف لما تقدم من قوله : «دعوها فإنها مأمورة» ؛ لأن الله اختار له ما كان يختار لنفسه.
__________________
(١) المقيل : المكان الذي تؤخذ فيه القيلولة.
وفرح أهل المدينة بمقدمه صلىاللهعليهوسلم إليهم فرحا شديدا ؛ ففي البخاري من حديث البراء : «ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله صلىاللهعليهوسلم» الحديث ، وروى أبو داود أن الحبشة لعبت بحرابهم فرحا بقدومه صلىاللهعليهوسلم.
قال رزين : وصعدت ذوات الخدور على الأجاجير (١) يقلن :
طلع البدر علينا |
|
من ثنيّات الوداع |
وجب الشكر علينا |
|
ما دعا لله داع |
وفي رواية :
أيها المبعوث فينا |
|
جئت بالأمر المطاع |
والغلمان والولائد يقولون : جاء رسول الله صلىاللهعليهوسلم فرحا به.
وفي شرف المصطفى : لما بركت الناقة على باب أبي أيوب خرج جوار من بني النجار يضربن بالدفوف ويقلن :
نحن جوار من بني النجار |
|
يا حبذا محمد من جار |
فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أتحببناني؟ قلن : نعم يا رسول الله ، فقال : والله وأنا أحبكن ، قالها ثلاثا ، وفي رواية : «يعلم الله إني أحبكن».
وأخرج الحاكم من طريق إسحاق بن أبي طلحة : فخرجت جوار من بني النجار يضربن بالدف وهن يقلن ، وذكر البيت المتقدم.
وروى عن أنس قال : لما خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم من مكة أظلم منها كل شيء ، فلما دخل المدينة أضاء منها كل شيء ، ورواه ابن ماجه بلفظ : لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة أضاء منها كل شيء ، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء. ورواه أبو داود بلفظ : لما قدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة لعبت الحبشة بحرابهم فرحا بقدومه صلىاللهعليهوسلم وما رأيت يوما كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة ، أضاء منها كل شيء ، الحديث. ورواه ابن أبي خيثمة عنه بلفظ : شهدت يوم دخول رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة ، فلم أر يوما أحسن منه ولا أضوأ.
وروى يحيى عن عبد الله بن سلام : لما قدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة انجفل الناس (٢) إليه ، وقيل : قدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم فجئت أنظر ، فلما تبينت وجهه علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب ، فكان أول شيء سمعته يتكلم قال : أيها الناس ، أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام ، وصلوا بالليل والناس نيام ، تدخلون الجنة بسلام ، وهذا الحديث بنحوه في الترمذي وصححه.
__________________
(١) الأجاجير : سطوح المنازل.
(٢) انجفل الناس : قدموا إليه مسرعين.
وبعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم زيد بن حارثة وأبا رافع إلى مكة أعطاهما خمسمائة درهم وبعيرين ، فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم بنتيه وسودة زوجته وأم أيمن زوج زيد بن حارثة وأسامة بن زيد ، وخرج عبد الله بن أبي بكر معهم بعيال أبي بكر فيهم عائشة وأختها أسماء زوج الزبير وأمها أم رومان ، فلما قدموا المدينة أنزلهم في بيت حارثة بن النعمان.
وقال رزين : إن أبا بكر أرسل عبد الله بن أريقط مع زيد بن حارثة ليأتيه بعائشة وأم رومان أمها وعبد الرحمن.
قال بعضهم : ووجدوا طلحة بن عبيد الله على خروج ، فخرج معهم ، فقدموا كلهم.
وروى ابن إسحاق عن أبي أيوب الأنصاري قال : لما نزل عليّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم في بيتي نزل في السفل وأنا وأم أيوب في العلو ، فقلت له : يا نبي الله ، بأبي أنت وأمي ، إني أكره وأعظم أن أكون فوقك وتكون تحتي ، فاظهر أنت فكن في العلو وننزل نحن فنكون في السفل ، فقال : يا أبا أيوب إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت ، قال : فكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم في سفله ، وكنا فوقه في المسكن ، فلقد انكسر حب لنا (١) فيه ماء ، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا ما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفا أن يقطر على رأس رسول الله صلىاللهعليهوسلم منه شيء فيؤذيه.
قلت : وذكر بعضهم أن ذلك هو سبب سكناه في العلو بعد ذلك ، والذي في صحيح مسلم عن أبي أيوب أن النبي صلىاللهعليهوسلم نزل عليه ، فنزل صلىاللهعليهوسلم في السفل وأبو أيوب في العلو ، فانتبه أبو أيوب ليلة فقال : نمشي فوق رأس النبي صلىاللهعليهوسلم؟! فتنحوا وباتوا في جانب ، ثم قال للنبي صلىاللهعليهوسلم فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : السفل أرفق ، فقال : لا أعلو سقيفة وأنت تحتها ، فتحول النبي صلىاللهعليهوسلم في العلو وأبو أيوب في السفل.
وقد قدمنا في آخر الفصل الرابع أن ابن إسحاق ذكر أن هذا البيت بناه تبّع الأول لما مرّ بالمدينة للنبي صلىاللهعليهوسلم ينزله إذا قدم المدينة ، فتداول البيت الملاك إلى أن صار لأبي أيوب ، وأن أبا أيوب من ذرية الحبر الذي أسلمه تبع كتابه.
وقد نقل الحافظ ابن حجر ذلك عن حكاية ابن هشام في التيجان ، قال : وأورده ابن عساكر في ترجمة تبع ، فما نزل صلىاللهعليهوسلم إلا في بيته ، وقد ابتاع المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بيت أبي أيوب هذا من ابن أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري بألف دينار ، فتصدق به ، وهو في شرقي المسجد المقدس كما سيأتي في الدور المطيفة بالمسجد.
وقد اشترى الملك المظفر شهاب الدين غازي بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب بن شادي عرصة دار أبي أيوب هذه ، وبناها مدرسة للمذاهب الأربعة ،
__________________
(١) الحب : الجرّة.
ووقف عليها أوقافا بميّافارقين التي هي دار ملكه ، وبدمشق لها وقف آخر أيضا ، ولها بالمدينة الشريفة أيضا وقف من النخيل وغيرها ، غير أنه شمل ذلك ما عم الأوقاف ، وكان بها كتب كثيرة نفيسة فتفرقت أيدي سبا ، وآل حال هذه المدرسة إلى التعطيل ، فسكنها بعض نظارها ، فتشاءمت على عياله ، واتصل ذلك بسلطان مصر فخرج منها ، والمدرسة قاعتان : كبرى ، وصغرى ، وفي إيوان الصغرى الغربي خزانة صغيرة جدا ، فما يلي القبلة فيها محراب.
قال المطري : يقال إنها مبرك ناقة النبي صلىاللهعليهوسلم.
وكانت إقامته صلىاللهعليهوسلم بهذه الدار كما أفاده ابن سعد سبعة أشهر : أي : بتقديم السين على الباء ، حتى بنى مساكنه. وقال رزين : أقام عند أبي أيوب من شهر ربيع الأول إلى صفر من السنة الثانية ، وقال الدولابي : شهرا ، وفي كتاب يحيى عن زيد بن ثابت : لما نزل رسول الله صلىاللهعليهوسلم على أبي أيوب لم يدخل منزل رسول الله صلىاللهعليهوسلم هدية أول من هدية دخلت بها عليه قصعة مثرودة خبز بر وسمنا ولبنا فأضعها بين يديه ، فقلت : يا رسول الله أرسلت بهذه القصعة أمي ، فقال : بارك الله فيها ، ودعا أصحابه فأكلوا ، فلم أرم الباب (١) حتى جاءت قصعة سعد بن عبادة على رأس غلام مغطاة ، فأقف على باب أبي أيوب فأكشف غطاءها لأنظر ، فرأيت ثريدا عليه عراق ، فدخل بها على رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال زيد : فقد كنا في بني مالك بن النجار ما من ليلة إلا على باب رسول الله صلىاللهعليهوسلم منا الثلاثة والأربعة يحملون الطعام ويتناوبون بينهم ، حتى تحول رسول الله صلىاللهعليهوسلم من بيت أبي أيوب ، وكان مقامه فيه سبعة أشهر ، وما كانت تخطئه جفنة سعد بن عبادة وجفنة أسعد بن زرارة كل ليلة.
وفيه أنه قيل لأم أبي أيوب : أيّ الطعام كان أحب إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فإنكم عرفتم ذلك لمقامه عندكم؟ قالت : ما رأيته أمر بطعام فصنع له بعينه ، ولا رأيناه أتى بطعام قط فعابه.
وقد أخبرني أبو أيوب أنه تعشى عنده ليلة من قصعة أرسل بها سعد بن عبادة طفيشل (٢) فقال أبو أيوب : فرأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم ينهل تلك القدر ما لم أره ينهل غيرها ، فكنا نعملها له ، وكنا نعمل له الهريس وكانت تعجبه ، وكان يحضر عشاءه خمسة إلى ستة عشر كما يكون الطعام في الكثرة والقلة.
__________________
(١) لم أرم الباب : لازمته.
(٢) طفيشل : نوع من الأدم.
وفيه عن أبي أيوب أنهم تكلفوا له طعاما فيه بعض هذه البقول ، فلما أتوه به كرهه وقال لأصحابه : كلوا فإني لست كأحدكم ، إني أخاف أن أوذي صاحبي (١).
وفي كتاب رزين عنه بعد ذكر نزوله عليه قال : وما مرت ليلة من نحو السنة إلا وتأتيه جفنة سعد بن معاذ ثم سائر الناس ، يتناوبون ذلك نوبا ، قال أبو أيوب : فصنعت له ليلة طعاما ، وجعلت فيه ثوما ، فلم يأكل منه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ففزعت فنزلت إليه فقلت له : أحرام هو؟ فقال : إني أناجي ، وأنا أكرهه لذلك ، وأما أنتم فكلوه ، قال : فقلت : فإني أكره ما تكره يا رسول الله.
المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين
قال ابن إسحاق : وكتب رسول الله صلىاللهعليهوسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود (٢) ، وعاهدهم ، وأقرهم على دينهم وأموالهم ، واشترط لهم ، وآخى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار ، فقال فيما بلغنا : تاخوا في الله أخوين أخوين ، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال : هذا أخي.
قلت : كانت هذه المؤاخاة بعد مقدمه صلىاللهعليهوسلم بخمسة أشهر ، وقيل : ثمانية ، وهو يا بني المسجد ، وقيل : بعده ، وقيل : قبله ، وذكره أبو حاتم في السنة الأولى ، والظاهر أن ابتداءها كان فيها ، واستمرت على حسب من يدخل في الإسلام أو يحضر ، كما يعلم من تفاصيلها ، قيل : وكانوا تسعين رجلا من كل طائفة خمسة وأربعون ، وقيل : مائة ، آخى بينهم على الحق والمواساة والتوارث ، وكانوا كذلك إلى أن نزل بعد بدر (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) [الأنفال : ٧٥] الآية.
وقال الواقدي : لما قدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة آخى بين المهاجرين ، وآخى بين المهاجرين والأنصار.
وقال ابن عبد البر : كانت المؤاخاة مرتين : الأولى قبل الهجرة بمكة بين المهاجرين ، فآخى بين أبي بكر وعمر ، وهكذا حتى بقي علي رضياللهعنه فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أما ترضى أن أكون أخاك؟ قال : بلى يا رسول الله ، قال : فأنت أخي في الدنيا والآخرة ، والمواخاة الثانية ما تقدم من مواخاة المهاجرين والأنصار ، وهي المرادة بقول الحسن : كان التوارث بالحلف ؛ فنسخ بآية المواريث.
__________________
(١) البقول : المراد بها البصل والثوم والكراث.
(٢) وادع فلان : صالحه وسالمه وهادنه.
ولأبي داود عن أنس بن مالك : حالف رسول الله صلىاللهعليهوسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا ، وحديث «لا حلف في الإسلام» معناه : حلف التوارث ، والحلف على ما منع الشرع منه ، وعبر رزين عن المواخاة بين المهاجرين والأنصار فيما نقله عن أبي حاتم بقوله : ثم آخى بين أصحابه ، ودعا لكل واحد منهم دعوة ، وقال : أبشروا أنتم في أعلى غرف الجنة ، وقال لعلي : ما أخرتك إلا لنفسي ، أنت أخي ووارث علمي ، وأنت معي في الجنة في قصري مع ابنتي ، وقصة المؤاخاة الأولى أقر بها الحاكم ؛ فذكر المؤاخاة بين أبي بكر وعمر ، وذكر جماعة ، ثم قال : فقال علي : يا رسول الله ، إنك آخيت بين أصحابك فمن أخي؟ قال : أنا أخوك.
وقد أنكر ابن تيمية في الرد على ابن المطهر الرافضي المؤاخاة بين المهاجرين خصوصا مؤاخاة النبي لعلي ، قال : لأنها شرعت للإرفاق والتألف ؛ فلا معنى لها بينهم ، وهو رد للنص وغفلة عن حقيقة الحكمة في ذلك ، مع أن بعضهم كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة ، والارتفاق ممكن ، وقد كان النبي صلىاللهعليهوسلم يقوم بعلي من عهد الصبا ، واستمر ذلك.
وأخرج الحاكم وابن عبد البر بسند حسن أنه صلىاللهعليهوسلم «آخى بين الزبير وابن مسعود» وهما من المهاجرين.
اليهود تحاول الإفساد بين الأوس والخزرج
والتأم شمل الحيين الأوس والخزرج ببركته صلىاللهعليهوسلم فمر شاس بن قيس ـ وكان شيخا من اليهود شديد الضغن على المسلمين والحسد لهم ـ على نفر من الأوس والخزرج في مجلس يتحدثون فيه ، فغاظه ما رأى من ألفتهم وصلاح ذات بينهم بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية ، فقال : قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد ، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار ، فأمر شابا من يهود كان معه فقال : اجلس إليهم ثم اذكر يوم بعاث ، وما كان فيه ، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار ، ففعل الشاب ذلك ، فتنازع القوم وتفاخروا ، حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب ، وهما أوس بن قيظي وجبار بن صخر ، فتقاولا ، ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم رددناها الآن جذعة ، وغضب الفريقان جميعا ، وقالوا : قد فعلنا ، موعدكم الظاهرة ، وهي الحرة ، فخرجوا إليها ، وبلغ ذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم فقال : يا معشر المسلمين ، الله الله ، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام ، وأكرمكم به ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، واستنقذكم به من الكفر ، وألف به بينكم؟ فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان ، وكيد من عدوهم ، فبكوا ، وعانق الأوس
والخزرج بعضهم بعضا ، ثم انصرفوا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس ، فأنزل الله في شأنه : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [آل عمران : ٩٨ ـ ٩٩] ، وأنزل الله في الذين صنعوا ما صنعوا من الحيين : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) إلى قوله : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران : ١٠٠ ـ ١٠٣].
وكان حيي بن أخطب وأخوه أبو ياسر من أشد يهود للعرب حسدا لما خصهم الله برسوله صلىاللهعليهوسلم ؛ فكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام بما استطاعا فأنزل الله تعالى فيهما : (وَدَّ كَثِيرٌمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ) إلى قوله : (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة : ١٠٩].
وحدثت صفية بنت حيي رضياللهعنها قالت : كنت أحبّ ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر ، لم ألقهما قط مع ولدهما إلا أخذاني دونه ، فلما قدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة غدا عليه أبي وعمي مغلّسين (١) ، فلم يرجعا حتى كان مع غروب الشمس ، فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينا ، فهششت إليهما كما كنت أصنع. فو الله ما التفت إلي واحد منهما ، مع ما بهما من الغم ، وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي : أهو هو؟ قال : نعم والله ، قال : أتعرفه وتثبته؟ قال : نعم ، قال : فما في نفسك منه؟ قال : عداوته والله ما بقيت ، فشقيا بجسدهما ، والله أعلم.
الفصل الثاني عشر
فيما كان من أمره صلىاللهعليهوسلم بها في سني الهجرة
إلى أن توفاه الله عزوجل مختصرا
وقد لخصه رزين من تأريخ أبي حاتم ، فزدت فيه نفائس ميزتها ، فأقول في أولها «قلت» وفي آخرها «والله أعلم» وقد أقام صلىاللهعليهوسلم بالمدينة بعد الهجرة عشر سنين بالإجماع كما حكاه النووي.
السنة الأولى من الهجرة : وقد تقدم بعض ما فيها من بناء مسجد قباء وغيره.
وقال أبو حاتم : كان فيها بناء المسجد النبوي ، ومات أسعد بن زرارة والمسجد يا بنى ؛ فكان أول من دفن بالبقيع من المسلمين.
__________________
(١) الغلس : ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح.
قلت : ومن هذا يعلم أن عثمان بن مظعون أول من دفن به من المهاجرين ، جمعا بين النقلين ، ومات كلثوم بن الهدم قبل أسعد بن زرارة ؛ فهو أول من مات من الأنصار بعد مقدم النبي صلىاللهعليهوسلم وقيل : توفي أسعد بن زرارة في الثانية ، والله أعلم.
ومات البراء بن معرور قبل قدوم رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأوصى أن يوجّه إلى الكعبة ، وصلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم على قبره ، وكانت الأنصار يتقربون إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالهدايا رجالهم ونساؤهم ، وكانت أم سليم تتأسف على ذلك ، وما كان لها شيء ، فجاءت بابنها أنس ، وقالت : يخدمك أنس يا رسول الله؟ قال : نعم.
قلت : الذي في الصحيح عن أنس «قدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة ليس له خادم ، فأخذ أبو طلحة بيدي ، فانطلق بي إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله إن أنسا غلام كيّس (١) فليخدمك ، قال : فخدمته ، الحديث ، وقد يجمع بأنها جاءت به أولا ، وانطلق به أبو طلحة ثانيا ؛ لأنه وليه وعصبته ، وهذا غي مجيئه به لخدمته صلىاللهعليهوسلم في غزوة خيبر كما يفهمه لفظ الحديث ، والله أعلم.
ثم زيد في صلاة الحضر ركعتين بعد مقدمه المدينة بشهر.
قلت : قال السهيلي : إن ذلك كان بعد الهجرة بعام أو نحوه ، والذي عليه الأكثر أن الصلاة نزلت بتمامها من بدء الأمر ، والله أعلم.
ووعك أصحابه فدعا بنقل وبائها إلى الجحفة ، وقال : «اللهم حبب إلينا المدينة» ثم آخى بين أصحابه كما سبق ، ثم مات الوليد بن المغيرة بمكة ، وولد عبد الله بن الزبير ، جاءت أمه أسماء بعد الهجرة فنفست به في قباء في شوال ، فكان أول مولود ولد في الإسلام بها بعد الهجرة ، وكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله صلىاللهعليهوسلم تفل في فيه.
قلت : سيأتي في مسجد دار سعد بن خيثمة من المساجد التي لا تعلم عينها أن الذهبي قال : إن عبد الله ولد في الثانية ، والله أعلم.
ثم عقد رسول الله صلىاللهعليهوسلم لواء لابن عمه عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب على ستين من المهاجرين ليس فيهم أنصاري ، وهي أول راية عقدت في الإسلام ، ورمى فيها سعد بن أبي وقاص بسهم ، فكان أول سهم رمي به في الإسلام ، فالتقى مع أبي سفيان بن حرب ، وقيل : عكرمة بن أبي جهل ، وكان في مائة من المشركين ببطن رابغ ويعرف بودان فانحاز
__________________
(١) كيّس : فطن. والكياسة : تمكن النفوس من استنباط ما هو أنفع.
إلى المسلمين من المشركين المقداد بن عمرو بن الأسود وعتبة بن غزوان ، وكان حامل اللواء لعبيدة مصلح بن أثاثة.
أول راية عقدت في الإسلام
قلت : وذكر أبو الأسود في مغازيه عن عروة ، ووصله ابن عائذ من حديث ابن عباس : «أن النبي صلىاللهعليهوسلم لما وصل إلى الأبواء بعث عبيدة بن الحارث في ستين رجلا» وذكر القصة ، فيكون ذلك في السنة الثانية ، وبه صرّح بعض السير ، والله أعلم.
ثم عقد لواء لعمه حمزة على ثلاثين من المهاجرين ـ قيل : ومن الأنصار ـ ليتعرض عير قريش ، فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب ، فحجب بينهم مجدي بن عمرو ، وكان حليفا للفريقين ، وانصرفوا من غير قتال ، وكان حامل لواء حمزة يومئذ أبو مرثد.
قلت : قدم بعضهم هذه على سرية عبيدة ، وقال : إن لواء حمزة أول لواء عقد في الإسلام ، ورجح ابن إسحاق الأول ، وقال : إنما أشكل أمرهما أن النبي صلىاللهعليهوسلم شيعهما جميعا ، وذكر أبو عمر أن أول راية عقدت لعبد الله بن جحش. وقيل : إن سرية حمزة هذه كانت في السنة الثانية ، والله أعلم.
زواج عائشة
ثم بنى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعائشة وهي بنت تسع ، وكان عقد بها في مكة قبل الهجرة بثلاث وهي بنت ست.
زواج سودة بنت زمعة
قلت : وعقد على سودة بنت زمعة بعد عائشة ـ وقيل : قبلها ، وبنى بها بمكة ـ وكان بناؤه بعائشة على رأس تسعة أشهر ـ وقيل : ثمانية ، وقيل ثمانية عشر شهرا ـ من قدومه ، والله أعلم.
ثم عقد لواء لسعد بن أبي وقاص في عشرين يريدون عير قريش في ذي القعدة ، فخرجوا على أقدامهم يكمنون (١) بالنهار ويسيرون بالليل ، وكان حامل اللواء لسعد المقداد بن عمرو ، فلم يجدوا شيئا ، ثم جاء أبو قيس بن الأسلت ليسلم ، فلقيه ابن أبيّ ابن سلول ، فقال : تربص (٢) حتى ترى ، فرجع فمات كافرا.
__________________
(١) يكمنون : يستخفون في مكمن لا يفطن له.
(٢) تربص : انتظر به خيرا أو شرّا يحل به.
إسلام عبد الله بن سلام
قلت : وأسلم عبد الله بن سلام في أول قدومه صلىاللهعليهوسلم ؛ ففي البخاري من حديث عائشة التصريح بأنه جاء قبل دخوله صلىاللهعليهوسلم دار أبي أيوب لما سمع بقدومه صلىاللهعليهوسلم ثم رجع إلى أهله ، ثم قال صلىاللهعليهوسلم لأبي أيوب : اذهب فهيئ لنا مقيلا ، فقال : قوما على بركة الله ، أي هو وأبو بكر ، قالت : فلما جاء نبي الله صلىاللهعليهوسلم جاء عبد الله بن سلام فقال : أشهد أنك رسول الله وأنك قد جئت بحق ، وقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم ، فسلهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت ؛ فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا فيّ ما ليس فيّ ، فأرسل رسول الله صلىاللهعليهوسلم فدخلوا عليه ، فقال لهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم : يا معشر اليهود ، ويلكم! اتقوا الله ، فوالذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا ، وأني جئتكم بحق ، فأسلموا ، قالوا : ما نعلمه ، قال : فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ قالوا : ذاك سيدنا وابن سيدنا ، وأعلمنا وابن أعلمنا ، قال : أفرأيتم إن أسلم ، قالوا : حاشا لله ما كان ليسلم ، قال : أفرأيتم إن أسلم ، قالوا : حاشا لله ما كان ليسلم ، كرر عليهم ذلك ثلاثا فيقولون له ذلك ، قال : يا ابن سلام اخرج عليهم ، فخرج عليهم ، فقال : يا معشر اليهود ، اتقوا الله فوالذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأنه جاء بحق ، فقالوا : كذبت ، فأخرجهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وفي رواية أن عبد الله بن سلام سأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن أشياء ، فلما أعلمه بها أسلم ، وفي هذه الرواية ذكر قصة اليهود المتقدمة ، وأن عبد الله بن سلام لما خرج إليهم وتشهد قالوا : شرنا وابن شرنا ، وتنقصوه ؛ فقال : هذا كنت أخاف يا رسول الله ، ونصبت أحبار اليهود العداوة للنبي صلىاللهعليهوسلم بغيا وحسدا : منهم حيي بن أخطب ، وأبو رافع الأعور ، وكعب بن الأشرف ، وعبد الله بن صوريا ، والزبير بن باطا ، وشمويل ، ولبيد بن الأعصم ، وغيرهم ، ودخل منهم جماعة في الإسلام نفاقا ، وانضاف إليهم من الأوس والخزرج منافقون ، وأرى عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه الأذان ، وقيل : كان ذلك في السنة الثانية عند ما شاور صلىاللهعليهوسلم أصحابه فيما يجمعهم به للصلاة ؛ إذ كان اجتماعهم قبل بمناد «الصلاة جامعة» والله أعلم.
السنة الثانية من الهجرة
السنة الثانية : فلما جاء العاشر من المحرم أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بصومه ، وقال : «نحن أحق بموسى من اليهود» ثم زوج عليا بفاطمة.
قلت : وذلك قبل بدر ، في رجب على الأصح ، وبنى بها في ذي الحجة كما سيأتي ، وكان لها خمس عشرة سنة ، وقل : ثمان عشرة ، وقيل : تزوجها بعد أحد ، والله أعلم.
ثم غزا رسول الله صلىاللهعليهوسلم بنفسه إلى الأبواء وهي من ودان على ستة أميال مما يلي المدينة.
قلت : ولتقاربهما أطلق عليها «غزوة ودان» ، والله أعلم.
واستخلف على المدينة سعد بن عبادة ، وكان حامل لوائه سعد بن أبي وقاص ، ثم رجع ، ولم يلق كيدا ، فانصرف بعد ما وادع مجدي بن عمرو الضمري ، ثم غزا في مائتين من أصحابه إلى ناحية رضوى ، وحامل لوائه سعد بن أبي وقاص ، ثم رجع ولم يلق كيدا.
قلت : وهي غزوة «بواط» خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم يريد تجار قريش أيضا ، حتى بلغ بواط من ناحية رضوى ، وقال ابن هشام : واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون ، وفي نسخة السائب بن مظعون ، وقال الواقدي : سعد بن معاذ ، والله أعلم.
ثم أغار على سرح المدينة كرز بن جابر الفهري ، فخرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم في أثره في المهاجرين ، وحامل لوائه علي بن أبي طالب ، فانتهى إلى بدر ، وفاته كرز ، وهذه بدر الأولى.
قلت : ذكر ذلك ابن إسحاق بعد «العشيرة» بليال ، والله أعلم.
ثم بعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم عبد الله بن جحش في سرية ، وهم الذين قتلوا في الشهر الحرام في اثني عشر نفسا ، فأضل عتبة بن غزوان وسعد بن أبي وقاص راحلتيهما ، فتخلفا عنهم ، ومضى العشرة حتى لقوا جماعة من قريش : منهم عثمان بن عبد الله بن المغيرة ، وافتدى من رسول الله صلىاللهعليهوسلم والحكم ابن كيسان ، أسلم ، وقتلوا عمرو بن الحضرمي.
قلت : ذكرها بعضهم بعد العشيرة ، ووصلوا نخلة على يوم وليلة من مكة ، فمرت بهم عير قريش تحمل زبيبا وأدما من الطائف معها الجماعة المذكورون في آخر يوم من رجب ، فاستأسروا الأسيرين ، وقتلوا عمرا ، واستاقوا العير ، وكانت أول غنيمة في الإسلام ، والله أعلم.
ثم خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى العشيرة ، فوادع بني مدلج وحفاءهم ، ثم رجع.
قلت : وكان خروجه فيها يعترض عيرا لقريش ، ففاتته بأيام ، واستخلف أبا سلمة بن عبد الأسد ، والله أعلم.
التوجه إلى الكعبة
قال أبو حاتم : وبلغني أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يحب أن يوجه إلى الكعبة ، فقال عمر رضياللهعنه : يا رسول الله لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى فدعا الله تعالى ، فأنزل (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) إلى قوله : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) [البقرة : ١٤٤] وقت صلاة الظهر يوم الثلاثاء النصف من شعبان ثانية سني الهجرة.
قلت : سيأتي ما فيه من الخلاف في الفصل الثالث من الباب بعده ، والله أعلم.
ثم نزلت فريضة الصوم في شعبان ، فصاموا رمضان ، فلما فرض رمضان لم يأمرهم بصيام عاشوراء ولا نهاهم.
ثم كانت غزوة بدر في رمضان لاثنتي عشرة ليلة خلت منه ، وقيل : يوم جمعة صبيحة سبع عشرة منه ، وقيل : صبيحة أربع وعشرين منه ، وكان المسلمون ثلاثمائة وبضعة عشر.
قلت : الراجح القول الثاني ، وخرجت الأنصار معه صلىاللهعليهوسلم فيها ، ولم تكن قبل ذلك خرجت معه ، ومعهم ثلاثة أفراس ، وكان المشركون ألفا ، ويقال ، تسعمائة وخمسين رجلا معهم مائة فرس ، وهذه بدر الثانية لما تقدم ، والله أعلم.
ثم قتل عمير بن عدي الخطمي العصماء امرأة من الأنصار ، وهي زوج يزيد الخطمي ، كانت تؤذي رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الشعر ، فقتلها ، ثم جاء رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا ينتطح فيها عنزان».
قلت : قال في الاكتفاء : إن العصماء هذه نافقت لما قتل أبو عفك (بالفاء وإهمال أوله) وقالت شعرا تعيب الإسلام وأهله ، وتؤنب الأنصار في اتباعهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم وإن عميرا رجع إلى قومه بعد قتلها يومئذ كثير موجهم (١) في شأنها ، ولها بنون خمسة رجال ، فقال : يا بني خطمة ، أنا قتلت بنت مروان ، يعني العصماء ، فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون ، فذلك اليوم أول ماء الإسلام في دار بني خطمة ، وكان يستخفي بإسلامه فيهم من أسلم ، ويومئذ أسلم رجال منهم لما رأوا من عز الإسلام ، انتهى. والذي رواه ابن سيد الناس عن ابن سعد أنه قال بعد ذكر قتل عمير للعصماء : ثم في شوال كانت سرية سالم بن عمير إلى أبي عفك اليهودي ، وكان أبو عفك من بني عمرو بن عوف شيخا قد بلغ عشرين ومائة ، وكان يحرض على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ويقول الشعر ، فقال سالم بن عمير وهو أحد البكائين وممن شهد بدرا : علي نذر أن أقتل أبا عفك أو أموت دونه ، وذكر قتله إياه ، وهو مخالف لما قدمناه عن الاكتفاء من تقديم قتل أبي عفك على قتل العصماء ، وذكر ابن سعد أيضا أن قتل العصماء كان لخمس ليال بقين من شهر رمضان ، وأن عميرا كان ضرير البصر ، وسماه رسول الله صلىاللهعليهوسلم البصير ، قيل : وكان أول من أسلم من بني خطمة ، وكان إمام قومه وقارئهم ، وكان يدعى «القارئ» ، والله أعلم.
ثم خطب رسول الله صلىاللهعليهوسلم قبل الفطر بيومين يعلّم الناس زكاة الفطر.
قلت : وقيل : في أول شوال ، وصلّى صلاة الفطر ، وفيها فرضت زكاة الأموال أيضا ، وقيل : في الثالثة ، وقيل : في الرابعة ، وقيل : قبل الهجرة ، وثبتت بعدها ، والله أعلم.
ثم غزا بني قينقاع في شوال.
__________________
(١) ماج القوم : اختلفت أمورهم واضطربت.
قلت : قد تقدم أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان قد وادع اليهود ، وكانوا يرجعون إلى ثلاث طوائف : بني قينقاع ، والنضير ، وقريظة ، فنقض الثلاثة العهد طائفة بعد طائفة ، فأول من نقض منهم بنو قينقاع فحاربهم النبي صلىاللهعليهوسلم بعد بدر في شوال ، فألقى الله الرعب في قلوبهم ، فنزلوا على حكمه ، فأراد قتلهم ، فاستوهبهم منه عبد الله بن أبي وكانوا حلفاءه فوهبهم له ، وأخرجهم من المدينة إلى أذرعات ، وفي الاكتفاء : وكان منشأ أمرهم ، يعني في نقض العهد ، أن امرأة من العرب قدمت بجلب (١) لها ، فباعته بسوق بني قينقاع ، وجلست إلى صائغ بها ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها ، فأبت ، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها ، فلما قامت انكشفت سوأتها ، فضحكوا بها ، فصاحت ، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقلته ، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه ، فوقع الشر بينهم وبين المسلمين ، فحاصرهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى نزلوا على حكمه.
وروي أن ابن أبيّ قال للنبي صلىاللهعليهوسلم : يا محمد ، أحسن في موالي ، فأعرض عنه ، وأنه قال : أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة ، إني والله امرؤ أخشى الدوائر ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : هم لك ، وقال مغلطاي في غزوة بني قينقاع ، قال الحاكم : هذه وبني النضير واحد ، وربما اشتبهتا على من لا يتأمل ، وقال الحافظ ابن حجر بعد ذكر أنهم أول من نقض العهد : فغزاهم النبي صلىاللهعليهوسلم ثم بني النضير ، وأغرب الحاكم فزعم أن إجلاء بني قينقاع وإجلاء بني النضير كان في زمن واحد ولم يوافق على ذلك ؛ لأن إجلاء بني النضير كان بعد بدر بستة أشهر على قول عروة ، أو بعد ذلك بمدة طويلة على قول ابن إسحاق ، وذكر الواقدي أن إجلاء بني قينقاع كان في شوال سنة اثنتين ، يعني بعد بدر بشهر ، ويؤيده ما روى ابن إسحاق بإسناد حسن عن ابن عباس قال : لما أصاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم قريشا يوم بدر جمع يهود في سوق بني قينقاع فقال : يا معشر يهود ، أسلموا قبل أن يصيبكم ما أصاب قريشا ، فقالوا : إنهم كانوا لا يعرفون القتال ، ولو قاتلتنا لعرفت أنا الرجال ؛ فأنزل الله : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ) إلى قوله : (لِأُولِي الْأَبْصارِ) [آل عمران : ١٢ ـ ١٣] وأصاب صلىاللهعليهوسلم من سلاح بني قينقاع ثلاثة أسياف ودر عين أحدهما تسمى فضة والأخرى تسمى السغدية (بالسين المهملة والغين المعجمة) قال بعض الحفاظ : وكانت السغدية درع داود عليهالسلام التي لبسها حين قتل جالوت ، والله أعلم.
غزوة السويق
قلت : سميت به لأنه كان أكثر زاد المشركين ، وغنمه المسلمون لأن أبا سفيان خرج
__________________
(١) الجلب : ما جلب من إبل وغنم ومتاع من البادية للتجارة.
في مائتي راكب ، وقيل : في أربعين ، حتى أتوا العريض ، فحرق نخلا ، وقتل رجلا من الأنصار وأجيرا له ، فخرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم في طلبه ، وجعل أبو سفيان وأصحابه يتخففون للهرب فيلقون جرب السويق ، فأخذها المسلمون فرجعوا ، وذلك بعد بدر ، فإن أبا سفيان حلف بعدها أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا ، ففعل ذلك ، ورأى أن يمينه انحلت ، والله أعلم.
ثم مات عثمان بن مظعون في ذي الحجة ، فهو أول من مات من المهاجرين بالمدينة ، ثم صلّى رسول الله صلىاللهعليهوسلم صلاة العيد ، ثم ضحى بكبش ، ثم بنى علي بفاطمة في ذي الحجة.
قلت : وقال النووي : وتوفيت في ذي الحجة منها رقية ابنته صلىاللهعليهوسلم لكن ذكر أهل السير ما يقتضي أن وفاتها كانت في رمضان منها ، والله أعلم.
السنة الثالثة من الهجرة
السنة الثالثة : ثم قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من لكعب بن الأشرف»؟ فقال محمد بن مسلمة : أنا له ، ثم قتله.
قلت : ابن الأشرف كان أصله عربيا من نبهان على ما قاله ابن إسحاق ، أتى أبوه المدينة فخالف بني النضير ، فشرف فيهم ، وتزوج بنت أبي الحقيق ، فولدت له كعبا ، وكان جسيما شاعرا ، وهجا المسلمين بعد وقعة بدر ، وخرج إلى مكة وأنشدهم الأشعار ، وبكى أصحاب القليب (١) من قريش ، ونزل فيهم على المطلب بن أبي وداعة السهمي ، وعنده عاتكة بنت أبي العيص ابن أمية ، فهجاه حسان وهجا امرأته عاتكة ، فطردته ، فرجع إلى المدينة وشبب بنساء المسلمين ، وكان يهجو رسول الله صلىاللهعليهوسلم ويحرض عليه كفار قريش ، وقيل : صنع طعاما وواطأ يهود أن يدعو النبي صلىاللهعليهوسلم فإذا حضر فتكوا به ، ثم دعاه ، فأعلمه جبريل فقام منصرفا وقال : «من لكعب بن الأشرف» فانتدب له محمد بن مسلمة في نفر ، واحتال عليه حتى نزل له ليلا فقتله ، وقيل : أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم سعد بن معاذ أن يبعث رهطا ليقتلوه ، والله أعلم.
غزوة الكدر
ثم غزا غزوة الكدر ، وكان حامل لوائه علي بن أبي طالب ، فرجع ولم يلق كيدا.
قلت : خرج فيها رسول الله صلىاللهعليهوسلم يريد بني سليم ، واستخلف سباع بن عرفطة ، وقيل :
__________________
(١) القليب : البئر. أصحاب القليب : المشركون الذين قتلوا ببدر ، وطرحوا بالبئر.
ابن أم مكتوم ، فبلغ ماء يقال له الكدر ، وتعرف بغزوة «قرقرة» ، ويقال نجران ، فلم يلق أحدا ، والله أعلم.
غزوة أنمار
ثم غزا غزوة أنمار ، فجاءه دعثور فوجده نائما تحت الشجرة ، فاستيقظ رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو قائم على رأسه بالسيف ، فقال له دعثور : من يمنعك مني؟ قال : الله ، فوقع السيف من يده ، وأخذه رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقال : من يمنعك مني؟ قال : لا أحد ، قال : اذهب لشأنك ، فولى وهو يقول : محمد خير مني ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : نعم ، وأنا أحق بذلك منك ، فنذرت غطفان برسول الله صلىاللهعليهوسلم فهربوا.
غزوة ذي أمر
قلت : هذه غزوة ذي أمر ، وسماها الحاكم غزوة أنمار ، وسمى بعضهم الأعرابي غورث ، ويقال : كان ذلك في ذات الرقاع ، ولا مانع من تعدد ذلك ، وكأن أبا حاتم رأى اتحادهما فلم يذكر ذات الرقاع ، وهي بنخل عند بعضهم ؛ فلذلك لم يذكرها أيضا ، والله أعلم.
ثم كانت سرية القردة ، وكان أميرها زيد بن حارثة ، فلقي بها عير قريش ، فأخذها ، وأسر فرات بن حيان ، وبلغ الخمس من تلك الغنيمة عشرين ألفا.
سرية القردة
قلت : والقردة ماء من مياه نجد ، فإن قريشا بعد بدر خافوا طريقهم التي كانوا يسلكون إلى الشام ، فسلكوا طريق العراق ، وكان في هذه العير أبو سفيان بن حرب ومعه فضة كثيرة هي عظم تجارتهم ، والله أعلم.
ثم كانت أحد.
غزوة أحد
قلت : كانت في شوال سنة ثلاث باتفاق الجمهور ، وشذ من قال : سنة أربع ، وقال ابن إسحاق : لإحدى عشرة ليلة خلت منه ، وقيل : لسبع ليال ، وقيل : لثمان ؛ وقيل : لتسع ، وقيل : في نصفه ، وقال مالك : كانت بعد بدر بسنة ، وفيه تجوز ، لأن بدرا كانت في رمضان باتفاق ، فهي بعدها بسنة وشهر لم يكمل ، ولهذا قال مرة أخرى : كانت بعد الهجرة بإحدى وثلاثين شهرا.
وكان السبب فيها أنه لما قتل الله من قتل من كفار قريش يوم بدر ورجع من بقي منهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيرهم ، فكلموا أبا سفيان ومن له في العير مال في
الاستعانة بها على حرب النبي صلىاللهعليهوسلم ففعلوا ، وقيل : كان المال خمسين ألف دينار ، فسلم إلى أهل العير رءوس أموالهم ، وعزلت الأرباح ، وكانوا يربحون في تجارتهم الديا نار دينارا ، وجهزوا الجيش بذلك ، وحركوا من أطاعهم من القبائل ، وخرجوا بأحابيشهم ومن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة ، وخرجوا معهم بالظعن (١) لئلا يفروا ، فخرج أبو سفيان ـ وكان قائدهم ـ بهند بنت عتبة ، وكذلك سار أشرافهم خرجوا بنسائهم ، وكان جبير بن مطعم أمر غلامه وحشيا الحبشي بالخروج مع الناس ، وقال له : إن قتلت حمزة عم محمد صلىاللهعليهوسلم بعمي طعمة بن عدي فأنت عتيق ، فأقبلوا حتى نزلوا بعينين جبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مقابل المدينة ، قاله ابن إسحاق ، ووادي قناة خلف عينين بينه وبين أحد ، فإن عينين في مقابلة أحد ، فنزلوا هم أمام عينين مما يلي المدينة وفي غربيه لجهة بئر رومة ؛ فلا يخالف ما سيأتي عن المطري ، ونقل ابن عقبة أن أبا سفيان سار بجمعه حتى طلعوا من بئر الجماوين ، ثم نزلوا ببطن الوادي الذي قبل أحد ، وكان رجال من المسلمين أسفوا على ما فاتهم من مشهد بدر ، وتمنوا لقاء العدو ، وأرى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليلة الجمعة رؤيا ، فلما أصبح قال : رأيت البارحة في منامي بقرا تذبح ، والله خير ، ورأيت سيفي ذا الفقار انقصم من عند ظبته (٢) ، أو قال به فلول ، فكرهته وهما مصيبتان ، ورأيت أني في درع حصينة ، وأني مردف كبشا ، قالوا : ما أولتها؟ قال : أولت البقر بقرا يكون فينا ، وأولت الكبش كبش الكتيبة [٣] ، وأولت الدرع الحصينة المدينة ، فامكثوا فإن دخل القوم الأزقة قاتلناهم ورموا من فوق البيوت ، ونقل ابن إسحاق أيضا أن عبد الله بن أبي قال : يا رسول الله ، أقم بالمدينة ، ولا تخرج إليهم ، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا ، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه ، فدعهم ، فقال أولئك القوم : يا نبي الله كنا نتمنى هذا اليوم ، وأبى كثير من الناس إلا الخروج ، فلما صلّى الجمعة وانصرف دعا باللأمة فلبسها ، ثم أذن في الناس بالخروج ، فندم ذوو الرأي منهم ، فقالوا : يا رسول الله امكث كما أمرتنا ، فقال : ما ينبغي لنبي إذا أخذ لأمة الحرب أن يرجع حتى يقاتل ، فخرج بهم وهم ألف رجل ، وكان المشركون ثلاثة آلاف. وقال المطري : إن نزول قريش يوم أحد بالمدينة كان يوم الجمعة ، قال : وقال ابن إسحاق : يوم الأربعاء.
قال المطري : فنزلوا برومة من وادي العقيق ، وصلّى النبي صلىاللهعليهوسلم الجمعة بالمدينة ، ثم
__________________
(١) الظعينة : الراحلة يرتحل عليها. و ـ الهودج.
(٢) الظّبة : حدّ السيف والسنان والخنجر وما أشبهها.
خرج هو وأصحابه على الحرة الشرقية حرة واقم ، وبات بالشيخين موضع بين المدينة وبين جبل أحد على الطريق الشرقية مع الحرة إلى جبل أحد ، وغدا صبح يوم السبت إلى أحد ، انتهى. ونقل الأقشهري أنه صلىاللهعليهوسلم دعا بثلاثة أرماح فعقد ثلاثة ألوية ؛ فدفع لواء الأوس إلى أسيد بن حضير ، ولواء الخزرج إلى الحباب بن المنذر بن الجموح ، وقيل : إلى سعد بن عبادة ، ولواء المهاجرين إلى علي بن أبي طالب ، وقيل : إلى مصعب بن عمير ، واستخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم ، ثم ركب فرسه ، وتقلد القوس ، ثم أخذ قناته بيده ، وفي المسلمين مائة دارع ، وخرج السعدان أمامه سعد بن معاذ وسعد بن عبادة والناس على يمينه وشماله ، فمضى حتى إذا كان بالشيخين ـ وهما أطمان ـ التفت فنظر إلى كتيبة حسنة لها زجل (١) ، فقال : ما هذه؟ قالوا : حلفاء ابن أبي من يهود ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : لا نستنصر بأهل الشرك ، فلما بلغوا الشوط انخذل عبد الله بن أبي بثلث الناس ، انتهى.
وفي الاكتفاء أن مخيريقا كان من أحبار يهود ، فقال لهم يومئذ ، لقد علمتم إن نصر محمد عليكم لحق ، فتعللوا بسبتهم ، فقال لهم : لا سبت لكم ، وأخذ سيفه وعدته فلحق برسول الله صلىاللهعليهوسلم فقاتل معه حتى قتل بعد أن قال : إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء ، وفيه قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «مخيريق خير يهود» انتهى.
وروى الطبراني في الكبير والأوسط برجال ثقات عن أبي حميد الساعدي أن النبي صلىاللهعليهوسلم خرج يوم أحد حتى إذا جاوز ثنية الوداع فإذا هو بكتيبة حسناء ، فقال : من هؤلاء؟ قالوا : عبد الله بن أبي في ستمائة من مواليه من اليهود من بني قينقاع ، فقال : وقد أسلموا؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال : مروهم فليرجعوا ، فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين.
قال الأقشهري عقب كلامه السابق : وعرض رسول الله صلىاللهعليهوسلم من عرض ورد من رد في ذلك الموضع ، يعني بالشيخين ، وأذن بلال المغرب فصلى النبي صلىاللهعليهوسلم بأصحابه ، وبات بذلك الموضع صلىاللهعليهوسلم واستعمل على الحرس في تلك الليلة محمد بن مسلمة في خمسين يطوفون بالعسكر ، وأدلج رسول الله صلىاللهعليهوسلم في السحر وهو يرى المشركين ودليله أبو خيثمة الحارثي ، فانتهى إلى موضع القنطرة ، فحانت الصلاة فصلى بأصحابه الصبح صفوفا عليهم السلاح ، قال : وقال مجاهد والكلبي والواقدي : غدا رسول الله صلىاللهعليهوسلم من منزل عائشة على رجليه إلى أحد ، فجعل يصف أصحابه للقتال كما يقوّم القدح ، وقال ابن إسحاق : لما خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى أحد حتى إذا كان بالشوط انخذل عبد الله بن أبي في ثلاثمائة ، وفي رواية بثلث الناس ، وقال : أطاعهم وعصاني ، وقال ابن عقبة : فبقي صلىاللهعليهوسلم في سبعمائة ،
__________________
(١) الزجل : صوت الناس.
فلما رجع عبد الله بن أبي سقط في أيدي طائفتين من المؤمنين ـ وهما بنو حارثة وبنو سلمة ـ وقال الأقشهري : فبقي رسول الله صلىاللهعليهوسلم في سبعمائة ، ومعه فرسه وفرس لأبي بردة بن نيار ، وهذه رواية الواقدي ، والذي رواه ابن عقبة ـ كما سيأتي ـ أنه لم يكن مع المسلمين فرس ، وفي الاكتفاء بعد ذكر انخذال ابن أبي أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم مضى حتى سلك في حرة بني حارثة ، ثم قال : من رجل يخرج منا على القوم من كثب ، أي من قرب ، من طريق لا يمر بنا عليهم؟ فقال أبو خيثمة أخو بني حارثة : أنا يا رسول الله ، فنفذ به في حرة بني حارثة وبين أموالهم حتى سلك في مال لمربع بن قيظي ، وكان منافقا ضرير البصر ، فلما سمع حس رسول الله صلىاللهعليهوسلم ومن معه قام فحثا في وجوههم التراب ويقول : إن كنت رسول الله فإني لا أحل لك أن تدخل حائطي ، وذكر أنه أخذ حفنة من تراب ، ثم قال : والله لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك ، فابتدره القوم ليقتلوه ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : لا تقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر ، فمضى رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى نزل الشعب من أحد ، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد. وقال الأقشهري : وجعل أحدا خلف ظهره ، واستقبل المدينة ، وجعل عينين الجبل عن يساره ، وقال ابن عقبة : وصفّ المسلمون بأصل أحد ، وصف المشركون بالسبخة ، وتعبوا للقتال ، وعلى خيل المشركين ـ وهي مائة فرس ـ خالد بن الوليد ، وليس مع المسلمين فرس ، وصاحب لواء المشركين طلحة بن عثمان ، وأمّر رسول الله صلىاللهعليهوسلم عبد الله بن جبير على الرماة وهم خمسون رجلا ، وعهد إليهم أن لا يتركوا منازلهم. ونقل الأقشهري أنه جعلهم على جبل عينين. وفي الاكتفاء أنه صلىاللهعليهوسلم قال لأميرهم : انضح الخيل عنا لا يأتونا من خلفنا ، إن كان لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك ، وظاهر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بين درعين ، وتعبأ قريش ، وهم ثلاثة آلاف ومعهم مائة فرس قد جنبوها ، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد ، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل ، وقد كان أبو عامر الراهب من الأوس خرج عن قومه إلى مكة مباعدا لرسول الله صلىاللهعليهوسلم فكان يعد قريشا أن لو لقي قومه لم يختلف عليه منهم رجلان ، فلما التقى الناس كان أول من لقيهم هو في الأحابيش وعبدان أهل مكة ، فنادى : يا معشر الأوس أنا أبو عامر ، قالوا : فلا أنعم الله بك عينا يا فاسق ، وبذلك سماه رسول الله صلىاللهعليهوسلم وكان يسمى في الجاهلية الراهب ، فلما سمع ردهم عليه قال : لقد أصاب قومي بعدي شر ، ثم قاتلهم قتالا شديدا ، ثم راضخهم بالحجارة ، انتهى.
وروى البزار ـ ورجاله ثقات ـ عن الزبير بن العوام قال : عرض رسول الله صلىاللهعليهوسلم سيفا يوم أحد فقال : من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام أبو دجانة فقال : يا رسول الله أنا آخذه بحقه ، فأعطاه إياه ، فخرج ، فأتبعته فجعل لا يمر بشيء إلا أفراه (١) وهتكه ، حتى أتى نسوة في سفح الجبل ومعهن هند وهي تقول :
__________________
(١) فرى الشيء : فتّته وشقّه.