إثبات الوصية للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

أبو الحسن علي بن الحسين بن علي الهذلي المسعودي

إثبات الوصية للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

المؤلف:

أبو الحسن علي بن الحسين بن علي الهذلي المسعودي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
الطبعة: ٣
ISBN: 964-438-486-5
الصفحات: ٢٧٩

ثم نشأ وأرسله الله عز وجل وكان مربوع الخلق الى الحمرة والبياض سبط الشعر كان رأسه يقطر من غير ماء يصيبه وكانت شريعته التوحيد شريعة نوح وإبراهيم وموسى فأنزل الله عليه الإنجيل وأخذ عليه ميثاق الأنبياء بتحليل الحلال وتحريم الحرام والأمر والنهي والإنجيل مواعظ وأمثال ليس فيه قصص ولا حدود ولا فرائض ولا مواريث وأنزل الله عليه تخفيفا ممّا كان في التوراة وهو قوله (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) فآمن به المؤمنون بالحجج وكذّبه بنو اسرائيل فافترقوا فيه فرقا يختلفون فيه حتى قال بعضهم انّه إله وقال بعضهم انّه ابن الله جلّ الله وتعالى فاقشعرت الأرض وتشوّك الشجر من ذلك الزمان.

ثم أحيا الموتى وأبرأ الاكمه والأبرص باذن الله.

وروي انّه لم يحي إلّا ميتا واحدا وانّه قام خطيبا في بني اسرائيل فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا بني اسرائيل لا تأكلوا حتى تجوعوا فاذا جعتم فكلوا ولا تشبعوا فانّكم إذا شبعتم غلظت رقابكم سمنت جنوبكم ونسيتم ربّكم. انّي أصبحت فيكم ادامي الجوع وطعامي ما تنبت الأرض للوحوش والبهائم ، وسراجي القمر ، وفراشي التراب ، ووسادي الحجر ، ليس لي بيت يخرب ولا مال يتلف ، ولا ولد يموت ، ولا امرأة تحزن ، وكان صلّى الله عليه قد بعث بالسياحة والتقشف فمر وهو يسيح في الأرض بقوم يبكون فقال من أي شيء يبكي هؤلاء القوم؟ قالوا له على ذنوبهم فقال عليه السّلام يتركونها يغفر الله لهم.

واتبعه الحواريون وكانوا اثني عشر رجلا وهم التلاميذ ووجّه الى البلدان بالرسل ودعاهم الى التوحيد فاتصل به ان ملكا في بعض البلدان يأكل الناس هو وأهل مملكته وانّهم يسمنون الناس ويغذونهم بأغذية تزول بها أفهامهم حتى يسمنوا ثم يأكلونهم فأمر المسيح عليه السّلام أحد خواصّه أن يرسل ببعض ثقاته إليهم ينذرهم ويحذّرهم فوجّه إليهم وكان بينه وبينهم مسيرة ثلاثة أشهر فلما دخل الى مدينتهم اتاهم ابليس فأغراهم به حتى أخذوه فحبسوه في الموضع الذي يسمنون فيه الناس وسقوه ما كانوا يسقونهم فمكث على عادته وكانت العادة أن يخرجوا الرجل بعد شهر من محبسه فيذبحوه فلما مضى للرجل سبعة وعشرون يوما قال المسيح للمرسل به ادرك أخاك فانّه لم يبق من أيامه إلّا

٨١

ثلاثة أيام فخرج الرجل مبادرا حتى صار الى شاطئ البحر فوجد مركبا صغيرا فجلس فيه فقال له الملّاحون ـ وكان في المركب ثلاثة نفر ـ أين تريد؟.

فلم يخبرهم فلما ألحوا عليه عرّفهم الموضع الذي يريده فجعلوا يتضاحكون به وصاحب السكان من بينهم يهزأ منه ويقول كيف تبلغ مسيرة ثلاثة أشهر في يوم واحد.

فاغتم وأوقع الله عليه السبات فانتبه وهو على باب المدينة فخرج من المركب فلما دنا من باب المدينة وجد المسيح عليه السّلام يطلع من السور فكلّمه وسأله من خبره فقال له الرجل أرى انّك كنت صاحب السكان في المركب ثم دخل الى المدينة وصار الى الملك فزجره ووعظه فأتاه ابليس فأغراه به فأخذوه وأدخلوه الى المجلس الذي يسمنون فيه فلما رآه صاحبه وثب إليه فسأله عن خبره فأمره بالخروج فقال له أين أخرج وانما أردت إذا خرجت أن أصير إليك. فقال : تنتظرني على باب المدينة.

فخرج والحرس جلاس فلم يره منهم أحد.

وأغرى ابليس بالرجل وقال لهم هذا وأمثاله آفة الملوك والوجه أن يعذّب حتى يرتدع به غيره وأشار أن يرجم بالحجارة ويسحب على الحصباء لوجهه وساير جسده حتى يترضض فيألم جسده ، ففعل به ذلك وغلظ عليه الأمر ، فشكا الى الله عز وجل وقال يا ربّ ان كان أجلي قد قرب فاقبضني إليك وإلّا ففرّج عني فلم يبق فيّ موضع للصبر فأوحى الله إليه أن لك عندي منزلة لم تبلغها إلّا بالصبر على أغلظ المحن وقد فرّجت عنك وأمرت كلّ ما في المدينة بطاعتك فاخرج فخرج الى صنم لهم من حجارة فأمره أن ينبعث من سائره الماء فنبع الماء من عينيه وأنفه وأذنه وفمه وساير أعضائه فغرق خلق من أهل المدينة ، وعلم الباقون السبب في غرقهم فصاروا إليه خاضعين طالبين ، وآمنوا ونزلوا على حكمه واتبعوه فأمر الصنم ان يبتلع الماء فابتلعه وبقي من مات بذلك العذاب مطروحا فأحياهم باذن الله جميعا فآمن به جميع أهل المدينة.

وكان المسيح صلّى الله عليه يبشّر الحواريين بالنبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله فيقولون هو منّا ونحن شيعته فكان في الانجيل لا يلي أمر الامّة رجل وفيهم من هو أعلم منه إلّا كان أمرهم إلى سفال.

٨٢

وروي أن الدنيا تمثّلت للمسيح في أحسن صورة ، وروي في خبر آخر انّها تمثلت في صورة امرأة زرقاء شمطاء عجوز فقال لها : هل تزوجت؟ فقالت : كثيرا. فقال لها : فكلّ طلّقك؟ فقالت : بل كلّ قتلته. فقال لها : فويح لأزواجك الباقين كيف لم يعتبروا بالماضين.

وروي عنه عليه السّلام انّه قال : أوحى الله الى الدنيا : من خدمك فاستعبديه ، ومن خدمني فأخدميه.

وروي انّه عليه السّلام دعا الحواريين في يوم من الأيام ثم قام يخدمهم حتى يفعلوا مثله ثم يعلمونه الناس.

ومكث عليه السّلام في الأرض ثلاث وثلاثين سنة وكان فيما أمر به الحواريين قوله : ارضوا بذي الدنيا مع سلامة دينكم كما رضي أهل الدنيا بذي الدين مع سلامة دينهم ، وتحببوا الى الله ببغض أهل المعاصي والبعد منهم.

فقالوا : ومن نجالس يا روح الله؟.

فقال : من يذكركم الله رؤيته ، ويزيد في علمكم منطقه ، ويرغبكم في الآخرة عمله.

ثم نزلت المائدة عليهم فأمر بتغطيتها وأن لا يأكل رجل منها شيئا حتى يأذن لهم ، ومضى في بعض شأنه ، فأكل منها رجل منهم فقال بعض الحواريين : يا روح الله قد أكل منهم رجل.

فقال له عيسى : أكلت منها؟.

فقال الرجل : لا.

فقال الحواريون : بلى يا روح الله لقد أكل منها.

فقال عليه السّلام للحواريين : صدق أخاك وكذب بصرك.

وروي في المائدة أخبار كثيرة يطول شرحها.

قال : واشتد طلب اليهود له حتى هرب منهم ثم جمع أصحابه وأوصى الى شمعون وأمرهم بطاعته وسلّم إليه الاسم الأعظم والتابوت ثم قال للحواريين في تلك الليلة وقد جمعهم في بيت ، أيّكم يكون رفيقي غدا في الجنّة على أن يتشبّه للقوم غدا في صورتي فيقتلوه؟.

٨٣

فقال له شاب منهم : أنا يا روح الله.

فأمره بالجلوس في مجلسه الذي كان يجلس فيه فامتثل أمره وطرح عليه شبهه فدخل إليه اليهود فقتلوه وصلبوه فروي أن بعض الحواريين مر بشمعون عليه السّلام وهو تحت الخشبة يجمع ما يسقط من جلده وأعضائه فقال له : يا نبي الله إذا رآك الناس تفعل هذا افتتنوا.

فقال له : اني رأيت الله عز وجل قد أضلّ قوما وأحببت أن أزيدهم.

وكان فيما قاله المسيح عليه السّلام : اما انّكم ستفترقون بعدي ثلاث فرق ، فرقتين تفتري على الله الكذب وهي في النار وفرقة مع شمعون صادقة على الله وهي في الجنّة.

ورفع الله جل وعز المسيح إليه من ساعته ثم صارت مريم عليها السّلام الى ملك اليهود فسألته أن يهب لها المصلوب ففعل فدفنته فخرجت هي واختها لزيارة قبره فاذا المسيح جالس عند القبر فقالت لاختها : ما ترين الرجل الذي عند القبر؟ قالت : لا. فأمرتها أن ترجع ومضت الى المسيح عليه السّلام فأخبرها ان الله عز وجل قد رفعه إليه وأوصى بما أراد. فرجعت قريرة العين.

ثم افترقت امته ثلاث فرق ، فرقة قالوا ان الله عز وجل فينا فارتفع ، وفرقة قالوا كان ابن الله فينا فرفعه الله. وفرقة مؤمنة مع شمعون.

وروي أن الله عز وجل أظهر دعوة المسيح عليه السّلام وهو ابن ثمان وعشرين سنة وعمره ثلاث وثلاثون سنة.

وقام شمعون عليه السّلام بأمر الله جل وعز وكان يفعل فعل المسيح يبرئ الاكمه والأبرص ويحيي الموتى باذن الله ومعه الشيعة الصديقون فمن آمن به كان مؤمنا ومن جحده كان كافرا ومن شك فيه كان ضالّا.

ووجّه (شمعون) عليه السّلام بالحواريين الى البلدان يدعون الناس وكان المسيح عليه السّلام وشمعون لا يبعثان الى الروم بأحد إلّا قتل. فقال شمعون لرجلين من أصحابه : اذهبا في وقت كذا وكذا الى بلد الروم فعجلا فذهبا قبل الوقت فأخذهما الملك وحبسهما فلما

٨٤

حضر الوقت مضى شمعون في صورة متطبب فكان لا يعالج أحدا إلّا أبرأه وغلب على الملك.

ثم ان الملك رأى رؤيا فقصّها على شمعون فقال شمعون : لعلّ في حبسك قوما مظلومين ، فأمره بالنظر في أمور جميع الناس. فجلس الملك وجلس معه شمعون وأخذ ينظر في أمورهم حتى انتهى الى الرجلين فسألهما عن قصّتهما فعرّفاه انّهما رسل المسيح وانّهما يبرئان الاكمه والأبرص فقال : احضر رجلا أعمى فأحضر من لم يبصر قط فوضع شمعون يده على عينيه ثم قال لهما أنا أبرئه قبلكما ونحى شمعون يده فأبصر الرجل ثم لم يزل يري الملك وأصحابه آية بعد آية ومعجزة بعد معجزة الى أن أحيى ابنا كان للملك قد مات منذ سبع سنين فآمن الملك وجميع أهل مملكته وبه عظموا أمر المسيح وقالوا فيه ما قالوا.

فلما حضرت شمعون الوفاة أوحى الله إليه أن يستودع نور الله والحكمة وجميع مواريث الأنبياء يحيى بن زكريا ففعل وأوصى وسلّم إليه ومضى.

وقام يحيى بن زكريا عليه السّلام بأمر الله جل وتعالى وكان من حديثه أن زكريا عليه السّلام دعا ربه فقال (إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي) وأعني بني العمومة (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً).

وحملت به امّه فلما ولد عليه السّلام غذي بانهار الجنة حتى فطم ثم انزل به الى أبويه فكان يضيء البيت لنوره ثم نشأ وبعثه الله عز وجل بالحكمة واتاه زيادة على ما سلم إليه شمعون خمس كلمات وأمره يضربهن مثلا لقومه فقال يحيى بن زكريا لقومه الكلمات وانما هي :

١ ـ مثل الشرك بالله مثل رجل كان له عبد ولم يكن له مال غيره يملكه فاضطرب العبد في الأرض فأصاب مالا كثيرا فانطلق فجعل سعيه وخيره لغيره فذلك مثل الشرك بالله.

٨٥

٢ ـ ومثل الصلاة مثل رجل صار الى باب سلطان مهيب فظن ان لا يمكنه الكلام فأمكنه حتى تكلّم بحاجته فان شاء أعطاه وإن شاء حرمه.

٣ ـ ومثل الصدقة مثل رجل كان له أعداء فأرادوا قتله فقال ما ينفعكم قتلي كاتبوني ونجموا عليّ نجوما فكلما أديت نجما حللتم عني عقدة.

٤ ـ ومثل الصوم مثل رجل أخذ من السلاح ما أطاق حتى رأى انّه لا يصل إليه شيء من السلاح فكذلك الصوم جنّة.

٥ ـ ومثل القرآن مثل قوم في حصن ولهم قوم يطلبون غرّتهم فكلما جاءوهم وجدوهم حذرين في حصنهم فكذلك صاحب القرآن.

فعند ذلك ملك (أردشير بن بابكان) أربع عشرة سنة وعدّة شهور ، وفي ثماني سنين من ملكه قتل يحيى بن زكريا عليه السّلام ، وكان سبب قتله ان امرأة بغية كانت تختلف الى الملك وكانت إذا مرت بيحيى عليه السّلام تقول فلا يكفي فلانا من عنده ، فامتنعت من المصير الى الملك إلّا أن يقتل يحيى فبعث الملك الى يحيى فقتله وأتى برأسه ، وكان عند الملك في ذلك اليوم رقّاص ملهي ، فقال له : ادفعه إليّ فانّه كان يؤذيني. فدفعه إليه فذهب به الى منزله فانبعث الدم منه وأخذ يفور فكان ممّا رآه ان أفلت من الدم فلم يغرق فيه وطرحه في ناحية وجعل الناس يلقون عليه التراب والكناسة ، والدم يفور ويغلي حتى صار الموضع مثل الجبل العظيم. فلم يزل يفور حتى قتل يحيى سبعون ألفا ثم سكن.

وكان الذي تولّى قتله ولد الزنا ، وكذلك روي فيمن تولى قتل الحسين بن علي عليه السّلام من ابن مرجانة وغيره كانوا أولاد زنا.

وروي أن يحيى عليه السّلام كان عمره ثلاث وثلاثين سنة فلما أراد الله عز وجل أن يقبضه إليه أوحى إليه أن يجعل الامامة في ولد شمعون فأحضر ولد شمعون والحواريين من أصحاب عيسى عليه السّلام وأمرهم باتباع (منذر بن شمعون) والتصديق لما يأتي به.

وقام منذر بن شمعون بأمر الله جل وعز فعند الله ذلك ملك (سابور بن أردشير) ثلاثين سنة. وفي ثلاث عشر سنة من ملكه جاهد صاحب الزنادقة وقتله. وخرج (بخت

٨٦

النصر بن ملتنصر بن بخت نصر الأكبر) وملك سبعا وثمانين سنة. وفي ثلاثة عشر سنة من ملكه سلّطه الله على من في بيت المقدس من اليهود فقتل سبعين ألفا على دم يحيى ابن زكريا عليه السّلام وأخرب بيت المقدس وتفرّق اليهود في البلدان. وفي سبع وأربعين سنة من ملكه بعث الله العزير وخرج قوم من المؤمنين هاربين من القتال فنزلوا بالقرب من جوار (العزير) فلما رآهم وسمع منهم كلام الايمان اجتباهم ثم غاب عنهم يوما أو بعض يوم ورجع إليهم فوجدهم كلّهم موتى صرعى لم ينجهم فرارهم من الموت فقال انى يحيي هذه الله بعد موتها فعند ذلك ألحقه الله بهم ميتا فلبث فيهم مائة عام ثم أحياه الله قبلهم وأحياهم بحضرته فكان ينظر الى العظام والمفاصل كيف تضاف وتجتمع كلّ مفصل الى صاحبه ثم كسيت لحما فقال (العزير) عند ذلك اعلم ان الله على كلّ شيء قدير.

ثم انّ الله جل جلاله أمر الوصي (منذر بن شمعون) أن يستودع النور وميراث الأنبياء (دانيال) عليه السّلام.

وقام دانيال عليه السّلام بالأمر بعده ومضى بخت نصر ، وملك ابنه (فهر) ـ وكان كافرا خبيثا ـ ست عشر سنة وأياما فأمر أن يتّخذ له اخدود ثم جاء بدانيال وأصحابه الصديقين فطرحهم في النار فلم تقربهم ولم تحرق منهم شيئا.

فلما رأى ذلك لا يضرّهم استودعهم الجبّ وفيه سباع ضارية فلما رأتهم السباع لاذت بهم وبصبصت حولهم.

فلما رأى ذلك عذّبهم بأنواع العذاب فخلصهم الله منه وأدخلهم جنّة وضرب لهم مثلا في كتابه (أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ).

وكان أوحى الله إلى دانيال أن يوصي الى مكيخا ويستودعه الحكمة وكان ابنه ففعل ، وقد روي في خبر آخر ان (العزير ودانيال كانا قبل المسيح ويحيى بن زكريا عليه السّلام) وروي أن يحيى مضى في آخر أيام المسيح وبعده. ودفن دانيال بتستر وقد روي بالسوس.

٨٧

وقام مكيخا ابن دانيال بأمر الله واتبعه المؤمنون من بني إسرائيل وملك «بهرام بن هرمز» ثلاث سنين وثلاثة أشهر وأربعة أيام وكان زمانه زمان أمن وعدل والإمامة مكتومة. ثم ملك (بهرام بن بهرام) اثنين وعشرين سنة ، ثم ملك بعده «نرسي بن بهرام بن بهرام» ولما حضرت «مكيخا» الوفاة أوحى الله إليه أن يستودع الحكمة ابنه (انشوا) فأحضره وأوصى إليه.

فقام انشوا بن مكيخا بأمر الله تعالى واتبعه المؤمنون سرّا وملك «هرمز بن نرسي» سبع سنين ثم ملك بعده ابنه «سابور» وهو أول من عقد التاج على رأسه وبنى «السوس» و «جنديسابور» ثم حكم بعده «أردشير» أخوه سنتين.

وفي ذلك الزمان بعث الله الفتية المؤمنين (أصحاب الكهف والرقيم) الذين آمنوا بربّهم وزادهم الله هدى ، وكان من قصتهم أنّهم أصابوا كتابا من كتب المسيح عليه السّلام فأقاموا عليه بأرض الروم مستخفين وهو الرقيم الذي ذكر الله جل وعز به وكان من شأنهم في بعثهم بالورق الى المدينة ليأتيهم بطعام يأكلونه ما قصّ الله جل وعز به وكان المرسل بالورق يسمّى (مكيخا) فروي انّهم كانوا يخفون الايمان ويظهرون الكفر ويصلّون في البيع مع النصارى ويشربون الخمر ويشدون في أوساطهم بالزنانير فآتاهم الله أجرهم مرّتين على إظهارهم الكفر وإسرارهم الايمان.

وحضرت «نشوا» الوفاة فأوحى الله إليه أن يوصي الى ابنه «رشيخا» فأحضره وأوصى إليه وسلّمه ما في يديه فتسلمه ومضى صلّى الله عليه.

وقام رشيخا بن انشوا بأمر الله جل وعلا واتبعه المؤمنون في ذلك الزمان وملك (بهرام جورسابور) فملك سنتين وملك بعده (يزدجرد بن سابو) احدى وعشرين سنة وكان منزله ودار ملكه «كرمان».

فلما أراد الله أن يقبض (رشيخا) أوحى الله إليه أن يستودع نور الله وحكمته والاسم الأعظم «نسطورس» فأحضره وأوصى إليه وسلّم إليه مواريث الأنبياء.

٨٨

وقام نسطورس بن رشيخا بأمر الله جل وتعالى فاتبعه المؤمنون في ذلك الزمان وملك (بهرام جور) ستا وعشرين سنة وثلاثة أشهر وأياما وهو من ولد سام بن لاوي ثم ملك بعده (يزدجرد بن بهرام) ابنه ثمان عشر سنة وثلاثة أشهر وأياما وملك بعده ابنه «فيروز» سبع عشرة سنة.

فلما حضرت «نسطورس» الوفاة أوحى الله إليه أن يستودع النور «مرعيد» ابنه ففعل.

وقام مرعيد بن نسطورس بأمر الله جل وعز واتبعه المؤمنون وصار الملك الى «كسرى بن هرمز» فملك ثماني وثلاثين سنة فلما حضرت «مرعيد» الوفاة أوحى الله إليه أن يستودع نور الله وحكمته «بحيرا» فأحضره وأوصى إليه.

وقام بحيرا عليه السّلام بأمر الله جل وعلا واتبعه المؤمنون. وملكت في ذلك الزمان «بوران بنت كسرى» ثم ملك بعدها «يزدجرد بن كسرى» أخوها وقوي أمر الكفر في الأرض ودرس اسم الايمان ما استوجبوا العمى ونسيت الصلاة وتحيّرت الجماعة واختلفت الكلمة فعند ذلك استخلص الله تبارك وتعالى الشجرة الطيبة الطاهرة المخزونة والصفوة الخالصة والنور الزاهر سيّد الأولين والآخرين محمّدا صلّى الله عليه وآله الطاهرين.

وروي في خبر آخر أن الله جل وعز لما أراد أن يقبض يحيى بن زكريا أوحى الله إليه أن يستودع نور الله وحكمته ما بطن منها وما ظهر «منذر بن شمعون» فأحضره وأوصى إليه.

فقام منذر بن شمعون بأمر الله واتبعه المؤمنون الى أن حضرته الوفاة وأوحى الله إليه أن يستودع نور الله وحكمته ابنه «سلمه بن منذر» فأحضره وأوصى إليه وسلّم إليه.

وقام سلمة بن منذر عليه السّلام بأمر الله جل وعز واتبعه المؤمنون الى أن حضرته الوفاة فأوحى الله إليه أن يستودع نور الله وحكمته ابنه «برزة» فأحضره وأوصى إليه.

٨٩

وقام برزة بن سلمة عليه السّلام بأمر الله جل وعز واتبعه المؤمنون الى أن حضرته الوفاة فأوحى الله إليه أن يستودع ويوصي الى «أبي بن برزة» ويستودعه النور والحكمة ففعل.

وقام أبي بن برزة عليه السّلام بأمر الله جل وتقدّس وتبعه المؤمنون الى أن حضرته الوفاة فأوحى الله إليه أن يستودع نور الله وحكمته ابنه «دوس» فأحضره وسلّم إليه.

وقام دوس بن أبي عليه السّلام بأمر الله جل وعلا وتبعه المؤمنون الى أن حضرته الوفاة وأوحى الله إليه أن يستودع نور الله وحكمته «أسيد» فأحضره وأوصى إليه.

وقام أسيد بن دوس عليه السّلام بأمر الله جل وعزّ وتبعه المؤمنون الى أن حضرته الوفاة فأوحى الله إليه أن يستودع نور الله وحكمته «هوف» فأحضره وأوصى إليه.

وقام هوف عليه السّلام بأمر الله جل وعزوتبعه المؤمنون فلما حضرته الوفاة أوحى الله إليه أن يستودع ما في يديه ابنه «يحيى بن هوف» فأحضره وأوصى إليه وسلّم إليه.

وقام يحيى بن هوف ـ عليه وعلى من تقدّمه السلام من النبيّين والأوصياء والأئمة أجمعين ـ بأمر الله جل جلاله الى أن حضرته الوفاة فأوحى الله إليه أن يستودع نور الله وحكمته ومواريث الأنبياء (وأنا) وهو سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وآله وأسماه بالعبرانية والسريانية في التوراة والإنجيل والزبور وأسماء وصيّه معروفة مشهورة لا يجحدها إلّا كافر ضال غوي شقي معاند مفتتن.

انتهى هذا القسم ويتلوه سيرة سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ونشأته ومهاجرته وفتوحه ومغازيه ومحنته بقومه وعشائره من قريش ليقضي الله أمرا كان مفعولا حسبنا الله ونعم الوكيل.

٩٠

القسم الثاني

اتصال الحجج والاوصياء

من سيدنا محمد [ص] حتى ولادة المهدي

٩١
٩٢

مولد سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم

روى الخاصة والعامة ان الله جل وعلا لما أراد أن يخلق سيّدنا محمّد أمر جبرئيل عليه السّلام أن يأتيه بالقبضة البيضاء التي هي قلب الأرض ونورها فهبط جبرئيل عليه السّلام في ملائكة الفراديس عليه وعليهم السلام فقبض قبضة من موضع قبره وهي يومئذ بيضاء نقية فعجنت بماء التسنيم وزعزت حتى جعلت كالدرّة البيضاء ثم غمست في جميع أنهار الجنّة وطيف بها في السموات والأرض والبحار وعرفت الملائكة محمّدا صلّى الله عليه وآله وفضله قبل أن تعرف آدم عليه السّلام.

ولما خلق الله تعالى آدم عليه السّلام سمع من تخطيط أثناء جبهته نشيشا كنشيش الذرّ فقال سبحانك ربي ما هذا؟.

قال الله عز وجل : هذا تسبيح خاتم النبيين وسيّد المرسلين من ولدك ولو لاه ما خلقتك ولا خلقت سماء ولا أرضا ولا جنّة ولا نارا فخذه بعهدي وميثاقي على ان لا تودعه إلّا في الأصلاب الطاهرة.

قال آدم عليه السّلام : نعم الهي وسيدي قد أخذته بعهدك وميثاقك على أن لا أودعه إلّا في المطهرين من الرجال والمحصنات من النساء. وروي أن المحصنات هن الصالحات العفائف.

٩٣

قال : وكان نور رسول الله صلّى الله عليه وآله يرى في دايرة غرّة جبين آدم عليه السّلام كالشمس في دوران فلكها وكالبدر في ديجور ليله فكان آدم عليه السّلام كلّما أراد أن يتغشى حوا يتطهّر ويتطيب ويأمرها أن تفعل ذلك ويقول يا حوا تطهّري فلعلّ الله أن يستودع هذا النور المستودع ظهري عن قليل طهارة بطنك.

قال : فلم تزل حوا كذلك حتى بشّرها الله عزّ وجل بشيث أبي الأنبياء ورأس المرسلين ، وفتح لآدم وحوا نهر من الجنّة وبسط الله عليهما الرحمة واجتمعا في ذلك اليوم فحملت بشيث عليه السّلام.

وكان أبا الأنبياء عليهم السّلام فأصبح آدم عليه السّلام وذلك النور مفقود من وجهه ونظر إليه في جبهة حوا فسر بذلك وكانت حوا تزداد في كلّ يوم حسنا وكانت طير الأرض وسباع الآجام إليها يشيرون والى نورها يشتاقون.

وبقي آدم لا يقربها لطهارتها وطهارة ما في بطنها وقابلتها الملائكة كلّ يوم بالتحيات من عند ربّ العالمين وتؤتى كل يوم بماء التسنيم من الجنّة تشربه حتى خلق الله عز وجل لنور محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

فلم تزل كذلك حتى وضعت شيئا فنظرت الى نور رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقد صار بين عينيه وضرب الله بينهما وبين الملعون إبليس حجابا من النور في غلظ خمسمائة عام فلم يزل إبليس محبوسا في قرار محبسه حتى بلغ شيث سبع سنين وعمود النور بين السماء والأرض ثم لم يزل ذلك النور في الأرض ممدودا حتى أدرك شيث.

فلما أيقن آدم عليه السّلام بالموت أخذ بيد شيث وقال له يا بني ان الله أمرني أن آخذ عليك العهد والميثاق من أجل هذا النور المستودع وجهك ان لا تضعه إلّا في أطهر نساء العالمين واعلم ان ربّي جل وعز أخذ عليّ فيه قبلك عهدا غليظا.

ثم قال آدم عليه السّلام : ربّي وسيدي انّك أمرتني أن آخذ على شيث من بين ولدي جميعا عهدا من أجل هذا النور الذي في وجهه فأسألك أن تبعث إليّ ملائكة يكونون شهودا عليه.

فما استتم عليه السّلام الدعوة حتى نزل جبرئيل عليه السّلام في سبعين ألف ملك معهم حريرة بيضاء

٩٤

وقلم من أقلام الجنّة فسلّم عليه وقال له ان الله يقرأ عليك السلام ويقول لك قد آن لحبيبي محمّد أن ينتقل إلى الأصلاب والأرحام الطاهرة وهذه حريرة بيضاء وقلم لك من الجنّة تشهد لك بغير كتاب فاكتب على ابنك شيث كتابا بالعهد والامانة بشهادة هؤلاء الملائكة.

وطوى الحريرة طيّا شديدا وختمها بخاتم جبرئيل عليه السّلام وكسا (شيئا) حلتين حمراوين أضوأ من نور الشمس وفي رقة لجج الماء وزوجه الله قبل أن تزول الملائكة بحوراء اهبطها له من الجنّة تسمى (نزله) فحملت ب (أنوش) فلما حملت به سمعت الأصوات من كلّ مكان «هنيئا هنيئا لك ابشري فقد أودعك الله نور محمّد المصطفى» ، وضرب لها حجابا من النور عن أعين الناس ومكايد الشيطان (لعنه الله).

وكان إبليس لا يتوجّه في وجه من الأرض إلّا نظر الى ذلك الحجاب مضروبا عليه فلم يزل كذلك حتى وضعت (أنوش) فلما وضعته نظرت الحوراء «نزله» الى نور رسول الله صلّى الله عليه وآله بين عينيه فلما ترعرع دعاه أبوه شيث فقال له : يا أبتي أمرني ربّي أن أتخذ عليك عهدا وميثاقا ، ألا تتزوج إلّا بأطهر نساء العالمين.

فحمد الله وقبل وصيته.

وأوصى انوش الى ابنه «قينان» بمثل ذلك من وصيّة آبائه عليهم السّلام.

وأوصى قينان الى ابنه «مهائيل» وأوصى مهائيل ابنه «بردا» فتزوج بردا امرأة يقال لها «برة» فحملت ب «أخنوخ» وهو إدريس ، فلما ولد إدريس نظر أبوه الى النور يلوح بين عينيه فقال : يا بني أوصيك بهذا النور كلّ الوصاية ، فقبل وصيّته وتزوّج امرأة يقال لها «بزرعا» فولدت له «متوشلخ».

وولد لمتوشلخ لمك ، كان لمك رجلا أشقر قد أعطي قوّة وبطشا فتزوج امرأة يقال لها «قنسوس» بنت «تركاسل» فولدت له نوحا وتحول إليه نور رسول الله صلّى الله عليه وآله فلما نظر الى النور في وجهه قال : يا بني ان هذا النور هو النور الذي تتوارثه الأنبياء عليهم السّلام وهو نور المصطفى محمّد صلّى الله عليه وآله ينتقل بالعهود والمواثيق الى يوم خروجه واني آخذ عليك عهدا وميثاقا ألا تتزوّج إلّا بأطهر نساء العالمين.

٩٥

فقبل نوح وصيّة أبيه فتزوّج امرأة يقال لها (عمودة) وكانت من المؤمنات فولدت (ساما) وفيه نور محمّد صلّى الله عليه وآله فلما نظر نوح الى النور في وجه سام سلّم إليه تابوت آدم عليه السّلام وكان التابوت من الياقوت ويقال انّه من درّة بيضاء له بابان مغلقان بسلسلة من ذهب أحمر ابريز وعروتان من الزمرد وفيه العهد والديباجة وزوّجه امرأة من بنات الملوك لم يكن لها في الحسن شبه فولدت له «ارفخشد» وسلّم إليه التابوت فتزوج امرأة يقال لها «مرجانة» فحملت بغابر ، وهو هود النبيّ صلّى الله عليه. فلما وضعته سمعت نداء الأصوات من كل مكان «هذا نور محمّد صلّى الله عليه وآله تكسّر به الأصنام كلّها ويقتل به من طغى وكفر».

فخرج أجمل نوره جمالا وأشدّه زهرا فزوّج امرأة يقال لها (منساحا) فولدت له (فالغا) وولد لفالغ (شالخ) وولد لشالخ (ارغو) وولد لارغو (سروع) وولد لسروع (ناحور) وولد لناحور (تارخ) فتزوج امرأة يقال لها (أدنى بنت سمن) فولدت له (الخليل) إبراهيم صلّى الله عليه ، فلما ولد إبراهيم ضرب له علمان من نور ، علم في شرق الأرض وعلم في غربها فصارت الدنيا كلّها نورا واحدا وضرب له عمود من نور في وسط الدّنيا لا حق بأعنان السماء له اشراق وطنين تهتز الملائكة من حسن طنين ذلك العمود فقالت ربنا ما هذا؟. فنوديت : هذا نور محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

قال ورفع لإبراهيم صلّى الله عليه كما رفع لآدم من قبل ، فقال : ربي وسيدي ما رأيت لك خلقة أحسن من هذه الخليقة ولا امة من أمم الأنبياء هي أنور من هذه الامة فمن هذا؟ فنودي : هذا محمّد حبيبي أجريت ذكره قبل أن أخلق سمائي وأرضي وجعلته نبيّا وأبوك آدم مدرة بين الروح والجسد ولقد لقيته أنت في الذروة الأولى ثم أجريته في صلبك الى صلب ابنك اسماعيل.

وكان إبراهيم قد خبر سارة بخبره ان الله عز وجل سيرزقها ولدا طيّبا فطمعت في نور محمّد صلّى الله عليه وآله وكان إبراهيم صلّى الله عليه قد خبرها بعظيم نوره وبهائه فلم تزل متوقعة لذلك حتى حملت هاجر باسماعيل.

فلما حملت هاجر اغتمت سارة من ذلك غمّا شديدا فلم تزل في أشد الغم والكرب.

٩٦

فلما ولدت هاجر أدرك سارة الغيرة فأخذها ما يأخذ النساء فبكت وقالت : يا إبراهيم ما لي من بين الخلق حرمت الولد؟.

قال إبراهيم عليه السّلام : ابشري وقرّي عينا فان الله منجز وعده انّه لا يخلف الميعاد.

فلم تزل سارة كذلك حتى رزقها الله اسحاق النبيّ صلّى الله عليه ، فلما نشأ وصار رجلا أدركت إبراهيم الوفاة وجمع أولاده وهم يومئذ ستة فلما نظر الى النور في وجه اسماعيل قال له : بخ بخ هنيئا لك يا اسماعيل قد خصّك الله بنور نبيّه محمّد وأنا آخذ عليك عهدا وميثاقا.

فأخذ عليه السّلام متمسكا بذلك العهد حتى تزوّج (هالة بنت الحارث) فواقعها فولدت (قيدار) وفيه نور رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فلما نظر اسماعيل الى النور في وجه قيدار سلّم التابوت إليه وأوصاه بدين الله وسنّته وأمره أن لا يضع النور إلّا في أطهر النساء.

وكان قيدار ملك قومه وسيّدهم وكان قد أعطي سبع خصال لم يعطها من كان قبله : القنص ، والرمي ، والفروسية ، والشدّة ، والبأس ، والصراع ، والجماع ، وكان قد تزوّج مائتي امرأة من بنات اسحاق وأقام معهنّ مائتي سنة لا يحبلهن ولا يلدن. فبينما هو ذات يوم وقد جمع قنصه إذ تلقته الوحوش والسباع والطير من كلّ مكان فنادته بلسان الآدميين : يا قيدار قد مضى عمرك وانما همّتك اللهو ولذّة الدّنيا فما آن لك أن تهتم بنور محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم أين تضعه ولما ذا استودعته.

فرجع قيدار الى منزله مغموما مكروبا وحلف بإله إبراهيم أن لا يطعم طعاما ولا يقرب امرأة أبدا حتى يأتيه بيان ما سمع على لسان الوحش والطير.

فلم يزل قاعدا على فلاة من الأرض إذ بعث الله إليه ملك الهواء في صورة رجل من أهل الأرض ، لم ير قيدار أحسن وجها منه وزيا وخلقا فهبط عليه السّلام فسلّم فرد عليه السلام وقعد مع قيدار وقال : يا قيدار انّك قد زيّنت بالقوّة والبأس وملكت البلاد ونقل إليك نور محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وانّه كاين لك ولد من غير نسل اسحاق عليه السّلام فلو انّك نذرت نذورا وقربت لإله إبراهيم قربانا وسألته أن يبيّن لك من أين لك ذلك التزويج لكان خيرا من التواني.

ثم تركه الملك وقد عرج الى مقامه فقام قيدار من مقامه وساعته وكانت له رحمة

٩٧

وجمال وبهاء وكمال ، وقرب يومئذ سبعمائة كبش أقرن من الكباش التي ورثها من إبراهيم عليه السّلام وكان كلّما ذبح كبشا جاءت نار من السماء حمراء لا دخان لها في سلاسل بيض فتأخذ ذلك القربان فتصعد به الى السماء.

فلم يزل قيدار يذبح ويقرب حتى نادى مناد : حسبك يا قيدار قد استجاب الله منك دعوتك وقبل قربانك انطلق الآن من فورك هذا الى شجرة الوعد فقم في أصلها وانته الى ما تؤمر به في المنام فافعله.

فأقبل قيدار حتى أتى الشجرة فقام في أصلها فأتاه آت في المنام فقال له : قيدار ان هذا النور الذي في ظهرك هو النور الذي فتح الله به الأبواب كلّها وخلق الدّنيا طرا من أجله واعلم ان الله جلّ اسمه لم يكن ليخزنه إلّا في الفتيات العربيات فابتغ لنفسك امرأة طاهرة من العرب وليكن اسمها (غاضرة).

فوثب قيدار فرحا فرجع الى منزله وبعث رسلا يطلبون له امرأة من العرب اسمها الغاضرة ولم يرض برسله حتى ركب جواده وأخذ السيف معه شاهرا له وجعل يستقرئ أحياء العرب وينزل على قوم ويرحل الى آخرين حتى وقع على ملك الحرمين وكان من ولد ذهل بن عامر بن يعرب بن قحطان وله بنت يقال لها الغاضرة وكانت من أجمل نساء العالمين فتزوّجها وحملها الى أرضه فواقعها فحملت بابنه (حمل) واصبح قيدار والنور مفقود من وجهه ونظر إليه في وجه الغاضرة فسر بذلك سرورا شديدا.

وكان عنده تابوت آدم عليه السّلام وكان ولد اسحاق ينازعونه في التابوت ليأخذوه وكانوا يقولون ان النبوّة قد انتقلت عنكم فليس لكم إلّا هذا النور الواحد فاعطنا التابوت.

فكان يمتنع قيدار عليهم ويقول انّه وصيّة أبي اسماعيل ولا أعطيه أحدا من العالمين.

فذهب قيدار ذات يوم ليفتح التابوت فعسر فتحه عليه وناداه مناد من الهواء : مهلا يا قيدار وليس لك الى فتح التابوت سبيل. انّك وصيّ نبيّ ولا يفتح هذا التابوت إلّا نبي فادفعه الى ابن عمّك يعقوب إسرائيل الله.

فلما سمع ذلك أقبل الى أهله وهي الغاضرة فقال لها انظري ان أنت ولدت غلاما فسمّيه حملا فأني أرجو أن يكون نسمة طيبة.

٩٨

وحمل قيدار التابوت على عاتقه وخرج يريد ارض كنعان وكان يعقوب عليه السّلام بها فأقبل يسير حتى قرب من البلاد فصر التابوت صريرا سمعه يعقوب فقال لبنيه أقسم بالله حقّا لقد جاءكم قيدار فقوموا نحوه.

فقام يعقوب وأولاده جميعا فلما نظر يعقوب الى قيدار استعبر باكيا وقال ما لي أرى لونك متغيّرا وقوّتك ناقصة؟ أرهقك عدو أم أتيت معصية؟.

قال : ما أرهقني عدوّ ولا أتيت معصية ولكن نقل من ظهري نور محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم فلذلك تغيّر لوني وضعف ركني.

فقال : بخ بخ شرفا لك بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يكن الله عز وجل ليخزنه إلّا في العربيات الطاهرات يا قيدار فانّي مبشّرك ببشارة.

قال : وما هي؟.

قال : اعلم ان الغاضرة قد ولدت في هذه الليلة الماضية غلاما.

قال قيدار : ما علمك يا ابن عمي وأنت بأرض الشام وهي بأرض الحرم من تهامة.

قال يعقوب : لأني رأيت أبواب السماء قد فتحت ورأيت نورا كالقمر الممدود بين السماء والأرض ورأيت الملائكة ينزلون من السماء بالبركات والرحمة فعلمت ان ذلك من أجل محمّد صلّى الله عليه وآله.

قال : فسلّم قيدار التابوت الى يعقوب عليه السّلام ورجع الى أهله فوجدها قد وضعت حملا فلما ترعرع أخذ بيده وانطلق به يريد مكّة والمقام وموضع البيت الحرام.

فلما صار الى جبل (ثبير) تلقاه ملك الموت (صلّى الله عليه) في صورة آدمي فقال له : الى أين يا قيدار؟.

قال : انطلق بابني هذا فأريه مكّة والمقام وموضع البيت الحرام.

قال : وفّقك الله ولكن عندي ضحية فادن الي.

فدنا منه ليساره فقبض روحه من اذنه فخرّ ميتا بين يدي ابنه حمل.

قال : فغضب حمل من ذلك غضبا شديدا وقال : يا عبد الله فتكت بأبي.

قال له ملك الموت عليه السّلام : انظر الى أبيك أميت هو أم حي؟

٩٩

قال : فانكبّ حمل على أبيه ليعرف حاله فوجده ميتا ، وعرج ملك الموت الى السماء فرفع حمل رأسه فلم ير ديارا ولا مجيبا فعلم انّه كان ملكا ، فقعد عند رأسه يبكي فقيّض الله له قوما من ولد اسحاق فغسلوه وكفّنوه وحنّطوه ودفن في جبل ثبير.

وبقي حمل وحيدا فكلاه الله عز وجل حتى بلغ ذكره في العزّ والشرف فتزوّج امرأة من قومه يقال لها (حريزة) فحملت بابنه (نبت) عليه السّلام وولد لنبت ولد هو «سلامان» وولد لسلامان «الهميسع» وولد للهميسع «اليسع» وولد لليسع «أدد» وانما سمّي أدد لأنّه كان ماد الصوت طويل العزّ والشرف.

وولد لأدد (أد) ، وولد لأد عدنان وإنمّا سمّي عدنان لأن أعين الأحياء كلّها كانت تنظر إليه وقالوا ان تركنا هذا الغلام حتى يدرك مدرك الرجال ليخرجن من ظهره من يسود الناس كلّهم أجمعين ، فأرادوا قتله فوكّل الله تعالى به من يحفظه فلم يقدروا على حيلة فيه فنشأ أحسن أهل زمانه خلقا وخلقا فولد له (معد) وإنمّا سمّي معدا لأنّه كان صاحب حروب وغارات على يهود بني إسرائيل ولم يواقع أحدا إلّا رجع منصورا مظفرا فجمع من المال ما لم يجمعه أحد في زمانه وولد له (نزار) ، سمّي نزارا لأن معدا نظر الى نور رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في وجهه فقرب له قربانا عظيما وقال «لقد استقللت هذا القربان» فمن أجل ذلك سمّي نزارا.

فتزوج امرأة من قومه يقال لها (سعيدة) فولدت له (مضر) وإنمّا سمّي مضر لأنّه أخذ بالقلوب فلم يره أحد إلّا أحبه وكان صاحب قنص وصيد وكان كلّ رجل منهم يأخذ على ابنه كتاب عهد ألّا يتزوّج إلّا أطهر النساء في زمانه وكانت الكتب بالعهود تعلّق في البيت الحرام فلم تزل معلّقة من لدن اسماعيل (صلّى الله عليه) الى أيام الفيل. وكان أوّل من بدّلها وغيّرها وزاد فيها ونقص منها عمر بن اللحي صاحب استخراج الأصنام من الكعبة فلم يزل ذلك حتى تزوّج امرأة من قومه يقال لها (خزيمة) وتدعى أم حكيم فأولدها (الياس) وإنمّا سمّي الياس لأنّه جاء على يأس وانقطاع وكان يدعى كريم قومه وسيّدهم ويسمع من ظهره أحيانا دوي نور رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فلم يزل كذلك حتى تزوّج امرأة يقال لها «فرعة» فولدت له «مدركة» وولد لمدركة «خزيمة» وإنمّا سمّي خزيمة

١٠٠