إثبات الوصية للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

أبو الحسن علي بن الحسين بن علي الهذلي المسعودي

إثبات الوصية للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

المؤلف:

أبو الحسن علي بن الحسين بن علي الهذلي المسعودي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
الطبعة: ٣
ISBN: 964-438-486-5
الصفحات: ٢٧٩

فصار اللعين ضدّا لآدم عليه السّلام وولده من ذلك الوقت.

وروي في قول الله عز وجل (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) قال : عهد إليه في النبي والأئمة (صلّى الله عليهم) فلم يكن له منهم عزيمة أي قوة. وانما سموا اولو العزم لأن الله (جل ذكره) لما عهد إليهم في السيادة أجمع عزمهم ان ذلك كذلك.

وقد هبط آدم على الصفا وحوّاء على المروة ، فاشتق للجبلين هذان الاسمان ، وكان جبرئيل يأتيهما بأرزاقهما من الجنة ثم احتبس الرزق عنهما فاشتد جوعهما فنزلا الى الوادي بين الصفا والمروة فالتقيا وأكلا من ثمره.

وروي في خبر آخر أمر الحنطة والطحين والعجين والخبز ؛ قال : ولم يكن آدم يقارب حوا. وقال هو لها : انما فرّق بيننا في الهبوط لأنك قد حرمت عليّ ، فمكثا ما شاء الله على تلك الحال ثم هبط جبرئيل عليه السّلام.

وكان من خبر حج آدم والجمع بينه وبين حوا ما قص به ، ومن مولد هابيل وقابيل ونشوئهما ، فكان هابيل راعي غنم وقابيل حراثا ، فقال لهما آدم عليه السّلام : اني احب ان تتقربا الى الله ـ عز ذكره ـ بقربان فلعله ان يتقبل منكما فتقرا بذلك عيني ، فانطلق هابيل الى اكبر كبش في غنمه فقرّبه ، وانطلق قابيل الى شر ما كان له من الطعام وأنقصه فقرّبه ، فتقبل الله قربان هابيل ولم يتقبل قربان قابيل ، فحسد أخاه واظهر عداوته ثم أخذ حجرا ففض رأس أخيه هابيل به حتى قتله.

وكان من قصة الغراب والدفن ما قص الله به. ورجع قابيل الى آدم ، فلما لم ير معه أخاه هابيل قال له : اين تركت أخاك؟

قال له قابيل : أرسلتني راعيا لابنك؟

قال له : انطلق معي الى الموضع الذي فقدته فيه ، فلما بلغ المكان ورأى آدم عليه السّلام أثر قتل هابيل اشتد حزنه عليه ولعن قابيل ونودي من السماء : لعنت كما قتلت أخاك ، ولعن آدم الأرض كما بلعت دم هابيل ، فانبعثت الأرض بعد ذلك دما وصار يجمد عليها ويجف.

وانصرف آدم حزينا فبكى على هابيل أربعين يوما ، فأوحى الله إليه : اني أهب لك

٢١

مكانه غلاما أجعله خليفتك ووارث علمك ، فولد له شيث وهو هبة الله ، فأوحى الله إليه ان سمه في اليوم السابع ، فجرت سنة ، فلما شب وكبر أوحى الله إليه اني متوفيك ورافعك إليّ يوم كذا وكذا فأوص الى خير ولدك هبة الله وسلم إليه الاسم الأعظم واجعل العلم في تابوت وسلمه إليه فاني آليت الا اخلي أرضي من عالم أجعله حجة لي على خلقي ، فجمع آدم عليه السّلام ولده الرجال والنساء ثم قال : يا ولدي ان الله عز وجل اوحى إليّ انه رافعي إليه ، وأمرني ان اوصي الى خير ولدي هبة الله فانه قد اختاره لي ولكم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا أمره فانه وصيي وخليفتي. فقالوا : سمعنا وأطعنا.

فأمر بتابوت فعمل وجعل فيه العلم والأسماء والوصية ثم دفعه الى هبة الله وقال له : انظر يا هبة الله فاذا انا مت فغسلني وكفّني وصلّ عليّ وأدخلني حفرتي في تابوت تتخذه لي. فاذا حضرت وفاتك وأحسست بذلك من نفسك فأوص الى خير ولدك فان الله لا يدع الخلق بغير حجة عالم منا أهل البيت وقد جعلتك حجة الله على خلقه فلا تخرج من الدنيا حتى تدع لله حجة ووصيا من بعدك على خلقه وتسلم إليه التابوت وما فيه كما سلمته إليك ، وأعلمه أنه سيكون نبيا واسمه نوح يكون في الطوفان والغرق فمن أدرك فلكه وركب معه فيه نجا ومن تخلف عنه هلك. وأوص وصيك أن يحتفظ بالتابوت فاذا حضرت وفاته ان يوصي الى خير ولده وأكرمهم له وأفضلهم عنده ، وليوص من بعده الى من بعده. واحذر يا هبة الله الملعون قابيل وولده ولا تناكحوهم ولا تخالطوهم.

قال ثم اعتلّ آدم عليه السّلام فدعا (هبة الله) وقال له قد اشتهيت من فواكه الجنة.

وروي انه قال له : امض الى الجنة فجئني منها بعنب.

فانطلق هبة الله لطلب ما أمره به ، فاستقبله جبرئيل عليه السّلام ومعه الملائكة فقال : اين تذهب؟

فقال : اشتهى آدم فاكهة فأمرني ان اطلبها له.

فقال جبرئيل : أعظم الله اجرك فيه. ان اباك آدم قبضه الله جل وعز إليه. ارجع.

فرجع فوجده قد قبض (صلّى الله عليه وسلّم) ، فغسله والملائكة يعينونه ، وكفّنه وكان جبرئيل عليه السّلام قد هبط من الجنة بكفنه وحنوطه.

٢٢

فلما وضع للصلاة عليه قال هبة الله عليه السّلام : تقدم يا روح الله فصل عليه.

قال جبرئيل : بل تقدم أنت فصلّ عليه فانك قد قمت مقام من امر الله له بالسجود.

فلما سمع هبة الله ذلك تقدم فصلى عليه.

وأوحى إليه أن كبّر خمسا وسبعين تكبيرة ، بعدد صفوف الملائكة الذين صلوا عليه.

ودفن بمكة في جبل ابي قبيس.

ثم ان نوحا عليه السّلام حمل بعد الطوفان عظامه في تابوت فدفنه في ظاهر الكوفة. فقبره هناك مع قبر نوح في الغري ، وتابوت أمير المؤمنين عليه السّلام فوق تابوتهما (صلّى الله عليهم) في موضع واحد.

وكان عمره الف سنة ؛ وهب لداود منها سبعين سنة فصار عمره بعد ذلك تسعمائة وثلاثين سنة ، وكانت كنيته ـ فيما روي عن الصادقين عليهم السّلام ـ ابا محمد.

وروي : انه لما كان اليوم الذي اخبره الله عز وجل أنه متوفيه فيه تهيأ آدم عليه السّلام للموت وأذعن به ، فهبط عليه ملك الموت (صلى الله عليه).

فقال له : دعني حتى أتشهد وأثني على ربي خيرا بما صنع لدي قبل ان تقبض روحي. فقال له ملك الموت : افعل.

فقال : أشهد ان لا إله الا الله وحده لا شريك له وأشهد أني عبد الله وخليفته في أرضه ابتداني باحسانه وخلقني بيده ولم يخلق بيده سواي ونفخ فيّ من روحه ثم أجمل صورتي ولم يخلق على خلقي أحدا مثلي ثم أسجد لي ملائكته وعلمني الاسماء كلها ثم اسكنني جنته ولم يكن يجعلها دار قرار ولا منزل شيطان وانما خلقني ليسكنني الأرض الذي أراد من التقدير والتدبير وقدر ذلك كله عليّ قبل أن يخلقني ، فمضت قدرته فيّ وقضاؤه ، ونافذ أمره ثم نهاني عن أكل الشجرة فعصيته ، فأكلت منها ، فأقالني عثرتي وصفح لي عن جرمي ، فله الحمد على جميع نعمه حمدا يكمل به رضاه عني.

ثم قبض ملك الموت عليه السّلام روحه (صلى الله عليه) ، فصار التشهد عند الموت سنة في ولده.

٢٣

فلما أفضى الأمر الى هبة الله عليه السّلام ـ وهو شيث بالعبرانية ـ قام في ولد أبيه بطاعة الله عز وجل وبما أوصاه به أبوه. وزاده الله فيما كان اهبطه الى آدم من الصحف خمسين صحيفة وشرّفه بالحوراء التي أهبطها إليه من الجنة.

واعتزل قابيل وولده. وبنى الكعبة بالحجارة ، وكانت قبل ذلك مكانها الحية التي انزلت من الجنة وقص خبرها ، وكان قابيل وولده في اعلى الجبل ، وهبة الله وولده وشيعته في أسفله ، فنزل وجاء الى هبة الله عليه السّلام فقال له : قد علمت انك صاحب الأمر وان اباك قد اوصى إليك واستودعك العلم وإن نطقت أو اظهرت شيئا من ذلك ألحقتك بأخيك هابيل فوضع هبة الله يده على فيه وأمسك ، فلزمت الأوصياء التقية والإمساك الى ان يقوم قائم الحق.

وأمر هبة الله ولده والشيعة بالحضور عنده في يوم من السنة ، وكانوا اذا حضروا فتح التابوت ونظر فيه وجعل ذلك يوم عيد لهم.

وانما كان نظره في التابوت توقعا لقيام القائم نوح عليه السّلام.

وكان عمر هبة الله تسعمائة سنة.

وروي ان ابليس اتى قابيل فقال له انما قبل قربان اخيك هابيل لأنه كان يعبد النار فانصب أنت أيضا نارا تكون لك ولعقبك ، فبنى بيت نار فهو أول من نصب النيران وعبدها وسنّ الكفر في ولد آدم ، وكان الملك والتدبير والامر والنهي له ، وهبة الله صامت مغمور وهو صاحب الحق.

فلما حضرت وفاته اوحى الله إليه ان يستودع التابوت والاسم الأعظم ابنه ريسان بن نزله وهي الحورية التي اهبطت له من الجنة اسمها نزله.

وروي ان اسم ريسان أنوش ، فأخبره وسلم إليه التابوت ومواريث الأنبياء وأمره بمثل ما كان آدم عليه السّلام اوصى به إليه ، وقال له : إن أدركت نبوة نوح فسلم إليه العلم وما في يديك.

واستخفت الامامة وجميع المؤمنين خوفا من قابيل وولده يتوقعون من قيام نوح عليه السّلام.

ومضى هبة الله واستخلف ريسان.

٢٤

قام ريسان (ابن نزلة الحورية) واسمه أنوش عليه السّلام بأمر الله (جل وعلا) ومات اللعين قابيل فأفضى الملك الى ابنه طهمورث فملك مائتين وستا وثلاثين سنة ووضع في زمانه لباس الشعر والصوف واتخذ الدواب والآلات والانعام.

واستخفى أنوش الأمر ومن اتبعه من المؤمنين. فمن آمن به كان مؤمنا ، ومن جحده كان كافرا ، ومن تخلف عنه كان ضالا.

فلما أراد الله ان يقبض انوش اوحى الله إليه ان يستودع نور الله وحكمته والتابوت والاسم الأعظم والعلم ابنه امحوق واسمه أيضا قينان فأحضره وجمع ثقات شيعته وأوصى إليه وسلم جميع ما أمر بتسليمه إليه وأوصاه بما احتاج الى توصيته به وذلك كله في خفاء وتقية وستر من طهمورث بن قابيل.

وقبض الله ـ جل وعز ـ انوش ، وقام من بعده بالامر امحوق وهو قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام.

فقام قينان بامر الله جل وعز وظهر ملك عوج بن عناق من ولد قابيل في ذلك الزمان ، وطغى وأفسد في الأرض ، واشتد امر الشيعة وغلظت عليهم المحنة.

فلما حضرت وفاة قينان اوحى الله إليه ان يستودع نور الله وحكمته والتابوت والعلم ابنه الحيلث ، فأحضره وجمع ثقات شيعته واوصى إليه وسلم جميع مواريث الأنبياء والاسم الأعظم إليه.

فلما قبض الله تبارك وتعالى قينان عليه السّلام قام الحيلث بن قينان عليه السّلام بامر الله مستخفيا من طهمورث ومن عوج بن عناق واولادهم واصحابهم لكثرتهم وقوة امرهم وقلة المؤمنين على ما عهد إليه ابوه الى ان حضرته الوفاة فاوحى إليه ان استودع الاسم الأعظم والحكمة والتابوت غنميشا ، فأحضره واوصى إليه بمثل ما كان اوصى به وسلم إليه ما في يده من التابوت والعلم ومضى (صلى الله عليه).

٢٥

فقام غنميشا بامر الله عز وجل على منهاج آبائه فلما حضرته الوفاة اوحى الله إليه ان استودع نور الحكمة وما في يديك من التابوت والاسم الأعظم اخنوخ وهو إدريس عليه السلام وهو هرمس ، فأحضره واوصى إليه وسلم إليه العلم والتابوت.

فلما قبضه الله جل وعلا قام بالامر بعده إدريس وهو هرمس وهو اخنوخ عليه السّلام بامر الله جل وعز وجمع الله له علم الماضين وزاده ثلاثين صحيفة وهو قوله عز وجل ان هذا لفي الصحف الاولى صحف ابراهيم وموسى ، يعني الصحف التي انزلت على هبة الله وإدريس.

وكان اخنوخ جسيما وسيما عظيم الخلق. وسمي إدريس لكثرة دراسته في الكتب. وهو أول من قرأ وكتب وسن سنن الاسلام بعد هبة الله وأول من خاط الثياب وكان اللباس قبل ذلك الجلود.

فعند ذلك وفي ايامه ملك بيوراسب من ولد قابيل الف سنة وكان ولد قابيل الفراعنة الجبابرة لا يملكون ولا يقعدون على ترتيب الابن وابن الابن كما يملك هؤلاء من ولد هبة الله فصار رسما لمن غلب من الظالمين الطغاة بعدهم يملك الرجل ثم يملك أخوه وابن اخيه وابن عمه والأبعد دون الولد وولد الولد.

وكان بيوراسب أول من احدث في ملكه الفراسة فمن هناك سمي كتاب الفراسة وكان قد وقع إليه كلام من كلام اذب فاتخذه سحرا وأحاله عن معناه. وكان بيوراسب يعمل السحر بذلك الكلام وطغى في الأرض وكان اذا أراد شيئا من مملكته نفخ بقصبة كانت له من ذهب فيأتيه بنفخته كلما يريد فمن هناك تنفخ اليهود بالشبور. فركب الجبار (لعنه الله) ذات يوم الى نزهة فمر برياض لرجال من شيعة إدريس عليه السّلام حسنة خضرة فسأل عنها فقيل انها لرجل من الرافضة وكان من لا يتبعه على كفره ويرفضه يسمى رافضيا. فدعا به وقال له أتبيعني هذه الأرض فقال له عيالي أحوج إليها منك؟ فغضب وانصرف عنه. فشاور في أمره امرأة كانت له وأخبرها بقوله فاشارت إليه بقتله فابى قتله الا بحجة عليه.

٢٦

فقالت له : فانا أحتال لك في قتله ، ائت بقوم يشهدون عندك انهم قد سمعوه قد برئ منك ومن دينك. ففعل وقتل ذلك المؤمن وأخذ ضيعته.

فغضب الله ـ جل وعز ـ للمؤمن وأوحى الى إدريس أن ائت هذا الجبار العنيد فقل له : ما رضيت إن قتلت عبدي المؤمن حتى أخذت ضيعته وأفقرت عياله ، أما وعزّتي لأنتقمن له منك ولأسلبنك ملكك ولأخربن مدينتك ولأطعمنّ الكلاب لحم امرأتك.

فقال الجبار لإدريس : اخرج عني وأرح نفسك.

ثم ان الملك اخبر امرأته بنبوة إدريس وما قال له.

فقالت له : لا يهولك أمره فاني سأبعث إليه بمن يقتله اغتيالا فجمع إدريس عليه السّلام شيعته فأخبرهم بما أرسل به من الرسالة الى الجبار وما قالته له امرأته ، فأشفقوا عليه.

ثم ان امرأة الجبار بعثت بأربعين رجلا ليقتلوا إدريس فقصدوا مجلسه الذي كان يجلس فيه وكان منزله مسجد السهلة بظاهر الكوفة فوجدوه قد تنحى عن القرية مع نفر من اصحابه. فلما كان في السحر ناجى ربه وسأله ان لا يمطر السماء على اهل القرية ولا ما حولها حتى يسأله ذلك.

فاوحى الله إليه قد اجبتك.

فأخبر شيعته بذلك وأمرهم بالخروج من تلك النواحي ، وكانت عدتهم عشرين رجلا ، فتفرقوا في اقصى القرى والسواد. وصار إدريس الى كهف جبل شاهق ووكل الله به ملكا باستطعامه في كل ليلة وسلب الله ذلك الجبار ملكه وخرب مدينته واطعم الكلاب لحم امرأته. ومكث إدريس غائبا عشرين سنة وأمسكت السماء من المطر ، والأرض عن النبات فقحط الناس واشتد البلاء حتى هلك خلق منهم جوعا ، واعلموا ان ذلك بدعوة إدريس عليه السّلام فتضرعوا وسألوا الله العفو والتوبة. فاوحى الله الرحيم ـ جل وتعالى ـ الى إدريس انهم قد سألوني وقد رحمتهم فاسألني حتى أمطر السماء وأنبت الأرض.

وابى إدريس ذلك. فاوحى الله إليه : لم تسألني فأجبتك وأنا أسألك ان لم تسألني. فابى ان يسأله.

فامر الله الملك ان يحبس عنه الرزق واوحى إليه ان اهبط من الجبل.

٢٧

فهبط وقد اشتد جوعه فرأى دخانا فقصده فوجد عجوزا كبيرة وقد خبزت قرصين على مقلي. فقال لها : ايتها المرأة اطعميني فاني مجهود بالجوع.

فقالت له : هما قرصان احدهما لي والآخر لولدي فان اطعمتك قرصي تلفت وان أطعمتك قرص ابني هلك.

فقال لها : ابنك صغير ونصف قرص يكفيه.

فأجابته. فأخذت القرص فكسرته نصفين ودفعت إليه.

فلما رأى الصبي انّه شورك في قرصه تضوّر واضطرب ومات.

فقالت امّه : يا عبد الله قتلت ولدي.

فقال لها إدريس : أنا أحييه بإذن الله.

فأخذ بعضدي الصبي ثم قال : أيتها الروح الخارجة ارجعي الى بدن هذا الغلام بإذن الله.

فلما سمعت المرأة كلامه ونظرت الى ابنها قد تحرّك وعاش قالت : اشهد إنّك إدريس وخرجت تنادي بأعلى صوتها في القرية : ابشروا بالفرج.

وجلس إدريس على تل من مدينة الملك الجبّار فاجتمع إليه نفر من شيعته فقالوا له : ما رحمتنا هذه العشرين سنة قد مسّنا الضرّ والجوع والجهد ادع الله لنا فقال : لا أدعو حتى يأتيني الجبّار وجميع أهل مملكته مشاة حفاة.

واتصل الخبر بالملك ، فبعث بجماعة وأمرهم باحضاره فلما قربوا منه دعا عليهم فماتوا ثم بعث إليه بخمسمائة رجل فدعا عليهم فماتوا فصار أهل المدينة إلى الجبّار فقالوا : أيّها الملك إن إدريس نبيّ مستجاب الدعوة ولو دعا على الخلق لماتوا. وسألوه المصير إليه.

فصار إليه هو وأهل مملكته مشاة حفاة فوقفوا بين يديه خاضعين طالبين ، فقال إدريس : اما الآن فنعم.

فسأل الله أن يمطرهم ، فأظللهم سحابة من ساعتهم حتى ظنّوا انّه الغرق. فلم يزل إدريس يدبّر أمر الله وعلمه وحكمته حتى ما ظهر من ذلك وما بطن حتى أراد الله

٢٨

عزّ وجلّ ان يرفعه إليه فأوحى إليه أن يستودع نور الله والحكمة والتابوت ابنه برد فأحضره وأوصى إليه وسلّم إليه مواريث الأنبياء ورفعه الله جلّ وعزّ إليه وكانت سنه في الوقت الذي رفع فيه ثلاثمائة وستا وخمسين سنه لما أفضى الأمر الى برد بن اخنوخ.

وقام برد بن أخنوخ عليه السّلام بأمر الله عز وجل فلم يزل قائما يحفظ ما استودع والمؤمنون معه على حال تقيّة واستخفاء إلى أن حضرت وفاته فأوحى الله إلى برد أن أوص إلى ابنك اخنوخ فأوصى إليه وأمره بمثل ما كان أوصى به ومضى.

فقام أخنوخ بن برد بن أخنوخ عليهم السّلام بأمر الله عز وجل إلى أن حضرته الوفاة على سبيل من تقدّمه من آبائه عليهم السّلام.

فلما قضى وتوفي قام بالأمر ابنه متوشلخ بن أخنوخ عليهما السّلام بأمر الله عز وجل ولم يزل يدين ويحفظ ما استودع سرا وخفاء على حال غيبة من الجبابرة من أولاد قابيل وأصحابه على منهاج آبائه عليهم السّلام يهدي إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم فلما أراد الله قبضه أوحى إليه ان أوص إلى ابنك لمك وهو ارفخشد ففعل ومضى.

وقام لمك وهو ارفخشد بن متوشلخ عليه السّلام بأمر الله جلّ وعلا مقام آبائه (صلّى الله عليهم) فلما أراد الله أن يقبضه اختار جل وعز لإظهار نبوّته ورسالته القائم المنتظر ابنه نوحا عليه السّلام فأمر لمك بتسليم الأمر إليه والاسم الأعظم والوصية والتابوت وجميع علوم الأنبياء فأحضره وأوصى إليه وسلّم إليه جميع مواريث الأنبياء عليهم السّلام.

فلما مضى لمك عليه السّلام قام نوح بن ارفخشد بأمر الله تبارك وتعالى وهو أوّل ذوي العزم من الرسل وأظهر نبوّته وأمره الله جلّ وعلا بإظهار الدعوة فأقبل نوح عليه السّلام يدعو قومه والملك في بني راسب وأهل مملكته عوج بن عناق وكان دعاؤه إيّاهم في أوّل أمره سرّا

٢٩

فلم يجيبوه فلم يزل يدعوهم تسعمائة وخمسين سنة كلّما مضى منهم قرن تبعهم قرن على ملّة آبائهم وكان اسمه عبد الغفّار وإنمّا سمّي نوحا لأنّه كان ينوح على قومه إذا كذّبوه وكان الذي آمن به العقب من ولد هبة الله والذين كذّبوه العقب من ولد قابيل وعوج ابن عناق بني عمّهم مع كثرتهم وعظم أمرهم وسلطانهم في الأرض وكانوا إذا دعاهم يقولون له : أنؤمن لك واتبعك الأرذلون؟ يعنون العقب من ولد شيث ، يعيّرونهم بالفقر والفاقة وأنّه لا مال لهم ولا عزّ ولا سلطان في الأرض.

وكانت شريعة نوح عليه السّلام التوحيد وخلع الانداد والفطرة والصيام والصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وبعث بعد أن صارت ثمانمائة وخمسين سنة يدعوهم فلا يزيدهم دعاؤه إلّا فرارا منه وطغيانا. فلمّا طال عليه تكذيب قومه وطال على شيعته الأمد صاروا إليه فقالوا له : يا نبي الله قد كنّا نتوقع الفرج بظهورك فنحن على مثل تلك الحال فادع الله لنا أن يفرّج عنّا فناجى نوح ربّه.

فأوحى الله إليه : مر شيعتك فليأكلوا التمر ويغرسوا النوى فاذا صار نخلا فرّجت عنكم.

فأمرهم بذلك.

فارتد من أصحابه الثلث وبقي الثلثان صابرين فأكلوا التمر وغرسوا النوى وجلسوا يحرسون نباته وحمله حتى إذا حمل بعد سنين كثيرة أخذوا من ثمره وصاروا به الى نوح مستبشرين.

فناجى الله في ذلك.

فأوحى الله إليه : مرهم فليأكلوا من هذا التمر وليغرسوا النوى فإذا أنبتت وأثمر فرّجت عنهم.

فأخبرهم بذلك فارتد الثلثان وبقي الثلث صابرين.

فأكلوا تلك الثمرة وغرسوا النوى ولم يزالوا يحرسونه عدّة من السنين حتى أثمر ثم أتوا نوحا عليه السّلام فقالوا له يا رسول الله قد تفانينا وتهافتنا فلم يبق منا إلّا القليل وقد أدركت

٣٠

هذه الثمرة من الغرس الثالث.

فنادى نوح ربّه جل وعلا وسأله وتضرّع إليه وقال : يا ربّ لم يبق من شيعتي الا القليل وان لم أرجع إليهم بما فيه فرجهم تخوفت عليهم.

فأوحى الله إليه (أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) وأمره أن يجعل جذوع النخل الأول عرض السفينة والثانية جوانبها والثالثة سقوفها.

فروي انّ قومه مروا عليه وعلى شيعته وقد غرسوا النوى فجعلوا يضحكون ويقولون قد قعد (فلما قطع النخل ونحته جعلوا يمرّون ويضحكون ويقولون قد) قعد نجارا فلمّا الف السفينة جعلوا يقولون قد جلس في البر ملّاحا.

وروي انّه عملها في دورين وهما ثمانون سنة وكان طولها ألف ومائتي ذراع وعرضها مائة ذراع وارتفاعها ثمانون ذراعا وكان بنيتها في المكان الذي هو مسجد الكوفة.

وأوحى الله جل وعز إليه (لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) فعند ذلك دعا عليهم فقال (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) فروي ان الله تعالى أعقم النساء قبل الغرق أربعين سنة فلم يغرق إلّا الرجال البالغين.

وأوحى الله إليه ان احمل في السفينة من كلّ زوجين اثنين. فحمل كلّ شيء إلّا ولد الزنا.

وكان ميعاده في إهلاك القوم أن يفور التنور ففار فجاءت ابنته فقالت ان التنور قد فار. فقام عليه السّلام الى الماء فختمه فوقف حتى أدخل في السفينة ما أراد إدخاله ثم جاء الى الخاتم ففضّه وكشف الطبق ففار الماء وأرسل الله إليهم المطر وزعموا ان التنور كان يفور وفار الفرات وفاضت العيون والأودية (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) ... (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا) فأجابه بما قص الله في كتابه.

وروي ان فرش الأنبياء عليهم السّلام لا توطأ وان الله جلّ وعلا نفى عنه ان يكون ابنه لما لم يتبعه فقال له انّه ليس من أهلك انّه عمل غير صالح ، فأغرق الله الكفّار وأنجى المؤمنين الذين كانوا في السفينة.

٣١

وروي ان السفينة طافت بالبيت سبعة أشواط وسعت بين الصفا والمروة ثم استوت على الجودي في اليوم السابع. والجودي فرات الكوفة الموضع الذي منه بدأت فصار الطواف حول البيت سنة.

وإنمّا سمّى الطوفان لأن الماء طغى فوق كلّ شيء أربعين ذراعا وتصبب ماء الأرض وبقي ماء السماء فصار بحرا حول الدنيا. فماء البحر من بقية ذلك الماء وهو ماء سخط.

فخرج نوح عليه السّلام ومن معه من السفينة وعدّتهم ثمانية نفر ، وروي ان عدّتهم أربعة نفر. فلما رأى العظام قد تفرّقت من ذلك الماء الحار هاله واشتد حزنه فأوحى الله إليه : هذا آثار دعوتك. اما اني آليت على نفسي ألّا أعذب خلقي بالطوفان بعد أبدا.

وأمره أن يأكل العنب الأبيض فأكله فأذهب الله عنه الحزن وخرج معه من السفينة ابنة واحدة من بناته وثلاثة بنين وأربعة من المؤمنين وكان نوح التاسع ، فجاء كلّ واحد من الأربعة من المؤمنين يخطب ابنته على حدته سرّا من أصحابه بذلك فضاق ذرعا وشكا الى الله جل ذكره وقال يا ربّ لم يبق من أصحابي إلّا هؤلاء الأربعة وكلّ قد خطب ابنتي وان زوّجت واحدا أغضب الباقون.

فأوحى الله إليه أن يأخذ كساء فيجعل ابنته تحت الكساء ويجعل معها هرّة وقردة وخنزيرة ويستر الجميع ثم يرفع الكساء فانّك ترى أربع جوار لا تعرف ابنتك منهن فزوّج كلّ واحد من أصحابك بواحدة منهم.

فروي عن العالم عليه السّلام انّه قال : فمن هناك تناسخ الخلق.

وعقد نوح في وسط المسجد قبة فأدخل إليها أهله وولده والمؤمنين إلى أن مصر الأمصار وأسكن ولده البلدان فسمّيت الكوفة قبّة الاسلام بسبب تلك القبة.

ثم أوحى الله إلى نوح عليه السّلام : قد انقضت أيّامك فاجعل الاسم الأعظم وميراث الأنبياء عند ابنك سام فإنّي لا أترك الأرض بغير حجّة عالم يكون على خلقي وأمره أن يبشّر المؤمنين بأن الله سيفرّج عن الناس بنبي اسمه هود يهلك من يكفر به بالريح. فمن أدركه فليؤمن به. ويأمرهم أن يفتحوا الوصية في كلّ سنة وينظروا فيها.

فدعا نوح عليه السّلام ابنه سام وسلّم إليه مواريث الأنبياء وأوصاه بكلّ ما وجب.

٣٢

وقبض عليه السّلام وأنّه كان له فيما روي ألف وأربعمائة وخمسين سنة. وفي خبر آخر انّه كان سنه حين بعث ثمانمائة وخمسين سنة. ولبث في قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد خروجه من السفينة خمسمائة سنة فكان عمره ألفي سنة وثلاثمائة سنة.

وروي أيضا انّه عاش ألفي وثمانمائة سنة وان ملك الموت لمّا هبط لقبض روحه أتاه وهو جالس في مشرقة الشمس فسلّم عليه وعرفه ان الله عز وجل قد أمره بقبض روحه فقال نوح : اتركني حتى انتقل من هذا الموضع.

فقام إلى فيء شجرة فنام تحتها ثم أذن لملك الموت فدنا منه فقال له : يا أطول ولد آدم عمرا كيف وجدت الدّنيا؟

فقال : ما أذكر منها شيئا إلّا انتقالي من الشمس الى ظلّ هذه الشجرة.

فقبض روحه (صلّى الله عليه) وتولّى سام عليه السّلام ابنه غسله ودفنه والصلاة عليه.

وقبره في ظاهر الكوفة بالغري مع آدم عليه السّلام.

وروي بين آدم ونوح عشرة أيام بينهما من السنين ألفي سنة ومائتي واثنان وأربعون سنة. وكانت أعمار قوم نوح ثلاثمائة سنة.

وقام سام بن نوح عليهما السّلام بأمر الله عز وجل فآمن به شيعة نوح وأقام ولد قابيل وعوج ابن عناق على كفرهم وطغيانهم وخالف حام ويافث على أخيهم سام ولم يؤمنا به. وولد لحام كنعان بن النمرود. وكان ملوك النبط من ولد حام ويافث واستخلف سام بالأمر وهو أبو النبيين والمرسلين والأوصياء وأبو العرب والعجم (صلّى الله عليه) ، وحام أبو الحبشة والسند والهند ، ويافث أبو البربر والروم والصقالبة والترك.

فلما انقضت أيّامه عليه السّلام أوحى الله إليه أن يستودع نور الله وحكمته والاسم الأعظم وميراث النبوّة ابنه ارفخشد عليه السّلام فدعاه وأوصاه وسلّم إليه.

وقام ارفخشد عليه السّلام بأمر الله تعالى وحيث قام ارفخشد عليه السّلام بأمر الله تعالى آمن به شيعة أبيه واتبعوه فعند ذلك ملك أفريدون وهو ذو القرنين وكان من قصته ان الله تبارك

٣٣

وتعالى بعثه إلى قومه فدعاهم الى الله فكذّبوه وجحدوا نبوته ثم أخذوه فضربوه على قرنه الأيمن فأماته الله مائة عام ثم أحياه فبعثه فجحدوا نبوّته وضربوه على قرنه الأيسر فأماته الله مائة عام ثم أحياه وجعل دلائله في قرنيه فكان موضع الضربتين نورا يتلألأ وكان إذا غضب وصرخ خرج من قرنيه الرعود والبروق والصواعق.

وملّكه الله مشارق الأرض ومغاربها وقتل به الجبّارين وهو الذي أوقع بيبوراسب وكان من قصته ما نبأنا الله به من أمر ياجوج وماجوج والسند وغير ذلك من المشرق والمغرب لا يدع جبّارا إلّا قصمه. وكان زمانه زمان عدل وخصب وبركة.

وروي أن الخضر بن ارفخشد بن سام بن نوح كان على مقدّمته وكان من قصّة الخضر ما جاءت به الرواية الثانية أنّه لما عرج بالنبيّ صلّى الله عليه وآله إلى السماء مر ومعه جبرئيل عليه السّلام في بقعة من الأرض فاشتم منها روايح المسك فسأل جبرئيل عليه السّلام عنها فقال له : كان ملك من الملوك ذا عدل وحسن سيرة وكان له ابن واحد لا ولد له غيره فلما شبّ الولد اعتزل أباه والملك ولزم العبادة ورفض الدنيا فاجتمع أهل المملكة الى الأب فوصفوا حسن سيرته فيهم وعرفوه وانّهم مشفقون من حادثة تحدث عليه فيخرج الملك في عقبه وسألوه أن يزوّج ابنه من بعض بنات الملوك لعلّ الله عز وجل أن يرزقه ولدا ذكرا من ابنه هذا يكون الملك له بعد الملك إذ كانوا آيسين من تقلّد ابنه الزاهد شيئا من أمره.

فاختار الملك بعض بنات الملوك فزوّج ابنه بها ثم احضرها فعرّفها صورة أمر ابنه الزاهد وسألها أن تتألفه وترفق به وتحسن خدمته مقدار أن يرزقه الله تعالى منها الولد. وزيّنها بأحسن الزينة وأمر بإدخالها إليه فدخلت وهو يصلّي فلما فرغ من صلاته التفت إليها فسألها عن شأنها فأخبرته ان أباه زوّجه بها وانّها من بنات الملوك وقالت له : انّك لا تستغني عمّن يخدمك ويؤنسك ويعينك على أمرك ، فرقّ لها ثم قال لها : خير القول أصدقه ، انّي لست من الدنيا وأسبابها في شيء ، فإن أردت المقام معي على هذا أبثك سرّي على أن تكتميه وإلّا فلا.

فأجابته الى المقام معه ووجّه الملك إليها يسألها عن حالها فأخبرته انّها بخير. فأخبر

٣٤

بذلك أهل المملكة فاستبشروا ثم أتوا إليه بعد مدّة فسألوه البعثة إليها ومسألتها هل بها حمل فوجّه إليها الملك بذلك فقالت لرسوله انّها بخير وعلى ما تحبّ. فلم تسأل أنها حملت.

فلما مضى من الأيام أكثر من مدّة أيام الحمل وهي على حالها استحضرها وسألها عن حالها فلم تخبره وقالت أنا بخير وما أزيد على هذا شيئا. فأحضر القوابل فنظرن إليها فوجدنها بكرا.

فأحضر الملك أهل مملكته وعرّفهم ذلك فأشاروا أن يفرّق بينهما وان يزوّجه امرأة ثيبا قد عرفت الرجال ، لتعامله بما يبعثه على القرب منها. ففعل الملك وأحضر المرأة وقال لها ما أرادوا ووصّاها ووجّه بها إليه.

فلما نظر إليها ابنه خاطبها بمثل ما كان خاطب به الاولى فأجابته بذلك الجواب فأنس بها وعرفها صورة أمره فأقامت معه ما شاء الله.

ثم ان الملك بعث إليها يسألها عن حالها فوجهت إليه انّها مع رجل كالمرأة لا حاجة لها فيه.

فأحضره الملك فأغلظ عليه في القول ثم حبسه في بيت وسدّ الباب في وجهه وتركه ثلاثة أيام فلما كان في اليوم الثالث فتح الباب فلم يجده في البيت فهو الخضر عليه السّلام.

ثم خرج من مدينة ذلك الملك رجلان في تجارة فركبا البحر فكسر بهما فخرجا في جزيرة من جزائر البحر فوجدا فيها رجلا يصلّي فلما فرغ من صلاته سألهما عن حالهما فعرفاه وشأنهما وذكرا بلدهما فعرفهما واجتازت به سحابة فدعا بها وسألها إلى أين أمرت أن تمضي فعرفته فقال لها : امض الى حيث أمرت. ثم دعا بسحابة اخرى فسألها فأخبرته انّها أرسلت لتمطر في موضع كذا وكذا. فأمرها بأخذ الرجلين على ظهرها الى منازلهما فبعثت السحابة وألقت كلّ واحد منهما على سطح دار قد عرفاه جميعا.

فنزل أحدهما من السطح واضعا في نفسه الكتمان ونزل الآخر واضعا في نفسه الإذاعة فلم يستقر في منزله حتى صاح بصيحة الى الملك فحمل إليه فأخبره ان ابنه في الجزيرة ووصفها له فسأله كيف نعلم صدقك؟ فقال له : كنت وفلان ، وحدّثه بحديثهما

٣٥

فأحضر الملك الآخر فسأله فجحد وألحّ عليه فأقام على الجحود فقال المذيع للملك : وجّه معي بجماعة حتى أتاك به فان لم أفعل افعلن بي ما تشاء. ففعل الملك ذلك وحبس الرجل المنكر فرجع المذيع والجماعة فأخبروا أنّهم لم يصادفوا أحدا. فأطلق الملك الرجل المنكر وصلب المذيع.

ثم عمل أهل تلك البلدة بالمعاصي فأمرني الله أن أقلب تلك المدينة على أهلها فرفعتها حتى صارت في الهواء ثم قلبتها فلما صارت على وجه الأرض خرج منها رجل وامرأة وساخت المدينة بأهلها فكان الرجل الذي كتم على الخضر والمرأة التي كتمت عليه فاجتمعا وحدّث كلّ واحد منهما صاحبه بأمره فتزوّجها الرجل وأولدها أولادا واحتاجا إلى خدمة الناس فاتصلت المرأة بابنة الملك فبينما هي ذات يوم تسرّح رأسها سقط المشط من يدها فقالت «تعس من كفر بالله» فأخبرت ابنة الملك أباها بما قالت فدعا المرأة فأقرّت له بقولها ، فأحضر زوجها وأولادها فاستتابهم ودعاهم إلى دينه فأبوا عليه ، فغلى لهم الزيت ثم كان يطرح فيه واحدا بعد واحد وهم مقيمون على أمرهم ، فلما بلغ إليها قال لها قبل أن يطرحها : هل لك من حاجة؟ قالت : نعم تحفر لجماعتنا حفيرة وتأمر بدفننا فيها ففعل.

فرائحة تلك الحفيرة يفوح منها المسك إلى يوم القيامة.

ثم كان من قصّة الخضر مع موسى عليهما السّلام ما هو مبيّن في موضعه. وكان ملك ذي القرنين خمسمائة عام ثم ملك بعده منوشهر مائة وست وعشرين سنة وهو الذي كرى الفرات يعني حفره واتخذ الأساورة والزي والسلاح والضياع والبساتين وكان زمانه زمان صلاح ولين.

فلما حضرت ارفخشد النبيّ المغمور الصامت عليه السّلام الوفاة أوحى الله جل وعز إليه أن يستودع أمر الله ونوره ابنه شالح فدعاه وأوصى إليه بما كان أبوه أوصاه به وسلّم إليه ما في يده.

فقام شالح عليه السّلام بأمر الله عز وجل ومعه المؤمنون وسلك سبيل آبائه وجرى مجراهم

٣٦

وعلى سنّتهم إلى أن حضرته الوفاة فأمره الله أن يستودع الأسماء والحكمة والنبوّة إلى ابنه هود (صلّى الله عليه) ودعاه إليه وأوصى ومضى عليه السّلام.

وقام هود بن شالح بأمر الله جل وعلا فأظهر الله تبارك وتعالى نبوّته فسلم له العقب من ولد سام وقال الآخرون من ولد حام ويافث وكان هود عليه السّلام أشبه الناس بآدم (صلّى الله عليه) وكان تاجرا.

وروي انّ طوله كان أربعين ذراعا وكانت أعمار أهل زمانه أربعمائة سنة وكانت منازلهم في أحقاف الرمل الذي في طريق مكّة وكانت جبالا وعيونا ومراعي فطحنتها الرياح فصارت رمالا وكانوا قد عذّبوا بالقحط ثلاث سنين فلم يرجعوا عمّا هم عليه وبعثوا وفدا منهم إلى مكّة ليستسقوا قال : فرفعت لهم ثلاث سحائب فاختاروا منها التي فيها العذاب وهي الريح الصرصر فعصفت عليهم سبع ليال وثمانية أيّام حسوما وكان رئيسهم الخلجان فقالوا من أشدّ منّا قوّة نحن ندفع الريح أن تدخل مدينتنا فقاموا متضامين بعضهم إلى بعض فكانت الريح ترمي بهم كأجذاع النخل فصار الخلجان الى هود فقال له : انا نرى الريح اذا أقبلت أقبل معها خلق كمثال الآباء معهم الأعمدة هم الذين يفعلون الأفاعيل بنا.

فقال لهم هود : أولئك الملائكة. فقال له الخلجان : أفترى ربّك ان نحن آمنا بك يديل لنا منهم؟

قال هود : ان أهل الطاعة لا يدال منهم لأهل المعاصي ولكنّي أسأل الله أن يكشف عنكم العذاب.

فقال الخلجان : فكيف لنا بالرجال الذين هلكوا؟

قال هود : يبد لكم الله بهم من هم خير منهم.

فقالوا : لا خيرة لنا في الحياة بعدهم.

فأهلكهم الله بالريح.

فلما انقضت أيام هود بعدهم أمره الله عز وجل بأن يستودع أمر الله ونوره وحكمته

٣٧

ابنه (فالغ) فدعاه وأوصى إليه.

ومضى هود (صلّى الله عليه) ودفن فيما روي على شاطئ البحر تحت جبل على صومعة.

وروي انّه صار الى مكّة هو وشيعته بعد أن أهلك الله قومه فأقام بها إلى أن مات صلوات الله عليه.

وقام فالغ بن هود عليهما السّلام بأمر الله جل جلاله بعد أبيه هود وسلك مسلكه وجرى في الأمور والسيرة مجراه حتى إذا حضرت وفاته وانقطع أجله أوحى الله تعالى إليه أن يستودع النور والاسم الأعظم ابنه يروغ فدعاه وأوصى إليه ومضى عليه السّلام.

فقام يروغ بن فالغ عليهما السّلام بأمر الله جل وعز وملك الأرض في أيامه فراشيات اثنتي عشرة سنة وكانت معه ساحرة تعمل السحر ولم يزل يروغ بن فالغ القائم بأمر الله مستخفيا الى أن قتله الجبّار في زمانه من ولد عوج بن عناق (لعنه الله) وقتل من أولاده خمسة كلّهم أنبياء وأوحى الله جل وعزّ في ذلك الزمان إلى ألف وأربعمائة نبي أن يقتلوا أهل ذلك الزمان ومن كان أعان على قتل يروغ وأولاده ففعلوا.

فعند ذلك ملك طهمسعان مائتين وثماني وتسعين سنة فكثر الخصب في زمانه وعمل البساتين وزكت الزروع والغروس وأعان ولد عوج على الأنبياء حتى قتل منهم ثمانمائة وأربعة عشر نبيّا.

فقام نوشا بن أمين عليه السّلام بالأمر لما اختاره الله وجمع له أنبياء ذلك الزمان فاجتمع إليه المؤمنون والشيعة والصديقون وورثه الله العلم والحكمة وما كان خلفه يروغ بن فالغ من مواريث النبوّة فلم يزل يجاهد حتى رفعه الله إليه من غير موت ، وأمره قبل أن يرفعه إليه أن يستودع نور الله وحكمته صاروغ بن يروغ بن فالغ فأوصى إليه وسلّم ما في يده إليه.

٣٨

وقام صاروغ بن يروغ عليه السّلام مقام آبائه (صلوات الله عليهم) فلما حضرته وفاته أوحى الله إليه أن يستودع الاسم الأعظم والنور ابنه تاجور بن صاروغ ففعل وأوصى وسلّم إليه ومضى على منهاج آبائه صلوات الله عليهم.

وقام تاجور بن صاروغ عليه السّلام وولده بأمر الله جل وعلا فمن آمن بهم كان مؤمنا ومن جحدهم كان كافرا ومن جهل أمرهم كان ضالّا ثم أوحى الله إليه أن يستودع الاسم الأعظم وميراث النبوّة وما في يده تارخا ابنه ففعل صلّى الله عليه.

وقام تارخ وهو ابو ابراهيم الخليل (صلّى الله عليهما) بالأمر في أربع وستين سنة من ملك رهو بن طهمسعان ، وفي رواية اخرى أربع وثمانين سنة وهو نمرود.

وإبراهيم (صلّى الله عليه) اختاره الله جل وعلا لنبوّته

وانتجب لرسالته وتفصيل حكمته خليله إبراهيم (صلّى الله عليه) وكان بين نوح وإبراهيم عليهما السّلام ألف سنة.

وروي عن العالم عليه السّلام انّه قال : ان آزر كان جدّ إبراهيم لامّه منجما لنمرود وهو رهو ابن طهمسعان فنظر في النجوم ليلة فقال لنمرود : قد رأيت الليلة عجبا وهو حال مولود في أرضنا يكون هلاكنا على يديه ولسنا نلبث إلّا قليلا حتى تحمل به امّه. فأمر الملك فحجب الرجال عن النساء فلم يترك امرأة في المدينة وكان تارخ عنده ابنة آزر أمّ ابراهيم عليه السّلام فحملت به فظنّ آزر انّه هو فأرسل الى نساء من القوابل فنظرن فألزم الله ما في الرحم الظهر فلم يرين شيئا في بطنها فلما وضعت إبراهيم عليه السّلام أراد آزر أن يذهب به الى نمرود فقالت له ابنته : لا تذهب به إليه فيقتله ولكن دعني حتى أذهب به الى بعض الغارات فأجعله فيه حتى يجيء أجله فأجابها ، فذهبت به الى غار في الجبل فوضعته فيه وجعلت على باب الغار صخرة وانصرفت عنه فأنزل الله عز وجل رزقه في إبهامه فجعل يمصّها فتشخب لبنا وجعل يشب في اليوم ما يشب غيره في شهر وألقى الله عليه المحبة

٣٩

من امّه وكذلك سبيل الأنبياء والأئمة عليهم السّلام.

ومضى تارخ ؛ وابراهيم مولود صغير ، ومكث حينا غائبا ، وجاءت امّه لتعرف خبره فإذا هي به وعيناه تزهران فأخذته وضمّته إلى صدرها وأرضعته وانصرفت عنه فأخبرت أباها انّها مضت فما رأته وكانت تأتيه في ذلك الغار إلى أن تحرّك فانصرفت عنه ذات يوم فأخذ بثوبها فقالت له : ما لك؟ فقال : اذهبي بي معك. فقالت له : حتى استأذن أباك.

قال : فأتت أباه فأخبرته الخبر فقال لها : اقعديه على الطريق فإذا مر به اخوته دخل معهم حتى لا يعرف. ففعلت ذلك به ، فلما رآه أبوه ألقى الله عليه محبته له.

فبينا قومه يعملون الأصنام إذ أخذ ابراهيم عليه السّلام خشبة وأخذ الفأس ونجر منها صنما لم يروا مثله قط فقال آزر لامّه ، اني لأرجو أن أصيب خيرا كثيرا ببركة ابنك هذا.

فأخذ إبراهيم الفأس فكسّر الصنم. فأنكر ذلك أبوه عليه. فقال له إبراهيم : وما تصنعون به؟ قال : نعبده. قال إبراهيم : أتعبدون ما تنحتون بأيديكم؟! فقال آزر جدّه هذا الذي يكون ذهاب الملك على يده. قال : فلما شبّ إبراهيم عليه السّلام وكبر صار يجادل قومه في الله جل وعز ويخاصمهم وكان رفيقا بالغريب والضعيف ويقري الضيف حتى سمّي أبو الأضياف.

ثم بعثه الله عز وجل بالحنيفية والتوحيد والإخلاص وخلع الانداد وإقامة الصلاة والصيام والحجّ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجميع شرايع الاسلام وسننه ، وبالختان والتنظيف والتطهير. وأعطاه الله جميع ما أعطى الأنبياء وزاده عشر صحائف وكشف الله عز وجل له عن الأرض فنظر الى جميعها.

وكان من قصته فيما دعا به على الرجل الزاني وما أمره الله في ذلك وفي قوله وقد رأى جيفة بعضها في البر وبعضها في البحر ودواب البر والبحر يأكل منها ثم يأكل بعضها بعضا (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) ما قص الله جل وتعالى به وجاءت الرواية بشرحه ما هو مشهور.

وشاع خبره عليه السّلام فقبض عليه وأتي به الى نمرود وأخبر خبره فبنى له حيزا وجمع فيه الحطب وأحرق ، ثم وضع في المنجنيق ليرمى به الى النار فلما صار بين الكفة والنار

٤٠