وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى - ج ١

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي

وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى - ج ١

المؤلف:

نور الدين علي بن أحمد السّمهودي


المحقق: خالد عبد الغني محفوظ
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3818-9
الصفحات: ٢٩٤

قلت : وسيأتي ما يخالف هذا مع بيان قبائل الأوس المنتشرة من هؤلاء.

وروى الخرائطي أنه لما حضرت الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو الوفاة اجتمع عليه قومه ، فقالوا : قد حضر من أمر الله ما ترى ، وقد كنا نأمرك في شبابك أن تتزوج فتاة ، وهذا أخوك الخزرج له خمسة بنين وليس لك ولد غير مالك ، فقال : لن يهلك هالك ، ترك مثل مالك ، إن الذي يخرج النار من الرينة قادر أن يجعل لمالك نسلا ، ورجالا بسلا ، وكل إلى موت ، ثم أقبل على مالك فقال : أي بني ، المنية ولا الدنية ، وذكر حكما سجع بها ، قال : ثم أنشأ يقول :

شهدت السبايا يوم آل محرّق

وأدرك عمري صيحة الله في الحجر

فلم أر ذا ملك من الناس واحدا

ولا شوقه إلا إلى الموت والقبر

فعلّ الذي أردى ثمودا وجرهما

سيعقب لي نسلا على آخر الدهر

تقربهم من آل عمرو بن عامر

عيون لدى الداعي إلى طلب الوتر

فإن تكن الأيام أبلين جدّتي

وشيبن رأسي والمشيب مع العمر

فإنّ لنا ربّا علا فوق عرشه

عليما بما يأتي من الخير والشر

ألم يأت قومي أنّ لله دعوة

يفوز بها أهل السعادة والبرّ

إذا بعث المبعوث من آل غالب

بمكة فيما بين زمزم والحجر

هنالك فابغوا نصره ببلادكم

بني عامر ؛ إن السعادة في النصر (١)

ثم قضى من ساعته.

وقال ابن حزم : إن بني عامر بن عمرو بن مالك بن الأوس كانوا كلهم بعمان لم يكن منهم بالمدينة أحد ؛ فليسوا من الأنصار.

قال الشرقي : وولد الخزرج بن حارثة أخو الأوس أيضا خمس بنين. وتفرقوا بطونا كثيرة.

قلت : وهم عمرو ، وعوف ، وجشم ، وكعب ، والحارث ، وسيأتي بيان ما انتشر من قبائلهم.

وقال ابن حزم : إن عقب السائب بن قطن بن عوف بن الخزرج لم يكن منهم أحد بالمدينة ، كانوا بعمان ؛ فليسوا من الأنصار ، وذكر نحو ذلك في بعض بني الحارث بن الخزرج الأكبر كما سيأتي ، وذكر أيضا أن بعض بني جفنة بن عمرو مزيقياء كانوا بالمدينة في عداد الأنصار ، والله أعلم.

__________________

(١) ابغوا : أعينوه على طلبه.

١٤١

الفصل الرابع

في تمكنهم بالمدينة ، وظهورهم على يهود ، وما اتفق لهم مع تبع

قال الشرقي : لما قدمت الأوس والخزرج المدينة تفرقوا في عاليتها وسافلتها ، ومنهم من نزل مع قوم من بني إسرائيل في قراهم ، ومنهم من نزل وحده لا مع بني إسرائيل ولا مع العرب الذين كانوا قد تألفوا إلى بني إسرائيل ، وكانت الثروة في بني إسرائيل ، كانوا نيفا على عشرين قبيلة ، ولهم قرى أعدّوا بها الآطام ، فنزلت الأوس والخزرج بينهم وحواليهم.

إقامة الأوس والخزرج مع اليهود

وقال ابن زبالة عن مشيخة من أهل المدينة قالوا : أقامت الأوس والخزرج بالمدينة ، ووجدوا الأموال والآطام والنخيل في أيدي اليهود ، ووجدوا العدد والقوة معهم ، فمكثت الأوس والخزرج ما شاء الله ، ثم إنهم سألوهم أن يعقدوا بينهم جوارا وحلفا يأمن به بعضهم من بعض ، ويمتنعون به ممن سواهم ، فتعاقدوا وتحالفوا واشتركوا وتعاملوا ، فلم يزالوا على ذلك زمانا طويلا ، وأمرت (١) الأوس والخزرج وصار لهم مال وعدد ، فلما رأت قريظة والنضير حالهم خافوهم أن يغلبوهم على دورهم وأموالهم ، فتنمروا لهم حتى قطعوا الحلف الذي كان بينهم ، وكانت قريظة والنضير أعدّ وأكثر ، وكان يقال لهما الكاهنان ، وبنو الصريح ، وفي ذلك يقول قيس بن الخطيم مثنيا عليهم :

كنا إذا رامنا قوم بمظلمة

شدت لنا الكاهنان الخيل واعتزموا

نسوا الرهون وآسونا بأنفسهم

بنو الصّريح فقد عفّوا وقد كرموا

قصة الفطيون ملك اليهود الطاغية

فأقامت الأوس والخزرج في منازلهم خائفين أن تجليهم يهود ، حتى نجم (٢) منهم مالك بن العجلان أخو بني سالم بن عوف بن الخزرج وسوّده (٣) الحيان الأوس والخزرج ، وكان الفطيون ـ أي بالفاء المكسورة ، وقال ياقوت : الفيطوان ـ ملك اليهود بزهرة ، وكانت لا تهدى عروس بيثرب من الحيين الأوس والخزرج حتى تدخل عليه فيكون هو الذي يفتضها قبل زوجها ، فتزوجت أخت مالك بن العجلان رجلا من قومها ، فبينا مالك في

__________________

(١) أمرت : كثر مالها.

(٢) نجم : ظهر ونبغ.

(٣) سوّد فلان : جعله سيدا.

١٤٢

نادي قومه إذ خرجت أخته فضلا ، فنظر إليها أهل المجلس ، فشق ذلك على مالك ، ودخل فعنّفها وأنبها ، فقالت : ما يصنع بي غدا أعظم من ذلك ، أهدى إلى غير زوجي ، فلما أمسى مالك اشتمل على السيف ودخل على الفطيون متنكرا مع النساء ، فلما خف من عنده عدا عليه فقتله وانصرف إلى دار قومه ، ثم بعث هو وجماعة من قومه إلى من وقع بالشام من قومهم يخبرونهم بحالهم ويشكون إليهم غلبة اليهود ، وكان رسولهم الرمق بن زيد بن امرئ القيس أحد بني سالم بن عوف بن الخزرج ، وكان قبيحا دميما شاعرا بليغا ،فمضى حتى قدم على أبي جبيلة أحد بني جشم بن الخزرج الذين ساروا من يثرب إلى الشام ، وقال بعضهم : كان أبو جبيلة من ولد جفنة بن عمرو بن عامر قد أصاب ملكا بالشام وشرفا.

قلت : قد تقدم أن أبناء جفنة من غسان ، وكانوا بالشام ملوكا.

ولما ذكر ابن حزم بني جشم بن الخزرج قال : فولد جشم غضب ، فولد غضب مالك ، فولد مالك عبد حارثة ، فولد عبد حارثة حبيب ، فولد حبيب عبد الله ، فولد عبد الله أبا جبيلة الملك الغساني الذي جلبه مالك بن العجلان لقتل اليهود ، انتهى.

وفيه نظر ؛ إذ ليس من بطون الخزرج غساني كما يؤخذ مما قدمناه عن ابن حزم أيضا ، والمشهور ما قدمناه ، قالوا : فشكا إليه حالهم وغلبة اليهود عليهم ، وما يتخوفون منهم ، وأنهم يخشون أن يخرجوهم ، وأنشده من شعره. فتعجب من شعره وبلاغته وقبحه ودمامته ، وقال : عسل طيب في وعاء خبيث. فقال الرمق : أيها الملك ، إنما يحتاج من الرجل إلى أصغريه لسانه وقلبه. فقال : صدقت ؛ وأقبل أبو جبيلة في جمع كثير لنصرة الأوس والخزرج. كذا قاله ابن زبالة.

وقد نقل رزين عن الشرقي ما يقتضي أن مالك بن العجلان هو الذي توجّه بنفسه ، وأن ما ذكر من سيرة الفطيون في افتضاض الأبكار إنما كانت في غير الأوس والخزرج ، وأنه أراد أن يسير فيهم بذلك ، فقتله مالك بن العجلان ، فإنه قال : إن الفطيون كان قد شرط ألّا تدخل امرأة على زوجها حتى تدخل عليه ، فلما سكن الأوس والخزرج المدينة أراد أن يسير فيهم بتلك السيرة ؛ فتزوجت أخت مالك بن العجلان رجلا من بني سليم ، فأرسل الفطيون رسولا في ذلك وكان مالك أخوها غائبا ، فخرجت تطلبه ، فمرت بقوم أخوها فيهم ، فنادته ، فقال أخوها : لقد جئت بسبّة يا هنتاه ، تناديني ولا تستحيي؟ فقالت : الذي يراد بي أكبر ، فأخبرته ، فقال لها : أكفيك ذلك ، فقالت : وكيف؟ فقال : أتزيا بزي النساء وأدخل معك عليه بالسيف فأقتله ، ففعل ، ثم خرج حتى قدم الشام فنزل على أبي

١٤٣

جبيلة ، وكان نزلها حين نزلوا هم المدينة ، فجيّش جيشا عظيما ، وأقبل كأنه يريد اليمن واختفى معهم مالك بن العجلان ، فجاء فنزل بذي حرض ، وأرسل إلى أهل المدينة من الأوس والخزرج فأتوا إليه فوصلهم وأعطاهم ، ثم أرسل إلى بني إسرائيل ـ يعني اليهود ـ وقال : من أراد الحباء (١) من الملك فليخرج إليه ، وإنما فعل ذلك خيفة أن يتحصنوا في الحصون فلا يقدر عليهم ، فخرج إليه أشراف بني إسرائيل كلهم ، فأمر لهم بطعام حتى اجتمعوا ، فقتلهم من عند آخرهم ، فلما فعل ذلك صار الأوس والخزرج أعز أهل المدينة ؛ ففي ذلك يقول البلوي يمدح مالكا فيما فعل :

فليشهدنّ بما أقول عصابة

بلويّة وعصابة من سالم

هل كان للفطيون عقر نساكم

حكم النصيب وليس حكم الحاكم

حتى حباه مالك عن عرسه

حمراء تضحك عن نجيع قاتم

ثم ذكر أبياتا نسبها إلى أبي يزيد بن سالم أحد بني سالم بن عوف بن الخزرج مدح بها أبا جبيلة ونسبها ابن زبالة للرمق فإنه قال : إن الأوس والخزرج قالوا لأبي جبيلة لما قدم لنصرهم : إن علم القوم ما تريد تحصنوا في آطامهم فلم تقدر عليهم ، ولكن ادعهم للقائك وتلطفهم حتى يأمنوك ويطمئنوا فتستمكن منهم ، فصنع لهم طعاما وأرسل إلى وجوههم ورؤسائهم ، فلم يبق من وجوههم أحد إلا أتاه ، وجعل الرجل منهم يأتي بحامته وحشمه (٢) رجاء أن يحبوهم ، وكان قد بنى لهم حيّزا وجعل فيه قوما فأمرهم أن يقتلوا من دخل عليهم منهم ، ففعلوا حتى أتوا على وجوههم ورؤسائهم ، فعزت الأوس والخزرج بالمدينة ، واتخذوا الديار والأموال والآطام ، فقال الرمق يثني على أبي جبيلة :

لم تقض دينك من حسان

وقد عنيت وقد عنينا

قضيت همك في الحسان

فقد عنيت وقد عنينا

وفي رواية رزين :

الراشقات المرشقا

ت الجازيات بما جزينا

أمثال غزلان الصّرا

ثم يأتزرن ويرتدينا

الرّيط والدّيباج والحلي

المفصل والبرينا (٣)

وأبو جبيلة خير من

يمشي ، وأوفاه يمينا

__________________

(١) الحباء : ما يحبو به الرجل صاحبه ويكرمه به.

(٢) حامته وحشمه : خاصته من أهله وخدمه.

(٣) البرة : كل حلقة من سوار وقرط وخلخال وما أشبه ذلك.

١٤٤

وأبرّهم برا وأع

لمهم بهدي الصالحينا

القائد الخيل الصوا

نع بالكماة المعلمينا

أبقت لنا الأيام والحر

ب الملمة تعترينا

كبشا له در يغل متو

نها الذكر السمينا

ومعاقلا شمّا وأسيا

فا يقمن وينحنينا

ومحلة زوراء تج

حف بالرجال الظالمينا

وفي بعض الروايات أن مالك بن العجلان لما قتل الفطيون قصد اليمن إلى تبّع الأصغر ؛ فشكا إليه ما كان الفطيون يسير فيهم ، فعاهد أن لا يقرب امرأة ولا يمس طيبا ولا يشرب خمرا حتى يسير إلى المدينة ويذل من بها من اليهود ؛ ففعل ذلك.

وذكر ابن قتيبة في معارفه تبّع بن حسان ، قال : وهو تبع الأصغر آخر التبابعة ، وذكر أنه صار إلى الشام وملوكها غسان فأطاعته ، قال : وصار إلى ابن أخيه الحارث وهو بالمستقر من ناحية هجر فأتاه قوم كانوا وقعوا إلى يثرب ممن خرج مع عمرو مزيقياء وحالفوا اليهود بيثرب ـ أي وهم الأنصار ـ فشكوا اليهود ، وذكروا سوء مجاورتهم ، ونقضهم الشرط الذي شرطوه لهم عند نزولهم ، ومتّوا (١) إليه بالرحم ، فأحفظه ذلك (٢) ، فصار إلى يثرب ونزل في سفح أحد ، وبعث إلى اليهود ، فقتل منهم ثلاث مائة وخمسين رجلا صبرا ، وأراد خرابها ، فقام إليه رجل من اليهود قد أتت عليه مائتان وخمسون سنة فقال : أيها الملك ، مثلك لا يقتل على الغضب ، وأمرك أعظم من أن يطير بك برق أو يسرع بك لجاج ، فإنك لا تستطيع أن تخرب هذه القرية ، قال : ولم؟ قال : لأنها مهاجر نبي من ولد إسماعيل يخرج من عند هذه البنية ، يعني البيت الحرام ، فكف تبع ومضى ومعه هذا اليهودي ورجل آخر من اليهود عالم ، وهما الحبران ، فأتى مكة ، وكسا البيت ثم رجع إلى اليمن ومعه الحبران وقد دان بدينهما وآمن بموسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم اه.

فلعل مالك بن العجلان كان قد توجه إلى جهة ملك غسان وبها تبّع المذكور فوقع من كل منهما نصره ، فأضافه قوم إلى تبع ، وقوم إلى أبي جبيلة الغساني.

قالوا : ولعنت اليهود مالك بن العجلان في كنائسهم وبيوت عباداتهم ، فبلغه ذلك ، فقال:

تحامى اليهود بتلعانها

تحامي الحمير بأبوالها (٣)

__________________

(١) متّوا : تقربوا.

(٢) أحفظه ذلك : أغضبه ذلك.

(٣) تلعن القوم : التعنوا.

١٤٥

وما ذا عليّ بأن يلعنوا

وتأتي المنايا بإذلالها

وقالت سارة القرظية ترثي من قتل من قومها :

بأهلي رمّة لم تغن شيئا

بذي حرض تعفّيها الرياح

كهول من قريظة أتلفتهم

سيوف الخزرجية والرماح

ولو أذنوا بأمرهم لحالت

هنالك دونهم حرب رداح (١)

قال أهل السير : ثم انصرف أبو جبيلة راجعا إلى الشام ، وقد ذلّل الحجاز والمدينة ، ومهّدها للأوس والخزرج.

ونقل المجد عن ياقوت أن تبّعا كان بالمدينة ، فإنه قال : وعكس ياقوت قصة افتضاض الأبكار ؛ فجعل أنها كانت باليمامة ، وأن أهل المدينة مع تبّع هم الذين أزالوا هذه الفضيحة من اليمامة ، ثم أورد كلام ياقوت ، وليس مضمونه ما ذكره ؛ بل مضمونه أن من كان يفعل فيهم هذه الفضيحة باليمامة احتالوا في دفعها وقتلوا من كان يفعل بهم ذلك وغلبوا عليهم ، فهرب منهم شخص ولحق بتبع فنصره تبع مع أهل المدينة ، وهو خبر ممتنع فلنورده تبعا للمجد ، قال ياقوت : إن طسما وجديسا من ولد لاوذ بن إرم بن لاوذ بن سام بن نوح عليه‌السلام أقاموا باليمامة ، وكثروا بها ، حتى ملكوا عليهم عمليق الطّسمي ـ وكان جبارا غشوما ، وكان قد قضى بقضاء جائر بين امرأة وزوجها من جديس ، فأنشدت المرأة أبياتا بلغته ، فأمر ألا تزوج بكر من جديس حتى تدخل عليه فيكون هو الذي يفترعها (٢) ـ ولقوا منه ذلا ، حتى زوجت منهم أخت الأسود بن غفار سيد جديس ، وكان جلدا ، فلما كانت ليلة الإهداء خرجت والقيان (٣) حولها لتحمل إلى عمليق وهن يضربن بمعازفهن ويقلن :

أبدى بعمليق وقومي فاركبي

وبادري الصبح بأمر معجب

فسوق تلقين الذي لم تطلبي

وما لبكر دونه من مهرب

ثم أدخلت على عمليق فافترعها ، وقيل : كانت أيدة (٤) ، فامتنعت عليه ، فخاف العار فوجأها (٥) بحديدة في قبلها فأدماها ، فخرجت وقد تقاصرت إليها نفسها فشقّت ثوبها من خلفها ودماؤها تسيل ، فمرت بأخيها في جمع من قومه وهي تبكي وتقول :

__________________

(١) حرب رداح. و ـ كتيبة رداح : كثيرة جرارة.

(٢) افترع البكر : افتض بكارتها.

(٣) القيان : الإماء والجواري. وغلب على المغنيات.

(٤) الأيدة : القوية الشديدة.

(٥) وجأها : دفعها ووخزها.

١٤٦

لا أحد أذلّ من جديس

أهكذا يفعل بالعروس

في أبيات ، فأغضب ذلك أخاها ، ووقفها على نادي قومه ، وهي تقول :

أيجمل أن يؤتى إلى فتياتكم

وأنتم رجال فيكم عدد الرمل

أيجمل تمشي في الدما فتياتكم

صبيحة زفّت في العشاء إلى بعل

فإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه

فكونوا نساء لا تغب من الكحل

ودونكم ثوب العروس فإنما

خلقتم لأثواب العروس وللغسل

فلو أننا كنا رجالا وكنتم

نساء لكنا لا نقر على الذل

فموتوا كراما أو أميتوا عدوكم

وكونوا كنار شب بالحطب الجزل

وإلا فخلوا بطنه وتحمّلوا

إلى بلد قفر وهزل من الهزل

فللموت خير من مقام على أذى

وللفقر خير من مقام على ثكل

فدبّوا إليه بالصّوارم والقنا

وكل حسام محدث العهد بالصّقل

ولا تجزعوا للحرب قومي فإنما

يقوم رجال للرجال على رجل

فيهلك فيها كل وغل مواكل

ويسلم فيها ذو الجلادة والفضل

فامتلأت جديس غيظا ، ونكسوا رءوسهم حياء ، وتشاوروا في الأمر ، فقال الأسود : أطيعوني فإنه عز الدهر ، وقد رأيت أن أصنع للملك طعاما ثم أدعوه وقومه ، فإذا جاءونا قتلت الملك ، وقام كل منكم إلى رئيس منهم فقتله ، فلا يبقى للباقين قوة ، فنهتهم أخت الأسود عن الغدر ، وقالت : ناجزوهم فلعل الله أن ينصركم عليهم لظلمهم ؛ فعصوها فقالت :

لا تغدرنّ فإنّ الغدر منقصة

وكل عيب يرى عيبا وإن صغرا

إني أخاف عليكم مثل تلك غدا

وفي الأمور تدابير لمن نظرا

حشّوا سعيرا لهم فيها مناجزة

فكلكم باسل أرجو له الظفرا

فأجابها أخوها :

شتان باغ علينا غير متئد

يغشى الظلامة لا يبقى ولن يذرا

إنا لعمرك لا نبدي مناجزة

نخاف منها صروف الدهر من ظفرا

إني زعيم بطسم حين تحضرنا

عند الطعام بضرب يهتك الفقرا

١٤٧

وصنع الأسود الطعام ، ودفن كل منهم سيفه تحته في الرمل مجردا ، فلما جلس الملك وقومه للأكل وثبت عليهم جديس حتى أبادوهم ، ثم قتلوا باقيهم ، فهرب رجل من طسم حتى لحق بتبّع تبان أسعد بن كلكيكرب ، وقيل : بحسان بن تبّع الحميري وكان بالمدينة ، فاستغاثه ، وذكر أبياتا فيها غدر جديس بهم ، فوعده بنصره ، ثم رأى منه تباطؤا فقال :

إني طلبت لأوتاري ومظلمتي

بال حسّان آل العز والكرم

المنعمين إذا ما نعمة ذكرت

والواصلين بلا قربى ولا رحم

قصة زرقاء اليمامة

في أبيات أخرى ، فسار تبع من المدينة في جيوشه ، حتى إذا كان عند جبل على ليلة من اليمامة قال له الطسمي : توقف أيها الملك فإن لي أختا متزوجة في جديس يقال لها يمامة أبصر خلق الله على بعد ، وإني أخاف أن ترانا فتنذرهم بنا ، فأقام تبع ، وأمر رجلا فصعد الجبل ليرى ما هناك ، فدخل في رجله شوكة بالجبل ، فأكب يستخرجها ، فأبصرته اليمامة ، وكانت زرقاء العين ، فقالت لهم : إني أرى على الجبل الفلاني رجلا وما أظنه إلا عينا ، فقالوا : ما يصنع؟ فقالت : إما يخصف (١) نعلا أو ينهش كتفا ، فكذبوها ، ثم قال الطسمي لتبع : إن بصرها بالليل أنفذ فمر أصحابك ليقطعوا من الشجر أغصانا ليستتروا بها فيشبهوا (٢) عليها الأمر ، ففعلوا ، حتى إذا دنوا من اليمامة ليلا ؛ فنظرت اليمامة فقالت : يا جديس سارت إليكم الشجر ، أو جاءتكم أوائل خيل حمير ، فكذبوها ، فصبّحتهم حمير ، فهرب الأسود في نفر من قومه لجبلي طيء وفتح أهل المدينة حصون اليمامة ، وامتنع عليهم حصن زرقاء اليمامة ؛ فصابره تبع حتى افتتحه ، وقبض عليها ، وسألها : كيف أبصرتهم؟ فأخبرته بخبر الذي صعد الجبل ، فسأله تبع ، فقال : صعدت فانقطع شراك نعلي وأصابتني شوكة ؛ فعالجت إصلاحها وإصلاح قبالي بفمي ، فقال لها : أنّى لك هذا؟ قالت : كنت آخذ حجرا أسود فأدقه وأكتحل به : فكان يقوي بصري ، فيقال : إنها أول من اكتحل بالإثمد ، فأمر تبع بقلع عينيها ليرى ما فيهما ، فوجد عروقها كلها محشوة بالإثمد ، وخربت اليمامة يومئذ ؛ لأن تبعا قتل أهلها ، ولم يخلف بها أحدا ، ورجع إلى المدينة.

هذا ما ذكره المجد عن ياقوت باختصار ، وليس فيه عكس القضية ؛ فيجوز أن يقع بكل من اليمامة والمدينة مثل هذا ، والظاهر أن قصة اليمامة كانت بعد قصة المدينة.

__________________

(١) يخصف نعلا : يصلح نعلا.

(٢) اشتبه عليها الأمر : اختلط عليها الأمر.

١٤٨

ونقل رزين عن الشرقي أن أبا جبيلة لما فرغ من نصر أهل المدينة رجع إلى الشام ؛ فأقبل تبع الأخير ـ وهو كرب بن حسان بن أسعد الحميري ، والتبابعة كلهم من حمير ـ يريد المشرق كما كانت التبابعة تفعل ؛ فمر بالمدينة ، فخلف فيها ابنا له ومضى حتى قدم الشام ، ثم سار حتى قدم العراق ، فلما كان بالعراق قتل ابنه بالمدينة غيلة (١) فأقبل راجعا يريد تخريب المدينة ، فنزل بسفح أحد ، فاحتفر بئرا ثم أرسل إلى أشراف المدينة ، فلما جاءهم الرسول قال بعضهم : إنما أراد أن يملكنا على قومنا ، وقال أحيحة : والله ما دعاكم لخير ، وكان لأحيحة رئيّ من الجن فخرجوا وخرج أحيحة معه بقينة وخمر وخباء ، فضرب الخباء وجعل فيه القينة والخمر ، ثم دخل على تبع أول الناس. فتحدث معه ، ففطن بالشر ، ثم قال : إن أصحابي يصلونك إلى الظهر ، فاستأذن في الخروج إلى الخيمة ، فأذن له ، فشرب وجعلت القينة تغنيه بأبيات صنعها لها تقول :

لتبكني قينة ومزهرها

وتبكني قهوة وشاربها

وتبكني عصبة إذا اجتمعت

لا يعلم الناس ما عواقبها

وهو يقلّ من الشراب ، وجاء أصحابه قريبا من الليل ، فأمر لهم تبع بضيافة ، فلما كان في جوف الليل أرسل إليهم ليقتلهم ، ففطن أحيحة ، فقال للقينة : أنا سائر إلى أهلي ، فإذا طلبني الملك فقولي : هو نائم ، فإذا ألحوا فقولي : يقول لك : أما أحيحة فقد ذهب فاغدر بقينته أو دع ، وانطلق فتحصن في حصنه ، فحاصروه ثلاثا يقاتلهم بالنهار ، وإذا كان بالليل يرمي إليهم بتمر ويقول : هذا ضيافتكم. فأخبروا تبعا أنه في حصن حصين ، فأمرهم أن يحرقوا نخله ، واشتعلت الحرب بين تبع وأهل المدينة من اليهود والأوس والخزرج ، وتحصنوا في الآطام ، فخرج رجل من أصحاب تبع حتى جاء بني عدي بن النجار ، فدخل لهم حديقة ، فرقي على عذق منها. فأخذ يجده (٢) ، فنزل إليه صاحب العذق (٣) فقتله وجره إلى بئر وألقاه فيها ، وهو يقول :

جانا يجدّ نخيلنا

وكان الجداد لمن قد أبر (٤)

فزاد ذلك تبعا حنقا (٥) ، وجرد إلى بني النجار خيلا ، فقاتلهم بنو النجار ورئيسهم يومئذ عمرو بن طلحة أخو بني معاوية بن مالك بن النجار ، ورمى عسكر تبع حصون

__________________

(١) الغيلة : الغدر.

(٢) جدّ الشيء : قطعه.

(٣) العذق : كل غصن له شعب.

(٤) أبّر النخل : أصلحه.

(٥) حنق عليه : اشتد غيظه.

١٤٩

الأنصار بالنبل ، فلقد جاء الإسلام والنبل فيها ، وجزع في القتال فرس تبع فحلف لا يبرح حتى يخربها بزعمه ، فسمع بذلك أحبار من اليهود فنزلوا إليه وقالوا : أيها الملك إن هذه البلدة محفوظة ، فإنا نجد اسمها في الكتاب طيبة ، وإنها مهاجر نبي من بني إسماعيل من الحرم ، وهي تكون قراره فلن تسلط عليها ، فأعجب تبع بقولهم ، فصرف تبع نبته عنها ، وأمر أهل المدينة فتبايعوا مع العسكر ، وكان تبع قد استوبأ بئره (١) التي حفر ، فمرض ، فجاءته امرأة من بني زريق اسمها فاكهة براوية (٢) من بئر رومة فأعجبه فاستلذه ، فلما كان رحيله قال لها : يا فاكهة ما نترك في موضعنا من شيء إذا رحلنا فهو لك ، فأخذت ذلك ، فاستغنت منه ، وخرج تبع يريد اليمن ومعه من الأحبار الذين نهوه عن خراب المدينة رجلان أو ثلاثة ، فقال لهم : تسيرون معي أياما آنس بحديثكم ، فكانوا يحدثونه عن الكتاب وعن قصة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يتركهم حتى وصلوا معه إلى اليمن ؛ فهم كانوا أول يهودي دخل اليمن ، واتفق في مسيرة قصة إكسائه الكعبة.

وقد قدمنا في بعض الروايات أن مالك بن العجلان لما قتل ملك اليهود قصد اليمن إلى تبع الأصغر ، وأنه الذي نصرهم على يهود ، ولعل هذا مراد ياقوت لقوله «إن يهود كانوا أهل المدينة حتى أتاهم تبع فأنزل معهم بني عمرو بن عوف» لكن نقل المجد وغيره عن المبتدأ لابن إسحاق أنه قال في بيت أبي أيوب الذي نزله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقدمه المدينة : إن تبعا الأول بناه لما مر بالمدينة ، قال في المبتدأ : واسمه تبان أسعد بن كلكيكرب ، وكان معه أربعمائة عالم ، فتعاقدوا على أن لا يخرجوا منها ، فسألهم تبع عن سر ذلك ، فقالوا : إنا نجد في كتبنا أن نبيا اسمه محمد هذه دار مهاجره ؛ فنحن نقيم لعل أن نلقاه ، فأراد تبع الإقامة معهم ، ثم بنى لكل واحد من أولئك دارا واشترى له جارية وزوجها منه وأعطاه مالا جزيلا ، وكتب كتابا فيه إسلامه ، ومنه :

شهدت على أحمد أنه

رسول من الله باري النّسم (٣)

فلو مدّ عمري إلى عمره

لكنت وزيرا له وابن عم

وختمه بالذهب ودفعه إلى كبيرهم ، وسأله أن يدفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن أدركه ، وإلا فمن أدركه من ولده أو ولد ولده ، وبنى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دارا لينزلها إذا قدم المدينة ، فتداول

__________________

(١) استوبأ البئر : استوخمها. و ـ وجدها وبيئة.

(٢) الراوية : المزادة فيها الماء. (ج) روايا.

(٣) النسم : الخلق والناس.

١٥٠

الدار الملاك إلى أن صارت لأبي أيوب وهو من ولد ذلك العالم ، وأهل المدينة الذين نصروه كلهم من أولاد أولئك العلماء ، انتهى.

زاد غير المجد : ويقال : إن الكتاب الذي فيه الشعر كان عند أبي أيوب حين نزل عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدفعه له ، وهو غريب ، وكتب التواريخ متظاهرة (١) على ما قدمناه في أمر الأنصار ونسبهم.

وقد ذكر السهيلي إيمان تبّع بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر البيتين ، وروى حديث «لا تسبوا تبّعا فإنه كان مؤمنا».

وروى عبد الرزاق عن وهب بن منبه قال : نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن سب أسعد وهو تبّع. قال وهب : وكان على دين إبراهيم.

وروى أحمد من حديث سهل بن سعيد رفعه «لا تسبوا تبّعا فإنه كان قد أسلم» وأخرجه الطبراني من حديث ابن عباس مثله ، وإسناده أصلح من إسناد سهل ، وأما ما رواه عبد الرزاق عن أبي هريرة مرفوعا «لا أدري تبع كان لعينا أم لا» فمحمول على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله قبل أن يعلم بحاله.

وقال المرجاني : إن أبا كرب بن أسعد الحميري آمن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة ، وقال : «شهدت على أحمد ـ البيتين المقدمين» وإن أباه أسعد هو تبّع الذي كسا الكعبة ، ونقله عن حكاية ابن قتيبة ، والذي رأيته في المعارف لابن قتيبة أن أسعد أبا كرب الحميري هو الموصوف بما ذكره. وروى ابن زبالة أن تبعا لما قدم المدينة وأراد إخراجها جاءه حبران من قريظة يقال لهما سحيت ومنبه فقالا : أيها الملك انصرف عن هذه البلدة فإنها محفوظة ، وإنها مهاجر نبي من بني إسماعيل اسمه أحمد يخرج في آخر الزمان ، فأعجبه ما سمع منهما ، فصدقهما وكفّ (٢) عن أهل المدينة.

الفصل الخامس

في منازل قبائل الأنصار بعد إذلال اليهود ، وشيء من آطامهم ، وما دخل بينهم من الحروب ، وهو نافع في معرفة جهات المساجد التي لا تعرف اليوم ، وغير ذلك.

اعلم أن ابن زبالة نقل ما حاصله أن الأوس والخزرج بعد انصراف أبي جبيلة ونصره

__________________

(١) متظاهرة : متوافقة.

(٢) كفّ عنهم : انصرف وامتنع عنهم.

١٥١

لهم تفرقوا في عالية المدينة وسافلتها ، واتخذوا الأموال والآطام ، فنزل بنو عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج الأصغر وبنو حارثة بن الحارث بن الخزرج الأصغر بن عمرو بن مالك بن الأوس بن حارثة فكلاهما من الأوس دار بني عبد الأشهل قبلي دار بني ظفر مع طرف الحرة الشرقية ، قاله المطري ، والذي يظهر لي أن منازلهم كانت قريبة من منازل بني ظفر في شاميها وتمتد إلى الحرة المعروفة اليوم بدشم وما حولها ، بل سيأتي في ترجمة الخندق ما يقتضي أن منازلهم كانت بالقرب من الشيخين. وابتنى بنو عبد الأشهل أطما يقال له «واقم» وبه سميت الناحية واقما ، وكان لحضير بن سماك ، وله يقول شاعرهم :

نحن بنينا واقما بالحره

بلازب الطين وبالأصره

وله يقول خفاف بن ندبة :

لو أنّ المنايا جزن عن ذي مهابة

لهبن حضيرا يوم أغلق واقما (١)

يطيف به حتى إذا الليل جنّه

تبوّأ منه مضجعا متناغما

وأطما يقال له : «الرعل» بالمال الذي يقال له واسط لصخرة أم بني عبد الأشهل ، وله يقول شاعرهم يوم بعاث :

نحن بنو صخرة أرباب الرعل

وآطاما غير ذلك ، وابتنى بنو حارثة أطما اسمه «المسيّر» صار لبني عبد الأشهل بعد خروج بني حارثة من دارهم ؛ فإن بني حارثة تحولوا من دارهم هذه إلى غربي مشهد سيدنا حمزة رضي‌الله‌عنه في الموضع المعروف اليوم بيثرب ؛ فكانت بها منازلهم على ما قدمناه عن المطري في الباب الأول. والذي تحرر لي من مجموع كلام الواقدي وابن زبالة وغيرهما أن منازلهم التي استقروا بها وجاء الإسلام وهم فيها كانت في شامي بني عبد الأشهل بالحرة الشرقية. ويؤيد ذلك ما سيأتي في ترجمة الخندق من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطه من أجمة الشيخين طرف بني حارثة كما رواه الطبراني.

وقد قال المطري كما سيأتي عنه : الشيخان : موضع بين المدينة وبين جبل أحد ، على الطريق الشرقية مع الحرة إلى جبل أحد. ويؤيده أيضا أن المطري قد ذكر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غدا إلى أحد يوم وقعته على الطريق الشرقية المذكورة ، وسيأتي أنه بات بالشيخين.

__________________

(١) جزن تجاوزن. ذو المهابة : ذو الهيبة. هاب. خاف.

١٥٢

وفي المعارف لابن قتيبة عن ابن إسحاق : فلما سارت قريش لحرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون حتى نزلوا بيوت بني حارثة ، فأقاموا بقية يومهم وليلتهم. ثم خرج في غد ، وذكر انخزال (١) عبد الله بن أبيّ ؛ فتحرر أن بيوت بني حارثة عند الشيخين وفي ناحيتهما.

وقد ذكر ابن إسحاق وغيره أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجاز ذلك اليوم في حائط لمربع بن قيظ ، واتفق له معه ما سيأتي ذكره : ومربع هذا من بني حارثة وأيضا فقد قدمنا في الفصل الرابع في تحريمها قول أبي هريرة في رواية الإسماعيلي : ثم جاء ـ يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بني حارثة وهم في سند الحرة. اه. وليس الموضع الذي ذكره المطري في سند الحرة ، بخلاف الموضع الذي قدمناه ، مع أنه يحتمل أن بعض منازل بني حارثة كانت بالموضع الذي ذكره المطري أيضا.

قال ابن زبالة : وابتنوا بها ـ أي بدارهم الثانية ـ أطما يقال له «الريان» عند مسجد بني حارثة كان لبني مجدعة بن حارثة ، وسبب خروج بني حارثة من دار بني عبد الأشهل حرب كانت بينهم وبين عبد الأشهل ، وو الى بنو ظفر بني عبد الأشهل ، ثم هزمهم بنو حارثة وقتلوا سماك بن رافع وكان باغيا ، قتله مسعود أبو محيصة الحارثي ، وظفرت بهم بنو حارثة فأجلوهم أولا ؛ فلحقوا بأرض بني سليم ، فسار حضير بن سماك ببني سليم حتى قاتل بني حارثة ، فقتل منهم ، واشتد عليهم الحصار بأطمهم المسير المتقدم ذكره في دار بني عبد الأشهل ، فسارت بنو عمرو بن عوف وبنو خطمة إليهم ، وقالوا : إما أن تخلّوا سبيلهم ، وإما أن تأخذوا عقل (٢) صاحبكم ، وإما أن تصالحوهم ، فاختاروا أن يجلوهم ، فخرج بنو حارثة إلى خيبر فكانوا بها قريبا من سنة ، ثم رق لهم حضير وطلب صلحهم ، فخرجت السفراء في ذلك حتى اصطلحوا ، وأبت بنو حارثة أن ينزلوا دارهم مع بني عبد الأشهل ، ونزلوا الدار المعروفة بهم اليوم ، اه.

ونزل بنو ظفر وهو كعب بن الخزرج الأصغر بن عمرو بن مالك بن الأوس دارهم شرقي البقيع عند مسجدهم : أي المعروف بمسجد البغلة بجوار بني عبد الأشهل.

وذكر ابن حزم في الجمهرة أن بطون بني عمرو بن مالك بن الأوس [وهم]

__________________

(١) انخزل : ارتد وضعف.

(٢) عاقلة الرجل : ديته. و ـ ودّاه فعقل ديته بالعقل في فناء ورثته.

١٥٣

النبيت : منهم ظفر ، وحارثة ، وبنو عبد الأشهل ، وبنو زعورا بن جشم بن الحارث أخي عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس.

ولم يذكر ابن زبالة بني زعورا في هذه البطون ، بل ولا في بطون الأنصار كلها.

وذكر ابن حزم أن منهم مالك بن التيهان وبني أوس بن عتيك وغيرهم ، وقال في موضع آخر : فولد جشم عبد الأشهل ، بطن ضخم ، وزعورا بطن ، وهم أهل راتج.

ونزل بنو عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس قباء ؛ فابتنوا أطما يقال له «الشّنيف» عند دار أبي سفيان بن الحارث بين أحجار المراء وبين مجلس بني الموالي ، كان لبني ضبيعة بن زيد بن مالك بن عوف ، وأطما في دار عبد الله بن أبي أحمد ، كان لكلثوم بن الهدم من بني عبيد بن زيد بن أظلم أخي بني عبيد بن زيد بن مالك ، وأطما يقال له واقم كان بقباء لأحيحة بن الجلاح الجحجبي ثم صار لبني عبد المنذر بن رفاعة في دية جدهم رفاعة بن زر بن زيد بن أمية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف ، وله يقول كعب بن مالك :

فلا تتهدّد بالوعيد سفاهة

وأوعد شنيفا إن عصيت وواقما

وكان في رحبة بني زيد بن مالك بن عوف أربعة عشر أطما يقال لها : الصّياصي ، وكان لهم أطم بالمسكبة شرقي مسجد قباء ، وأطم يقال له «المستظل» كان موضعه عند بئر غرس ، كان لأحيحة ثم صار لبني عبد المنذر في دية جدهم رفاعة ، ثم خرجت بنو جحجبا بن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف من قباء حين قتلوا رفاعة بن زر وغنما أخا بني عمرو بن عوف فسكنوا العصبة ، وهي غربي مسجد قباء ، قال سعد بن عمرو الجحجبي لبشر بن السائب : تدري لم سكنا العصبة؟ قال : لا ، قال : لأنا قتلنا قتيلا منكم في الجاهلية ، فقال بشر : والأمانة لوددت أنكم قتلتم منا آخر وأنكم وراء عير ، يعني الجبل الذي غربي العصبة.

وابتنى أحيحة بن الجلاح بالعصبة أطما يقال له «الضحيان» وهو الأطم الأسود الذي بالعصبة ، وكان عرضه قريبا من طوله ، بناه أولا من بثرة بيضاء (١) فسقط ، يعني من حجارة الحرار البيض. وكان يرى من المكان البعيد ، وفيه يقول أحيحة :

وقد أعددت للحدثان حصنا

لو أنّ المرء تنفعه العقول

طويل الرأس أبيض مشمخرّ

يلوح كأنه سيف صقيل

وابتنوا هم وبنو مجدعة أطما يقال له «الهجيم» عند المسجد الذي صلّى فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد تقدم أن بني أنيف كانوا مع اليهود بقباء ، وأنهم حي من بلى ؛ فلذلك لم يذكر ابن

__________________

(١) البثرة (ج) بثور : حجارة صغيرة.

١٥٤

زبالة منازلهم هنا ، وسيأتي في المساجد عن المطري وتبعه المجد أن بني أنيف بطن من الأوس ، وأن منازلهم كانت بين بني عمرو بن عوف وبين العصبة ، ومأخذ المطري في نسبتهم إلى الأوس قول أهل السير في المغازي : شهد من الأوس كذا وكذا رجلا ، ثم يذكرون فيهم بعض بني أنيف ؛ وذلك لأنهم حلفاء الأوس ، لا لأنهم منهم ، نبه عليه ابن إسحاق حيث قال : شهد بدرا من الأوس بضع وستون رجلا ، فذكر من بني جحجبا جماعة ، ثم قال : ومن حلفائهم من بني أنيف أبو عقيل ، ثم نسبه إلى بلى بن عمرو بن الحاف بن قضاعة ، لكن استفدنا من كلام المطري أن منازلهم بين العصبة وقباء ، ويستفاد مما قدمناه عن ابن زبالة أن من منازلهم بئر عذق وما حولها والمال الذي يقال له القائم ، وذلك معروف بقباء.

وخرجت بنو معاوية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف فسكنوا دارهم التي وراء بقيع الغرقد المعروفة بهم ، ولا يشكل عليه ما سيأتي في دور بني النجار من الخزرج من أن حديلة لقب لمعاوية بن عمرو بن مالك بن النجار للاشتراك في الاسم ، ولكن الشهرة ببني معاوية لهؤلاء ، وأولئك يعرفون ببني حديلة ، وقد اشتبه ذلك على المطري فقال في مسجد بني معاوية ـ وهو مسجد الإجابة ـ ما لفظه : هو مسجد بني معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار ، ثم قال في دور بني النجار : إن بني حديلة هم بنو معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار ، ودارهم عند بئر حاء ، ثم قال : ودار بني دينار بين دار بني معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار أهل مسجد الإجابة ، ودار بني حديلة ، فذكر أولا أنهم هم ، ثم غاير بينهما ، والصواب المغايرة ، وأن بني حديلة من الخزرج ، وبني معاوية من الأوس ، وقد صرح بتغايرهما أهل السير ، ونسبوهما كما ذكرنا ، ومسجد الإجابة لبني معاوية من الأوص ، والذي أوقع المطري في هذا ما سيأتي عن عياض في بني حديلة إن شاء الله تعالى.

ومن بني معاوية هؤلاء حاطب بن قيس ، وفيه كانت حرب حاطب كما ذكره ابن حزم.

وخرجت بنو السميعة ـ وهم بنو لوذان بن عمرو بن عوف ـ فسكنوا عند زقاق ركيح ، وابتنوا أطما يقال له «السعدان» وموضعه في الربع (حائط هناك) ذكره ابن زبالة ، ولعل الربع هو الحديقة المعروفة اليوم بالربعي ، وكان بنو السميعة يدعون في الجاهلية بنو الصماء ، فسماهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني السميعة.

ونزل بنو واقف والسلم ابنا امرئ القيس بن مالك بن الأوس عند مسجد الفضيخ ، فكانا هنالك وولدهما.

١٥٥

وابتنى بنو واقف أطما يقال له «الزيدان» وله يقول قيس بن رفاعة :

وكيف أرجو لذيذ العيش بعدهم

وبعد من قد مضى من أهل زيدان

كان لهم عامة موضعه في قبلة مسجد الفضيخ ، وأطما كان موضعه عند بئر عائشة الواقفي ، وغير ذلك ، ثم كان بين السّلم وواقف كلام ، فلطم واقف وهو الأكبر عين السلم ـ وكان شرسا ـ فحلف لا يساكنه ، فنزل السلم على بني عمرو بن عوف ، فلم يزل ولده فيهم ، (ومن بقيتهم سعد بن خيثمة بن الحارث) ثم انقرضوا سنة تسع وتسعين ومائة.

وكان لبني السلم حصن شرقي مسجد قباء ، ذكره ابن زبالة ، وقد ذكر ابن حزم انقراض جميع بني السلم ، قال : وكان قد بلغ عددهم في الجاهلية ألف مقاتل.

قلت : وفي قبلة مسجد الفضيخ عند الحديقة المعروفة بالأشرفية والسابور آثار آطام وقرية وحصن عظيم ، فهي منازل بني واقف.

ونزل بنو وائل بن زيد بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك بن الأوس في دارهم المعروفة بهم ، وابتنوا أطما يقال له : «الموجا» كان موضعه في مسجد بني وائل.

ونزل بنو أمية بن زيد بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك بن الأوس في دارهم المعروفة بهم التي بها الكبا يمر فيها سيل مذينيب بين بيوتهم ثم يلتقي هو وسيل بني قريظة بفضاء بني خطمة ، ويؤخذ مما ذكره ابن زبالة في منازل بني النضير بالنواعم قربه منزل بني أمية بن زيد منهم.

وفي صحيح البخاري عن عمر رضي‌الله‌عنه قال : كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد ، وهي من عوالي المدينة ، نتناوب النزول على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال ابن زبالة : وابتنوا أطما يقال له : «أطم العذق» كان عند الكبا المواجهة مسجد بني أمية ، وأطما كان في دار آل رويفع التي في شرقي مسجد بني أمية.

ونزل بنو عطية بن زيد بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك بن الأوس بصفنة فوق بني الحبلى ، وصفنة ـ كجفنة ـ بإهمال أوله سميت بذلك لارتفاعها عن السيول فلم تشرب بشيء منها ، وابتنوا فيها أطما اسمه «شاس» كان لشاس بن قيس أخي بني عطية بن زيد ، وهو الذي على يسارك في رحبة مسجد قباء مستقبل القبلة ، ووائل وأمية وعطية بنو زيد هم الجعادرة ، سموا به لأنهم كانوا إذا أجاروا جارا قالوا له : جعدر حيث شئت أي : اذهب حيث شئت ، فلا بأس عليك ، فقال الرمق بن زيد :

وإن لنا بين الجواري وليدة

مقابلة بين الجعادر والكسر

متى تدع في الزيدين زيد بن مالك

وزيد بن قيس تأتها عزة النصر

١٥٦

قالوا : والكسر أمية وعبيد وضبيعة بنو زيد بن مالك بن عوف ، كان يقال لهم كسر الذهب وذلك أراد الرمق بقوله «والكسر» كذا قاله ابن زبالة ، ونقل رزين أن الجعادرة الأوس كلهم فإنه قال فيما نقل عن الشرقي : فولد الأوس مالكا ومن مالك قبائل الأوس كلها ، فولد لمالك عمرو وعوف ومرة ، ويقال لهم : أوس الله ، وهم الجعادرة ، سموا بذلك لقصر فيهم ، اه.

قلت : وسيأتي عن ابن إسحاق في آخر الفصل السابع ما يقتضي أن أوس الله هم بنو أمية بن زيد ووائل وواقف وخطمة ، والله أعلم.

ونزل بنو خطمة ـ وخطمة هو عبد الله بن جشم بن مالك بن الأوس ـ دارهم المعروفة بهم ، وابتنوا بها الآطام ، وغرسوا النخيل ، فابتنوا بها أطما يقال له «صع ذرع» ليس فيه بيوت ، جعلوه كالحصن الذي يتحصنون فيه للقتال ، وكان لخطمة كلها ، وكان موضعه عند مهراس بني خطمة ، وإنما سمي «صع ذرع» لأنه كان عند بئر بني خطمة التي يقال لها ذرع ، وابتنى أمية بن عامر بن خطمة أطما كان موضعه في مال الماجشون الذي يلي صدقة أبان بن أبي حدير.

قلت : والظاهر أنه المسمى اليوم «بالمجشونية» فإن اسمه الأصلي «الماجشونية» على ما تقدم في تربة صعيب.

وقال المطري : منازل بني خطمة لا يعرف مكانها اليوم ، إلا أن الأظهر أنهم كانوا بالعوالي شرقي مسجد الشمس ؛ لأن تلك النواحي كلها ديار الأوس ، وما سفل من ذلك إلى المدينة ديار الخزرج ، اه.

وفي قوله : «وما سفل إلخ» نظر ، والذي يظهر أن أول منازل الخزرج في هذه الجهة منازل بني الحارث كما سيأتي ، وفوقها بنو خطمة ، وسيأتي في وادي بطحان ووادي مهزور ما يؤيد ذلك.

وكان بنو خطمة متفرقين في آطامهم ، لم يكن في قصبة دارهم منهم أحد ، فلما جاء الإسلام اتخذوا مسجدهم ، وابتنى رجل منهم عند المسجد بيتا سكنه ، فكانوا يسألون عنه كل غداة مخافة أن يكون السبع عدا عليه ، ثم كثروا في الدار حتى كان يقال لهم غزة ، تشبيها بغزة الشام من كثرة أهلها.

وقد انتهى الكلام في منازل الأوس وهذه منازل الخزرج.

قال ابن زبالة : ونزل بنو الحارث بن الخزرج الأكبر بن حارثة وهم بلحارث دارهم المعروفة بهم بالعوالي : أي : شرقي وادي بطحان وتربة صعيب ، يعرف اليوم بالحارث بإسقاط بني ، وابتنوا أطما كان لبني امرئ القيس بن مالك وخرج جشم وزيد ابنا الحارث بن

١٥٧

الخزرج وهما التوأمان فسكنا السنح ، وهذا هو المراد بقول ابن حزم : كان سكنى بني الحارث بالسّنح على ميل من مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتهى.

قال ابن زبالة : وابتنوا أطما يقال له «السّنح» وبه سميت الناحية ، ويقال بل اسمه «الريان» انتهى. وبالسّنح كان منزل أبي بكر الصديق رضي‌الله‌عنه بزوجته بنت خارجة بن زيد ، قاله عياض ، قال : وهو منازل بني الحارث بن الخزرج بعوالي المدينة ، وبينه وبين منزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ميل ، انتهى. فكأن السنح ـ وهو كما قال عياض وغيره بالسين المهملة ثم النون ـ بالقرب من منازل بني الحارث بالعوالي. وخرج عتبة بن عمر بن خديج بن عامر بن جشم بن الحارث بن الخزرج فسكن الشوط وكوم الكومة يقال لها «كومة أبي الحمراء» ثم رجع في السنح. وخرجت بنو خدرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج حتى سكنوا الدار التي يقال لها «جرار سعد» مما يلي سوق المدينة ، وخرجت بنو الأبجر وهو خدرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج وهم بنو خدرة أخوة بني خدارة فسكنوا دارهم المعروفة ببني خدرة ، وابتنوا أطما يقال له «الأجرد» وهو الأطم الذي يقال لبئره البصة ، كان لمالك بن سنان جد أبي سعيد الخدري ، وذكر ابن حزم للحارث بن الخزرج الأكبر ابنا اسمه الخزرج ابن الحارث ، وقال فيه : فولد الخزرج كعبا ، فسار بعض بنيه إلى الشام مع غسان ، فليس من الأنصار ، ثم سمى من بقي منهم الأنصار.

ونزل سالم وغنم ابنا عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج الأكبر الدار التي يقال لها «دار بني سالم» على طرف الحرة الغربية غربي الوادي الذي به مسجد الجمعة ببطن رانونا ، وابتنوا آطاما : منها «المزدلف» أطم عتبان بن مالك ، قاله المطري ، وقال : المزدلف هو الأطم الذي بناه عتبان بن مالك ، كان لمالك بن العجلان السالمي ، وله يقول مالك «إنّي بنيت للحروب المزدلف» ومنها «الشماخ» كان خارجا عن بيوت بني سالم من جهة القبلة ، ومنها أطم «القواقل» وهو الذي في طرف بيوت بني سالم مما يلي ناحية العصبة ، كان لبني سالم بن عوف ، وتسميته بذلك يرجح ما ذكره ابن سيد الناس من أن القواقل (١) بنو غنم وبنو سالم ابني عوف ، سموا بذلك لأنهم كانوا إذا أجاروا جارا قال له : قوقل حيث شئت ، وأفهم سياق بعضهم أن القواقل بعض بني سالم بن غنم ، وهم بنو الحبلى ، وما

__________________

(١) قوقل : ارتقى في الجبل وصعد.

١٥٨

قدمناه هو الظاهر ؛ لما سيأتي في خروجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قباء إلى المدينة. وقال ابن حزم : ولد عوف بن عمر وسالم بطن ، وغنم بطن ، وعنز بطن ، وهو قوقل ، وذكر من ولده عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن قوقل بن عوف بن عمرو.

ونزل بنو غصينة حي من بلى حلفاء لبني سالم عند مسجد بني غصينة.

ونزل بنو الحبلى ـ بلفظ المرأة الجبلى ـ واسمه مالك بن سالم بن غنم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج الأكبر الدار المعروفة بهم بين قباء وبين دار ابني الحارث بن الخزرج التي شرقي وادي بطحان وصعيب ، كذا قاله المطري ، وأظن مستنده ما تقدم في منازل الأوس من قول ابن زبالة : ونزل بنو عطية بن زيد بن قيس بصفنة فوق بني الحبلى إلى آخره ، وقال ابن حزم : كانت دار بني الحبلى بين دار بني النجار وبين بني ساعدة.

قلت : وسيأتي في خروجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قباء إلى المدينة ما يؤيده ، وكذلك مروره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعبد الله بن أبي في ذهابه لعيادة سعد بن عبادة ، وما ذكره من أن الحبلى اسمه مالك بن سالم ذكره ابن زبالة ، وقال ابن هشام : الحبلى سام بن غنم بن عوف ، وإنما سمي الحبلى لعظم بطنه ، انتهى.

وذكر ابن حزم نحوه ، والظاهر أن الحبلى كان يطلق على سالم والد مالك المذكور ، ثم اشتهر به ابنه هذا من بني بنيه ، وحينئذ فيحمل ما تقدم عن ابن زبالة في نزول بني عطية بن زيد بصفنة فوق بني الحبلى ، على أن المراد

دار سالم بن غنم في دار بني سالم ؛ لكونه ذكر في آطام بني الحبلى هؤلاء ما يوافق كلام ابن حزم في نزولهم قرب دار بني ساعدة ، فقال : وابتنوا آطاما منها «مزاحم» بين ظهران بيوت بني الحبلى ، وهو لعبد الله بن أبي بن سلول. ومنها أطم كان بين مال عمارة بن نعيم البياضي وبين مال ابن زمانة. ومنها أطم كان في جوف بيوتهم. انتهى. وسيأتي في منازل بني ساعدة ذكر الحماضة ، وهي مذكورة في منازل بني بياضة ، وقد صرح ابن حزم وغيره من أهل السير وعلماء النسب بأن عبد الله بن أبي من بني الحبلى من الخزرج ؛ فالظاهر أن ما وقع للحافظ ابن حجر في حديث زوجة ثابت بن قيس بن شماس في الخلع من أن عبد الله بن أبي من بني مغالة من بني النجار وهم. نعم داره غربي المسجد قريبة من دار بني مغالة فيما يظهر. والله أعلم.

ونزل بنو سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن شاردة بن تزيد (بالمثناة من فوق) بن جشم بن الخزرج الأكبر ما بين مسجد القبلتين إلى المذاد أطم بني حرام في سند تلك الحرة ، وكانت دارهم هذه تسمى خربى. قال ابن زبالة : فسماها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «طلحة» كذا هو في نسخة ابن زبالة بالطاء ، ونقله عنه الزين المراغي أيضا كذلك كما رأيته بخطه.

١٥٩

ولعل الصواب ما ذكره المجد في تاريخه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سماها «صلحة» بضم الصاد المهملة وسكون اللام ، وقال في قاموسه : خربا كحبلى : منزلة كانت لبني سلمة غيّرها صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسماها صالحة.

ونزل بنو سواد بن غنم بن كعب بن سلمة عند مسجد القبلتين إلى أرض ابن عبيد الديا ناري ، ولهم مسجد القبلتين ، قاله ابن زبالة ، وهو يرد ما سيأتي عن المطري وغيره من أن المسجد لبني حرام ، وابتنوا أطما يقال له «الأغلب» كان على المهد الذي عليه الأحجار التي يستريح عليها السقاءون حين يفيضون من زقاق رومة إلى بطحان ، وأطمأ يقال له «خيط» في شرقي مسجد القبلتين على شرف الحرة وعند منقطع السهل من أرض بني سلمة ، وأطما يقال له «منيع» في يماني مسجد القبلتين على ظهر الحرة يمين الحزن الذي في أرض ابن أبان أو دون ذلك قليلا.

ونزل بنو عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة عند مسجد الخربة إلى الجبل الذي يقال له الدويخل جبل بني عبيد ، ولهم مسجد الخربة ، وابتنوا «الأشنق» وهو المواجه لمسجد الخربة ، كان للبراء بن معرور صخر بن حسان بن سنان بن عبيد ، وابتنوا «الأطول» عند قبلة مسجد الخربة أو عن يسارها.

ونزل بنو حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة عند مسجد بني حرام الصغير الذي بالقاع بين الأرض التي كانت لجابر بن عتيك والأرض التي كانت لمعبد بن مالك ، وكانوا بين مقبرة بني سلمة إلى المذاد ، والمذاد : هو الذي يقول له كعب بن مالك :

فليأت مأسدة تسن سيوفها

بين المذاد وبين جزع الخندق

وهو أطم لهم سميت به الناحية ، وابتنوا أطما يقال له «جاعس» كان في السهل بين الأرض التي كانت لجابر بن عتيك وبين العين التي عملها معاوية بن أبي سفيان ، كان لعمرو بن الجموح جد جابر بن عبد الله بن عمرو.

قلت : وهذه العين لعلها التي ذكر ابن النجار أنها تأتي إلى النخل الذي بأسفل المدينة حوالي مسجد الفتح ، يعني في غربيه ، ويعرف ذلك الموضع بالسّيح ـ بالسين المهملة والمثناة التحتية ـ كما قال المطري ، والله أعلم.

وابتنى بنو مر بن كعب بن سلمة ـ وهم حلفاء بني حرام ـ أطما يقال له «أخنس» وهو الأسود القائم في بني سلمة في غربي الحائط الذي كان لجابر بن عتيك مما يلي جبل بني عبيد ، ذكره ابن زبالة.

وقوله «عند مسجد بني حرام الصغير» يفهم أن لهم مسجدا آخر كبيرا ، وهو الآتي في منزلهم الثاني بشعب سلع ، وسيأتي في المساجد وصف مسجد بني حرام الذي صلّى فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه بالقاع ، وأنه لم يصل في مسجدهم الأكبر.

١٦٠