إثبات الوصية للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

أبو الحسن علي بن الحسين بن علي الهذلي المسعودي

إثبات الوصية للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

المؤلف:

أبو الحسن علي بن الحسين بن علي الهذلي المسعودي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
الطبعة: ٣
ISBN: 964-438-486-5
الصفحات: ٢٧٩

وروي ان الله جل وعز فرض على امته بعد الصلاة الصيام ثم فرض زكاة الفطرة ثم زكاة الأموال ثم الحج بعد الفرائض ثم الجهاد ثم ختم جميع ذلك بالولاية.

ثم رجع رسول الله صلّى الله عليه وآله وكان فقده في تلك الليلة أبو طالب ولم يزل يطلبه ووجّه الى بني هاشم ان البسوا السلاح فقد فقدت محمّدا صلّى الله عليه وآله.

فخرج بنو هاشم سوى أبي لهب فانّه كان حليف بني عبد شمس بن أميّة وأشدّ الناس عداوة لرسول الله صلّى الله عليه وآله وصاهر أبا سفيان باخته حمالة الحطب ، وأبو طالب يقول : يا لها من عظيمة ان لم أر ابني رسول الله صلّى الله عليه وآله.

فبينما هو كذلك إذ تلقاه السيّد صلّى الله عليه وآله وقد نزل من السماء على باب أم هاني اخت أمير المؤمنين عليه السّلام.

فقال له أبو طالب : انطلق معي فادخل المسجد بين يدي.

فدخل ومعه بنو هاشم فسل سيفه أبو طالب عند الحجر ثم قال : يا بني هاشم اظهروا ما معكم.

فاخرجوا السلاح ثم التفت الى بطون قريش فقال : والله لو لم أره لما بقي فيكم عين تطرف.

فقالت قريش : يا أبا طالب لقد كنت منّا عظيما.

واتقته قريش بعد ذلك اليوم أن تفكر في اغتياله.

وأصبح السيّد صلّى الله عليه وآله فصلّى بالناس وحدّثهم بحديث المعراج فقالوا : صف لنا بيت المقدس ، فرفعه جبرئيل عليه السّلام حتى جعله تجاهه وجعل يراه ويحدّثهم بصفته حتى حدّثهم بخبر عير أبي سفيان والجمل الأحمر الذي يقدمها.

فكذّبوه وقالوا : هذا سحر مبين.

وأقام صلّى الله عليه وآله بمكة يدعو الناس سرّا وجهرا فأجابه المؤمنون وجحده من حقت عليه كلمة العذاب.

١٢١

الهجرة والمبيت

واجتمعت قريش في دار الندوة يأتمرون في قتله ، فاتاهم إبليس في صورة شيخ من مضر فاستقرت آراؤهم بمشورة اللعين أن يخرج كلّ بطن منهم رجلا بأسيافهم فيضربوه ضربة رجل واحد وذلك في السنة التي توفي فيها أبو طالب وتوفيت خديجة عليها السّلام.

فأخبر الله رسوله بذلك وأمره بالخروج عن مكّة الى المدينة وان ينوم أمير المؤمنين عليه السّلام على فراشه ، ففعل.

وكان من قصته في خروجه وحديث الغار وهجرته الى المدينة ما رواه الناس ، فروي ان الله جل وتعالى واخى بين ملائكته المقربين ، فواخى بين جبرئيل وميكائيل ثم أوحى إليهما : ان كتبت على أحدكما نائبة أو محنة عظيمة هل فيكما من يقي أخاه بنفسه؟.

فقالا : نعم يا ربّ.

فأوحى الله إليهما : ان كتبت على أحدكما الموت قبل أخيه ، هل فيكما من يبذل مهجته ويفدي أخاه بنفسه؟.

قالا : لا يا رب.

فأوحى الله إليهم : اهبطا الى الأرض فانظرا.

فهبطا فوجدا أمير المؤمنين عليه السّلام نائما على فراش رسول الله صلّى الله عليه وآله قد وقاه بنفسه من المشركين. فقالا : بخ! بخ! هذه المواساة بالنفس.

وكان من حديث هجرة رسول الله صلّى الله عليه وآله الى المدينة ما كان. ودخل مسجد قبا واجتمع إليه جمع من المسلمين ثم ركب راحلته عليه السّلام متوجها الى المدينة فاستقبله الأنصار وقالوا : هلم إلينا يا رسول الله الى العدّة والعدد والنصر والمواساة.

وجعلوا يتعلقون بزمام ناقته فقال عليه السّلام : خلّوا عنها فانّها مأمورة.

حتى انتهت الى اسطوانة الخلوق فأمر باحضار الحجارة ثم نصبها في قبلة المسجد. وروي ان هجرته كانت في شهر ربيع الأول.

١٢٢

الدعوة

وأمره الله جل وعز باشهار سيفه واظهار الدعوة والجهاد لأعداء الله وأعداء دينه ، فكتب الى ملوك الطوائف وجميع النواحي يدعوهم الى توحيد الله عز وجل جلاله والى نبوّته.

ثم عبأ جيشه لغزاة بدر ـ وكان عدد المسلمين ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا ـ فغزاهم فأظهره الله على المشركين ، فقتل منهم وسبى وأسر.

ثم لم يزل يفتح البلدان عنوة وصلحا ، وكان عدد الغزوات تسعا وعشرين غزوة وعدد سراياه نحو ثمانين سرية الى أن فتح مكّة ، وكان من حديثه ما رواه الناس.

حجة الوداع

ثم حجّ رسول الله صلّى الله عليه وآله في سنة عشر من الهجرة فاذن في الناس بالحجّ وكان خروجه لخمس ليال بقين من ذي القعدة. وأحرم (من ذي الحليفة). وقضى مناسكه صلّى الله عليه وآله في ذي الحجة وانصرف ..

فلما صار بوادي خم نزل عليه الوحي في أمير المؤمنين عليه السّلام آية العصمة من الناس وقد كان الأمر قبل ذلك يأتيه فيتوقف انتظارا لقول الله عز وجل (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) فلما نزلت قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه كثيرا ثم نصب أمير المؤمنين عليه السّلام علما وقيّما مقامه بعده. وكان من حديث غدير خم ما رواه الناس ثم انصرف في آخر ذي الحجة.

وروي ان الله عز وجل علم نبيّه كل ما كان وما هو كائن الى يوم القيامة ثم فوّض إليه أمر الدين والشرائع فقال : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) وقال : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) وقال : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ).

ثم وصفه الله عز ذكره بما لم يصف به أحدا من أنبيائه وجميع خلقه فقال : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).

١٢٣

وروي ان الاسم الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفا ، أعطى الله آصف بن برخيا منه حرفا واحدا فكان من أمره في عرش بلقيس ما كان ، وأعطى عيسى منه حرفين فعمل بهما ما قص الله به ، وأعطى موسى أربعة أحرف ، وأعطى إبراهيم ثمانية أحرف ، وأعطى نوح خمسة عشر حرفا ، وأعطى محمّدا صلّى الله عليه وآله اثنين وسبعين حرفا واستأثر الله جل وتعالى بحرف واحد ، فعلم رسول الله صلّى الله عليه وآله ما علمه الأنبياء وما لم يعلموه.

الوصية

فلما قرب أمره صلّى الله عليه وآله أنزل الله جل وعلا إليه من السماء كتابا مسجّلا نزل به جبرئيل عليه السّلام مع امناء الملائكة فقال جبرئيل : يا رسول الله مر من عندك بالخروج من مجلسك إلّا وصيّك ليقبض منّا كتاب الوصيّة ويشهدنا عليه.

فأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله من كان عنده في البيت بالخروج ما خلا أمير المؤمنين عليه السّلام وفاطمة والحسن والحسين عليهم السّلام فقال جبرئيل : يا رسول الله ان الله يقرأ عليك السلام ويقول لك : هذا كتاب بما كنت عهدت وشرطت عليك واشهدت عليك ملائكتي وكفى بي شهيدا.

فارتعدت مفاصل سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وآله فقال : هو السلام ومنه السلام وإليه يعود السلام ، صدق الله ، هات الكتاب.

فدفعه إليه ، فدفعه من يده الى علي وأمره بقراءته وقال : هذا عهد ربي إليّ وامانته ، وقد بلغت وأديت.

فقال أمير المؤمنين عليه السّلام : وأنا اشهد لك بأبي أنت وأمي بالتبليغ والنصيحة والصدق على ما قلت ، ويشهد لك به سمعي وبصري ولحمي ودمي.

فقال له النبيّ صلّى الله عليه وآله : أخذت وصيتي وقبلتها مني وضمنت لله تبارك وتعالى ولي الوفاء بها؟.

قال : نعم عليّ ضمانها وعلى الله عز وجل عوني.

وكان فيما شرطه فيها على أمير المؤمنين عليه السّلام : الموالاة لأولياء الله والمعاداة لأعداء

١٢٤

الله والبراءة منهم ، والصبر على الظلم ، وكظم الغيظ ، وأخذ حقّك منك وذهاب خمسك وانتهاك حرمتك ، وعلى أن تخضب لحيتك من رأسك بدم عبيط.

فقال أمير المؤمنين عليه السّلام : قبلت ورضيت وان انتهكت الحرمة وعطلت السنن ومزّق الكتاب وهدمت الكعبة وخضبت لحيتي من رأسي صابرا محتسبا.

فأشهد رسول الله صلّى الله عليه وآله جبرئيل وميكائيل والملائكة المقرّبين على أمير المؤمنين عليه السّلام.

ثم دعا رسول الله صلّى الله عليه وآله فاطمة والحسن والحسين عليهم السّلام فأعلمهم من الأمر مثل ما أعلمه أمير المؤمنين وشرح لهم ما شرحه له.

فقالوا مثل قوله وختمت الوصيّة بخواتيم من ذهب لم تصبه النار ودفعت الى أمير المؤمنين عليه السّلام.

وفي الوصية سنن الله جلّ وعلا وسنن رسول الله صلّى الله عليه وآله وخلاف من يخالف ويغيّر ويبدّل وشيء شيء من جميع الأمور والحوادث بعده صلّى الله عليه وآله وهو قول الله عز وجل (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ).

وفاة الرسول [ص]

ثم اعتل رسول الله صلّى الله عليه وآله فجيّش أكثر أصحابه مع اسامة بن زيد للغزاة فلم يتّبعوه وتثاقلوا وقعدوا عنه وخالفوا أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله للخروج مع أميرهم.

فلما كان الوقت الذي قبض فيه رسول الله صلّى الله عليه وآله دعا أمير المؤمنين عليه السّلام فوضع ازاره سترا على وجهه ولم يزل يناجيه بكلّ ما كان وما هو كائن الى يوم القيامة ثم مضى صلّى الله عليه وآله وقد سلّم إليه جميع مواريث الأنبياء والنور والحكمة.

وروي انّه كان ممّا قال له في تلك الحال : إذا أنا متّ فغسّلني وكفّني وحنطني ثم اجلسني فاسأل عمّا بدا لك واكتب.

وروي : ان جبرئيل قال له : هذا الوقت يا محمّد ، هذا آخر نزولي الى الدنيا.

فسمعوا صوتا منه عليه السّلام يقول : عليكم السلام أهل البيت والرسالة. ان في الله خلفا من

١٢٥

كلّ هالك وعزاء من كلّ مصيبة ودركا من كلّ فائت ، ليس المصاب من أعقبه الثواب.

ثم سكنت حركة سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وآله وستر بثوب.

وتولّى أمير المؤمنين عليه السّلام غسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه في البقعة التي قبض فيها صلّى الله عليه وآله.

وروي ان سنه كانت ثلاثا وستين سنة ، وكانت ولادة آمنة بنت وهب بن عبد مناف أمّ السيّد صلّى الله عليه وآله في شهر ربيع الأول من عام الفيل ، وكان ملك ذلك الزمان كسرى انوشيروان صاحب المدائن ، وهو الذي يروى ان رسول الله صلّى الله عليه وآله قال فيه : ولدت في زمن الملك الصالح ، لو لحقني لآمن بي. وظهرت نبوّته بعد أربعين سنة.

وروي انّه أقام بمكّة قبل الهجرة ثلاث عشر سنة وهاجر صلّى الله عليه وآله فمكث بالمدينة مهاجرا عشر سنين وشهورا.

وروي انّه قبض في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة فكانت ثلاثا وستين سنة صلّى الله عليه وعلى آله الطاهرين.

١٢٦

خطبة أمير المؤمنين عليه السّلام

وخطب أمير المؤمنين عليه السّلام خطبة في انتقال سيّدنا رسول الله من آدم الى ان ولد صلّى الله عليه وآله : الحمد لله الذي توحّد بصنع الأشياء وفطر أجناس البرايا على غير مثال سبقه في انشائها ، ولا أعانه معين على ابتداعها بل ابتدعها بلطف قدرته ، فامتثلت لمشيته خاضعة مستحدثة لأمره الواحد الأحد الدائم بغير حد ولا أمد ولا زوال ولا نفاد وكذلك لم يزل ولا يزال لا تغيّره الأزمنة ، ولا تحيط به الأمكنة ، ولا تبلغ مقامه الألسنة ولا تأخذه سنة ولا نوم ، لم تره العيون فتخبر عنه برؤيته ، ولم تهجم عليه العقول فيتوهم كنه صفته ، ولم تدر كيف هو إلّا بما أخبر عن نفسه ، ليس لقضائه مرد ولا لقوله مكذّب ابتدع الأشياء بغير تفكير وخلقها بلا ظهير ولا وزير فطرها بقدرته ، وصيّرها بمشيته ، وصاغ أشباحها ، وبرأ أرواحها ، واستنبط أجناسها ، خلقا مبروءا مذروءا ، في أقطار السموات والأرضين ، لم يأت بشيء على غير ما أراد أن يأتي عليه ليري عباده آيات جلاله وآلائه ، فسبحانه لا إله إلّا هو الواحد القهّار ، وصلّى الله على محمّد وآله وسلّم تسليما.

اللهم فمن جهل فضل محمّد صلّى الله عليه وآله فاني مقر بأنّك ما سطحت أرضا ولا برأت خلقا حتى أحكمت خلقه وأتقنته من نور سبقت به السلالة ، وأنشأت آدم له جرما فأودعته منه قرارا مكينا ومستودعا مأمونا وأعذته من الشيطان وحجبته عن الزيادة والنقصان وجعلت له الشرف الذي به يسامى عبادك ، فأي بشر كان مثل آدم فيما سبقت الأخبار. وعرفتنا كتبك في عطاياك ، أسجدت له ملائكتك وعرّفته ما حجبت عنهم من علمك إذ

١٢٧

تناهت به قدرتك وتمّت فيه مشيتك دعاك بما أكننت فيه فأجبته إجابة القبول ، فلما أذنت اللهم في انتقال محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم من صلب آدم ألفت بينه وبين زوج خلقتها له سكنا ووصلت لهما به سببا.

فنقلته من بينهما الى (شيث) اختيارا له بعلمك ، فأي بشر كان اختصاصه برسالتك ، ثم نقلته الى (انوش) فكان خلف أبيه في قبول كرامتك ، واحتمال رسالتك ، ثم قدّرت نقل النور الى (قينان) وألحقته في الحظوة بالسابقين ، وفي المنحة بالباقين ، ثم جعلت (مهلائيل) رابع اجرامه قدرة تودعها من خلقك في من تضرب لهم بسهم النبوّة ، وشرف الابوّة حتى تناهى تدبيرك الى (اخنوخ) فكان أوّل من جعلت من الأجرام ناقلا الرسالة وحاملا لأعباء النبوّة ، فتعاليت يا ربّ ، لقد لطف علمك وجلّت قدرتك عن التفسير إلّا بما دعوت إليه من الإقرار بربوبيتك ، واشهد ان الأعين لا تدركك ، والأوهام لا تلحقك ، والعقول لا تصفك ، والمكان لا يسعك وكيف يسع المكان من خلقه وكان قبله أم كيف تدركه الأوهام ولا نهاية له ولا غاية وكيف يكون له نهاية وغاية ، وهو الذي ابتدأ الغايات والنهايات أم كيف تدركه العقول ولم يجعل لها سبيلا الى إدراكه ، وكيف يكون لها سبيل الى إدراكه وقد لطف بربوبيته عن المحاسة والمجاسة ، وكيف لا يلطف عنهما من لا ينتقل عن حال الى حال ، وقد جعل الانتقال نقصا وزوالا ، فسبحانك ملأت كلّ شيء وباينت كلّ شيء فأنت الذي لا يفقدك شيء وأنت الفعّال لما تشاء ، تبارك يا من كلّ مدرك من خلقه ، وكلّ محدود من صنعه أنت الذي لا يستغني عنك المكان والزمان ولا نعرفك إلّا بانفرادك بالوحدانية والقدرة ، وسبحانك ما أبين اصطفاءك (لإدريس) على سائر خلقك من العالمين لقد جعلت له دليلا من كتابك إذ سمّيته صدّيقا نبيّا ، ورفعته مكانا عليّا ، وأنعمت عليه نعمة حرمتها على خلقك ، إلّا من نقلت إليه نور الهاشميين وجعلته أوّل منذر من أنبيائك ثم أذنت في انتقال نور محمّد صلّى الله عليه وآله من القابلين له (متوشلخ) و (لمك) المفيضين به الى نوح فأي آلائك يا ربّ لم توله ، وأي خواص كرامتك لم تعطه ، ثم أذنت في ايداعه (سام) دون (حام) و (يافث) فضربت لهما بسهم في الذلّة ، وجعلت ما أخرجت بينهما لنسل سام خولا ، ثم تتابع عليه القابلون من حامل الى حامل ومودّع الى مستودع

١٢٨

من عترته في فترات الدهور حتى قبله (تارخ) أطهر الأجسام وأشرف الأجرام ونقلته منه الى «إبراهيم» فأسعدت بذلك جدّه ، وأعظمت به مجده وقدّسته في الأصفياء وسمّيته دون رسلك خليلا ، ثم خصصت به اسماعيل دون ولد إبراهيم فأنطقت لسانه بالعربية التي فضّلتها على ساير اللغات فلم تزل تنقله من أب الى أب حتى قبله (كنانة) عن «مدركه» فأخذت له مجامع الكرامة ، ومواطن السلامة ، وأحللت له البلدة التي قضيت فيها مخرجه فسبحانك لا إله إلّا أنت أي صلب أسكنته فيه ولم ترفع ذكره ، وأي نبيّ بشّر به فلم يتقدّم في الأسماء اسمه ، وأي ساحة من الأرض سلكت به لم يظهر بها قدسه ، حتى الكعبة التي جعلت منها مخرجه ، غرست أساسها بياقوتة من جنّات عدن ، وأمرت الملكين المطهرين جبرئيل وميكائيل فتوسطا بها أرضك وسمّيتها بيتك ، واتخذتها معبدا لنبيّك وحرّمت وحشها وشجرها ، وقدّست حجرها ، ومدرها وجعلتها مسلكا لوحيك ومنسكا لخلقك ومأمنا للمأكولات وحجابا للآكلات العاديات ، تحرم على أنفسها أذعار من أجرت ثم أذنت للنضر في قبوله وايداعه (مالكا) ثم من بعد مالك «فهرا» ثم اختصصت من ولد فهر «غالبا» وجعلت كلّ من تنقله إليه أمينا لحرمك ، حتى اذا قبله لؤي بن غالب آن له حركة تقديس فلم تودعه من بعده صلبا إلّا جللته نورا تأنس به الأبصار وتطمئن إليه القلوب ، فانا يا الهي وسيدي ومولاي المقرّ لك بأنّك الفرد الذي لا ينازع ولا يغالب ولا يجادل ، سبحانك سبحانك لا إله إلّا أنت ما لعقل مولود ، وفهم معقود ، مدحو من ظهر ، مزيج بمحيض لحم وعلق درء الى فضالة الحيض ، وعلالات الطعم ، شاركته الأسقام والتحفت عليه الآلام ، لا يمتنع من قيل ولا يقدر على فعل ، ضعيف التركيب والبنية ، ما له والاقتحام على قدرتك. والهجوم على إرادتك ، وتفتش ما لا يعلمه غيرك سبحانك أيّ عين تصب نورك ، وترقى الى ضياء قدرتك ، وأي فهم يفهم ما دون ذلك الا بصائر كشفت عنها الأغطية ، وهتكت عنها الحجب العمية وفرّقت أرواحها الى أطراف أجنحة الأرواح فتأملوا أنوار بهائك ونظروا من مرتقى التربة الى مستوى كبريائك فسمّاهم أهل الملكوت زوارا دعاهم أهل الجبروت أغمارا فسبحانك يا من ليس في البحار قطرات ، ولا في متون الأرض جنّات ولا في رتاج الرياح حركات ولا في قلوب العباد خطرات ، ولا في

١٢٩

الأبصار لمحات. ولا على متون السحاب نفحات ، إلّا وهي في قدرتك متحيرات ، أما السماء فتخبر عن عجائبك ، وأما الأرض فتدلّ على مدائحك ، وأما الرياح فتنشر فوائدك ، واما السحاب فتهطل مواهبك ، وكلّ ذلك يحدث بتحننك ويخبر العارفين بشفقتك وأنا المقرّ بما أنزلت عند اعتدال نفسه وفراغك من خلقه رفع وجهه فواجهه من عرشك رسم فيه لا إله إلّا الله محمّد رسول الله فقال الهي من المقرون باسمك فقلت محمّد صلّى الله عليه وآله خير من أخرجته من صلبك ، واصطفيته بعدك ، من ولدك ، ولولاه ما خلقتك ، فسبحانك لك العلم النافذ والقدر الغالب ، لم تزل الآباء تحمله ، والأصلاب تنقله ، كلّما أنزلته ساحة صلب جعلت له فيها صنعا يحثّ العقول على طاعته ، ويدعوها الى مقته حتى نقلته الى (هاشم) خير آبائه بعد اسماعيل ، فأي أب وجدّ ، ووالد اسرة ، ومجتمع عترة ، ومخرج طهر ، ومرجع فخر ، جعلت يا ربّ هاشما ، لقد أقمته لدن بيتك ، وجعلت له المشاعر والمتاجر ، ثم نقلته من هاشم الى عبد المطلب فانهجته سبيل إبراهيم ، وألهمته رشدا للتأويل ، وتفصيل الحق ، ووهبت له عبد الله وأبا طالب وحمزة وفديت عبد الله بالقربان ولقد بلغت يا الهي ببني أبي طالب الدرجة التي رفعت إليها فضلهم في الشرف الذي مددت به أعناقهم والذكر الذي حلّيت به اسماءهم وجعلتهم معدن النور وجنته ، وصفوة الدين وذروته ، وفريضة الوحي وسنّته ، ثم أذنت لعبد الله في نبذه عند ميقات تطهير أرضك من كفّار الامم الذين نسوا عبادتك ، وجهلوا معرفتك ، واتخذوا اندادا ، وجحدوا ربوبيتك ، وأنكروا وحدانيتك ، وجعلوا لك شركاء وأولادا ، وصبوا الى عبادة الأوثان ، وطاعة الشيطان ، فدعاك نبينا صلوات الله عليه لنصرته فنصرته بي وبجعفر وحمزة فنحن الذين اخترتنا له وسميتنا في دينك لدعوتك أنصارا لنبيّك ، قائدنا الى الجنّة خيرتك ، وشاهدنا أنت ربّ السموات والأرضين ، جعلتنا ثلاثة ما نصب له عزيز إلّا أذللته بنا ولا ملك إلّا طحطحته بنا أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركّعا سجّدا ، وصفتنا يا ربنا بذلك وأنزلت فينا قرآنا جليت به عن وجوهنا الظلم ، وأرهبت بصولتنا الامم ، إذا جاهد محمّد رسولك عدوا لدينك تلوذ به اسرته ، وتحفّ به عترته كأنّهم النجوم الزاهرة اذا توسطهم القمر المنير ليلة تمه ، فصلواتك على محمّد عبدك ونبيّك وصفيّك وخيرتك وآله

١٣٠

الطاهرين ، أي منيعة لم تهدمها دعوته ، وأي فضيلة لم تنلها عترته جعلتهم خير أئمّة أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويجاهدون في سبيلك. ويتواصلون بدينك ، طهّرتهم بتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ ونسك به لغير الله ، تشهد لهم وملائكتك انّهم باعوك أنفسهم ، وابتذلوا من هيبتك ابدانهم ، شعثة رءوسهم ، تربة وجوههم ، تكاد الأرض من طهارتهم أن تقبضهم إليها ومن فضلهم أن تميد بمن عليها. رفعت شأنهم بتحريم أنجاس المطاعم والمشارب. فأي شرف يا ربّ جعلته في محمّد وعترته فو الله لأقولن قولا لا يطيق أن يقوله أحد من خلقك ، أنا علم الهدى ، وكهف التقى ومحلّ السخاء ، وبحر الندى ، وطود النهى ، ومعدن العلم ، والنور في ظلم الدجى وخير من أمر واتّقى وأكمل من تقمّص وارتدى ، وأفضل من شهد النجوى بعد النبيّ المصطفى ، وما أزكي نفسي ولكن أحدث بنعمة ربّي أنا صاحب القبلتين ، وحامل الرايتين ، فهل يوازي فيّ أحد؟ وأنا أبو السبطين فهل يساوي بي بشر؟ وأنا زوج خير النسوان فهل يفوقني رجل؟ أنا القمر الزاهر بالعلم الذي علّمني ربّي ، والفرات الزاخر ، أشبهت من القمر نوره وبهاءه ومن الفرات بذله وسخاءه ، أيّها الناس بنا أنار الله السبل ، وأقام الميل ، وعبد الله في أرضه ، وتناهت إليه معرفة خلقه ، وقدّس الله جل وتعالى بإبلاغنا الألسن ، وابتهلت بدعوتنا الأذهان ، فتوفى الله محمّدا صلّى الله عليه وآله سعيدا شهيدا ، هاديا مهديا ، قائما بما استكفاه ، حافظا لما استرعاه ، تمم به الدين ، وأوضح به اليقين ، وأقرّت العقول بدلالته وأبانت حجج أنبيائه ، واندمغ الباطل زاهقا ووضح العدل ناطقا ، وعطل مظانّ الشيطان ، وأوضح الحق والبرهان. اللهم فاجعل فواضل صلواتك ونوامي بركاتك ورأفتك ورحمتك على محمّد نبي الرحمة وعلى أهل بيته الطاهرين.

١٣١
١٣٢

مولد الامام علي عليه السّلام

قام أمير المؤمنين عليه السّلام ، مقام رسول الله صلّى الله عليه وآله.

روي عن سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وآله انّه قال : كنت أنا وعلي نورا في جبهة آدم عليه السّلام فانتقلنا من الأصلاب الطاهرة الى الأرحام المطهّرة الزاكية حتى صرنا في صلب عبد المطلب فانقسم النور قسمين فصار قسم في عبد الله وقسم في أبي طالب فخرجت من عبد الله وخرج علي من أبي طالب وهو قول الله جل وعز (الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً).

وروي ان فاطمة بنت أسد بن هاشم أم أمير المؤمنين عليه السّلام كانت في الليلة التي ولدت فيها آمنة بنت وهب أم رسول الله صلّى الله عليه وآله حاضرة عندها وانها رأت مثل الذي رأته آمنة ، فلما كان الصبح انصرف أبو طالب من الطواف فاستقبلته فقالت له : لقد رأيت الليل عجبا ، قال لها وما رأيت؟ قالت : ولدت آمنة بنت وهب مولودا أضاءت له الدّنيا بين السماء والأرض نورا حتى مددت عيني فرأيت سعفات هجر ، فقال لها أبو طالب انظري سبتا فستأتين بمثله. فولدت أمير المؤمنين عليه السّلام بعد ثلاثين سنة وروي ان السبت ثلاثون سنة وروي انّه ثمان وعشرون سنة.

وروي ان فاطمة بنت أسد لما حملت بأمير المؤمنين عليه السّلام كانت تطوف بالبيت فجاءها المخاض وهي في الطواف فلما اشتد بها دخلت الكعبة فولدته في جوف البيت على مثال ولادة آمنة النبي صلّى الله عليه وآله ما ولد في الكعبة قبله ولا بعده غيره.

١٣٣

ايمان علي عليه السّلام

وروى عبد الله بن محمد بن غياث عن أبي نصر رجاء بن سهل الصاغاني قال حدّثنا وهب بن منبّه القرشي عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السّلام انّه سئل عن بدو ايمان أمير المؤمنين عليه السّلام برسول الله صلّى الله عليه وآله فقال أبو عبد الله جعفر عليه السّلام : اذا ذكرت الفضائل والمناقب ففي شرح ايمان أمير المؤمنين عليه السّلام برسول الله صلّى الله عليه وآله ما تنفتح الأذهان ، وتكثر الرغائب لأن حبّ عليّ عليه السّلام فرض على المؤمنين ، وغيظ على المنافقين ، فمن أحبّ عليّا فلرسول الله صلّى الله عليه وآله أحبّ ومن أمسك عنه فقد عصى الله ونكب عن سبيل النجاة لأنّه أول من آمن برسول الله صلّى الله عليه وآله ، وصلّى معه ، وصدّق بما جاء من الله وسارع الى مرضاة الله ومرضاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وصبر على البأساء والضرّاء في كلّ شدّة وعسر ، وكان أكثر أصحابه نصحا له ، وأكثرهم وأشدّهم مواساة بنفسه وذات يده له ، وكان ممّا منّ الله به على أمير المؤمنين عليه السّلام في دلائله ، واختصه بفضائله ، ومنحه من الكرامة ، والحباء وشرّفه بسوابق الزلفى ، انّه كان في حجر رسول الله صلّى الله عليه وآله قبل مبعثه ، يغذوه بما يغذو به نفسه.

كفالة ابي طالب للنبي عليه السّلام

وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله في حجر أبي طالب يغذّيه ويحوطه ، وذلك أن أبا الحرث عبد المطلب بن هاشم كان يكفل الأرامل والأيتام ويغيث الملهوف ويجير المظلوم وينظر المعسر ويحمل الكلّ ويقري الضيف ، ويمنع من الضيم ، وكان برسول الله صلّى الله عليه وآله حفيّا في السر والاعلان يتفقّده في مطعمه وأغذيته ، ويعدله قريشا ، يخضع له الأشراف ، ويذلّ له عظماء الملوك ويدين بدينه جميع أهل الملل والأديان ، وترعد لهيبته فرائص الجبارين ويظهر على من خالفه وناوأه حتى يقرنهم في الأصفاد ويبيع ذراريهم في الأسواق ويتخذ ابناءهم عبيدا ، وشجعانهم جنودا ، وتعينه الملائكة على نصرته فطوبى لمن آمن به من عشيرته وطوبى لامّته.

فلما مرض مرضه الذي مات فيه وضع رسول الله صلّى الله عليه وآله في حجر أبي طالب عليه السّلام

١٣٤

ووصّاه به ، وقال له : يا بني هذا فضل من الله عليك ومنحة وهدية مني إليك الهمنيه في أمرك وهو ابن أخيك لأبيك وأمّك دون ساير اخوانك ثم اطلعه على مكنون سر علمه ودلائله وأخبره بما بشّر به عن الأنبياء والمرسلين صلّى الله عليهم ، وما رواه فيه أفاضل الأحبار ، وعبّاد الرهبان ، وأقيال العرب وكهّان العجم.

ولم يكن لأبي طالب يومئذ ولد ، وكان فردا وحيدا ، امرأته فاطمة بنت أسد بن هاشم ابن عبد مناف بنت عمه وكانت ممنوعة من الولد تنذر لذلك النذور ، وتتقرّب الى الأصنام وتستشفع بالأزلام الى الرحمن وتعتر العتائر ، وتضخ وجوه الأصنام ، بذكي المسك وخالص العنبر ، تطلب الولد. وكانت كلّما لقيت كاهنا أو حبرا عالما من السدنة بشّرها انها تبتني ولدا لم تلده وتربيه ويأمرها إذا رزقته أن تضمّه وتكنفه وتحفظه ولا تبعده فتسألهم أن يسمّوه ويصفوه لها فيقولون ذاك نور منير بشير نذير مبارك في صغره منبئ في كبره ، يوضح السبيل ، ويختم الرسل ، يبعث بالدين الفاضل ويزهق العمل الباطل ، يظهر من أفعاله السداد ويتبيّن باتّباعه الرشاد ، وينهج الله له الهدى ، ويبيّن به التقى. فكانت فاطمة بنت أسد ترقب ذلك وتنتظره. فلما طال انتظارها ، وذهل اصطبارها ، أنشأت تقول :

طال الترقّب للميعاد إذ عدمت

مني الحوائل ولدا من عناصيري

لما أتيت الى الكهّان بشّرني

عند السؤال عليم بالمخابير

فقال يوعدني والدمع مبتدر

يا فاطم انتظري خير التباشير

نورا منيرا به الأنباء قد شهدت

والكتب تنطق عن شرح المزامير

انى بذاك فقد طال الطلاع الى

وجه المبارك يزهو في الدياجير

فلما مات عبد المطلب كفل أبو طالب رسول الله صلّى الله عليه وآله بأحسن كفالة ، وحن عليه ، ودأب في حياطته وتمسّك به والتحف عليه وعطف على جوانبه.

وكان أبو طالب محترما معظّما كشّافا للكروب غير هذر ولا مكثار ولا عاق بل بر وصول ، جواد بما يملك ، سمح بما يقدر ، لا يثنيه عن مبادرة الخطاب وجل ، ولا يدركه لدى الخصام ملل ، فشغف برسول الله صلّى الله عليه وآله شغفا شديدا. وولهت بحبّه فاطمة بنت أسد

١٣٥

وذهلت بمحبته ودلاله التي وعدت بها فكانت تقول : وإله السماء لقد قبل نذري وشكر سعيي وأجيبت دعوتي ، لأنزلن محمّدا من قلبي منزلة صميم الاحشاء ولألهون برؤيته عن كلّ نظرائه ، ومن أولى بذلك ممّن أعطي مثله ، وليس هذا من أمر الخلق بل هو من عند الإله العظيم.

فكانت قد جعلته صلّى الله عليه وآله نصب عينها ان غاب لحظة لم يغب عنها مثاله ولم يفقد شخصه وتذهل حتى تحضره فتشتغل بتغذيته وغسله وتنظيفه وتلبيسه وتدهينه وتعطيره واصلاح شأنه وتعاهد ارضاعه بالنهار فإذا كان بالليل اشتغلت بفرشه ونومه وتوسيده وتمهيده وتعوّذه وتنيمه

قال : وكانت في دار أبي طالب نخلة منعوتة بكثرة الحمل موصوفة بالرّقة وعذوبة الطعم شهية المضغ يعقب طعمها رايحة طيبة عطرية كرائحة الزعفران المذاب بالعسل ، كثيرة اللحا قليلة السحا ، دقيقة النوى فكان رسول الله صلّى الله عليه وآله يأتي إليها كلّ غداة مع أتراب له منهم أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب ابن عمه وأبو سلمة بن عبد الأسد ومشروح بن نويبة فيلتقطون ما يتساقط تحتها من ثمرها بهبوب الرياح ووقوع الطير ونقره.

وكانت فاطمة بنت أسد لا ترى رسول الله صلّى الله عليه وآله يسابق اترابه على البسر والبلح والرطب في أوانه ، وكان الغلمة يبادرون لذلك وهو ـ عليه السّلام ـ يمشي بينهم وعليه السكينة والوقار بتواضع وابتسام ويتعجب من حرصهم وعجلتهم ، فكان ان وجد شيئا ساقطا بعدهم أخذه وإلّا انصرف بوجه منبسط طلق وبشر حسن.

فكانت فاطمة تعجب من شدّة حيائه وطيب شأنه ورقّة قلبه وسرعة دمعته وكثرة رخمته ، فربما جمعت له من تمر النخلة قبل مجيئهم فاذا أقبل صلّى الله عليه وآله قدّمته إليه ، فيحبّ أن يأكله معهم.

قالت فاطمة : ودخل على أترابه يوما وأنا مضطجعة ولم أره معهم فقلت : اين محمد؟.

قالوا : مع عمّه أبي طالب وراءنا.

١٣٦

فسكنت نفسي قليلا ، ولقط الغلمان ما كان تحت النخلة. وجاء بعدهم محمّد فلم ير تحتها شيئا ، فصار إليها ووقف تحتها ، وكانت باسقة ، فأومأ بيده إليها ، فانثنت بعراجينها حتى كادت تلحق بثمارها الأرض ، فلقط منها ما أراد ثم رفع يده وأومأ إليها ، فرجعت ، وحسبني راقدة.

قالت : وكنت مضطجعة ، فلما رأيت ذلك استطير في روعي ، ولم أملك نفسي فأتيت أبا طالب فخلوت به ، فقلت له : كان من أمر محمّد صلّى الله عليه وآله كيت وكيت.

فقال : مهلا يا فاطمة لا تذكري من هذا شيئا فانّه حلم وأضغاث.

فقلت : كلا والله ، بل هو حقّ يقين في يقظة لا في نوم ، ورأي العين لا رؤيا ، واني لأرجو الله أن يحقّق ظنّي فيه وان يكون الذي بشّرت بتربيته ووعدت الفوز عند كفالته.

فكانت فاطمة لا تفارق رسول الله صلّى الله عليه وآله في ليل ولا نهار ، ولا تغفل عنه وعن خدمته وتفقّد مطعمه فكان صلّى الله عليه وآله يسمّيها أمي ، وهجرت الأصنام ، وقطّعت القربان إليها من الذبائح في الأعياد تسأل الولد. وتسلّت برسول الله صلّى الله عليه وآله والتبني له وخدمته عن كلّ شيء. فلما قطعت عادتها ، وجد عليها السدنة من ذلك ومنعوها من الدخول على الصنم الأعظم ، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله يحضر قريشا في مشاهدهم كلّها غير السجود للأصنام ، والذبائح للأنصاب ، وفي حال شرب الخمر ووصف الشعر ، وقول الزور ، فانّه كان يجتنبهم مذ كان طفلا حتى استكمل فدخل يوما على سادن من سدنة الأصنام ، فقال له : لم تعتب على أمي فاطمة وتمنعها من زيارة هذه الأحجار المؤثرة فينا الاعتبار؟.

فقال له السادن : لأنها أتت بأمور متشابهة ، وقطعت بر الآلهة ، وهي لمن عبدها نافعة ، ولمن جاء إليها شافعة ، وستعلم ابنة أسد انها لا ترزقها ولدا.

فقال له النبيّ صلّى الله عليه وآله : أأصنام ترزقكم الولدان ، وتأتيكم بالغيث عند المحل في السنوات الشداد؟.

قال له السادن : نعم! أو ما علمت نحن نحمد ذلك عند الأصنام عاجلا في الفاقة وآجلا مدّخرا.

١٣٧

والتفت الى السدنة فقال : هذا غلام مات أبوه وجدّه وامّه وظئره وهو طفل فكفله من لا يعبأ به ولا يدلّه على رشده ـ وهو عمّه وامرأة عمّه.

فقال له النبي صلّى الله عليه وآله : فأخبرني عن هذه الأصنام من خلقها ومن ابتدع الامم السالفة ورزقها؟.

قال السادن : الله فعل ذلك ، وهو لجميع الخلق مالك.

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : فان أمي تجعل قربانها لله الحي القائم القديم فهو أحقّ من الأصنام.

ثم انطلق الى فاطمة من ساعته وحدّثها بما جرى بينه وبين السادن وقال لها : قرّبي إلى الله قربانك.

فاصطفت القربان وقالت : هذا لله خالصا .. جعلته ذخرا .. قبلته من محمّد حبيبي.

فما أصبحت من ليلتها حتى اكتست حسنا الى حسنها وجمالا إلى جمالها.

فحملت فولدت عقيلا ثم حملت فولدت طالبا ثم حملت فولدت جعفرا ، وكان وجهها في كلّ يوم يزداد نورا وضياء لما حملت بأزكاهم وأطهرهم وأبرّهم وأرضاهم عليّ ، فولدته ونالها في ولادته بعض الصعوبة ثم جاءت به الى بيت أبيه حتى حنكه رسول الله صلّى الله عليه وآله ووضعه في حجره وقمطه في حضنه قبل كلّ أحد من الناس.

ثم رزقت بعد علي أم هاني واسمها فاختة وهي المباركة الطيبة اخت الطاهرين من ولد أبيها أبي طالب.

مولد علي عليه السّلام

وكانت فاطمة حملت بعلي عليه السّلام في عشر ذي الحجة وولدته في النصف من شهر رمضان ، وحملت به أيام الموسم. وبعد حملها بخمسة أيام كانت جالسة وقد كسيت نورا وجمالا ، ووجهها يزهر ، وجبهتها تتلألأ بين الأكارم من الفواطم من قريش ، منهنّ فاطمة بنت عمرو بن عائذ جدّة رسول الله صلّى الله عليه وآله لأبيه ، وفاطمة بنت زائرة بن الأصم أم خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت عبد الله بن ورام ، وفاطمة بنت الحرث بن عكرمة ، وممّن لم

١٣٨

يحضرن ويلحقن من الفواطم اللواتي يقربن من رسول الله صلّى الله عليه وآله ومن علي عليه السّلام بالنسب واللحمة : فاطمة بنت النضر أم ولد قصي. فانهنّ لجلوس يتفاخرن بالذراري والأولاد إذ أقبل رسول الله صلّى الله عليه وآله وكان وجهه المرآة مصقولة والمهاة مجلوة ينثني كغصن مياد وقد تبعه بعض الكهان ينظر إليه نظرا شافيا.

فجلس رسول الله صلّى الله عليه وآله الى فاطمة أم علي بين العجائز من الفواطم وجلس الكاهن بازائه لا يمر به كاهن مثله ولا حبر ولا قايف ولا عايف إلّا همس إليه وغمزه واستوقفه ، ينظرون إليه فبعض يشير إليه بسبّابته وبعض يعضّ على شفته.

فغاب رسول الله صلّى الله عليه وآله بقيامه ودخل الى منزل عند عمّه.

فقال الكاهن للعجائز : من هذا الفتى الذي قد زها بحسنه على كلّ الفتيان والرجال والنساء؟.

قالوا : هذا المحبّب في قومه محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب ذو الفضل والعرف والسؤدد

فقال الكاهن : يا معشر قريش ايذنوا بالحرب ، بعد الهرب ، من سيف النبيّ المنتجب ، الويل منه للعرب وللأصنام والنصب.

ثم نادى : يا أهل الموسم الحافل ، والجمع الشامل ، قرب ظهور الدين الكامل ، ومبعث النبيّ الفاضل ، ثم أنشأ يقول :

اني رأيت نبيّا ما كنت أعرفه

حقا تيقنه قلبي باثبات

في الكتب أنزله لما تخيره

وكنت أعرف ما في شرح توراة

من فضل أحمد من كالبدر طلعته

يزهو جمالا على كلّ البريات

من أمّة عصمت من كلّ خائنة

وصار مجتنبا رجس الخسارات

ما زلت أرمقه من حسن بهجته

كالشمس من برجها تبدي الطليعات

فان بقيت الى يوم السباق وقد

نادى قريشا لتبليغ الرسالات

كنت المجيب له لبيك من كتب

أنت المفضّل من خير البريات

يا خير من حملت حواء أو وضعت

من أوّل الدهر في رجع الكريرات

قد كنت أرقب هذا قبل فجوته

حتى تلمسته قبضا براحات

١٣٩

فاليوم أدركت غنما كنت أرقبه

من عند ربّي جبار السموات

فيا لها فرحة يعتادها نجح

لما حبيت بتحبير التحيات

فكيف ينزل من نال الرياح ومن

أهدى له موهب من خير خيرات

ذاك النبيّ الذي لا شك منتجب

جبريل يقصده بالوحي تارات

في كلّ يوم بوحي الله يمنحه

ينبيه عن كلّ معلوم الدلالات

قال : فقالت فاطمة بنت أسد : فرأيت حبرا منهم يسمع شعر الكاهن ودموعه تسحّ على خدّيه فتبعته فقلت له : أقسمت عليك بدينك وسفرك وكتابك لتخبرني بالأمر على حقيقته ، فان الحكيم لا يكتم من استنصحه نصيحة يقوي بها بصيرته.

فنظر الحبر الى رسول الله صلّى الله عليه وآله نظرا مستقصيا ثم قال : والله هذا غلام همام ، آباؤه كرام ، يكفله الأعمام ، دينه الاسلام ، شريعته الصلاة والصيام ، تظلّه الغمام ، يجلي بوجهه الظلام ، من كفله رشد ، ومن أرضعه سعد ، وهو للأنام سند ، يبقى ذكره ما بقي الأبد.

ثم ذكر كفالة أبي طالب إيّاه وعدّد سيرته وخاتمة أمره وعقباه.

ثم قال : وتكفله منكم امرأة تطلب بذلك زيادة العدد فسيكون هذا المبارك المحمود لها في طيب الغرس أفضل ولد.

قالت : فقلت له : لقد أصبت فيما وصفت الى حيث انتهيت ، وقلت الحق عند ما شرحت ، انا المرأة التي أكفله ، زوجة عمّه الذي يرجوه ويؤمله.

فقال لها : ان كنت صادقة فستلدين غلاما ، رابع أربعة من أولادك شجاعا قمقاما عالما إماما مطواعا همّاما ، بدينه قوّاما ، لربّه مصلّيا صوّاما ، غير خرق ولا نزق ولا أحيف ولا جنف ، اسمه على ثلاثة أحرف ، يلي هذا النبي في جميع أموره ، ويواسيه في قليله وكثيره ، يكون سيفه على أعدائه ، وبابه الذي يؤتى منه الى أوليائه ، يقصع في جهاده الكفّار قصعا ، ويدع أهل النكث والغدر والنفاق دعا ، يفرّج عن وجه نبيّه الكربات ، وتجلي به دياجر حندس الغمرات ، أقربهم منه رحما ، وأمسهم لحما ، وأسخاهم كفّا ، وأنداهم يدا ، يصاهره على أفضل كريمة ، ويقيه بنفسه في أوقات شدّته ، تعجب من صبره ملائكة الحجاب إذا قهر أهل الشرك بالطعن والضراب ، يهاب صوته أطفال المهاد ، وترعد

١٤٠