إثبات الوصية للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

أبو الحسن علي بن الحسين بن علي الهذلي المسعودي

إثبات الوصية للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

المؤلف:

أبو الحسن علي بن الحسين بن علي الهذلي المسعودي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
الطبعة: ٣
ISBN: 964-438-486-5
الصفحات: ٢٧٩

فمضى كما قال عليه السّلام في آخر اليوم الثالث في ثلاث وثمانين ومائة من الهجرة وكان سنه أربعا وخمسين سنة أقام منها مع أبي عبد الله عليه السّلام عشرين سنة ومنفردا بالإمامة أربعة وثلاثين سنة فأخرجه السندي الى مجلس الشرطة من الجسر ببغداد وكشف وجهه ونادى عليه : من أراد أن ينظر الى موسى بن جعفر قد مات حتف أنفه لا هو مسموم ولا مقتول فليحضر من أراد.

ونظروا إليه ثم حمل واتّبعه الناس حتى دفن في موضع كان ابتاعه لنفسه في مقابر قريش بمدينة السلام.

قال مسافر مولاه : ولما كان في ليلة من الليالي وقد فرشنا لأبي الحسن الرضا عليه السّلام على عادته ، ابطأ عنّا فلم يأت كما كان يأتي ، فاستوحش العيال وذعروا وتداخلهم من ابطائه وحشة ، حتى أصبحنا ، فاذا هو قد جاء وحضر الدار ودخلها من غير اذن ، ودعا أم أحمد فقال لها : هات الذي أودعك ابي عليه السّلام وسمّاه لها.

فصرخت ولطمت وشقّت ثيابها وقالت : مات والله سيدي.

فكفها وقال لها : اكتمي الأمر ولا تظهريه حتى يرد الخبر به على والي المدينة ويعرفه الناس من غيرنا في وقته.

فأخرجت إليه سفطا فيه تلك الوديعة ومالا مبلغه ستة آلاف دينار وسلّمته إليه.

وكتموا الأمر حتى ورد الخبر على والي المدينة فنظرنا فوجدناه قد توفي في تلك الليلة التي لم يحضر فيها أبو الحسن الرضا عليه السّلام بعينها. صلّى الله عليه وعلى آبائه وأبنائه وذرّيتهم الطاهرين وسلّم كثيرا.

علي الرضا عليه السّلام

وقام أبو الحسن علي بن موسى الرضا عليه السّلام بأمر الله عز وجل مع أبيه. وروي عن هشام بن حمران قال : قال لي أبو إبراهيم عليه السّلام : قد قدم رجل نخاس من مصر فامض بنا إليه فمضينا. فاستعرض عدّة جوار من رقيق عنده يعجبه منهم شيء. فقال لي : سله عمّا بقي عنده. فسألته فقال : لم يبق إلّا جارية عليلة وتركناه وانصرفنا.

٢٠١

فقال لي : عد إليه فابتع تلك الجارية منه بما يقول فانّه يقول لك ثمانين دينارا فلا تماكسه. فأتيت النخاس فكان كما قال. وباعني الجارية ثم قال لي النخاس : بالله اشتريتها لنفسك؟ قلت : لا. قال : فلمن؟ قلت : لرجل هاشمي.

قال لي : فاني أخبرك اني اشتريت هذه الجارية من أقصى المغرب فلقيتني امرأة من أهل الكتاب فقالت لي : من هذه الجارية معك؟ قلت جارية اشتريتها لنفسي؟ فقالت : ما ينبغي أن تكون هذه إلّا عند خير أهل الأرض.

ولم تلبث عنده إلّا قليلا حتى حملت بأبي الحسن عليه السّلام وكان اسمها تكتم.

فروي عن أبي إبراهيم انّه لما ابتاعها جمع قوما من أصحابه ثم قال : والله ما اشتريت هذه الأمة إلّا بأمر الله ووحيه.

فسئل عن ذلك؟

قال : بينا أنا نائم إذ أتاني جدّي وأبي عليهما السّلام ومعهما شقة حرير فنشراها فاذا قميص وفيه صورة هذه الجارية. فقالا : يا موسى ليكونن لك من هذه الجارية خير أهل الأرض بعدك. ثم أمراني اذا ولدته ان اسمّيه عليّا وقالا لي : ان الله جل وتعالى يظهر به العدل والرأفة. طوبى لمن صدّقه ، وويل لمن عاداه وجحده وعانده.

فولد (صلّى الله عليه) في سنة ثلاث وخمسين ومائة من الهجرة بعد مضي أبي عبد الله عليه السّلم بخمس سنين ، وكانت ولادته على صفة ولادة آبائه صلّى الله عليهم. ونشأ منشأهم.

وحدّثني العباس بن محمد بن الحسن قال : حدّثني محمد بن الحسين عن صفوان بن يحيى عن نعيم القابوسي عن عمّه عن علي عن نصر بن قابوس قال : كنت عند أبي إبراهيم وعلي ابنه صبي يدرج في الدار ، فقلت أرى عليا ذاهبا وجائيا دون ساير الناس؟

فقال : هو أكبر ولدي وأحبهم إليّ وهو ينظر معي في كتاب الجفر ولا ينظر فيه إلّا نبي أو وصي نبي.

وروي عن محمد بن الحسين بن نعيم الصحاف وهشام بن الحكم قالا : كنّا عند أبي إبراهيم عليه السّلام فجاء الى ابنه فأخذه فأجلسه ثم قال لنا : هذا علي ابني سيّد ولدي وقد

٢٠٢

نحلته كنيتي.

فقام هشام بن الحكم فضرب على جبهته وقال : انا لله وانّا إليه راجعون نعى ـ والله ـ إلينا نفسه.

وروي عن أحمد بن محمد بن أبي نضر عن سعيد بن أبي الجهم عن نصر بن قابوس قال : قلت لأبي عبد الله عليه السّلام : من الامام بعدك؟

فقال لي : موسى ابني.

فسألت موسى وقلت : من الامام بعدك ، فقد سألت أباك فأخبرني انّك أنت هو ، فذهب الناس بك يمينا وشمالا ، وقلت بك. فأخبرني من الامام بعدك؟

قال : علي ابني.

وروي أيضا عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن عبد الملك بن أبي الضحاك عن داود بن رزين قال : حملت الى ابي إبراهيم مالا فأخذ مني بعضه ورد عليّ الباقي فقلت له : جعلت فداك لم رددت علي هذا؟

فقال : امسكه حتى يطلبه منك صاحبه بعدي.

فلما مضى موسى عليه السّلام بعث الى الرضا عليه السّلام ان هات المال الذي قبلك.

فوجهت به إليه.

وروي عنه عن سعيد بن يزيد الزيات عن زياد القندي قال : كنت عند موسى عليه السّلام بمكّة وبين يديه علي ابنه ، فقال لي : هذا علي ابني ، قوله قولي وكتابه كتابي ، وخاتمه خاتمي ، فما قال لكم من شيء فهو كما قال لكم.

وروي عن محمد بن الحسن الميثمي عن محمد بن اسماعيل بن الفضل الهاشمي قال : اشتكى موسى عليه السّلام شكاة شديدة حتى خفنا عليه فقلت له : ان كان ما اسأل الله أن لا يرينا ايّاه ويعيذنا منه؟

قال من قال لي علي ابني فانّه وصيي وخليفتي من بعدي.

وروي عن محمد بن عمر بن يزيد عن أخيه الحسن بن عمر قال : بعث الى موسى عليه السّلام فاستقرض مني ستمائة دينار فلما مضى عليه السّلام بعث الي الرضا عليه السّلام : ان المال

٢٠٣

الذي كان لك على أبي عليه السّلام فهو لك علي.

وروي عن العباس بن محمد عن أبيه عن علي بن الحكيم عن حيدرة بن أيوب عن محمد بن يزيد قال : دعانا أبو الحسن موسى عليه السّلام وأشهدنا ونحن ثلاثون رجلا من بني هاشم وغيرهم : ان عليّا ابنه وصيّه وخليفته من بعده.

وروي عن محمد بن سنان عن موسى بن بكر الواسطي قال : قلت لأبي الحسن موسى عليه السّلام : الرجل يقول لابنه أو بنته بأبي أنت وأمي؟

فقال : ان كانا باقيين ، فان ذلك عقوق. وان كانا قد ماتا فلا بأس.

ثم قال لي : كان جعفر يقول لي : من سعادة المرء أن لا يموت حتى يرى خلفه من بعده يأمر وينهى.

ثم نظر الى علي ابنه فقال لي : وقد والله أراني الله خلفي من بعدي.

وروى العباس بن محمد عن أبيه عن صفوان بن يحيى وعلي بن جعفر قالا : كنّا مع عبد الرحمن بن الحجاج بالمدينة فدخلناها بعد ما حمل موسى فجاءنا إسحاق وعلي ابنا أبي عبد الله عليه السّلام فشهد عند عبد الرحمن : ان علي بن موسى عليه السّلام وصّي أبيه وخليفته من بعده.

وروى عبد الله بن غنّام بن القاسم قال : قال لي منصور بن يونس «بزرج» : قال لي أبو إبراهيم عليه السّلام وقد دخلت إليه يوما : يا منصور ما علمت ما أحدثت في يومي هذا؟

قلت : لا.

قال : قد صيّرت ابني عليّا وصيي والخلف من بعدي ، فادخل إليه وهنئه بذلك.

وعنه ، عن عبد الله بن محمد عن الحسن بن موسى الخشاب عن محمد بن إبراهيم عن محمد بن الفضل الهاشمي قال : لقد رأيت من علامات الرضا عليه السّلام ما لو أدركت أمير المؤمنين ما كنت ابالي أن لا أرى أكثر مما رأيت.

وروى العباس بن محمد عن أبيه عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي علي الخزامي عن داود الرقي قال : قلت لموسى عليه السّلام : قد كبر سني وضعف بدني ولعلّي لا ألقاك بعد يومي هذا فأخبرني من الامام بعدك؟

٢٠٤

فقال : علي ابني.

وبهذا الاسناد عن داود قال : قلت لأبي عبد الله عليه السّلام : ان حدثت حادثة فمن الامام بعدك؟

فقال لي : موسى ابني.

فما شككت والله في موسى طرفة عين. وقلت لموسى مثل قولي لأبي عبد الله عليه السّلام.

فقال لي : ابني علي.

فما شككت في علي طرفة عين.

وروي انّه لما وجّه هارون الغوي الى موسى عليه السّلام ليحمله الى العراق أحضر الرضا عليه السّلام وأوصى إليه ودفع إليه الاسم الأعظم ومواريث الأنبياء عليهم السّلام ودفع الى أم أحمد المال والودائع وأمرها أن تدفع ذلك الى من يعطيها علامته ، وأمر الرضا عليه السّلام أن يبيت في دهليز داره ما دام حيّا ـ كما شرحناه في الخبر المتقدّم ـ فلما مضى نعي موسى ببغداد قصد في ذلك الوقت من ذلك اليوم الرضا عليه السّلام ودخل الدار وأمر أم أحمد أن تدفع إليه ما عندها واعطاها العلامة ، فصرخت ولطمت وقالت : مات والله سيدي فكفّها عليه السّلام وقال لها : اكتمي ولا تظهري شيئا حتى يرد الخبر والي المدينة.

وقام الرضا بأمر الله عزّ وجلّ في سنة ست وثمانين ومائة من الهجرة ، وسنه في ذلك الوقت ثلاثون سنة ، وأظهر أمر الله لشيعته.

وروى الحميري عبد الله بن جعفر عن محمد بن الحسين قال : حدّثني سام بن نوح بن دراج قال : كنّا عند غسان القاضي فدخل إليه رجل من أهل خراسان عظيم القدر من أصحاب الحديث فأعظمه ورفعه وحادثه ، فقال الرجل : سمعت هارون الرشيد يقول : لأخرجن العام الى مكة ولآخذن علي بن موسى ولأردّنه حياض أبيه.

فقلت : ما شيء أفضل من أتقرب إلى الله عز وجل والى رسوله فأخرج الى هذا الرجل فأنذره.

فخرجت الى مكّة ودخلت على الرضا عليه السّلام فأخبرته بما قال هارون ، فجزّاني خيرا ثم قال : ليس عليّ منه بأس. انا وهارون كهاتين. وأومى بإصبعه.

٢٠٥

وروى الحميري باسناده قال : اجتمع علي بن أبي حمزة البطائني وزياد القندي وابن أبي سعيد المكاري فصاروا الى الرضا عليه السّلام فدخلوا إليه فقالوا : أنت امام؟

فقال : نعم.

فقالوا له : ما تخاف ممّا قد توعدك به هارون ، وما شهر نفسه أحد من آبائك بما شهرتها أنت؟

فقال لهم : ان أبا جهل أتى النبيّ صلّى الله عليه وآله فقال : أنت نبي؟ فقال له : نعم. فقال له : أما تخاف مني؟ فقال له : ان نالني منك سوء فلست نبيّا.

وأنا أقول : ان نالني من هارون سوء فلست بإمام.

فقال له ابن أبي سعيد : اسألك.

فقال له : لم تسألني ولست من غنمي. سل عما بدا لك.

فقال له : ما تقول في رجل قال كلّ مملوك قديم في ملكي فهو حر ، ما يعتق من مماليكه؟

فقال له : انّه يعتق من مماليكه من مضى له في ملكه ستة أشهر ؛ لقول الله عز وجل (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) وبين العرجون القديم والعرجون الحديث ستة أشهر.

الحميري عن محمد بن عيسى عن أحمد بن عمر الحلال قال : قلت للرضا عليه السّلام : اني أخاف عليك من هارون.

فقال : ليس عليّ بأس منه. ان الله عز وجل خلق بلادا تنبت بالذهب وقد حماها بأضعف خلقه بالنمل ، فلو أرادتها الفيلة ما وصلت إليها.

وقال «الوشاء» : سألته عن هذه البلاد فأخبرني انّها بين نهر «بلخ» و «التبت» وانها تنبت الذهب وفيها نمل كبار أشباه الكلاب ليس يمر بها الطير فضلا عن غيره .. تكمن بالليل في الأجحرة وتظهر بالنهار ، فربما أغاروا على هذه البلاد على الدواب التي تقطع في الليلة ثلاثين فرسخا لا يصبر شيء من الدواب صبرها فيوقرونها ثم يرجعون من وقتهم. فاذا أصبحت النمل خرجت في الطلب فلا تلحق منهم أحدا إلّا قطّعته وهي الريح

٢٠٦

لسرعتها فاذا لحقتهم قذفوا لها قطع اللحم فاشتغلت بها. ولو لا ذلك للحقتهم وقطّعتهم ودوابهم.

الحميري عن محمد بن عيسى عن صفوان بن يحيى : لمّا مضى ابو إبراهيم عليه السّلام وتكلّم أبو الحسن الرضا عليه السّلام وكشف وجهه عمّا يستفتونه فيه ، خفنا عليه. فقيل له قد أظهرت أمرا عظيما ، وانّا نخاف عليك هذا الغويّ الطاغية.

فقال : ليجهد جهده فلا سبيل له عليّ.

وأخبرنا الثقة أن يحيى بن خالد قال لهارون : هذا علي بن موسى قد قعد وادّعى الأمر لنفسه.

فقال : ما يكفينا ما صنعنا بأبيه؟ أتريدون أن أقتلهم كلّهم.

وعنه عن محمد بن موسى عن محمد بن أبي يعقوب عن موسى بن مهران قال : رأيت الرضا عليه السّلام وقد نظر الى هرثمة بالمدينة وقال : كأني به وقد حمل الى مرو فضربت رقبته.

فكان كما قال.

قال : وكتب إليه موسى بن مهران يسأله ان يدعو لابنه العليل. فكتب إليه : وهب الله لك ولدا صالحا.

فمات ابنه العليل وولد له ابن آخر خرج صالحا.

وعنه عن سهل بن زياد عن منصور بن العباس عن اسماعيل بن سهل عن بعض أصحابه قال : كنت عند الرضا عليه السّلام فدخل إليه علي بن أبي حمزة وابن السراج وابن أبي سعيد المكاوي ، فقال له علي بن أبي حمزة : روينا عن آبائك ان الامام لا يلي أمره اذا مات إلّا امام مثله.

فقال له الرضا عليه السّلام : أخبرني عن الحسين بن علي اماما كان أو غير إمام؟

قال : كان إماما فمن ولى أمره؟

قال : علي بن الحسين.

قال : وأين كان علي بن الحسين؟

٢٠٧

قال : في يد عبيد الله بن زياد محبوسا بالكوفة.

فقال : كيف ولّي أمر أبيه وهو محبوس؟

فقالوا له : روينا انّه خرج وهم لا يعلمون حتى ولّي أمر أبيه ثم انصرف الى موضعه.

فقال الرضا عليه السّلام : ان يكن هذا أمكن علي بن الحسين وهو معتقل ، فقد يمكن صاحب هذا الأمر وهو غير معتقل ان يأتي بغداد فيتولى أمر أبيه وينصرف وليس هو بمحبوس ولا بمأسور.

فقال له ابن أبي حمزة : فانّا روينا ان الامام لا يمضي حتى يرى عقبه. فقال له الرضا عليه السّلام : أما رويتم في هذا الحديث بعينه «إلّا القائم».

قالوا : لا.

قال الرضا : بلى ، قد رويتموه وأنتم لا تدرون لم قيل ولا ما معناه.

قال ابن أبي حمزة : ان هذا لفي الحديث.

فقال له الرضا عليه السّلام : ويحك كيف تجرأت أن تحتج عليّ بشيء تدمج بعضه؟

ثم قال عليه السّلام : ان الله تعالى سيريني عقبي إن شاء الله.

ثم قال لعليّ بن أبي حمزة : يا شيخ اتق الله عز وجل ولا تكن من الصدادين عن دين الله.

وعنه عن محمد بن الحسين عن ابن أبي نصر قال : سألت الرضا عليه السّلام بأي شيء يعرف الامام بعد الامام؟

فقال : بعلامات ؛ منها : أن يكون أكبر ولد أبيه ويكون فيه الفضل واذا قدم الركب المدينة سأل الى من أوصى فلان فيقولون الى فلان والسلاح فينا بمنزلة التابوت في بني إسرائيل يدور مع الامامة كيف دار.

وعنه عن محمد بن عيسى عن علي بن الحكم عن محمد بن الفضيل قال : لما كان في السنة التي بطش فيها هارون بجعفر بن يحيى وحبس يحيى بن خالد وابنه الفضل ونزل بالبرامكة النوازل كان الرضا عليه السّلام واقفا بعرفات يدعو ثم طأطأ برأسه حتى كادت جبهته تصيب قادمة الرجل ثم رفع رأسه.

٢٠٨

فسئل عن ذلك فقال : اني كنت أدعو على هؤلاء القوم يعني البرامكة منذ أن فعلوا ما فعلوا. فاستجاب الله لي اليوم.

فلما انصرفنا لم نلبث إلّا أياما حتى ورد الخبر بالبطش بجعفر وقتله وحبس ابنه وأخيه وتغيّرت أحوالهم فلم يجبر الله لهم كسرا ولا عادت لهم حال ولا لعقبهم الى يوم القيامة.

وعنه عن محمد بن أبي يعقوب عن موسى بن مهران قال : رأيت علي بن موسى عليه السّلام في مسجد المدينة وهارون الغويّ يخطب فقال : تروني اني وإيّاه ندفن في بيت واحد ، وانّه لا يحجّ بعده أحد من هذا البيت.

وعنه عن محمد بن عيسى عن محمد بن حمزة عن الحسين بن إبراهيم بن موسى قال الححت على الرضا عليه السّلام في شيء أطلبه منه وكان يعدني فخرجنا ذات يوم لنستقبل بعض الطالبيين وحضر وقت الصلاة فجاز الى أقرب قصر في تلك النواحي فنزل بالقرب من شجرات ونزلت معه فقلت له : جعلت فداك هذا العيد قد أظلّنا ولا والله ما أملك درهما فما سواه. فحفر بسوطه الأرض ثم ضرب بيده فتناول سبيكة ذهب فقال : هاك استنفع بها واكتم ما رأيت.

ولما مات هارون في سنة ثلاث وتسعين ومائة وذلك في عشر سنين من امامة الرضا عليه السّلام بويع لمحمد بن هارون المعروف بابن زبيدة.

فروى الحميري عن محمد بن عيسى عن الحسين بن بشار قال : قال لي الرضا عليه السّلام في ذلك الوقت : عبد الله يقتل محمدا أخاه.

قلت له : عبد الله بن هارون يقتل محمد بن زبيدة؟

قال : نعم ، عبد الله بخراسان يقتل محمد بن هارون أخاه.

قلت : عبد الله الذي بخراسان صاحب طاهر وهرثمة يقتل محمد بن زبيدة الذي ببغداد؟

قال : نعم.

وكان من أمره ما كان وقتله.

٢٠٩

وروي عن الحسين بن علي الوشاء قال : دخلت على الرضا عليه السّلام فقال لي : كان أبي البارحة عندي فرآني اتفزع ، فقال لي في النوم شيئا ثم قال : نومتنا ويقظتنا بمنزلة واحدة.

وقتل محمد بن زبيدة في المحرم سنة سبع وتسعين ومائة وذلك في أربعة عشر سنة من إمامة الرضا عليه السّلام.

وروى عبد الرحمن بن جعفر الحميري عن أحمد بن هلال عن أميّة بن علي قال : كنت مع الرضا عليه السّلام في السنة التي حجّ فيها ثم خرج الى خراسان وكان معه أبو جعفر ابنه وله في ذلك الوقت سنة والرضا عليه السّلام يودّع البيت فلما قضى طوافه عاد الى المقام فصلّى عنده وأبو جعفر على عاتق موفق الخادم يطوف به ، فلما صار به الى الحجر جلس أبو جعفر عنده فأطال فقال له موفق : قم يا مولاي جعلت فداك.

قال : ما أريد أن أبرح من مكاني هذا إلّا أن يشاء الله.

واستبان في وجهه الغمّ ، فصار موفق الى أبي الحسن عليه السّلام فأخبره بخبره فقام أبو الحسن فصار إليه وقال له قم : يا حبيبي.

فقال : ما أريد أن أبرح من مكاني هذا وكيف أبرح وقد رأيتك ودّعت البيت وداعا لا ترجع إليه أبدا.

فقال له : قم معي.

فقام معه.

وعنه عن محمد بن الحسن عن محمد بن سنان قال : كنّا مع الرضا عليه السّلام بمكّة فلما أردنا الخروج قلنا له : ان رأيت أن تكتب معنا الى ابي جعفر كتابا لنسلم عليه ونلقاه بكتابك اذا قدمنا المدينة؟

فكتب لنا إليه كتابا فلما وافينا أخرجه إلينا موفق على كتفه فدفعنا إليه الكتاب فعجز عن فضّه لصغر سنّه ففضّه له موفق ونشره بين يديه فأقبل ينظر فيه سطرا سطرا ويتبسّم ويطويه حتى قرأه الى آخره.

قال محمد بن سنان : فلما فرغ من قراءته حرّك رجليه على ظهر موفق وقال : تاخ

٢١٠

تاخ.

قال : فدنوت منه فتمسحت به وقلت : «فطرسية فطرسية».

فعاد بصري بعد ما كان ذهب.

وكان من أمر المأمون واظهاره التشيّع ومناظرته الناس ودعوته الى هذا الدين القيم ما رواه الناس وما عزم عليه من نقل الأمر الى الرضا عليه السّلام ثم كتب إليه بذلك وسأله القدوم إليه ليعقد له الأمر. فامتنع عليه ثم كاتبه في الخروج وأقسم عليه.

فروي عن محمد بن عيسى عن ابي محمد الوشاء وروى جماعة من أصحاب الرضا عليه السّلام قال : قال علي الرضا : لما أردت الخروج من المدينة جمعت عيالي وأمرتهم أن يبكوا عليّ حتى أسمع بكاءهم ثم فرقت فيهم اثني عشر ألف دينار لعلمي اني لا أرجع إليهم أبدا.

قال : ثم أخذ أبو جعفر عليه السّلام فأدخله المسجد ووضع يده على حائط القبر وألصقه به واستحفظه رسول الله صلّى الله عليه وآله فقال له : يا أبه أنت والله تذهب الى الله. ثم أمر أبو الحسن عليه السّلام جميع وكلائه بالسمع والطاعة له وترك مخالفته ، ونص عليه عند ثقاته وعرّفهم انّه القيم مقامه وشخص عليه السّلام على طريق البصرة ـ كما سأله المأمون.

فروي عن أبي حبيب النباحي انّه قال رأيت في المنام رسول الله صلّى الله عليه وآله قد وافى النباح ونزل في المسجد الذي ينزله الحاجّ في كلّ سنة وكأني مضيت إليه وسلّمت عليه ووقفت بين يديه ووجدت بين يديه طبقا من خوص نخل المدينة فيه تمر صيحاني فكأنّه قبض قبضة من ذلك التمر فناولني فعددته ثماني عشرة تمرة. وفي رواية اخرى انّه قال إحدى وعشرين تمرة. فتأوّلت اني أعيش بعدد كلّ تمرة سنة. فلما كان بعد عشرين يوما كنت في أرض تعمر بين يدي الزراعة حتى جاءني من أخبرني بقدوم أبي الحسن الرضا عليه السّلام من المدينة ونزوله في ذلك المسجد ورأيت الناس يسعون إليه ، فمضيت نحوه فاذا هو جالس في الموضع الذي كنت رأيت فيه النبيّ صلّى الله عليه وآله وتحته حصير مثل ما كان تحته وبين يديه طبق من خوص فيه تمر صيحاني. فسلّمت عليه فرد عليّ السلام واستدناني ، فناولني قبضة من ذلك التمر فعددته فاذا عددها مثل ذلك العدد الذي ناولني رسول

٢١١

الله صلّى الله عليه وآله سواء.

فقلت : له زدني يا ابن رسول الله.

فقال : لو زادك رسول الله لزدناك.

وأقام يومه ورحل يراد به خراسان على طريق البصرة والأهواز وفارس وكرمان.

فروي ان المأمون استقبله وأعظمه وأكرمه وأظهر فضله واجلاله وناظره فيما عزم عليه في أمره.

فقال له : ان هذا أمر ليس بكائن فينا إلّا بعد أن يملك أكثر من عشرين رجلا بعد خروج السفياني فألحّ عليه فامتنع.

ثم أقسم فأبرّ قسمه بأن يعقد له الأمر بعده. وجلس مع المأمون للبيعة ثم سأله المأمون أن يخرج فيصلّي بالناس في عيد الأضحى فاستعفاه وامتنع عليه. فلم يعفه ، فأمر القواد والجيش بالركوب معه فاجتمعوا وساير الناس على بابه ، فخرج عليه السّلام وعليه قميصان وطيلسان وعمامة قد أسدل لها ذؤابتين من قدامه وخلفه وقد اكتحل وتطيب وبيده غرة كما كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يفعل في الأعياد.

فلما خرج وقف بباب داره وكبّر وقدّس وهلل وسبّح ، فضجّ الناس بالبكاء وهو يمشي ، فترجّل القواد والجيش يمشون بين يديه وخلفه ، وكلّما خطا أربعين خطوة وقف فكبّر وهلل ؛ والناس يكبّرون معه. وكاد البلدان يفتتن ، واتصل الخبر بالمأمون فبعث إليه : يا سيدي كنت أعلم بشأنك مني. فارجع.

ورجع ولم يصل بالناس. ثم زوّجه المأمون ابنته ـ وقالوا اخته أم أبيها ـ والرواية الصحيحة اخته أم حبيبة. وسأله أن يخطب لنفسه.

فروى أحمد بن أبي نصر السكوني قال : لمّا اجتمع الناس للاملاك وخطب الرضا عليه السّلام فقال : الحمد لله الذي بيده مدار الأقدار وبمشيته تتمّ الامور ، واشهد ان لا إله إلّا الله شهادة يواطئ عليها القلب اللسان ، والسرّ الاعلان ، وأشهد ان محمّدا عبده ورسوله انتجبه نبيا ، فنطق البرهان بتحقيق نبوّته ، بعد أمر لم يأذن الله فيه وقرب أمر مآب مشية الله إليه ، ونحن نتعرّض ببركة الدّعاء لخيرة القضاء والتي تذكر أم حبيبة اخت أمير المؤمنين

٢١٢

عبد الله المأمون صلة الرحم ، وأمشاج الشبيكة ، وقد بذلت لها من الصداق خمسمائة درهم ، تزوّجني يا أمير المؤمنين؟

فقال المأمون : نعم قد زوجتك.

فقال : قد قبلت ورضيت.

وروي عن الحسن بن علي بن الريان قال : حدّثني الريان بن الصلت قال : لما أردت الخروج الى العراق عزمت على توديع الرضا عليه السّلام فقلت في نفسي : اذا ودّعته سألته قميصا من مجاسده لأكفن فيه ودراهم من ماله أصوغها لبناتي خواتيم.

فلما ودّعته شغلني البكاء والأسى على فراقه عن مسألته ذلك.

فلما خرجت من بين يديه صاح : يا (ريان) ارجع.

فرجعت ، فقال لي : أما تحب أن أدفع إليك قميصا من مجاسدي تكفن فيه اذا فني أجلك؟ أو ما تحبّ أن أدفع إليك دراهم تصوغ بها لبناتك خواتيم؟

فقلت : يا سيدي قد كان في نفسي ان أسألك ذلك ، فمنعني منه الغمّ لفراقك.

فرفع الوسادة فأخرج قميصا ودفعه إليّ ، ورفع جانب المصلّى فأخذ دراهم فدفعها إليّ عددها ثلاثون درهما.

وروى الحسين بن علي الوشاء المعروف بابن بنت الياس قال : شخصت الى خراسان ومعي حلل وشيء للتجارة فوردت مدينة مرو ليلا وكنت أقول بالوقف على موسى عليه السّلام فوافاني في موضع نزولي غلام أسود كأنّه من أهل المدينة فقال لي : سيدي يقول لك وجه إليّ بالحبرة التي معك لأكفن بها مولى لنا قد توفي.

فقلت له : ومن سيّدك؟

فقال : علي بن موسى عليه السّلام.

فقلت : ما معي حبرة ولا حلّة إلّا وقد بعتها في الطريق.

فمضى ثم عاد إليّ فقال : بلى قد بقيت الحبرة قبلك.

فحلفت له : اني ما أعلمها معي.

فمضى وعاد الثالثة فقال : هي في عرض السفط الفلاني.

٢١٣

فقلت في نفسي : ان صح قوله فهي دلالة ؛ وكانت ابنتي دفعت إليّ حبرة وقالت : ابتع لي بثمنها شيئا من الفيروزج والشبه من خراسان ، فأنسيتها.

فقلت لغلامي : هات هذا السفط الذي ذكره.

فاخرجه إليّ وفتحه فوجدت الحبرة في عرض ثياب فيه فدفعتها إليه وقلت : لا آخذ لها ثمنا.

فعاد إليّ فقال : تهدي ما ليس لك؟ هذه دفعتها إليك ابنتك فلانة وسألتك بيعها وان تبتاع لها بثمنها فيروزجا وشبها ، فاشتر لها بهذا ما سألت.

ووجّه مع الغلام الثمن الذي يساوي الحبرة بخراسان. فعجبت مما ورد عليّ وقلت : والله لأكتبن له مسائل أنا شاكّ فيها ثم لأمتحنه في مسائل سئل أبوه عنها ، فأثبتّ تلك المسائل في درج وغدوت الى بابه والمسائل في كمي ، ومعي صديق لي مخالف لا يعلم شرح هذا الأمر.

فلما وافيت بابه رأيت العرب والقواد والجند والموالي يدخلون إليه فجلست ناحية وقلت في نفسي : متى أصل أنا الى هذا فأنا مفكّر وقد طال قعودي وهممت بالانصراف إذ خرج خادم يتصفّح الوجوه ويقول : ابن بنت الياس الصيرفي!

فقلت : ها أنا ذا.

فأخرج من كمه درجا ويقول : هذا جواب مسائلك وتفسيرها.

ففتحته فاذا هو تفسير ما معي في كمي. فقلت : اشهد ان لا إله إلّا الله وأشهد الله ورسوله انّك حجّة الله ، واستغفر الله وأتوب إليه.

وقمت فقال لي رفيقي : الى أين تسرع؟

فقلت : قد قضيت حاجتي في هذا اليوم وأنا أعود للقائه بعد هذا.

وكان من أمر الفضل بن سهل (ذي الرئاستين) وتغيّر المأمون عليه حتى دسّ إليه من قتله في الحمام ما رواه الناس.

روي عن أبي الصلت الهروي عن محمد بن علي بن حمزة عن منصور بن بشير عن أخيه عبد الله بن بشير قال : قال لي المأمون يوما : أطل أظفارك ولا تقلّمها.

٢١٤

فطوّلتها حتى استحييت من الناس طولها. فحضرته يوما وقد دعا بمزور مختوم فأمرني بفضّه وادخال يدي فيه وتقليب الدواء الذي فيه ففعلت وكان فيه شيء مطحون مثل الذريرة البيضاء امتلأت أظفاري منه وصار فيها منه ثم قال لي : قم بنا.

فلم أدر ما يريد فيدخل من باب كان بينه وبين دار الرضا عليه السّلام وكان قد أنزله في دار معه تلاصق داره وكان الرضا عليه السّلام قد حم فجلس عنده وسأله عن خبره ثم قال له : الصواب ان تمص رمانا أو تشرب ماءه.

فقال : ما بي إليه حاجة.

فأقسم عليه ليفعلن ، وكان في بستان الدار شجرة رمان حامل فأمر الخادم فقطف منها رمانة ثم قال لي : تقدّم فقشّرها وفتّها.

فقلت في نفسي : انّا لله وانّا إليه راجعون ، هذه والله المصيبة العظمى.

ففتت الرمانة في جام بلور أحضره الخادم ودعا بملعقة فناوله من يده ثلاث ملاعق.

فلما رفع إليه الرابعة قال له : حسبك قد أتيت على ما احتجت إليه وبلغت مرادك.

فنهض المأمون فلم يمس يومنا حتى ارتفع الصراخ.

وكان من حديث حفر القبر والسمك الصغار ما رواه الناس.

ودفن عليه السّلام بطوس أمام قبر هارون الغوي. ومضى صلّى الله عليه في سنة اثنين ومائتين من الهجرة في آخر ذي الحجة.

وروي انّه مضى في صفر ، والخبر الأول أصح. وكان مولده في سنة ثلاث وخمسين ومائة بعد مضي أبي عبد الله عليه السّلام بخمس سنين فأقام مع أبيه عليه السّلام ثلاثين سنة وبعده في الامامة تسع عشرة سنة ، ومضى وسنّه تسع وأربعون سنة وشهور.

وروي علي بن محمد الخصيبي قال : حدّثني محمد بن إبراهيم الهاشمي قال : حدّثني عبد الرحمن بن يحيى قال : كنت يوما بين يدي مولاي الرضا عليه السّلام في علته التي مضى فيها إذ نظر إليّ فقال لي : يا عبد الرحمن اذا كان في آخر يومي هذا وارتفعت الصيحة فانّه سيوافيك ابني محمد فيدعوك الى غسلي فاذا غسلتموني وصليتم عليّ فأعلم هذا الطاغية لئلا ينقص عليّ شيئا ولن يستطيع ذلك.

٢١٥

قال : فو الله اني بين يدي سيدي يكلّمني إذ وافى المغرب فنظرت فاذا سيدي قد فارق الدّنيا فأخذتني حسرة وغصة شديدة فدنوت إليه فاذا قائل من خلفي يقول : مه يا عبد الرحمن ، فالتفت فاذا الحائط قد انفرج فاذا أنا بمولاي أبي جعفر عليه السّلام وعليه دراعة بيضاء معمّم بعمامة سوداء فقال : يا عبد الرحمن قم الى غسل مولاك فضعه على المغتسل ، وغسله بثوبه كغسل رسول الله صلّى الله عليه وآله.

فلما فرغ ، صلّى وصليت معه عليه ، ثم قال : لي يا عبد الرحمن أعلم هذا الطاغي ما رأيت لئلا ينقص عليه شيئا ولن يستطيع ذلك.

ولم أزل بين يدي سيدي الى أن انفجر عمود الصبح فاذا أنا بالمأمون قد أقبل في خلق كثير فمنعني هيبته ان أبدأ بالكلام فقال : يا عبد الرحمن بن يحيى ما أكذبكم ألستم تزعمون انّه ما من امام يمضي إلّا وولده القائم مكانه يلي أمره. هذا علي بن موسى بخراسان ومحمّد ابنه بالمدينة.

قال : فقلت : يا أمير المؤمنين أما اذا ابتدأتني فاسمع انّه لما كان أمس قال لي سيدي كذا وكذا فو الله ما حضرت صلاة المغرب حتى قضى ، فدنوت منه فاذا قائل من خلفي يقول : مه يا عبد الرحمن.

وحدّثته الحديث ، فقال : صفه لي ، فوصفته له بحليته ولباسه وأريته الحائط الذي خرج منه. فرمى بنفسه الى الأرض وأقبل يخور كما يخور الثور وهو يقول : ويلك يا مأمون؟ ما حالك وعلى ما أقدمت؟ لعن الله فلانا وفلانا فانّهما أشارا عليّ بما فعلت.

محمد الجواد عليه السّلام

وقام أبو جعفر محمد بن علي بن موسى عليهم السّلام مقام أبيه.

فروي انّه كان اسم أم أبي جعفر سبيكة فانّها كانت أفضل نساء زمانها.

وروي انّه ولد عليه السّلام ليلة الجمعة لإحدى عشر ليلة بقيت من شهر رمضان سنة خمس وتسعين ومائة فلما ولد قال أبو الحسن عليه السّلام لأصحابه في تلك الليلة : قد ولد لي شبيه موسى بن عمران عليه السّلام فالق البحار قدست أم ولدته فلقد خلقت طاهرة مطهّرة ثم قال :

٢١٦

بأبي وأمي شهيد يبكي عليه أهل السماء يقتل غيظا ويغضب الله ـ جل وعز ـ على قاتله فلا يلبث إلّا يسيرا حتى يعجل الله به الى عذابه الأليم وعقابه الشديد.

وروى عبد الرحمن بن محمد عن كلثم بن عمران قال : قلت للرضا عليه السّلام : أنت تحبّ الصبيان فادع الله أن يرزقك ولدا.

فقال : إنمّا ارزق ولد واحد وهو يرثني.

فلما ولد أبو جعفر عليه السّلام كان طول ليلته يناغيه في مهده فلما طال ذلك على عدّة ليال قلت له : جعلت فداك قد ولد للناس أولاد قبل هذا فكلّ هذا تعوذه؟

فقال : ويحك ليس هذا عوذة إنمّا اغره بالعلم غرّا.

وكان مولده ومنشؤه على صفة مواليد آبائه عليهم السّلام.

وروى الحميري عن أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري عن الحسن بن بشار الواسطي قال : سألني الحسن بن قياما الصيرفي ان استأذن له على الرضا عليه السّلام ففعلت ، فلما صار بين يديه قال له ابن قياما : أنت امام؟

قال : نعم.

قال : فاني أشهد انّك لست بإمام.

قال له : وما علمك؟

قال : لأني رويت عن أبي عبد الله عليه السّلام انّه قال : الامام لا يكون عقيما ، وقد بلغت هذا السن وليس لك ولد.

فرفع رأسه الى السماء ثم قال : اللهم انّي أشهدك انّه لا تمضي الأيام والليالي حتى ترزقني ولدا يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا.

فعددنا الوقت فكان بينه وبين ولادة أبي جعفر عليه السّلام شهور الحمل.

وروى الحميري عن عبد الله بن أحمد عن صفوان بن يحيى عن حكيمة ابنة ابي إبراهيم موسى عليه السّلام قالت : لما علقت أم أبي جعفر كتبت إليه ان جاريتك سبيكة قد علقت. فكتب إلي : انها علقت ساعة كذا من يوم كذا من شهر كذا فاذا هي ولدت فالزميها سبعة أيام.

٢١٧

قال : فلما ولدته وسقط الى الأرض قال : أشهد ان لا إله إلّا الله وان محمدا رسول الله صلّى الله عليه وآله.

فلما كان اليوم الثالث عطس فقال : الحمد لله وصلّى الله على محمّد وعلى الأئمة الراشدين.

وحج الرضا عليه السّلام بعد ذلك بسنة ومعه أبو جعفر فكان من أمر البيت والحجر وجلوسه فيه عليه السّلام ما قد ذكرناه في باب الرضا عليه السّلام.

وروي عن محمد بن الحسين عن علي بن اسباط قال : خرج عليّ أبو جعفر عليه السّلام فجعلت أنظر إليه لأصف قامته لأصحابنا بمصر فقال لي : يا علي بن اسباط ان الله عز وجل احتج في الامامة بمثل ما احتج به في النبوّة فقال : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) ، وقال : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) فقد يجوز أن يؤتى الحكم صبيا ويؤتاه ابن أربعين.

وروي انّه كان يتكلّم في المهد. وروي عن زكريا بن آدم قال : اني لعند الرضا عليه السّلام إذ جيء بأبي جعفر عليه السّلام وسنّه نحو أربع سنين فضرب الى الأرض ورفع رأسه الى السماء فأطال الفكر فقال له الرضا عليه السّلام : بنفسي أنت فيم تفكّر طويلا منذ قعدت. قال : فيما صنع بأمي فاطمة عليها السّلام اما والله لأخرجنّهما ثم لأحرقنّهما ثم لأذرينّهما ثم لأنفسنّهما في أليم نسفا.

فاستدناه وقبّل بين عينيه ثم قال : بأبي أنت وأمي أنت لها ـ يعني الامامة.

وروي عن موسى بن القاسم عن محمد بن علي بن جعفر قال : كنت مع الرضا فدعا بأبي جعفر ابنه وهو صبي صغير فأجلسه ثم قال لي : جرّده.

فنزعت قميصه فأراني في أحد كتفيه كالخاتم داخلا في اللحم ثم قال : ترى هذا؟ كان مثله في هذا الموضع من أبي إبراهيم.

وروي عن علي بن اسباط عن نجم الصنعاني قال : اني لعند الرضا عليه السّلام إذ جيء بأبي جعفر عليه السّلام فقلت له : جعلت فداك هذا المولود المبارك؟

فقال لي : نعم هذا الذي لم يولد أعظم بركة منه على شيعتنا.

٢١٨

وروى الحميري عن محمد بن عيسى الأشعري عن الأسدي عن أبي خداش عن جنان بن سدير قال : قلت للرضا عليه السّلام : يكون امام ليس له عقب؟ فقال لي : أما انّه لا يولد لي إلّا واحد ولكن الله ينشئ منه ذريّة كثيرة.

ولم يزل أبو جعفر عليه السّلام مع حداثته وصباه يدبر أمر الرضا عليه السّلام بالمدينة ويأمر الموالي وينهاهم لا يخالف عليه أحد منهم.

وروى صفوان بن يحيى قال : قلت للرضا عليه السّلام : قد كنّا نسألك قبل أن يهب الله لك أبا جعفر فكنت تقول : يهب الله لي غلاما. فقد وهب الله وأقرّ عيوننا فلا أرانا الله يومك ، فان كان كون فإلى من؟

فأشار بيده الى أبي جعفر عليه السّلام وهو نائم بين يديه فقلت : جعلت فداك هو ابن ثلاث سنين.

قال : وما يضرّه ذلك؟ قد قام عيسى بالحجّة وهو ابن ثلاث سنين.

وروي عن الحسن بن الجهم قال : دخلت على الرضا ؛ وأبو جعفر صغير بين يديه فقال لي بعد كلام طويل جرى : لو قلت لك يا حسن ان هذا امام ، ما كنت تقول؟

قال : قلت ما تقوله لي جعلت فداك.

قال : أصبت ، ثم كشف عن كتف أبي جعفر فأراني مثل رمز اصبعين.

فقال لي : مثل هذا كان في مثل هذا الموضع من أبي موسى عليه السّلام.

الحميري عن أيوب بن نوح عن صفوان بن يحيى قال : قال لي أبو الحسن الرضا عليه السّلام : كان أبو جعفر محدّثا.

وروي عن أحمد بن محمد بن عيسى عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال : دخلت وصفوان بن يحيى على الرضا عليه السّلام ؛ وأبو جعفر عنده نائم له ثلاث سنين فقلنا له : جعلنا الله فداك انّا ـ ونعوذ بالله من حدث يحدث ـ لا ندري من القائم بعدك؟

قال : ابني هذا.

فقلت : وهو في هذا السن؟

فقال : ان الله تبارك وتعالى احتجّ بعيسى ابن مريم عليه السّلام وهو ابن السنتين وان الامامة

٢١٩

تجري مجرى النبوّة.

وعنه عن محمد المحمودي عن أبيه ان حاضنة أبي جعفر قالت له يوما : ما لي أراك مفكّرا كأنّك شيخ؟

فقال لها : ان عيسى بن مريم كان يمرض وهو صبي فيصف لأمه ما تعالجه به فاذا تناوله بكى.

قالت : يا بني إنمّا أعالجك بما علّمتني.

فيقول لها : الحكم حكم النبوّة ، والخلقة خلقة الصبيان.

وعن المحمودي قال : كنت واقفا على رأس الرضا عليه السّلام بطوس فقال لي بعض أصحابه : ان حدث حدث ، فإلى من؟

فالتفت عليه السّلام وقال له : الى ابني أبي جعفر.

فكأن الرجل استصغر سنّه ، فقال له أبو الحسن : ان الله بعث عيسى بن مريم قائما بشريعته وهو في دون السن التي يقوم فيها أبو جعفر على شريعتنا.

فلما مضى الرضا عليه السّلام في سنة اثنتين ومائتين كانت سن أبي جعفر نحو سبع سنين.

واختلفت الكلمة من الناس ببغداد وفي الأمصار واجتمع الريان بن الصلت وصفوان بن يحيى ومحمد بن حكيم وعبد الرحمن بن الحجاج ويونس بن عبد الرحمن وجماعة من وجوه الشيعة وثقاتهم في دار عبد الرحمن بن الحجاج في بركة زلول يبكون ويتوجعون من المصيبة فقال لهم يونس بن عبد الرحمن : دعوا البكاء ، من لهذا الأمر؟ وإلى من يقصد بالمسائل الى أن يكبر هذا الصبي؟ ـ يعني أبا جعفر عليه السّلام.

فقام إليه الريّان بن الصلت فوضع يده في حلقه ولم يزل يلطمه ويقول له : يا ابن الفاعلة أنت تظهر الايمان لنا وتبطن الشك والشرك. ان كان أمره من الله ـ جل وعلا ـ فلو انّه ابن يوم واحد كان بمنزلة ابن مائة سنة ، وان لم يكن من عند الله فلو عمّر ألف سنة فهو كواحد من الناس. هذا ما ينبغي أن يفكر فيه.

فأقبلت العصابة على يونس تعذله وتوبّخه. وقرب وقت الموسم واجتمع من فقهاء بغداد والأمصار وعلمائهم ثمانون رجلا وقصدوا الحجّ والمدينة ليشاهدوا أبا جعفر عليه السّلام ،

٢٢٠