مناقب الأسد الغالب ممزّق الكتائب ومُظهر العجائب ليث بن غالب أميرالمؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب

شمس الدين محمّد بن عبدالله ابن الجزري

مناقب الأسد الغالب ممزّق الكتائب ومُظهر العجائب ليث بن غالب أميرالمؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب

المؤلف:

شمس الدين محمّد بن عبدالله ابن الجزري


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-4064-7
الصفحات: ٢٠٠

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

المقدمة

إن الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران : ١٠٢].

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء : ١].

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب : ٧٠ ، ٧١].

أما بعد :

أنا أحب الإمام علي بن أبي طالب وذريته وآل بيته الأطهار ولكنه حب لا يتعدى شروطا معينة بمعنى أنني لا أميزه على أبي بكر وعمر وعثمان رضي‌الله‌عنهم أجمعين ، ومعنى أنك تحبه فلا يلزم أن تكره بقية الصحابة ، بل وإن البعض يشتمهم فإن هذا ليس حبا للإمام علي رضي‌الله‌عنه لأن الإمام علي رضي‌الله‌عنه كان يعرف قدر أبي بكر وعمر وعثمان رضي‌الله‌عنهم ، وكثيرا ما أسمع من أهل الهوى تفسيرا مزعجا بخصوص علي (كرم الله وجهه) يقولون : إنه لم ير عورته ولا عورة أحد أبدا ، وهذا كذب وافتراء لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يغتسل هو وعائشة رضي‌الله‌عنها في إناء واحد ويقول لها : «اتركي لي» ، وهي تقول اترك لي ـ يعنى الماء ـ.

أما تفسير هذا فهو لأنه رضي‌الله‌عنه لم يسجد لصنم أبدا وعبد الله بن عباس رضي‌الله‌عنهما لم يسجد لصنم أبدا.

٣

أنا أحب الإمام علي حب اتباع وأحب الزهراء رضي‌الله‌عنها وأحب سيّدي شباب أهل الجنة رضي‌الله‌عنهما.

وأقول لكل ثرثار متفيهق : إن رأس الحسين رضي‌الله‌عنه لم تدخل مصر ولم تدفن في مصر ، وأن السيدة زينب رضي‌الله‌عنها لم تدخل مصر لا حية ولا ميتة ، وإذا أردت المزيد فعليك بكتابنا رأس الحسين الذي أخذناه من فتاوى شيخ الإسلام / ابن تيمية رحمه‌الله تعالى.

وأقول لعلماء مصر الأفاضل : اتقوا الله تعالى وبينوا للناس ولا تخافوا على مناصبكم البراقة.

من أجل ذلك قرأت لك كتاب مناقب الأسد الغالب علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه للعلامة شمس الدين محمد بن الجزري رحمه‌الله تعالى.

وكتاب (خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه للإمام النسائي رحمه‌الله تعالى) وجعلتهما في كتاب واحد وأسميته (مناقب الأسد الغالب علي بن أبي طالب) رضي‌الله‌عنه.

وجعلته ثلاثة فصول :

الفصل الأول : ويشمل التمهيد.

الفصل الثاني :

ويشمل كتاب العلامة شمس الدين محمد بن الجزري رحمه‌الله تعالى

الفصل الثالث :

ويشمل كتاب الإمام النسائي رحمه‌الله تعالى.

اقرأ وتدبر ولله الحمد والمنة.

الشيخ / علي أحمد عبد العادل الطهطاوي

رئيس جمعية أهل القرآن والسنة

٤

الفصل الأول

التمهيد

صور من تواضع أمير المؤمنين علي رضي‌الله‌عنه (١)

أخرج البخاري في الأدب (ص ٨١) عن صالح بياع الأكسية عن جدته قالت : رأيت عليا رضي‌الله‌عنه اشترى تمرا بدرهم فحمله في ملحفته ، فقلت له ـ أو قال له رجل ـ : أحمل عنك يا أمير المؤمنين ، قال : لا ، أبو العيال أحق أن يحمل. أخرجه ابن عساكر كما في المنتخب (٥ / ٥٦) ، وأبو القاسم البغوي : كما في البداية (٨ / ٥) عن صالح بنحوه.

وأخرج ابن عساكر عن زاذان عن علي رضي‌الله‌عنه أنه كان يمشي في الأسواق وحده وهو وال ، يرشد الضال ، وينشد الضال ، ويعين الضعيف ، ويمر بالبياع والبقال فيفتح عليه القرآن ويقرأ : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً) [القصص : ٨٣]. ويقول : نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة على سائر الناس. كذا في المنتخب (٥ / ٥٦) وأخرجه أبو القاسم البغوي نحوه كما في البداية (٨ / ٥).

وأخرج ابن سعد (٣ / ١٨) عن جرموز قال : رأيت عليا رضي‌الله‌عنه وهو يخرج من القصر وعليه قطريتان : إزار إلى نصف الساق ، ورداء مشمر قريب منه ، ومعه درّة له يمشي بها في الأسواق ، ويأمرهم بتقوى الله وحسن البيع ، ويقول : أوفوا الكيل والميزان ، ويقول : لا تنفخوا اللحم. وأخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب (٣ / ٤٨). وأخرج ابن راهويه وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وأبو يعلى والبيهقي وابن عساكر ـ وضعف ـ عن أبي مطر قال : خرجت من المسجد فإذا رجل ينادي خلفي : ارفع إزارك فإنه أتقى لربك ، وأنقى لثوبك ، وخذ من رأسك إن كنت مسلما ؛ فإذا هو علي ومعه الدّرّة ، فانتهى إلى سوق الإبل فقال : بيعوا ولا تحلفوا فإن اليمين تنفق السلعة وتمحق البركة. ثم أتى صاحب التمر فإذا خادم تبكي فقال : ما شأنك؟ قالت : باعني هذا تمرا بدرهم فأبى مولاي أن يقبله ، فقال : خذه وأعطها درهما فإنه ليس لها أمر ، فكأنه أبي ، فقلت : ألا تدري من هذا؟ قال لا ، قلت : علي أمير المؤمنين ، فصب

__________________

(١) كتاب حياة الصحابة رضي‌الله‌عنهم.

٥

تمره وأعطاها درهما وقال : أحب أن ترضى عني يا أمير المؤمنين ، قال : ما أرضاني عنك إذا وفّيتم ، ثم مر مجتازا بأصحاب التمر فقال : أطعموا المسكين يربو كسبكم ، ثم مر مجتازا حتى انتهى إلى أصحاب السمك فقال : لا يباع في سوقنا طاف (١). ثم أتى دار بزار وهي سوق الكرابيس (٢) ، فقال : يا شيخ أحسن بيعي في قميص بثلاثة دراهم ، فلما عرفه لم يشتر منه شيئا ، ثم أتى آخر فلما عرفه لم يشتر منه شيئا ، ثم أتى غلاما حدثا فاشترى منه قميصا بثلاثة دراهم لبسه ما بين الرسغين إلى الكعب ، فجاء صاحب الثوب فقيل : إن ابنك باع لأمير المؤمنين قميصا بثلاثة دراهم ، قال : فهلّا أخذت منه درهمين؟ فأخذ الدرهم ثم جاء به إلى علي فقال : أمسك هذا الدرهم ، قال : ما شأنه؟ قال : كان قميصا ثمنه درهمان باعك ابني بثلاثة دراهم ، قال : باعني رضاي وأخذت رضاه. كذا في المنتخب (٥ / ٥٧).

زهد علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه (٣)

١ ـ أخرج أبو نعيم في الحلية (١ / ٨٢) عن رجل من ثقيف أن عليا رضي‌الله‌عنه استعمله على عكبرا قال : ولم يكن السواد يسكنه المصلون ، وقال لي : إذا كان عند الظهر فرح إلي ، فرحت إليه فلم أجد عنده حاجبا يحبسني عنه دونه ، فوجدته جالسا وعنده قدح وكوز من ماء ، فدعا بطينة فقلت في نفسي : لقد أمنني حتى يخرج إلي جوهرا ولا أدري ما فيها ، فإذا عليها خاتم فكسر الخاتم ، فإذا فيها سويق فأخرج منها

__________________

(١) طاف : هو ما يطفو على سطح الماء بعد موته وقد اختلف الفقهاء في أكله فقيل يؤكل وقيل لا يؤكل والأصح أن يؤكل لكثرة الأحاديث الواردة في ذلك منها ما رواه أحمد وابن ماجه وما رواه مالك في موطئه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال عن البحر «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» ، وجاء في الصحيحين عن جابر بن عبد الله أنه خرج مع أبي عبيدة بن الجراح يتلقى عيرا لقريش فانطلقوا على ساحل البحر فخرج لهم من البحر دابة تدعى العنبر قال أبو عبيدة : ميتة ، ثم قال بل نحن رسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد اضطررتم فكلوا ، فأقمنا عليه شهرا حتى سمنا قال : فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرنا ذلك له فقال : «هو رزق أخرجه الله لكم ، فهل معكم من لحمه شيء فتطعموننا؟» قال : فأرسلنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه فأكله ، انظر كتابي «الفقه الواضح من الكتاب والسنة» المجلد الثاني ص ٣٧٧ ، وما بعدها لتعرف حكم أكل ميتة السمك والسردين والفسيخ ونحوه بشيء من التفصيل.

(٢) الكرابيس : جمع كرباس وهو القطن.

(٣) كتاب حياة الصحابة رضي‌الله‌عنهم.

٦

فصب في القدح فصب عليه ماء فشرب وسقاني ، فلم أصبر فقلت : يا أمير المؤمنين أتصنع هذا بالعراق وطعام العراق أكثر من ذلك؟! قال : أما والله ما أختم عليه بخلا عليه ، ولكني أبتاع قدر ما يكفيني ، فأخاف أن يفنى فيصنع من غيره ، وإنما حفظي لذلك ، وأكره أن أدخل بطني إلا طيبا. وعن الأعمش قال كان علي رضي‌الله‌عنه يغدي ويعشي ، ويأكل هو من شيء يجيئه من المدينة.

٢ ـ وأخرج أيضا (١ / ٨١) عن عبد الله بن شريك عن جده عن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه أنه أتي بفالوذج (١) فوضع قدامه ـ بين يديه ـ ، فقال : إنك طيب الريح ، وحسن اللون ، طيب الطعم ؛ لكن أكره أن أعود نفسي ما لم تعتده ، وأخرجه أيضا عبد الله ابن الإمام أحمد في زوائده عن عبد الله بن شريك مثله ، كما في المنتخب (٥ / ٥٨).

٣ ـ وأخرج ابن المبارك عن زيد بن وهب قال : خرج علينا علي رضي‌الله‌عنه وعليه رداء وإزار ، قد وثّقه بخرقة فقيل له ، فقال : إنما ألبس هذين الثوبين ليكون أبعد لي من الزّهو ، وخيرا لي في صلاتي ، وسنة للمؤمن. كذا في المنتخب (٥ / ٥٨).

٤ ـ وأخرج البيهقي عن رجل قال : رأيت مع علي رضي‌الله‌عنه إزارا غليظا ، قال : اشتريته بخمسة دراهم ، فمن أربحني فيه درهما بعته إياه ، كذا في منتخب الكنز (٥ / ٥٨).

٥ ـ وأخرج يعقوب بن سفيان عن مجمع بن سمعان التيمي قال : خرج علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه بسيفه إلى السوق فقال : من يشتري مني سيفي هذا؟ فلو كان عندي أربعة دراهم أشتري بها إزارا ما بعته. كذا في البداية (٨ / ٣).

٦ ـ وأخرج أبو القاسم البغوي عن صالح بن أبي الأسود عمن حدثه أنه رأى عليا رضي‌الله‌عنه قد ركب حمارا ودلّى رجليه إلى موضع واحد ثم قال : أنا الذي أهنت الدنيا. كذا في البداية (٨ / ٥).

وأخرج أحمد عن عبد الله بن رزين قال : دخلت على علي رضي‌الله‌عنه يوم الأضحى ، فقرب إلينا خزيرة (٢) ، فقلنا : أصلحك الله! لو أطعمتنا هذا البط ـ يعني الإوز ـ فإن

__________________

(١) نوع من الحلوى.

(٢) لحم مشوي عليه دقيق.

٧

الله قد أكثر الخير ، قال : يا ابن رزين ، إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يحل للخليفة من مال الله إلا قصعتان : قصعة يأكلها هو وأهله ، وقصعة يضعها بين يدي الناس». كذا في البداية (٨ / ٣).

من خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه (١)

أخرج ابن جرير في تاريخه (٣ / ٤٥٧) بإسناد فيه سيف عن علي بن الحسين : أول خطبة خطبها علي رضي‌الله‌عنه حين استخلف ، حمد الله وأثنى عليه ، فقال : إن الله عزوجل أنزل كتابا هاديا بيّن فيه الخير والشر ، فخذوا بالخير ودعوا الشر. الفرائض أدّوها إلى الله سبحانه يؤدكم إلى الجنة ، إن الله حرم حرما غير مجهولة ، وفضل حرمة المسلم على الحرم كلها ، وشد بالإخلاص والتوحيد المسلمين. والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده إلا بالحق ، لا يحل أذى المسلم إلا بما يجب. بادروا أمر العامة ، وخاصة أحدكم ـ الموت ـ فإن الناس أمامكم ، وإنما هو خلفكم الساعة تحدوكم. وتخففوا تلحقوا ؛ فإنما ينتظر الناس أخراهم ، اتقوا الله عباده في عباده وبلاده ، إنكم مسئولون حتى عن البقاع والبهائم ، أطيعوا الله عزوجل ولا تعصوه ، وإذا رأيتم الخير فخذوا به ، وإذا رأيتم الشر فدعوه ، واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض.

وأخرج أبو الشيخ عن علي أنه خطب ، فقال : عشيرة الرجل للرجل خير من الرجل لعشيرته ؛ إنه إن كف يده عنهم كف يدا واحدة ، وكفوا عنه أيدي كثيرة مع مودتهم وحفاظهم ونصرتهم ، حتى لربما غضب الرجل للرجل وما يعرفه إلا بحسبه. وسأتلو عليكم بذلك آيات من كتاب الله ، فتلا هذه الآية : (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) [هود : ٨٠] قال علي : والركن الشديد : العشيرة ، فلم تكن للوط عشيرة ؛ فو الذي لا إله إلا هو ما بعث الله نبيا قط بعد لوط إلا في ثروة من قومه. وتلا هذه الآية في شعيب (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) [هود : ٩١] ، قال : كان مكفوفا (٢).

__________________

(١) من كتاب حياة الصحابة رضي‌الله‌عنهم.

(٢) لعله أراد بقوله مكفوفا : محفوظا بعناية الله وليس المراد مكفوف البصر ، فإن عمى البصر ـ

٨

فنسبوه إلى الضعف : (وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) [هود : ٩١] ، قال علي : فو الذي لا إله إلا غيره ما هابوا جلال ربهم إلا العشيرة.

كذا في الكنز (١ / ٢٥٠).

أخرج الحسين بن يحيى القطان والبيهقي عن الشعبي قال : كان علي يخطب إذا حضر رمضان ثم يقول : هذا الشهر المبارك الذي فرض الله صيامه ، ولم يفرض قيامه ، ليحذر رجل أن يقول : أصوم إذا صام فلان ، وأفطر إذا أفطر فلان ، ألا إن الصيام ليس من الطعام والشراب ، ولكن من الكذب والباطل والكفر ، ألا لا تقدموا الشهر ، إذا رأيتم الهلال فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن غمّ عليكم فأتموا العدة. قال : كان يقول ذلك بعد صلاة الفجر وصلاة العصر. كذا في الكنز (٤ / ٣٢٢).

أخرج الصابوني في المائتين وابن عساكر عن علي أنه خطب ، فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر الموت فقال : عباد الله ، والله الموت ليس منه فوت ؛ إن أقمتم له أخذكم ، وإن فررتم منه أدرككم ، فالنجاة النجاة ، والوحاء الوحاء (١) ، وراءكم طالب حثيث (٢) : القبر ؛ فاحذروا ضغطته وظلمته ووحشته ، ألا وإن القبر حفرة من حفر النار ، أو روضة من رياض الجنة ، ألا وإنه يتكلم في كل يوم ثلاث مرات ، فيقول : أنا بيت الظلمة ، أنا بيت الدود ، أنا بيت الوحشة ، ألا وإن وراء ذلك ما هو أشد منه ، نار حرها شديد ، وقعرها بعيد ، حليها حديد ، وخازنها مالك ، ليس لله فيه ـ وفي لفظ : فيها ـ رحمة ، وألا وراء ذلك جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين ، جعلنا الله وإياكم من المتقين ، وأجارنا الله وإياكم من العذاب الأليم. كذا في الكنز (٨ / ١١٠). وذكر ابن كثير في البداية (٨ / ٦) هذه الخطبة عن الأصبغ بن نباتة قال :

__________________

ـ مستحيل في حق الأنبياء كما قال جمهور العلماء ومن قال : إنه كان ضرير البصر سعيد بن جبير والثوري كما ذكر ابن كثير في تفسير الآية. والأصح ما عليه الجمهور أما قولهم (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) فمعناه إنك واحد لا تعجزنا ولا تستطيع أن تحمي نفسك منا وإنما أنت قوي برهطك وقال أبو روق : يعنون ذليلا لأن عشيرته ليسوا على دينه ـ ذكره ابن كثير أيضا في تفسيره.

(١) أي السرعة السرعة.

(٢) أي سريع.

٩

صعد علي ذات يوم المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر الموت ـ فذكر نحوه وزاد بعد قوله : أنا بيت الوحشة ، ألا وإن وراء ذلك يوما يشيب فيه الصغير ، ويسكر فيه الكبير ، وتضع كل ذات حمل حملها ، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. وزاد في روايته : ثم بكى وبكى المسلمون حوله.

أخرج الدينوري وابن عساكر عن عبد الله بن صالح العجلي عن أبيه ، قال : خطب علي بن أبي طالب يوما ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال : عباد الله لا تغرنّكم الحياة الدنيا ؛ فإنها دار بالبلاء محفوفة ، وبالفناء معروفة ، وبالغدر موصوفة ، وكل ما فيها إلى زوال ، وهي ما بين أهلها دول سجال ، لن يسلم من شرها نزالها ، بينما أهلها في رخاء وسرور ؛ إذا هم منها في بلاء وغرور ، العيش فيها مذموم ، والرخاء فيها لا يدوم ، وإنما أهلها فيها أغراض مستهدفة ؛ ترميهم بسهامها وتقصمهم بحمامها (١). عباد الله إنكم وما أنتم من هذه الدنيا ، عن سبيل من قد مضى ممن كان أطول منكم أعمارا ، وأشد منكم بطشا ، وأعمر ديارا ، وأبعد آثارا ، فأصبحت أصواتهم هامدة خامدة من بعد طول تقلبها ، وأجسادهم بالية ، وديارهم خالية ، وآثارهم عافية (٢) ، واستبدلوا بالقصور المشيدة والسرر والنمارق (٣) الممهدة الصخور ، والأحجار المسندة في القبور الملاطية (٤) الملحدة التي قد بني على الخراب فناؤها ، وشيد بالتراب بناؤها ، فحملها مقترب ، وساكنها مغترب ، بين أهل عمارة موحشين ، وأهل محلة متشاغلين ، لا يستأنسون بالعمران ، ولا يتواصلون تواصل الجيران ، على ما بينهم من قرب الجوار ، ودنو الدار ، وكيف يكون بينهم تواصل ، وقد طحنهم بكلكله (٥) البلى ، وأكلتهم الجنادل (٦) والثرى ، فأصبحوا بعد الحياة أمواتا ، وبعد غضارة (٧) العيش رفاتا ، فجع بهم الأحباب ، وسكنوا التراب ،

__________________

(١) أي موتها.

(٢) من العفاء وهو المحو والإزالة.

(٣) الوسائد.

(٤) المبنية بالطين.

(٥) الكلكل : هو الصدر والمراد هنا الشدة.

(٦) الصخور العظيمة.

(٧) طيبه ولذته.

١٠

وظعنوا فليس لهم إياب ، هيهات هيهات. (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ،) فكأنكم قد صرتم إلى ما صاروا عليه من الوحدة والبلى في دار الموتى ، وارتهنتم في ذلك المضجع ، وضمكم ذلك المستودع ، فكيف بكم لو قد تناهت الأمور ، وبعثرت القبور ، وحصل ما في الصدور ، وأوقفتم للتحصيل بين يدي ملك جليل ، فطارت القلوب لإشفاقها (١) من سالف الذنوب ، وهتكت عنكم الحجب الأستار ، فظهرت منكم العيوب والأسرار ، هنالك تجزى كل نفس بما كسبت ؛ (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) [النجم : ٣١]. (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (٤٩) [الكهف : ٤٩]. جعلنا الله وإياكم عاملين بكتابه ، متبعين لأوليائه ؛ حتى يحلنا وإياكم دار المقامة من فضله ؛ إنه حميد مجيد. كذا في الكنز (٨ / ٢١٩) والمنتخب (٦ / ٣٢٤) وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة (١ / ١٢٤) بطولها ، وزاد في أوله : إن علي بن أبي طالب خطب فقال : الحمد لله ، أحمده ، وأستعينه ، وأؤمن به ، وأتوكل عليه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ليزيح به علتكم ، وليوقظ به غفلتكم ، واعلموا أنكم ميتون ، ومبعوثون من بعد الموت ، وموقوفون على أعمالكم ومجزيون بها ، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ـ فذكر نحوه.

أخرج أبو نعيم في الحلية (١ / ٧٧) عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أن عليا شيع جنازة ، فلما وضعت في لحدها ، عجّ (٢) أهلها وبكوا ، فقال : ما تبكون؟ أما والله لو عاينوا ما عاين ميتهم ، لأذهلتهم معاينتهم عن ميتهم ، وإن له فيهم لعودة ثم عودة حتى لا يبقى منهم أحدا. ثم قام فقال : أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ضرب لكم الأمثال ووقّت لكم الآجال وجعل لكم أسماعا تعي ما عنّاها وأبصارا لتجلو عن غشاها ، وأفئدة تفهم ما دهاها في تركيب صورها ، وما أعمرها ، فإن الله

__________________

(١) لخوفها.

(٢) رفعوا أصواتهم.

١١

لم يخلقكم عبثا ، لم يضرب عنكم الذكر صفحا ، بل أكرمكم بالنعم السوابغ (١) ، وأرفدكم بأوفر الروافد (٢) ، وأحاط بكم الإحصاء ، وأرصد لكم الجزاء في السراء والضراء ، فاتقوا الله عباد الله ، وجدوا في الطلب ، وبادروا بالعمل ، فإنه : مقطع النهمات (٣) وهاذم اللذات ، فإن الدنيا لا يدوم نعيمها ، ولا تؤمن فجائعها ، غرور حائل (٤) ، وشبح فائل (٥). وسناد مائل ، يمضي مستطرفا (٦) ، ويردي مستردفا بإتعاب شهواتها وختل تراضعها. اتعظوا عباد الله بالعبر ، واعتبروا بالآيات والأثر ، وازدجروا بالنذر ، وانتفعوا بالمواعظ ؛ فكأن قد علقتكم مخالب المنية ، وضمكم بيت التراب ، ودهمتكم مفظعات الأمور بنفخة الصور ، وبعثرة القبور ، وسياقة المحشر ، وموقف الحساب بإحاطة قدرة الجبار ، كل نفس معها سائق يسوقها لمحشرها ، وشاهد يشهد عليها بعملها ، وأشرقت الأرض بنور ربها ، ووضع الكتاب ، وجيء بالنبيين والشهداء ، وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ، فارتجت لذلك اليوم البلاد ، ونادى المناد ، وكان يوم التلاق ، وكشف عن ساق ، وكسفت الشمس ، وحشرت الوحوش مكان مواطن الحشر ، وبدت الأسرار ، وهلكت الأشرار ، وارتجت الأفئدة ، فنزلت بأهل النار من الله سطوة مجيحة (٧) ، وعقوبة منيحة (٨) ، وبرزت الجحيم لها كلب (٩) ولجب (١٠) ، وقصيف (١١) رعد ، وتغيظ ووعيد ، تأجج جحيمها ، وغلى حميمها ، وتوقد سمومها فلا ينفس (١٢) خالدها ، ولا تنقطع حسراتها ، ولا يقصم

__________________

(١) الكثيرة ، الظاهرة منها والباطنة.

(٢) الروافد : العطايا.

(٣) الحاجات.

(٤) متحول ومتغير.

(٥) ضعيف.

(٦) طالبا جديدا.

(٧) مهلكة.

(٨) مزعجة مبكية.

(٩) شدة.

(١٠) التبعات والمحن.

(١١) صوت مزعج.

(١٢) يفرج.

١٢

كبولها (١) ، معهم ملائكة يبشرونهم بنزل من حميم ، وتصلية جحيم ، عن الله محجوبون ، ولأوليائه مفارقون ، وإلى النار منطلقون. عباد الله ، اتقوا الله تقية من كنع (٢) فخنع (٣) ، ووجل فرحل ، وحذر فأبصر فازدجر ، فاحتث (٤) طلبا ، ونجا هربا ، وقدم للمعاد ، واستظهر بالزاد (٥) ، وكفى الله منتقما وبصيرا ، وكفى بالكتاب خصما وحجيجا ، وكفى بالجنة ثوابا ، وكفى بالنار وبالا وعقابا ، وأستغفر الله لي ولكم.

أخرج الدينوري وابن عساكر عن علي رضي‌الله‌عنه ، أنه خطب الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد : فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع ، وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع ، وإن المضمار اليوم وغدا السباق ، ألا وإنكم في أيام أمل من ورائه أجل ؛ فمن قصر في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خيب ، ألا فاعملوا لله في الرغبة كما تعملون له في الرهبة ، ألا وإني لم أر كالجنة نائم طالبها ولم أر كالنار نائم هاربها ، ألا وإنه من لم ينفعه الحق ضره الباطل ، ومن لم يستقم به الهدى جار به الضلال ، ألا وإنكم قد أمرتم بالظعن ودللتم على الزاد ، ألا أيها الناس إنما الدنيا عرض حاضر يأكل منها البار والفاجر وإن الآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قادر ، إلا إن الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ، والله يعدكم مغفرة منه ، وفضلا ، والله واسع عليم. أيها الناس ، أحسنوا في عمركم تحفظوا في عقبكم ، فإن الله تبارك وتعالى وعد جنته من أطاعه ، ووعد ناره من عصاه ، إنها نار لا يهدأ زفيرها ، ولا يفك أسيرها ، ولا يجيز كسيرها ، حرها شديد ، وقعرها بعيد ، وماؤها صديد ، وإن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل. كذا في الكنز (٨ / ٢٢٠) والمنتخب (٦ / ٣٢٤). وذكر ابن كثير في البداية (٨ / ٧) هذه الخطبة بطولها عن وكيع عن عمرو بن منبه عن أوفى بن دلهم وقال : وفي رواية : فإن اتباع الهوى يصد عن الحق ، وإن طول الأمل ينسي الآخرة.

__________________

(١) قيودها.

(٢) خضع ولان.

(٣) ذل.

(٤) أسرع.

(٥) استعان وانتصر بالزاد الذي قدمه لنفسه عند الله تعالى.

١٣

أخرج ابن النجار عن زياد الأعرابي قال : صعد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه منبر الكوفة بعد الفتنة وفراغه من النهروان ، فحمد الله ، وخنقته العبرة ، فبكى حتى اخضلت لحيته بدموعه وجرت ، ثم نفض لحيته ، فوقع رشاشها على ناس من أناس ، فكنا نقول : إن من أصابه من دموعه فقد حرمه الله على النار ، ثم قال : يا أيها الناس لا تكونوا ممن يرجوا الآخرة بغير عمل ، ويؤخر التوبة بطول الأمل ، يقول في الدنيا قول الزاهدين ، ويعمل فيها بعمل الراغبين ، إن أعطي منها لم يشبع ، وإن منع منها لم يقنع ، يعجز عن شكر ما أوتي ويبتغي الزيادة فيما بقي ، ويأمر ولا يأتي ، وينهى ولا ينتهي ، يحب الصالحين ولا يعمل بأعمالهم ، ويبغض الظالمين وهو منهم ، تغلبه نفسه على ما يظن ولا يغلبها على ما يستيقن ، إن استغنى فتن ، وإن مرض حزن ، وإن افتقر قنط ووهن ، فهو بين الذنب والنعمة يرتع ، يعافى فلا يشكر ، ويبتلى فلا يصبر ، كأن المحذّر من الموت سواه ، وكأن من وعد وزجر غيره ، يا أغراض المنايا ، يا رهائن الموت (يا وعاء الأسقام ، يا نهبة الأيام ، يا نفل الدهر) ويا فاكهة الزمان (١) ، ويا نور الحدثان (٢) ويا أخرس عند الحجج ، ويا من غمرته الفتن ، وحيل بينه وبين معرفة العبر ، بحق أقول : ما نجا من نجا إلا بمعرفة نفسه ، وما هلك من هلك إلا من تحت يده ، قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) [التحريم : ٦] ، جعلنا الله وإياكم ممن سمع الوعظ فقبل ، ودعي إلى العمل فعمل. كذا في الكنز (٨ / ٢٢٠) والمنتخب (٦ / ٣٢٥).

أخرج ابن أبي الدنيا وابن عساكر عن يحيى بن يعمر أن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه خطب الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي ، ولم ينههم الربانيون ، والأحبار ، أنزل الله بهم العقوبات ؛ ألا فمروا بالمعروف ، وانهوا عن المنكر ، قبل أن ينزل بكم الذي نزل بهم ، واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقا ، ولا يقرب أجلا ، إن الأمر ينزل من السماء إلى الأرض كقطر المطر إلى كل نفس بما قدر الله لها من زيادة أو نقصان في

__________________

(١) يا فاكهة الزمان : يا عجيبة الزمان في البطر والركون إلى الراحة والاشتغال بشهوات النفس.

(٢) نور الحدثان : النور ـ بسكون الواو : الزهو ، والحدثان الشدائد ، والمعنى يا زهر الشدائد وهو كناية عن جلبها والإتيان بها.

١٤

أهل أو مال أو نفس ، فإذا أصاب أحدكم النقصان في أهل أو مال أو نفس ، ورأى لغيره غيره ؛ فلا يكونن ذلك له فتنة ، فإن المرء المسلم ما لم يغش دناءة ، يظهر تخشعا لها إذا ذكرت ، ويعزي به لئام الناس كالياسر (١) الفالج (٢) الذي ينتظر أول فوزة من قداحه ، توجب له المغنم ، وتدفع عنه المغرم ، فكذلك المرء المسلم البريء من الخيانة إنما ينتظر إحدى الحسنيين إذا ما دعا الله ، فما عند الله هو خير له ، وإما إن يرزقه الله مالا ، فإذا هو ذو أهل ومال. الحرث حرثان : المال والبنون حرث الدنيا ، والعمل الصالح حرث الآخرة ، وقد يجمعهما الله لأقوام. قال سفيان بن عيينة : ومن يحسن التكلم بهذا الكلام إلا علي بن أبي طالب؟! كذا في الكنز (٨ / ٢٢٠) ومنتخبه (٦ / ٣٢٦). وذكره في البداية (٨ / ٨) عن ابن أبي الدنيا بإسناده عن يحيى فذكر من قوله : إن الأمر ينزل به من السماء ـ إلى الآخرة نحوه ، وفيما ذكره : فإذا هو ذو أهل ومال ومعه حسبه ودينه ، وإما أن يعطيه الله في الآخرة خير وأبقى ، الحرث حرثان : فحرث الدنيا المال والتقوى ، وحرث الآخرة الباقيات الصالحات.

أخرج البيهقي عن أبي وائل قال : خطب علي رضي‌الله‌عنه الناس بالكوفة ، فسمعته يقول في خطبته : أيها الناس إنه من يتفقّر افتقر ، ومن يعمّر يبتلى ، ومن لا يستعد للبلاء إذا ابتلي لا يصبر ، ومن ملك استأثر ، ومن لا يستشير يندم. وكان يقول من وراء هذا الكلام : يوشك أن لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ، ومن القرآن إلا رسمه ، وكان يقول : ألا لا يستحي الرجل أن يتعلم ، ومن يسأل عما لا يعلم أن يقول : لا أعلم ، مساجدكم يومئذ عامرة ، وقلوبكم وأبدانكم خربة من الهدى ، شر من تحت ظل السماء ، فقهاؤكم منهم تبدوا الفتنة ، وفيهم تعود. فقام رجل ، فقال : يا أمير المؤمنين؟ قال : إذا كان الفقه في رذالكم ، والفاحشة في خياركم ، والملك في صغاركم ، فعند ذلك تقوم الساعة. كذا في الكنز (٨ / ٢١٨).

ذكر ابن كثير في البداية (٧ / ٣٠) أن عليا رضي‌الله‌عنه قام فيهم خطيبا ، فقال : الحمد لله فاطر الخلق ، وفالق الإصباح ، وناشر الموتى ، وباعث من في القبور ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وأوصيكم بتقوى الله ، فإن أفضل ما

__________________

(١) المقامر.

(٢) الفالج : الغالب في قمار.

١٥

توسل به العبد : الإيمان ، والجهاد في سبيله ، وكلمة الإخلاص فإنها الفطرة ، وإقام الصلاة إنها الملة ، وإيتاء الزكاة فإنها من فريضته ، وصوم شهر رمضان فإنه جنة من عذابه ، وحج البيت فإنه منفاة للفقر مدحضة للذنب ، وصلة الرحم فإنها مثراة في المال منسأة في الأجل محبة في الأهل ، وصدقة السر فإنها تكفر الخطيئة وتطفئ غضب الرب ، وصنع المعروف فإنه يدفع ميتة السوء ويقي مصارع الهول. أفيضوا في ذكر الله فإنه أحسن الذكر ، وارغبوا فيما وعد المتقون فإن وعد الله أصدق الوعد ، واقتدوا بهدي نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه أفضل الهدي ، واستنوا بسنته فإنها أفضل السنن ، تعلموا كتاب الله فإنه أفضل الحديث ، وتفقهوا في الدين فإنه ربيع القلوب ، واستشفوا بنوره فإنه شفاء لما في الصدور ، وأحسنوا تلاوته فإنه أحسن القصص ، وإذا قرئ عليكم فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ، وإذا هديتم لعلمه فاعملوا بما علمتم به لعلكم تهتدون ، فإن العالم العامل بغير عمله كالجاهل الجائر الذي لا يستقيم عن جهله ، بل قد رأيت أن الحجة أعظم والحسرة أدوم على هذا العالم المنسلخ من علمه عن هذا الجاهل المتحير في جهله ، وكلاهما مضلل مثبور (١).

لا ترتابوا فتشكوا ، ولا تشكوا فتكفروا ، ولا ترخصوا لأنفسكم فتذهلوا (٢) ، ولا تذهلوا في الحق فتخسروا ، ألا وإن من الحزم أن تثقوا ، ومن الثقة ألا تغتروا ، وإن أنصحكم لنفسه أطوعكم لربه ، وإن أغشكم لنفسه أعصاكم لربه ، ومن يطع الله يأمن ويستبشر ، ومن يعص الله يخف ويندم ، ثم سلوا الله اليقين وارغبوا إليه في العافية ، وخير ما دام في القلب اليقين ، إن عوازم الأمور أفضلها ، وإن محدثاتها شرارها ، وكل محدث بدعة ، وكل محدث مبتدع ، ومن ابتدع فقد ضيع ، وما أحدث محدث بدعة إلا ترك بها سنة ، المغبون من غبن دينه والمغبون من خسر نفسه ، وإن الرياء من الشرك ، وإن الإخلاص من العمل والإيمان ، ومجالس اللهو تنسي القرآن ، ويحضرها الشيطان ، وتدعو إلى كل غي ، ومجالسة النساء تزيغ القلوب وتطمح إليه الأبصار وهي مصائد الشيطان ، فاصدقوا الله ؛ فإن الله مع من صدق ، وجانبوا

__________________

(١) مثبور : هالك.

(٢) أي ولا تأخذوا بالرخص فتغفلوا عن الحق والواجب فتقعوا في المحظور فإن الرخصة تكون بقدر الضرورة.

١٦

الكذب ؛ فإن الكذب مجانب للإيمان ، ألا إن الصدق على شرف منجاة وكرامة ، وإن الكذب على شرف ردى وهلكة ، ألا وقولوا الحق تعرفوا به ، واعملوا به تكونوا من أهله ، وأدوا الأمانة إلى من ائتمنكم ، وصلوا أرحام من قطعكم ، وعودوا بالفضل على من حرمكم ، وإذا عاهدتم فأفوا ، وإذا حكمتم فاعدلوا ولا تفاخروا بالآباء ، ولا تنابزوا بالألقاب ، ولا تمازحوا ، ولا يغضب بعضكم بعضا ، وأعينوا الضعيف والمظلوم والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب ، وارحموا الأرملة واليتيم ، وأفشوا السلام ، وردوا التحية على أهلها بمثلها أو بأحسن منها ، (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) [المائدة : ٢] وأكرموا الضعيف ، وأحسنوا إلى الجار ، وعودوا المرضى وشيعوا الجنازة ، وكونوا عباد الله إخوانا.

أما بعد : فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع ، وإن الآخرة قد أظلت وأشرفت باطلاع ، والمضمار اليوم وغدا السباق ، وإن السبقة الجنة والغاية النار ، ألا وإنكم في أيام مهل من ورائها أجل يحثه عجل ، فمن أخلص لله عمله في أيام مهلته قبل حضور أجله فقد أحسن عمله ونال أمله ، ومن قصر عن ذلك فقد خسر عمله وخاب أمله وضره أمله ، فاعملوا في الرغبة والرهبة ، فإن نزلت بكم رغبة فاشكروا الله واجمعوا معها رهبة ، وإن نزلت بكم رهبة فاذكروا الله واجمعوا معها رغبة فإن الله قد تأذّن المسلمين بالحسنى ولمن شكر بالزيادة ، وإني لم أر مثل الجنة نام طالبها ، ولا كالنار نام هاربها ، ولا أكثر مكتسبا من شيء أكسبه ليوم تدخر فيه الذخائر ، وتبلى فيه السرائر ، وتجتمع فيه الكبائر ، وإنه من لا ينفعه الحق يضره الباطل ، ومن لا يستقم به الهدى يجر به الضلال ، ومن لا ينفعه اليقين يضره الشك ، ومن لا ينفعه حاضره فعازبه عنه أعور وغائبه عنه أعجز ، وإنكم قد أمرتم بالظعن ودللتم على الزاد ، ألا وإن أخوف ما أخاف عليكم اثنان : طول الأمل ، واتباع الهوى. فأما طول الأمل فينسي الآخرة ، وأما اتباع الهوى فيبعد عن الحق ، ألا وإن الدنيا قد ترحلت مدبرة ، وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة ، ولهما بنون ؛ فكونوا من أبناء الآخرة إن استطعتم ولا تكونوا من بني الدنيا ، فإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل. قال

١٧

الحافظ ابن كثير : وهذه خطبة بليغة جامعة للخير ناهية عن الشر ، وقد روي لها شواهد من وجوه أخر متصلة ، ولله الحمد والمنة ـ انتهى.

أخرج الطبراني عن أبي خيرة قال : صحبت عليا رضي‌الله‌عنه حتى أتى الكوفة ، فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : كيف أنتم إذا نزل بذرية نبيكم بين ظهرانيكم؟ قالوا : إذا نبلي الله فيهم بلاء حسنا ، فقال : والذي نفسي بيده لينزلن بين ظهرانيكم ولتخرجن إليهم فلتقتلنهم ، ثم أقبل يقول :

هم أوردوه بالغرور وعردوا

أجيبوا دعاه ولا نجاة ولا عذرا

أخرج أحمد في مسنده (١ / ٨١) عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال : خطبنا علي رضي‌الله‌عنه فقال : من زعم أن عندنا شيئا نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة صحيفة فيها أسنان الإبل (١) ، وأشياء من الجراحات (٢) فقد كذب ، قال : وفيها قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور (٣) ، فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا (٤) ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة عدلا (٥) ولا صرفا (٦) ، ومن ادعى إلى غير أبيه ، أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، ولا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا ، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم».

أخرج أحمد (١ / ١٢٧) عن إبراهيم النخعي قال : ضرب علقمة بن قيس هذا المنبر وقال : خطبنا علي رضي‌الله‌عنه على هذا المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر ما شاء أن يذكر ، وقال : إن خير الناس كان بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبو بكر ثم عمر رضي‌الله‌عنهما ، ثم أحدثنا بعدهما أحداثنا يقضي الله فيها. وعنده أيضا (١ / ١٠٦) عن أبي جحيفة أنه صعد المنبر ـ يعني عليا رضي‌الله‌عنه ـ فحمد الله تعالى وأثنى عليه وصلى على

__________________

(١) أي مقادير سن كل صنف منها يدفع للزكاة أو للدية.

(٢) أي مقادير ما يؤخذ في دية الجراحات عند العفو عن القصاص.

(٣) هما جبلان بالمدينة.

(٤) جانيا.

(٥) الفدية.

(٦) التوبة.

١٨

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ، والثاني عمر ـ رضي‌الله‌عنهما ـ وقال : يجعل الله تعالى الخير حيث أحب. وعنده أيضا عن وهب السوائي بمعناه إلا أنه لم يذكر من قوله : ثم أحدثنا ، وقال وما نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر رضي‌الله‌عنه.

وأخرج ابن عاصم وابن شاهين واللالكائي في السنة والأصبهاني في الحجة وابن عساكر عن علقمة قال : خطبنا علي رضي‌الله‌عنه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إنه بلغني أن ناسا يفضلوني على أبي بكر وعمر ـ رضي‌الله‌عنهما ـ!! ولو كنت تقدمت في ذلك لعاقبت فيه ، ولكني أكره العقوبة قبل التقدم ، فمن قال شيئا من ذلك بعد مقامي هذا فهو مفتر ، عليه ما على المفتري ؛ خير الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبو بكر ثم عمر ـ رضي‌الله‌عنهما ـ ثم أحدثنا بعدهم أحداثا يقضي الله فيها ما يشاء. كذا في المنتخب (٤ / ٤٤٦) وعند أبي نعيم في الحلية عن زيد بن وهب أن سويد بن غفلة دخل على علي رضي‌الله‌عنه في إمارته ، فقال : يا أمير المؤمنين إني مررت بنفر يذكرون أبا بكر وعمر ـ رضي‌الله‌عنهما ـ بغير الذي هما له أهل ، فنهض فرقي المنبر ، فقال : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، لا يحبهما إلا مؤمن فاضل ، ولا يبغضهما إلا شقي مارق ؛ فحبهما قربة وبغضهما مروق ، ما بال أقوام يذكرون أخوي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووزيريه ، وصاحبيه ، وسيدي قريش ، وأبوي المسلمين؟ فأنا بريء ممن يذكرهما بسوء وعليه معاقب. كذا في المنتخب (٤ / ٤٤٣) .. وقد تقدمت هذه الخطبة بطولها في الغضب للأكابر.

وأخرج اللالكائي وأبو طالب العشاري ونصر في الحجة عن علي بن حسين قال : قال فتى من بني هاشم لعلي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه حين انصرف من صفين : سمعتك تخطب يا أمير المؤمنين في الجمعة تقول : اللهم أصلحنا بما أصلحت به الخلفاء الراشدين ، فمن هم؟ فاغرورقت عيناه ثم قال : أبو بكر وعمر ـ رضي‌الله‌عنهما ـ إماما الهدى ، وشيخا الإسلام ، والمهتدى بهما بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من اتبعهما هدي إلى صراط مستقيم ، ومن اقتدى بهما يرشد ، ومن تمسك بهما فهو من حزب الله ، وحزب الله هم المفلحون. كذا في المنتخب (٤ / ٤٤٤).

أخرج أحمد (١ / ١١٦) عن شيخ من بني تميم قال : خطبنا علي رضي‌الله‌عنه ، أو

١٩

قال : قال علي رضي‌الله‌عنه : ـ يأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يديه ، قال : ولم يؤمر بذلك ، قال الله عزوجل : (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) وينهد (١) الأشرار ، ويستذل الأخيار ، ويبايع المضطرون ، قال : وقد نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن بيع المضطرين (٢) ، وعن بيع الغرر (٣) ، وعن بيع الثمرة قبل أن تدرك (٤).

وأخرج أحمد (١ / ١٤١) عن أبي عبيد مولى عبد الرحمن بن عوف رضي‌الله‌عنه قال : ثم شهدته (٥) مع علي رضي‌الله‌عنه ، فصلى قبل أن يخطب بلا أذان ولا إقامة ، ثم خطب فقال : يا أيّها الناس ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد نهى أن تأكلوا نسككم بعد ثلاث ليال ؛ فلا تأكلوها بعد (٦).

وأخرج أحمد (١ / ١٥٠) عن ربعي بن حراش أنه سمع عليا رضي‌الله‌عنه يخطب يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تكذبوا عليّ فإنه من يكذب عليّ يلج النار» وأخرجه الطيالسي (ص ١٧) عن ربعي مثله.

وأخرج أحمد (١ / ١٥٦) عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : خطب علي رضي‌الله‌عنه قال : يا أيّها الناس أقيموا على أرقّائكم الحدود ، من أحصن منهم ، ومن لم يحصن ، فإن أمة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زنت ، فأمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أقيم عليها الحد ، فأتيتها فإذا هي حديث عهد بنفاس ، فخشيت إن أنا جلدتها أن تموت ، فأتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرت ذلك له ، فقال : «أحسنت».

وأخرج أحمد (١ / ١٥٦) عن عبد الله بن سبع قال : خطبنا عليّ رضي‌الله‌عنه ، فقال :

__________________

(١) يرتفع.

(٢) هو البيع الذي يكون عن حاجة ملحة كسداد دين أو إجراء عملية جراحية ونحو ذلك ، والشراء ممن هذا حاله بالثمن المجزئ جائز أما أن يشتريه من يعلم بحاله بأقل من ثمنه فإنه يحرم لما فيه من الاستغلال والظلم.

(٣) هو بيع ما لا يعلم قدره ولا صفته.

(٤) أي قبل أن يبدو صلاحها ويحرم هذا البيع لما فيه من الجهالة والغرر.

(٥) أي عيد الأضحى.

(٦) المراد بالنسك هنا الأضحية ، والمراد بالنهي عن أكلها : أكلها على أنها أضحية لفوات زمنها ويجوز أن يدخر المسلم من أضحيته لما بعد هذه الأيام الثلاثة.

٢٠