إثبات الوصية للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

أبو الحسن علي بن الحسين بن علي الهذلي المسعودي

إثبات الوصية للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

المؤلف:

أبو الحسن علي بن الحسين بن علي الهذلي المسعودي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
الطبعة: ٣
ISBN: 964-438-486-5
الصفحات: ٢٧٩

فلما وافوا أتوا دار أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السّلام فدخلوها وأجلسوا على بساط كبير أحمر وخرج إليهم عبد الله بن موسى فجلس في صدر المجلس وقام مناد فنادى : هذا ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فمن أراد السؤال فليسأله.

فقام إليه رجل من القوم فقال له : ما تقول في رجل قال لامرأته أنت طالق عدد نجوم السماء؟

قال : طلقت بثلاث بصدر الجوزاء والنسر الواقع.

فورد على الشيعة ما حيّرهم وغمّهم.

ثم قام إليه رجل آخر فقال : ما تقول في رجل أتى بهيمة؟

فقال : تقطع يده ويجلد مائة وينفى.

فضجّ القوم بالبكاء. وقد اجتمع فقهاء الأمصار من أقطار الأرض بالمشرق والمغرب والحجاز ومكة والعراقين واضطربوا للقيام والانصراف حتى فتح عليهم باب من صدر المجلس وخرج موفق الخادم بين يدي أبي جعفر عليه السّلام وهو خلفه وعليه قميصان وأزار عدني وعمامة بذؤابتين احداهما من قدام وأخرى من خلفه وفي رجليه نعل بقبالين فسلّم وجلس ، وأمسك الناس كلّهم ، فقام صاحب المسألة الاولى فقال له : يا ابن رسول الله ما تقول في رجل قال لامرأته أنت طالق عدد نجوم السماء؟

قال عليه السّلام : اقرأ كتاب الله عز وجل (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ).

قال له : فان عمّك قد أفتانا أنّها قد طلقت.

فقال له : يا عم اتق الله ولا تفت وفي الامامة من هو أعلم منك.

فقام إليه صاحب المسألة الثانية فقال : يا ابن رسول الله ما تقول في رجل أتى بهيمة؟

فقال له يعزّر ويحمى ظهر البهيمة وتخرج من البلد لئلا يبقى على الرجل عارها.

فقال له : ان عمّك أفتى بكيت وكيت.

فقال : لا إله إلّا الله! يا عمّ انّه لعظيم عند الله أن تقف غدا بين يديه ، فيقول لك : لم أفتيت عبادي بما لم تعلم وفي الامامة من هو أعلم منك.

٢٢١

فقال له عبد الله بن موسى : رأيت أخي الرضا وقد أجاب في مثل هذه المسألة بهذا الجواب.

فقال له أبو جعفر عليه السّلام : انما سئل الرضا عليه السّلام عن نباش نبش قبر امرأة وفجر بها وأخذ أكفانها فأمر بقطعه للسرقة ونفيه لتمثيله بالميت.

قال أبو خداش المهدي وكنت قد حضرت مجلس موسى عليه السّلام فأتاه رجل فقال له : جعلني الله فداك أم ولد لي أرضعت جارية لي بالغة بلبن ابني أيحلّ لي نكاحها أم تحرم عليّ؟

فقال أبو الحسن : لا رضاع بعد فطام.

وسأله عن الصلاة في الحرمين تتمّ أم تقصر؟

فقال : ان شئت أتمم وان شئت قصر.

قال له : الخصي يدخل على النساء.

فأعرض وجهه.

قال : فحججت بعد ذلك فدخلت على الرضا عليه السّلام فسألته عن هذه المسائل فأجابني بالجواب الذي أجاب به موسى عليه السّلام وكان جالسا مجلس أبي جعفر في هذا الوقت قال : فقلت لأبي جعفر عليه السّلام : جعلت فداك أم ولد لي أرضعت جارية بالغة بلبن ابني أيحرم عليّ نكاحها؟

فقال : لا رضاع بعد فطام.

قلت : الصلاة في الحرمين؟

قال : ان شئت اتمم وان شئت قصر وكان أبي عليه السّلام يتمّم.

قلت : الخصي يدخل على النساء.

فحوّل وجهه ثم استدناني وقال : وما نقص منه إلّا الخناثة الواقعة عليه.

قال : وكان اسحاق بن إسماعيل بن نوبخت في تلك السنة مع الجماعة. قال اسحاق : فأعددت له في رقعة عشر مسائل وكان لي حمل ، فقلت : ان أجابني عن مسائلي سألته أن يدعو الله أن يجعله ذكرا ، فلما سأله الناس قمت والرقعة معي لأسأله.

٢٢٢

فلما نظر إليّ قال : يا أبا اسحاق سمّه أحمد.

فولد لي ذكر فسمّيته أحمد. فعاش مدّة ومات.

وكان فيمن خرج مع الجماعة علي بن حسان الواسطي المعروف بالأعمش قال :

فحملت معي شيئا من آلات الصبيان مصاغة من فضة وقلت أهديها الى مولاي وأتحفه بها. فلما تفرّق الناس عنه وأجاب جميعهم عن مسائلهم ومضى الى منزله اتبعته فلقيت موفقا فقلت : استأذن لي على مولاي ففعل. ودخلت فسلّمت عليه فرد عليّ فتبينت في وجهه الكراهة ولم يأمرني بالجلوس فدنوت منه وفرغت ما كان في كمي بين يديه فنظر إليّ نظر مغضب ثم رمى به يمينا وشمالا وقال : ما لهذا خلقنا الله. فاستقلته واستعفيته فعفا وقام فدخل وخرجت ومعي تلك الآلات.

وبقي أبو جعفر عليه السّلام مستخفيا بالإمامة الى ان صارت سنه عشر سنين.

وروى أمية بن علي قال : كنت بالمدينة اختلف الى أبي جعفر عليه السّلام وأبوه بخراسان فدعاه يوما بالجارية.

فقال لها : قولي لهم يتهيّئون للمأتم فلما تفرقنا من مجلسه وكنت انا وجماعة قلنا : إنّا ما سألناه مأتم من.

فلما كان الغد أعاد القول ، فقلنا له : مأتم من؟

فقال : مأتم خير من على ظهر الأرض.

فورد الخبر بمضي الرضا عليه السّلام بعد ذلك بأيام.

ثم وجّه المأمون فحمله وأنزله بالقرب من داره وأجمع على أن يزوّجه ابنته أم الفضل. فروي عن علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن الريان بن شبيب خال المأمون قال : لمّا أراد المأمون أن يزوّج أبا جعفر عليه السّلام ابنته اجتمع إليه خواصه الادنون من بني هاشم فقالوا له : يا أمير المؤمنين نشدناك الله أن لا تخرج من هذا البيت أمرا قد ملكناه الله وتنزع عزا قد ألبسناه وقد عرفت ما بيننا وبين آل أبي طالب ، وهذا الغلام صبي غر.

قال : فانتهرهم المأمون وقال لهم : هو والله أعلم بالله وبرسوله وبسنّته وأحكامه من جماعتكم.

٢٢٣

فخرجوا من عنده وصاروا الى يحيى بن أكثم فسألوه الاحتيال على أبي جعفر بمسألة مشكلة يلقيها عليه. فلما اجتمعوا وحضر أبو جعفر عليه السّلام قالوا : يا أمير المؤمنين هذا يحيى بن أكثم إن أذنت له أن يسأل أبا جعفر عن مسألة في الفقه فننظر كيف فهمه ومعرفته من فهم أبيه ومعرفته؟

فأذن المأمون ليحيى في ذلك فقال يحيى لأبي جعفر عليه السّلام : ما تقول في محرم قتل صيدا؟

فقال أبو جعفر عليه السّلام : في حل أم حرم؟ عالما كان المحرم أم جاهلا؟ قتله عمدا أو خطأ؟ صغيرا كان القاتل أم كبيرا؟ عبدا أم حرّا؟ مبتدئا بالقتل أم معيدا؟ من ذوات الطير كان الصيد أو من غيرها؟ من صغار الصيد كان أو من كبارها؟ مصرا على ما فعل أو نادما؟ بالليل كان قتله للصيد أم بالنهار؟ محرما كان بالعمرة أو بالحج؟

قال : فانقطع يحيى عن جوابه.

وقال المأمون : تخطب يا أبا جعفر لنفسك.

فقام عليه السّلام فقال : الحمد لله منعم النعم برحمته والهادي الي فضله بمنته وصلّى الله على محمّد خير خلقه .. الذي جمع فيه من الفضل ما فرّقه في الرسل قبله ، وجعل تراثه الى من خصه بخلافته ، وسلّم تسليما ، وهذا أمير المؤمنين زوّجني ابنته على ما جعل الله للمسلمات على المسلمين «امساك (بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) وقد بذلت لها من الصداق ما بذله رسول الله صلّى الله عليه وآله لأزواجه وهو خمسمائة درهم ، ونحلتها من مالي مائة ألف درهم. تزوّجني يا أمير المؤمنين؟؟

فروي ان المأمون قال : الحمد لله إقرارا بنعمته ولا إله إلّا الله إخلاصا لعظمته ، وصلّى الله على محمّد عبده وخيرته ، وكان من قضاء الله على الانام ان أغناهم بالحلال عن الحرام ، فقال (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) ثم ان محمد بن علي خطب أم الفضل بنت عبد الله وبذل لها من الصداق خمسمائة درهم وقد زوجته. فهل قبلت يا أبا جعفر؟

فقال أبو جعفر عليه السّلام : قد قبلت هذا التزويج بهذا الصداق.

٢٢٤

ثم أولم عليه المأمون فجاء الناس على مراتبهم. فبينا نحن كذلك إذ سمعنا كلاما كان من كلام الملّاحين فاذا نحن بالخدم يجرون سفينة من فضة مملوة غالية فخضبوا بها لحا الخاصة ثم مدوها الى دار العامة فطيبوهم. فلما تفرّق الناس قال المأمون : يا أبا جعفر ان رأيت ان تبيّن لنا ما الذي يجب على كلّ صنف من هذه الأصناف الذي ذكرت من جزاء الصيد؟

فقال عليه السّلام : ان المحرم اذا قتل صيدا في الحل والصيد من ذوات الطير من كبارها فعليه شاة ، واذا أصاب في الحرم فعليه الجزاء مضاعفا واذا قتل فرخا من الحل فعليه حمل قد فطم من اللبن وليس عليه قيمته ، واذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ ، واذا كان من الوحش فعليه في حمار وحش بقرة وفي النعامة بدنة ، فان لم يقدر فإطعام ستين مسكينا فان لم يقدر فليصم ثمانية عشر يوما ، وان كان بقرة فعليه بقرة فان لم يقدر فإطعام ثلاثين مسكينا فإن لم يقدر فليصم تسعة أيام ، وان كان ظبيا فعليه شاة فان لم يقدر فإطعام عشرة مساكين فإن لم يقدر فصيام ثلاثة أيام ، وان كان قتله في الحرم فعليه الجزاء مضاعفا هديا بالغ الكعبة حقا واجبا عليه أن ينحره ان كان في حج بمنى حيث ينحر الناس ، وان كان في عمرة ينحر بمكّة ويتصدّق بمثل ثمنه حتى يكون مضاعفا ، وان كان أصاب أرنبا فعليه شاة ويتصدّق إذا قتل الحمامة بعد الشاة بدرهم أو يشتري به طعام الحمام في الحرم وفي الفرخ نصف درهم وفي البيضة ربع درهم ، وكلّ ما أتى به المحرم بجهالة فليس فيه شيء إلّا الصيد فان فيه عليه الفداء ـ بجهالة كان أم بعلم ، بخطإ كان أم بعمد ـ وكلّ ما أتى به العبد فكفارته على صاحبه مثل ما يلزم صاحبه ، وكلّ ما أتى به الصغير الذي ليس ببالغ فلا شيء عليه فيه ، فان عاد فينتقم الله منه ، وليس عليه كفارة والنقمة في الآخرة. وان دلّ على الصيد وهو محرم فقتل ، فعليه الفداء والمصر عليه يلزمه بعد الفداء العقوبة في الآخرة ، والنادم عليه لا شيء بعد الفداء.

وإذا أصاب الصيد ليلا في وكره خطأ فلا شيء عليه إلّا أن يتعمّد ، فاذا تصيد بليل أو نهار فعليه الفداء والمحرم للحج ينحر الفداء بمنى حيث ينحر الناس ، والمحرم للعمرة ينحر بمكّة.

٢٢٥

فأمر المأمون أن يكتب ذلك عنه ثم دعا من أنكر عليه من العباسيين تزويجه فقرأ عليهم وقال لهم : هل فيكم من يجيب بمثل هذا الجواب؟

فقالوا : أمير المؤمنين كان أعلم به منّا.

ثم أمر المأمون فنثر على أبي جعفر رقاعا فيها ضياع وطعم وعمالات ولم يزل مكرما له.

وروى يوسف بن السخت عن صالح بن عطية الأصم قال : حججت قبل خروج أبي جعفر عليه السّلام الى العراق فشكوت إليه الوحدة فقال لي : أما انّك لا تخرج من الحرم حتى تشتري جارية ترزق منها ابنا.

فقال له : جعلت فداك ان رأيت أن تشير عليّ؟

فقال : نعم ، اذهب فاعترض فاذا رضيت فاعلمني.

ففعلت ذلك.

قال : فاذهب فكن بالقرب من صاحبها حتى أوافيك.

فصرت الى دكان النّخاس فمر بنا عليه السّلام ، فنظر إليها فمضى فصرت إليه فقال : قد رأيتها وهي قصيرة العمر.

فلما كان من الغد صرت الى صاحبها. فقال : الجارية محمومة ولا يمكن عرضها.

فعدت إليه من الغد فسألته عنها. فقال : دفنتها اليوم.

فأتيته عليه السّلام فأخبرته الخبر وابتعت غيرها فرزقت منها ابني محمد.

وعن حمران بن محمد الأشعري قال : دخلت على أبي جعفر عليه السّلام لما قضيت حوايجي فقلت له : ان أم الحسن تقرئك السلام وتسألك ثوبا من ثيابك تجعله كفنا لها.

فقال لي : قد استغنيتم عن ذلك.

فخرجت ولا أدري ما معنى قوله حتى ورد عليّ الخبر بوفاتها.

وعن محمد بن عيسى بن عبد الله الأشعري قال : قال لي أبو جعفر عليه السّلام : ارتفع الشك. ما لأبي ولد غيري.

وروي ان عمر بن الفرج الرخجي قال لأبي جعفر عليه السّلام : ان شيعتك تدّعي انّك تعلم كل

٢٢٦

ما في دجلة ؛ وكانا جالسين على دجلة. فقال له أبو جعفر عليه السّلام : يقدر الله عز وجل أن يفوّض علم ذلك الى بعوضة من خلقه؟

قال : نعم ، يقدر. فقال : أنا أكرم على الله من بعوضته.

ثم خرج عليه السّلام ـ في السنة التي خرج فيها المأمون الى «البليدون» من بلاد الروم ـ بام الفضل حاجا الى مكّة وأخرج أبا الحسن عليا ابنه معه عليهما السّلام وهو صغير فخلفه بالمدينة وانصرف الى العراق ومعه أم الفضل بعد أن أشار الى أبي الحسن ونصّ عليه وأوصى إليه.

وتوفي المأمون ب «بليدون» في يوم الخميس لثلاثة عشرة ليلة مضت من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين في ست عشرة سنة من إمامة أبي جعفر عليه السّلام وبويع للمعتصم ابي اسحاق محمد بن هارون في شعبان سنة ثماني عشرة ومائتين.

فلما انصرف أبو جعفر عليه السّلام الى العراق لم يزل المعتصم وجعفر بن المأمون يدبرون ويعملون في الحيلة في قتله فقال جعفر لاخته أم الفضل وكانت لامه وأبيه في ذلك ؛ لأنّه وقف على انحرافها عنه وغيرتها عليه لتفضيله أم أبي الحسن ابنه عليها مع شدّة محبتها له ولأنّها لم ترزق منه ولدا. فأجابت أخاها جعفرا وجعلوا سمّا في شيء من عنب رازقي وكان يعجبه العنب الرازقي. فلما أكل منه ندمت وجعلت تبكي.

فقال لها : ما بكاؤك؟ والله ليضربنك الله بفقر لا ينجي وبلاء لا ينستر.

فبليت بعلّة في أغمض المواضع من جوارحها صارت «ناسورا» ينتقض عليها في كلّ وقت. فأنفقت مالها وجميع ملكها على تلك العلّة حتى احتاجت الى رفد الناس.

ويروى ان الناسور كان في فرجها. وتردّى جعفر بن المأمون في بئر فاخرج ميتا وكان سكران.

ولما حضرته الوفاة عليه السّلام نص على أبي الحسن وأوصى إليه وكان سلّم المواريث والسلاح إليه بالمدينة ، ومضى صلّى الله عليه في سنة عشرين ومائتين من الهجرة في يوم الثلاثاء لخمس خلون من ذي الحجة فكانت سنّه أربعة وعشرين سنة وشهورا لأن مولده كان في سنة خمسة وتسعين ومائة فأقام مع أبيه عليهما السّلام ست سنين وشهورا وأقام بعده ثماني عشرة سنة ودفن ببغداد في تربة جدّه أبي إبراهيم موسى بن جعفر عليهما السّلام.

٢٢٧

علي الهادي عليه السّلام

وقام أبو الحسن علي بن محمد صاحب العسكر بسر من رأى مقام أبيه عليهما السّلام.

وروي عن محمد بن الفرج وغيره قال : دعاني أبو جعفر عليه السّلام فأعلمني ان قافلة قد قدمت وفيها نخاس معه رقيق ودفع إليّ صرّة فيها ستون دينارا ووصف لي جارية معه بحليتها وصورتها ولباسها وأمرني بابتياعها فمضيت واشتريتها بما استلم وكان سومها بها ما دفعه الي. فكانت تلك الجارية أم أبي الحسن واسمها جمانة وكانت مولدة عند امرأة ربّتها.

واشتراها النخاس ولم يقض له أن يقربها حتى باعها. هكذا ذكرت.

وروى محمد بن الفرج وعلي بن مهزيار عن أبي الحسن عليه السّلام انّه قال : أمي عارفة بحقي وهي من أهل الجنّة ما يقربها شيطان مريد ولا ينالها كيد جبّار عنيد وهي مكلوءة بعين الله التي لا تنام ، ولا تتخلف عن امهات الصديقين والصالحين.

وكانت ولادته (صلّى الله عليه) ـ مثل ولادة آبائه عليهم السّلام ـ في رجب سنة أربعة عشرة ومائتين من الهجرة ، وحمل الى المدينة وهو صغير في السنة التي حجّ فيها أبو جعفر عليه السّلام بابنة المأمون وزوجته.

وروى الحميري عن أحمد بن محمد بن عيسى عن أبيه ان أبا جعفر عليه السّلام لما أراد الشخوص من المدينة الى العراق أجلس أبا الحسن عليه السّلام في حجره وقال له : ما الذي تحبّ أن يهدى إليك من طرائف العراق؟

فقال : سيفا كأنّه شعلة.

ثم التفت الى موسى ابنه فقال له : ما تحبّ أنت؟

فقال له : فرش بيت.

فقال أبو جعفر : اشبهني أبو الحسن ، وأشبه هذا أمه.

وحدث الحميري عن الحسن بن علي بن هلال عن محمد بن اسماعيل بن بزيغ قال : قال لي أبو جعفر : يفضى هذا الأمر الى أبي الحسن وهو ابن سبع سنين ، ثم قال : نعم وأقل

٢٢٨

من سبع سنين كما كان عيسى عليه السّلام.

وروى الحميري عن محمد بن أحمد بن يحيى عن محمد بن عثمان الكوفي عن أبي جعفر عليه السّلام انّه قال له : ان حدث بك ـ وأعوذ بالله ـ حادث فإلى من؟

فقال : الى ابني هذا ـ يعني أبا الحسن.

ثم قال : اما انّها ستكون فترة.

قلت : فإلى أين؟

فقال : الى المدينة.

قلت : أي مدينة؟

قال : هذه المدينة مدينة الرسول صلّى الله عليه وآله وهل مدينة غيرها.

وروى الحميري عن محمد بن عيسى عن الحسين بن قارون عن رجل ذكر انّه كان رضيع أبي جعفر عليه السّلام قال : بينا أبو الحسن جالسا في الكتّاب وكان مؤدبه رجل كرخي من أهل بغداد يكنى أبا زكريا وكان أبو جعفر في ذلك الوقت ببغداد وأبو الحسن بالمدينة يقرأ في اللوح على المؤدب إذ بكى بكاء شديدا ، فسأله المؤدب عن شأنه وبكائه ، فلم يجبه وقام فدخل الدار باكيا وارتفع الصياح والبكاء ثم خرج بعد ذلك فسألناه عن بكائه.

فقال : ان أبي توفي.

فقلنا له : بما ذا علمت ذاك؟

قال : دخلني من اجلال الله ـ جل وعز جلاله ـ شيء علمت معه ان أبي قد مضى (صلّى الله عليه).

فأرّخنا الوقت. فلما ورد الخبر نظرنا فاذا هو قد مضى في تلك الساعة.

وعنه عن معاوية بن حكيم عن أبي النضل الشيباني عن هارون بن الفضل قال : رأيت أبا الحسن عليه السّلام في اليوم الذي مضى فيه أبو جعفر يقول : انّا لله وإنّا إليه راجعون .. مضى أبو جعفر صلّى الله عليه.

فقيل له : فكيف عرفت ذلك؟

٢٢٩

قال : تداخلني ذلّ واستكانة لم أكن أعهدها.

وعن الحسن بن محمد بن معلى عن الحسن بن علي الوشاء قال : حدّثتني أم محمد مولاة أبي الحسن الرضا عليه السّلام قالت : جاء أبو الحسن عليه السّلام وقد ذعر حتى جلس في حجر أم أبيها بنت موسى عمّة أبيه فقالت له : ما لك؟

فقال لها : مات أبي والله الساعة.

فقالت : لا تقل هذا.

قال : هو والله كما أقول لك.

فكتبنا الوقت واليوم فجاءت وفاته عليه السّلام وكان كما قال عليه السّلام.

وقام أبو الحسن بأمر الله جل وعلا في سنة عشرين ومائتين وله ست سنين وشهور في مثل سن أبيه عليهما السّلام بعد أن ملك المعتصم بسنتين.

فروى الحميري عن محمّد بن سعيد مولى لولد جعفر بن محمد قال : قدم عمر بن الفرج المرخجي المدينة حاجّا بعد مضي أبي جعفر عليه السّلام فأحضر جماعة من أهل المدينة والمخالفين والمعاندين لأهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال لهم : ابغوا لي رجلا من أهل الأدب والقرآن والعلم لا يوالي أهل هذا البيت لأضمّه الى هذا الغلام وأوكله بتعليمه وأتقدّم إليه بأن يمنع منه الرافضة الذين يقصدونه ويمسونه.

فسمّوا له رجلا من أهل الأدب يكنى أبا عبد الله ويعرف بالجنيدي متقدما عند أهل المدينة في الأدب والفهم ظاهر الغضب والعداوة فأحضره عمر بن الفرج وأسنى له الجاري من مال السلطان وتقدّم إليه بما أراد وعرّفه ان السلطان أمره باختيار مثله وتوكيله بهذا الغلام.

قال : فكان الجنيدي يلزم أبا الحسن في القصر بصريا فاذا كان الليل أغلق الباب وأقفله وأخذ المفاتيح إليه.

فمكث على هذا مدّة وانقطعت الشيعة عنه وعن الاستماع منه والقراءة عليه. ثم اني لقيته في يوم جمعة فسلّمت عليه وقلت له : ما قال هذا الغلام الهاشمي الذي تؤدبه؟

فقال ـ منكرا عليّ ـ : تقول الغلام ، ولا نقول الشيخ الهاشمي؟! انشدك الله هل تعلم

٢٣٠

بالمدينة أعلم مني؟

قلت : لا.

قال : فاني والله أذكر له الحزب من الأدب أظنّ اني قد بالغت فيه فيملي عليّ بابا فيه استفيده منه. ويظنّ الناس اني أعلّمه ، وأنا والله أتعلم منه.

قال : فتجاوزت عن كلامه هذا كأني ما سمعته منه ، ثم لقيته بعد ذلك فسلّمت عليه وسألته عن خبره وحاله ثم قلت : ما حال الفتى الهاشمي؟

فقال لي : دع هذا القول عنك. هذا والله خير أهل الأرض وأفضل من خلق الله. انّه لربّما همّ بالدخول فأقول له : تنظر حتى تقرأ عشرك. فيقول لي : أي السور تحبّ أن أقرأها؟ انا أذكر له من السور الطوال ما لم تبلغ إليه فيهذها بقراءة لم أسمع أصحّ منها من أحد قط وجزم أطيب من مزامير داود النبي عليه السّلام الذي إليها من قراءته يضرب المثل.

قال : ثم قال : هذا مات أبوه بالعراق وهو صغير بالمدينة ونشأ بين هذه الجواري السود ، فمن أين علم هذا؟

قال : ثم ما مرت به الأيام والليالي حتى لقيته فوجدته قد قال بإمامته وعرف الحق وقال به.

وفي سبع سنين من إمامته مات المعتصم في سنة سبع وعشرين ومائتين ، ولأبي الحسن عليه السّلام أربع عشرة سنة وبويع لهارون الواثق ابن المعتصم ومضى الواثق في اثنتين وثلاثين ومائتين في اثنتي عشرة سنة من إمامة أبي الحسن عليه السّلام وبويع للمتوكل جعفر بن المعتصم.

وروى الحميري عن الحسن بن مصعب المدائني يسأله عن السجود على الزجاج قال : فلما نفذ كتابي حدّثتني نفسي انّه مما أنبتت الأرض وانّهم قالوا : لا بأس بالسجود على ما أنبتت.

فورد الجواب : لا تسجد عليه فان حدثتك نفسك انّه ممّا أنبته الأرض فحال فانّه من الرمل والملح ؛ والملح سبخ ؛ والسبخ ارض ممسوخة.

وعنه عن علي بن محمد النوفلي قال : قال لي محمد بن الفرج : ان أبا الحسن عليه السّلام

٢٣١

كتب إليه : يا محمد اجمع أمرك وخذ حذرك فانا في جمع أمري.

ولست أدري معنى ما كتب به إليّ حتى ورد عليّ رسول حملني من مصر مقيّدا وضرب على كلّ ما كنت أملك فمكثت في السجن ثماني سنين فورد عليّ منه كتاب : يا محمّد لا تنزل في ناحيه الجانب الغربي. فقرأت الكتاب فقلت : يكتب إليّ بهذا وأنا في السجن ، ان هذا لعجب.

فلم ألبث في السجن إلّا أياما قليلة حتى خلي عني.

وعنه قال : حدثني خيران الخادم مولى فراطيس أم الواثق قال : حججت في سنة اثنتين وثلاثين ومائتين فدخلت على أبي الحسن عليه السّلام فقال : ما حال صاحبك ـ يعني الواثق.

فقلت : وجع ولعلّه قد مات.

قال : لم يمت ولكنّ ألما به.

ثم قال : فمن يقال بعده؟

قلت : ابنه.

فقال : الناس يزعمون انّه جعفر.

قلت : لا.

قال : بلى هو كما أقول لك.

قلت صدق الله ورسوله وابن رسوله. فكان كما قال.

وعنه عن محمد بن عيسى قال حدّثني أبو علي بن راشد قال قال ابو الحسن عليه السّلام في سنة اثنتين وثلاثين ومائتين : ما فعل الرجل ـ يعني الواثق ـ؟

قلت : عليل أو قد مات.

قال : لم يمت ولكنه لا يلبث حتى يموت.

وعنه عن محمد بن عيسى عن علي بن جعفر ان أبا الحسن عليه السّلام أتى المسجد ليلة الجمعة فصلّى عند الاسطوانة التي حذاء بيت فاطمة عليها السّلام. فلما جلس أتاه رجل من أهل بيته يقال له معروف قد عرفه علي بن جعفر وغيره فقعد الى جانبه يعاتبه وقال له : اني

٢٣٢

أتيتكم فلم تأذن لي.

فقال : لعلّك أتيت في وقت لم يكن أن يؤذن لك عليّ وما علمت بمكانك وأخبرت عنك انّك ذكرتني وشكوتني بما لا ينبغي.

فقال الرجل : لا والله ما فعلت والا فهو بريء من صاحب القبر ان كان فعل.

فقال ابو الحسن : علمت انّه حلف كاذبا فقلت : اللهم انّه قد حلف كاذبا فانتقم منه.

فمات الرجل من غد وصار حديثا بالمدينة.

قال : وكتب بريحة العباسي صاحب الصلاة بالحرمين الى المتوكل : ان كان لك في الحرمين حاجة فأخرج علي بن محمد منهما فانّه قد دعا الى نفسه واتبعه خلق كثير.

وتابع بريحة الكتب في هذا المعنى ، فوجّه المتوكل بيحيى بن هرثمة وكتب معه الى أبي الحسن عليه السّلام كتابا جميلا يعرفه انّه قد اشتقاقه ويسأله القدوم عليه وأمر يحيى بالمسير معه كما يجب وكتب الى بريحة يعرفه ذلك.

فقدم يحيى بن هرثمة المدينة فأوصل الكتاب الى بريحة وركبا جميعا الى أبي الحسن عليه السّلام فأوصلا إليه كتاب المتوكل فاستأجلهما ثلاثا.

فلما كان بعد ثلاث عاد الى داره فوجد الدواب مسرجة والأثقال مشدودة قد فرغ منها.

وخرج صلّى الله عليه متوجها نحو العراق واتبعه بريحة مشيعا ، فلما صار في بعض الطريق قال له بريحة قد علمت وقوفك على اني كنت السبب في حملك ، وعلي حلف بأيمان مغلظة لئن شكوتني الى أمير المؤمنين او الى أحد من خاصته وابنائه لأجمرن نخلك ولأقتلن مواليك ولأعورن عيون ضيعتك ولأفعلن ولأصنعن.

فالتفت إليه أبو الحسن فقال له : ان أقرب عرضي اياك على البارحة وما كنت لأعرضنك عليه ثم لأشكونك الى غيره من خلقه.

قال : فانكب عليه بريحة وضرع إليه واستعفاه.

فقال له : قد عفوت عنك.

وروي عن يحيى بن هرثمة قال : رأيت من دلائل أبي الحسن عليه السّلام الأعاجيب في

٢٣٣

طريقنا ؛ منها : انا نزلنا منزلا لا ماء فيه فاشفينا ودوابنا وجمالنا من العطش على التلف ، وكان معنا جماعة وقوم قد تبعونا من أهل المدينة ، فقال أبو الحسن عليه السّلام : كأنّي أعرف على أميال موضع ماء.

فقلنا له : ان نشطت وتفضلت عدلت بنا إليه وكنّا معك.

فعدل بنا عن الطريق فسرنا نحو ستة أميال فأشرفنا على واد كأنّه زهو الرياض فيه عيون وأشجار وزروع وليس فيها زارع ولا فلّاح ولا أحد من الناس فنزلنا وشربنا وسقينا دوابنا وأقمنا الى بعد العصر ثم تزوّدنا وارتوينا وما معنا من القرب ورحنا راحلين. فلم نبعد ان عطشت وكان لي مع بعض غلماني كوز فضة يشدّه في منطقته وقد استسقيته فلجلج لسانه بالكلام ونظرت فاذا هو قد أنسي الكوز في المنزل الذي كنّا فيه فرجعت أضرب بالسوط على فرس لي جواد سريع وأغذ السير حتى أشرفت على الوادي فرأيته جدبا يابسا قاعا محلا لا ماء فيه ولا زرع ولا خضرة ورأيت موضع رحالنا وروث دوابنا وبعر الجمال ومناخاتهم والكوز موضوع في موضعه الذي تركه الغلام ، فأخذته وانصرفت ، ولم أعرفه شيئا من الخبر.

فلما قربت من القطر والعسكر وجدته عليه السّلام واقفا ينتظر فتبسّم (صلّى الله عليه) ولم يقل لي شيئا ولا قلت له سوى ما سأل من وجود الكوز فأعلمته اني وجدته.

قال يحيى : وخرج في يوم صائف آخر ونحن في ضحو وشمس حامية تحرق فركب من مضربه وعليه ممطر ، وذنب دابته معقود وتحته لبد طويل فجعل كلّ من في العسكر وأهل القافلة يضحكون تعجبا ويقولون : هذا الحجازي ليس يعرف الري ، فما سرنا أميالا حتى ارتفعت سحابة من ناحية القبلة وأظلمت وأظلتنا بسرعة واتى من المطر الهاطل كأفواه القرب ، فكدنا أن نتلف وغرقنا حتى جرى الماء من ثيابنا الى أبداننا وامتلأت خفافنا ، وكان أسرع وأعجل من أن يمكن أن نحط ونخرج اللبابيد فصرنا شهرة وما زال عليه السّلام يتبسّم تبسما ظاهرا تعجبا من أمرنا.

قال يحيى : وصارت إليه في بعض المنازل امرأة معها ابن لها أرمد العين ولم تزل تستذلّ وتقول : معكم رجل علوي دلّوني عليه حتى يرقي عين ابني هذا.

٢٣٤

فدللناها عليه ففتح عين الصبي حتى رأيتها ولم أشك انها ذاهبة ، فوضع يده عليها لحظة يحرك شفتيه ثم نحاها فاذا عين الغلام مفتوحة صحيحة ما بها علّة.

وروى الحميري قال : حدّثني أحمد بن أبي عبد الله البرقي عن الفتح بن يزيد الجرجاني قال : ضمني وأبا الحسن عليه السّلام الطريق لما قدم به المدينة فسمعته في بعض الطريق يقول : من اتقى الله يتقى ، ومن أطاع الله يطاع.

فلم أزل أدلف حتى قربت منه ودنوت فسلّمت عليه وردّ عليّ السلام فأوّل ما ابتدأني ان قال لي : يا فتح من أطاع الخالق لم يبال بسخط المخلوقين ، ومن أسخط الخالق فليوقن ان يحلّ به سخط المخلوقين. يا فتح ان الله جل جلاله لا يوصف إلّا بما وصف به نفسه ، فانى يوصف الذي يعجز الحواس أن تدركه ، والأوهام ان تناله ، والخطرات أن تحدّه ، والأبصار أن تحيط به ، جلّ عمّا يصفه الواصفون ، وتعالى عمّا ينعته الناعتون ، نأى في قربه وقرب في نأيه ، فهو في نأيه قريب ، وفي قربه بعيد ، كيّف الكيف فلا يقال كيف ، وأيّن الأين فلا يقال أين ، إذ هو منقطع الكيفية والأينية ، الواحد الأحد جل جلاله بل كيف يوصف بكنهه محمّد صلّى الله عليه وآله وقد قرن الخليل اسمه باسمه وأشركه في طاعته وأوجب لمن أطاعه جزاء طاعته ، فقال (وَما نَقَمُوا) منه (إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) وقال تبارك اسمه ـ يحكى قول من ترك طاعته : (يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) أم كيف يوصف من قرن الجليل طاعته بطاعة رسول الله صلّى الله عليه وآله حيث يقول : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ). يا فتح كما لا يوصف الجليل جلّ جلاله ولا يوصف الحجّة فكذلك لا يوصف المؤمن المسلّم لأمرنا فنبينا صلّى الله عليه وآله أفضل الأنبياء ووصينا صلّى الله عليه أفضل الأوصياء.

ثم قال لي ـ بعد كلام ـ : فأورد الأمر إليهم وسلّم لهم.

ثم قال لي : إن شئت.

فانصرفت منه.

فلما كان في الغد تلطفت في الوصول إليه فسلّمت فردّ السلام فقلت : يا ابن رسول الله تأذن لي في كلمة اختلجت في صدري ليلتي الماضية؟

٢٣٥

فقال لي : سل واصخ الى جوابها سمعك ، فان العالم والمتعلم شريكان في الرشد ، مأموران بالنصيحة ، فاما الذي اختلج في صدرك فان يشأ العالم انبأك الله ان الله لم يظهر على غيبه أحدا إلّا من ارتضى من رسول ، وكلّ ما عند الرسول فهو عند العالم ، وكلّ ما اطلع الرسول عليه فقد اطّلع أوصياؤه عليه. يا فتح عسى الشيطان أراد اللبس عليك فأوهمك في بعض ما أوردت عليك وأشكك في بعض ما أنبأتك ؛ حتى أراد ازالتك عن طريق الله وصراطه المستقيم ، فقلت متى أيقنت انّهم هكذا : فهم أرباب.

معاذ الله ، انّهم مخلوقون مربوبون مطيعون داخرون راغمون. فاذا جاءك الشيطان بمثل ما جاءك به فاقمعه بمثل ما نبأتك به.

قال فتح : فقلت له : جعلني الله فداك فرّجت عني وكشفت ما لبس الملعون عليّ فقد كان أوقع في خلدي انّكم أرباب.

قال : فسجد عليه السّلام فسمعته يقول في سجوده : راغما لك يا خالقي داخرا خاضعا.

ثم قال : يا فتح كدت أن تهلك وما ضر عيسى ان هلك من هلك. إذا شئت رحمك الله.

قال : فخرجت وأنا مسرور بما كشف الله عني من اللبس.

فلما كان في المنزل الآخر دخلت عليه وهو متكئ وبين يديه حنطة مقلوة يعبث بها وقد كان أوقع الشيطان (لعنه الله) في خلدي انّه لا ينبغي أن يأكلوا ولا يشربوا.

فقال : اجلس يا فتح فان لنا بالرسل اسوة. كانوا يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق ، وكلّ جسم متغذ إلّا خالق الأجسام الواحد الأحد منشئ الأشياء ومجسّم الأجسام وهو السميع العليم .. تبارك الله عمّا يقول الظالمون وعلا علوا كبيرا.

ثم قال : اذا شئت رحمك الله.

وقدم به عليه السّلام بغداد وخرج اسحاق بن إبراهيم وجملة القواد فتلقوه فحدث أبو عبد الله محمد بن أحمد الحلبي القاضي قال : حدّثني الخضر بن محمد البزاز وكان شيخا مستورا ثقة يقبله القضاة والناس قال : رأيت في المنام كأنّي على شاطئ دجلة بمدينة السلام في رحبة الجسر والناس مجتمعون .. خلق كثير يزحم بعضهم بعضا وهم يقولون : قد أقبل بيت الله الحرام.

٢٣٦

فبينا نحن كذلك إذ رأيت البيت بما عليه من الستائر والديباج والقباطي قد أقبل مارّا على الأرض يسير حتى عبر الجسر من الجانب الغربي الى الجانب الشرقي والناس يطوفون به وبين يديه حتى دخل دار خزيمة وهي التي آخر من ملكها بعد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر القمي وأبو بكر الفتى ابن اخت اسماعيل ابن بلبل بدر الكبير الطولوي المعروف بالحمامي فانّه أقطعها.

فلما كان بعد أيام خرجت في حاجة حتى انتهيت الى الجسر فرأيت الناس مجتمعين وهم يقولون : قد قدم ابن الرضا عليه السّلام من المدينة فرأيته قد عبر من الجسر على شهري تحته كبير يسير عليه المسير رفيقا ؛ والناس بين يديه وخلفه ، وجاء حتى دخل دار خزيمة بن حازم فعلمت انّه تأويل الرؤيا التي رأيتها.

ثم خرج الى سر من رأى فتلقاه جملة من أصحاب المتوكل حتى دخل إليهم فأعظمه وأكرمه ومهّد له ثم انصرف عنه الى دار أعدت له. وأقام بسر من رأى.

وحدّث الحميري قال : حدّثني أيوب بن نوح قال : كتبت الى أبي الحسن عليه السّلام : ان لي حملا وأسأله ان يدعو الله أن يجعله لي ذكرا فوقع لي : سمه محمدا.

فولد لي ابن سمّيته محمدا.

وكان من خبره عليه السّلام في بركة السباع وخبر المشعبذ وخبر علي بن الجهم وخبر عمرو ابن الفرج الرخجي وغير ذلك ممّا رواه الناس.

وروى احمد بن محمد بن قابنداذ الكاتب الاسكافي قال : تقلدت ديار ربيعة وديار مضر فخرجت وأقمت بنصيبين وقلدت عمالي وأنفذتهم الى نواحي أعمالي وتقدمت أن يحمل الي كل واحد منهم كلّ من يجده في عمله ممّن له مذهب ، فكان يرد عليّ في اليوم الواحد والاثنان والجماعة منهم فاسمع منهم واعامل كلّ واحد بما يستحقه. فانا ذات يوم جالس اذ ورد كتاب عامل بكفرتوثي يذكر انّه قد وجّه إليّ برجل يقال له إدريس بن زياد ، فدعوت به فرأيته وسيما قسيما قبلته نفسي ثم ناجيته فرأيته ممطورا ورأيته من المعرفة بالفقه والأحاديث على ما أعجبني فدعوته الى القول بإمامة الاثني عشر فأبى وأنكر عليّ ذلك وخاصمني فيه وسألته بعد مقامه عندي أياما أن يهب لي

٢٣٧

زورة الى سر من رأى لينظر الى أبي الحسن عليه السّلام وينصرف ، فقال لي : انا أقضي حقّك بذلك.

وشخص بعد أن حملته فأبطأ عني وتأخر كتابه ثم انّه قدم فدخل إليّ فأول ما رآني أسبل عينيه بالبكاء ، فلما رأيته باكيا لم أتمالك حتى بكيت ، فدنا مني وقبّل يدي ورجلي ثم قال : يا أعظم الناس منّة نجيتني من النار وأدخلتني الجنّة ، وحدّثني فقال لي : خرجت من عندك وعزمي اذا لقيت سيدي أبا الحسن عليه السّلام ان أسأله من مسائل وكان فيما أعددته أن أسأله عن عرق الجنب هل يجوز الصلاة في القميص الذي أعرق فيه وأنا جنب أم لا؟

فصرت الى سر من رأى فلم أصل إليه وأبطأ من الركوب لعلّة كانت به ثم سمعت الناس يتحدّثون بأنّه يركب فبادرت ففاتني ودخل دار السلطان فجلست في الشارع وعزمت أن لا أبرح أو ينصرف. واشتدّ الحرّ عليّ فعدلت الى باب دار فيه فجلست أرقبه ونعست فحملتني عيني فلم أنتبه إلّا بمقرعة قد وضعت على كتفي ، ففتحت عيني فاذا هو مولاي أبو الحسن عليه السّلام واقف على دابته ، فوثبت فقال لي : يا إدريس أما آن لك؟

فقلت : بلى يا سيدي.

فقال : ان كان العرق من حلال فحلال وان كان من حرام فحرام.

من غير أن أسأله. فقلت به وسلّمت لأمره.

وروي عن أبي هاشم داود بن القسم الجعفري قال : دخلت الى أبي الحسن عليه السّلام فقلت له : قد كبر سنّي وضعف بدني وهرم برذوني وهو ذي تلحقني مشقّة في زيارتك من بغداد ، فادع الله لي.

فقال : يا أبا هاشم قوى الله برذونك وقرّب طريقك.

فكنت أركب فأصير الى سر من رأى واتحدّث عنده نهاري كلّه وأرجع الى بغداد في آخر الليل.

وروي عن الحسين بن اسماعيل شيخ من أهل النهرين قال : خرجت وأهل قريتي الى أبي الحسن عليه السّلام بشيء كان معنا وكان بعض أهل القرية قد حملنا رسالة ودفع إلينا ما

٢٣٨

أوصلناه وقال تقرءونه مني السلام وتسألونه عن بيض الطائر الفلاني من طيور الآجام هل يجوز أكله أم لا؟

فسلمناه ما كان معنا الى خازنه وأتاه رسول السلطان فنهض ليركب وخرجنا من عنده ولم نسأله عن شيء.

فلما صرنا في الشارع لحقنا عليه السّلام فقال لرفيقي بالنبطية : واقرأ فلانا السلام وقل له : بيض الطائر الفلاني لا تأكله فانّه من الممسوخ.

وروى جماعة من أصحابنا قال : ولد لأبي الحسن عليه السّلام جعفر فهنأناه فلم نجد به سرورا فقيل له في ذلك.

فقال : هوّن عليك امره فانّه سيضلّ خلقا كثيرا.

وروي انّه دخل دار المتوكل فقام يصلّي فأتاه بعض المخالفين فوقف حياله فقال له : الى كم هذا الرياء.

فأسرع الصلاة وسلّم ثم التفت إليه فقال : ان كنت كاذبا نسخك الله.

فوقع الرجل ميتا فصار حديثا في الدار.

وحدّث الحميري عن النوفلي قال : قال أبو الحسن عليه السّلام : يا علي ان هذا الطاغية يبتدي ببناء مدينة لا يتمّ له بناؤها ويكون حتفه فيها على يدي بعض فراعنة الأتراك.

قال النوفلي : وسمعته يقول : اسم الله الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفا وانما كان عند آصف بن برخيا منه حرف واحد فتكلّم به فانخرقت له الأرض فيما بينه وبين سبأ فتناول عرش بلقيس حتى صيّره الى حضرة سليمان ثم بسطت الأرض له في أقل من طرفة عين ، وعندنا منه اثنان وسبعون حرفا ويتعجّب مما وهبه الله لنا بقدرته واذنه.

وكتب إليه رجل من أهل المدائن يسأله عمّا بقي من ملك المتوكل فكتب :

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ).

فقتل في أول السنة الخامسة عشرة.

٢٣٩

قال : وكان من أمر بناء المتوكل القصر المسمّى (بالجعفري) وما أمر به بني هاشم من الأبنية ما يحدث به.

ووجّه الى أبي الحسن عليه السّلام بثلاثين ألف درهم وأمره أن يستعين بها في بناء دار فخطت ورفع أساسها رفعا يسيرا ، فركب المتوكل يوما يطوف في الأبنية فنظر الى داره لم ترتفع فأنكر ذلك وقال لعبيد الله بن يحيى بن خاقان وزيره : عليّ وعليّ .. يمينا أكدها .. لئن ركبت ولم ترتفع دار علي بن محمد لأضربن عنقه.

فقال له عبد الله بن يحيى : يا أمير المؤمنين لعلّه في ضيقة.

فأمر له بعشرين ألف درهم فوجّه بها عبيد الله مع ابنه أحمد وقال حدّثه بما جرى فصار إليه فأخبره بالخبر فقال : ان ركب الى البناء فرجع أحمد بن عبيد الله الى أبيه فعرّفه ذلك فقال عبيد الله : ليس والله يركب.

ولما كان في يوم الفطر من السنة التي قتل فيها المتوكل أمر بني هاشم بالترجل والمشي بين يديه ، وانما أراد بذلك أن يترجّل له أبو الحسن عليه السّلام فترجل بنو هاشم وترجّل عليه السّلام فاتكأ على رجل من مواليه فأقبل عليه الهاشميون فقالوا له : يا سيدنا ما في هذا العالم أحد يستجاب دعاؤه فيكفينا الله؟

فقال لهم أبو الحسن عليه السّلام : في هذا العالم من قلامة ظفره أكرم على الله من ناقة ثمود لما عقرت وضجّ الفصيل الى الله فقال الله (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ).

فقتل المتوكل في اليوم الثالث.

وروي انّه قال ـ وقد اجهده المشي ـ : اما انّه قد قطع رحمي قطع الله أجله.

وحدّث الحميري عن يوسف بن السخت قال : حدّثني العباس بن محمد عن علي بن جعفر قال : عرضت مؤامرتي على المتوكل فأقبل على عبيد الله بن يحيى فقال : لا تتعبن نفسك فان عمر بن أبي الفرج أخبرني انّه رافضي فانّه وكيل علي بن محمد. فأرسل عبيد الله الي فعرفني انّه قد حلف الا يخرجني من الحبس الّا بعد موتي بثلاثة أيام. قال : فكتبت الى أبي الحسن عليه السّلام ان نفسي قد ضاقت وقد خفت الزيغ فوقع إليّ : اما

٢٤٠