إثبات الوصية للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

أبو الحسن علي بن الحسين بن علي الهذلي المسعودي

إثبات الوصية للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

المؤلف:

أبو الحسن علي بن الحسين بن علي الهذلي المسعودي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
الطبعة: ٣
ISBN: 964-438-486-5
الصفحات: ٢٧٩

لأنّه خزم نور آبائه فلم يزل كذلك حتى تزوج «بنت طابخة» فأولدها «كنانة».

فتزوّج كنانة بامرأة يقال لها «الحافة» فأولدها «النضر» وإنمّا سمّي النضر لأن الله سبحانه وتعالى اختاره وألبسه نضرة وسمّي النضر قريشا فكلّ من ولده النضر قرشي وهو الذي قال رأيت كأنّما خرجت من ظهري شجرة خضراء حتى بلغت عنان السماء وأن أغصانها نور في نور فلما انتبهت أتيت الكعبة وأخبرت من فيها بذلك فقالوا ان صدقت رؤياك صرف إليك العزّ والكرم وخصصت بالحسب والسؤدد.

فأعطاه الله ذلك ونظر الله تبارك وتعالى نظرة الى الأرض فقال للملائكة : انظروا من أكرم أهل الأرض اليوم عندي وأنا أعلم وأحكم؟.

فقالت الملائكة : ربّنا وسيّدنا ما نرى أحدا يذكرك بالوحدانية مخلصا إلّا نورا واحدا في ظهر رجل من ولد اسماعيل.

قال : فقال الله : اشهدوا اني قد اخترته لنطفة حبيبي محمّد صلّى الله عليه وآله.

قال : فانبسط له بالعزّ والشرف حتى ولد له «مالك» وإنمّا سمّي مالكا لأنّه ملك العرب فأوصى الى ابنه «فهر» وأوصى فهر إلى ابنه «غالب» وأوصى غالب إلى ابنه «لؤي» وأوصى لؤي الى ابنه «كعب» وأوصى كعب إلى «مرّة» وأوصى مرّة إلى «كلاب» وأوصى كلاب الى «قصي» وأوصى قصي الى «عبد مناف» لأنّه أناف علا الناس وعلا فضرب الى الركبان من أطراف الأرض فأول ولد ولد له هاشم ، وإنمّا سمّي هاشما لأنّه أوّل من هشم الثريد لقومه وكان الناس في جدب شديد ومحل من الزمان وكانت مائدته منصوبة وكان يحمل ابناء السبيل ويؤمن الخائفين وكانت صفته وحليته على حلية اسماعيل عليه السّلام.

فلما خصّ الله عز وجل هاشما بالنور واصطفاه على العرب وفضّله على ساير قريش قال للملائكة اشهدوا انّي قد طهّرت عبدي هذا من دنس الآدميين وأحدثت نطفة محمّد في ظهره.

وكان يرى على وجهه كالهلال والكوكب الذي يتوقّد شعاعه ، لا يمر بشيء إلّا سجد له ، ولا يمر بأحد من الناس إلّا أقبل نحوه ، تفد إليه قبائل العرب وملوك الروم ووفود

١٠١

الدّنيا من الأحياء ، ويحملون إليه بناتهم يعرضونهن عليه ، وكان يأبى ويقول : لا والذي فضّلني على أهل زماني لا تزوجت إلّا بأطهر نساء العالمين.

قال : فلم يزل كذلك حتى رأى في المنام أن يتزوّج بسلمى بنت زيد بن عمرو بن لبيد ابن خراش بن عدنان فتزوجها وكانت كخديجة بنت خويلد في زمن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وكان لها عقل ويسار وحلم فواقعها فولدت له عبد المطلب وكان هاشم خطب خطبته المعروفة بالمنذرة.

روى هارون عن زكريا الهجري عن أبي جميل البحراني باسناد له رفعه الى علي بن جعفر الصادق عليه السّلام قال سمعت أخي موسى ـ عليه السّلام وعلى آبائه ـ يقول : رأى اعرابي رؤيا لهاشم بن عبد مناف فقصّها عليه ، فقال له هاشم : سل اعطك.

قال : تجيد حلّتي وتسدّ خلّتي وتحمل وجلتي.

قال : فأمر له بناقة حمراء دريرة يتبعها من نتاجها خمسة أبطن كلّها منتج فأمر له بمائة نعجة شحمة حلوب وكساه من حلل صنعاء وعدن وقال له : لئن أخرني الله الى كون لأجعلنك سيّد العرب.

فلما كان الليل رأى هاشم في منامه كأنّه رفع إليه لواء فركزه على باب داره وكأن شهاب نار خرج من ظهره أضاءت له الدّنيا ولم يبق شيء من الجن والانس والطير والوحوش إلّا صار تحت ذلك اللواء حتى نطحت الشاة الذئب ونبح الكلب الأسد وورد ذلك الجمع كلّه شربا واحدا وسمع هاتفا يقول : يا أبا نضلة هذا بيت شعر يكتب بسطر منفرد :

على رغم آناف الذين تحزّبوا

سيظهر محمود وينصر ناصره.

فلما أصبح هاشم أمر مناديا فنادى في شعاب مكّة : يا معشر أولاد النضر بن كنانة ومن سكن بمكّة من قبايل مكّة لا يتخلفن أحد عن ندائي.

فلما اجتمع الناس وأوفت الركبان من كل مكان خرج عليهم وقد نصب له منبره المركز فجلس عليه ساكتا لا يتكلّم فقالت قريش يا أبا نضلة لأمر كان نداؤك فانبه فلقد ضاقت منه الصدور.

١٠٢

فقال : والله هيه عن قريب أضيق ، اذا حضرت القروم تنفخ شقّا شقا ، وخنس كل حادل يحك عجب الذنب فكيف بكم اذا صرتم كدوحة القاع أحاط بها الراعي بغنم المرعى فهي تحصد هشيم أغصانها ، فعندها تصبح تلك الأعلام سهلة محجتها ، لحافر العير وظلف المعزى ويتواضع كلّ شموخ عالي الذروة صعب المرتقى فاذا كان ذلك قرع النبع بالنبع وأرثت الزناد بجناتها وساد ذليل القوم عشيرته ، واتبع المتبوع تابعه ، واضطربت أمواج العرب. واصطكت جنادل قريش ، فثم تنكر قريش أمرها.

فقالت قريش : يا أبا نضلة ان سحابك ليرعد بغرق العشيرة فأبن القول نعلمه ، واشرح الأمر نفهمه.

قال : انّه لأمر عجيب وكاين عمّا قريب يعزّ تابعه ويذلّ دافعه ، فاذا أنار بدره ، وشدّ أزره ، وقاتل فظفر ، وغزا فنصر ، فليست مكّة لقريش ، ولتلقيه رجالات قريش تمنعها أواصر الألفة من اتباعه ، كالابل حول قليب السقي ، والله والله ليكونن ما أقول ولو أدركته اذا والله حاميت عنه محاماة الأسد عن عرينه ، وضاربت دونه مضاربة الجمل الهايج عن النوق الضبع ، فثم ترزأ الحاضن بيضها وتثكل المفردة وحيدها ويبكم خطيب العشيرة ، ويقدم كسير القطيع ، والله ليكونن وليظهرن وان رغمت منه أنف رجال ، حين يهتف بي فلا أجيب.

قال : وخرج فمات بغزّة. فرآه أبوه يوما في الحجر مكحولا مدهونا قد كسي حلّة من حلل الجنّة فبقى متحيرا لا يدري من فعل به ذلك. فأخذ بيده وانطلق به الى كهنة قريش فأخبرهم بذلك فقالوا اعلم يا أبا نضلة ان إله السماء قد أذن لهذا الغلام بالتزويج.

قال : فزوّجه (قبلة بنت عمرو بن عائشة) فولدت له الحارث فماتت ، فزوّجه بعدها هندا بنت عمرو ، وحضرت هاشم الوفاة فدعا بعبد المطلب وقال له : يا بني اجمع إليّ بني النضر كلّها عبد شمسها ومخزومها وفهرها ولؤيها وغالبها وهاشمها.

فجمعهم عبد المطلب وهو يومئذ غلام ابن خمس وعشرين سنة أطول قريش باعا وأشدّهم قوّة تفوح منه روايح المسك ويسطع من دائرة جبينه النور.

قال : فلما أبصر هاشم ذلك النور قال : معاشر قريش ، أنتم مح أولاد اسماعيل

١٠٣

وأولادي وقد اختاركم الله جل وعز لنفسه ، فجعلكم سكّان حرمه وبيته ، وأنا ربيبكم وسيّدكم ، فهذا لواء نزار ، وقوس اسماعيل ، وسقاية الحاج ومفاتيح الكعبة ، قد سلّمتها الى ابني عبد المطلب فاسمعوا له وأطيعوا أمره.

قال : فوثبت قريش فقبلت رأس عبد المطلب ونثروا عليه ورقا وعينا وقالوا سمعنا وأطعنا.

فكان لواء نزار وقوس اسماعيل وسقاية الحاج ومفاتيح الكعبة كلّ ذلك يجري على يديه وكانت ملوك الأطراف والأكناف جميعا تكاتبه وتهاديه وتعرف له فضله ما خلا كسرى صاحب المدائن فانّه كان معاندا مكاشفا.

وكانت قريش إذا أصابها محل أو شدّة يأخذون بيد عبد المطلب ويخرجونه الى جبل ثبير فيتقرّبون الى الله عز وجل به ويستسقون ، فكان الله عز وجل يسقيهم بنور رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الغيث.

ولقد روي من نور رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عجب يوم قدوم ابرهة بن الصباح الملك الذي قدم لهدم الكعبة وبيت الله الحرام فقال عبد المطلب : يا معشر قريش انّه لا يصل الى هدم هذا البيت لأنّ له ربا يحفظه.

وجاء ابرهة الملك فنزل بفناء مكّة فاستاق ابلا وغنما لقريش وأربعمائة ناقة حمراء لعبد المطلب فقام فركب في نفر من قومه فلما صار على جبل ثبير استدارت دائرة غرة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على جبين عبد المطلب كالهلال وزهر شعاعها على البيت الحرام كالسراج اذا وقع على الجدار ضوء.

فلما نظر عبد المطلب الى ذلك من نفسه قال : معاشر قريش ارجعوا فقد كفيتم فو الله ما استدار هذا النور مني قط إلا كان الظفر.

ثم قصد الملك وقال الملك وقد سأله عبد المطلب في الابل والغنم : جئت لأخرّب بيته وشرفه وهو يسألني في الإبل.

فأخبر الترجمان عبد المطلب بذلك عنه ؛ قال : سألت فيما هو لي ولقومي ؛ والبيت لمن يحميه ولا يدع أحدا يصل إليه ، ومتى تهيأ له الوصول الى البيت واخرابه فليقتلني فيه.

١٠٤

فاشتد ذلك على (ابرهة) وقيل ان ابرهة عند ما حاصر مكّة بعث إليها رجلا من قومه يقال له حنظلة الحميري وكان شديد البأس فأقبل يسير حتى دخل مكّة فسأل عن خير الناس فقيل له عبد المطلب فلما ادخل عليه حنظلة حضر وتلجلج لسانه وخرّ مغشيا عليه يخور كما يخور الثور اذا جز.

فلما أفاق خر ساجدا له فقال : اشهد انّك سيّد قريش حقا.

قال : وكان لا يدخل مكّة أحد وينظر الى وجه عبد المطلب إلّا خرّ له ساجدا إكراما من الله جل وعز لنبيّه محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ثم أدّى رسالة ابرهة الملك الى عبد المطلب فركب في نفر من قومه فلما توسط العسكر سبقه حنظلة وجعل يسعى سعيا حثيثا حتى دخل على الملك فقال له قد جاءك سيّد قريش حقّا.

قال : وكيف علمت.

قال : لأنّي لم أر في الآدميين أجمل منه وجها ، كان صفاء لونه اللؤلؤ المكنون. واعلم انّه لم يمر بشيء إلّا خرّ له ساجدا.

فأخذ ابرهة أحسن زينته وأذن له بالدخول فلما دخل عبد المطلب على ابرهة وهو على سرير ملكه في قبّة ديباج سلّم عليه فرد ابرهة عليه السلام وقام قائما فأخذ بكلتا يديه فأقعده معه.

فأقبل الملك ابرهة ينظر الى وجهه ثم قال له هل كان في آبائك أحد له مثل هذا النور؟

قال : نعم كلّ آبائي كان لهم هذا النور.

قال ابرهة : فأنتم قوم قد فاخرتم الملوك شرفا وفخرا.

ثم التفت الى سايس الفيل الأبيض وكان عظيما أبيض له نابان مرصعان بالدرّ والجواهر كان يباهي به جميع ملوك الأرض وكان من بين الفيلة لا يسجد لابرهة فقال له : اخرجه.

فأخرجه وقد زيّن فلما نظر الفيل الى عبد المطلب برك كما يبرك البعير وخرّ ساجدا

١٠٥

ونادى بلسان عربيّ مبين : السلام على النور الذي في ظهرك يا عبد المطلب سيّد قريش حزت العز والسناء والشرف.

فلما سمع ابرهة مقال الفيل وقع عليه الإفك وهي الرغدة فظن ان ذلك سحره فبعث من ساعته فجمع له كلّ ساحر في المملكة وقال لهم حدّثوني عن شأن هذا الفيل انّه لا يسجد لي وقد سجد لعبد المطلب.

قالت له السحرة أيها الملك ان هذا الفيل لم يسجد لعبد المطلب وإنمّا سجد لنور يخرج من ظهره في آخر الزمان يقال له محمّد يملك الأرض شرقا وغربا وبرّا وبحرا وسهلا وجبلا وتذلّ له الملوك ويدين بدين صاحب هذا البيت إبراهيم ، وملكه أعظم من ملك أهل الدنيا فتأذن لنا أيّها الملك أن نقبّل يديه ورجليه ، فأذن لهم ابرهة في ذلك.

فقامت السحرة فقبلت يدي عبد المطلب ورجليه وقام الملك متواضعا فقبّل رأسه وأمر له بأجزل الجوائز والعطايا ورد عليه وعلى عشائره من قريش ما أخذ منهم.

وعاد عبد المطلب الى مكّة فتزوج هالة بنت الحارث فولدت أبا لهب واسمه عبد العزى فخرج كافرا شيطانا وماتت هالة فتزوج بعدها عدّة من النساء وولد له عدّة أولاد.

ثم نام يوما في الحجر قال فرأيت كأنّه قد خرج من ظهري سلسلة بيضاء لها أربعة أطراف طرف منها بلغ مشارق الأرض وطرف بلغ مغاربها وطرف لحق أعنان السماء وطرف جاوز الثرى فبينما أنا أنظر إليها إذ صارت في أسرع من طرف العين شجرة خضراء لم ير الراءون أنضر منها ولا أحسن فبينما أنا كذلك فإذا أنا بشخصين بهيين قد وقفا عليّ فقلت لأحدهما من أنت؟ فقال أما تعرفني؟ قلت لا. قال : أنا أبوك نوح رسول ربّ العالمين.

وقلت للثاني من أنت؟ فقال : أنا أبوك إبراهيم خليل ربّ العالمين.

ثم انتبهت.

فقيل له ان صدقت رؤياك ليخرجن من ظهرك من يؤمن به أهل السموات والأرض وليكونن في الناس علما مبينا.

١٠٦

فرجع عبد المطلب وبقي زمانا لا يدري بمن يتزوج حتى رأى في منامه بأن يتزوّج بفاطمة بنت عمرو بن عامر المخزومي فتزوجها وأمهرها مائة ناقة حمراء وحملت منه فولدت أبا طالب ثم حملت فولد الزبير.

وأقام على ذلك زمانا لا يزول النور عن وجهه. فلما كان يوم من الأيام رجع من قنصه في الظهيرة وهو عطشان يلهث فرأى في الحجر ماء معينا وشرب من ذلك الماء فوجد برده على قلبه ثم دخل تلك الساعة على فاطمة فواقعها فحملت بعبد الله بن عبد المطلب وهو أصغر ولده وأخو أبي طالب لأبيه وأمه فلما ولدته سر أبوه به سرورا شديدا فلم يبق أحد من احياء العرب ولا الشام إلا علم بمولده وذلك انّه كانت عنده جبّة صوف بيضاء مغموسة في دم يحيى بن زكريا عليهما السّلام وكانوا يجدون في الكتب (ان اذا رأيتم الجبّة البيضاء والدم يقطر فيها فاعلموا ان عبد الله بن عبد المطلب عليه السّلام قد ولد) فما زالوا يترقبون الجبّة على مرّ السنين حتى اذا صار عبد الله غلاما مترعرعا قدمت عليه الاحياء ليقتلوه فصرف الله كيدهم عنه فرجعوا خائبين لم يقدروا في أمره على حيلة.

وكان تجارة قريش يومئذ بأرض الشام فكان لا يقدم على احبار يهود الشام أحد من أهل الحرم وتهامة إلّا سألوه عن عبد الله بن عبد المطلب فيقول بخ بخ تركناه يزداد في قريش تلألأ وحسنا وجمالا وكمالا فيقول الأحبار : معاشر قريش ان ذلك النور ليس لعبد الله بن عبد المطلب ... ذلك النور لمحمّد نبي يخرج من ظهره في آخر الزمان يغيّر عبادة الأصنام ويزيل عبادة اللات والعزى ويبطلها.

فكانت قريش إذا سمعت بذلك يغشى عليها فإذا رجعت عادت في كفرها ثم تقول : القول كما يقولون وربّ الكعبة.

وعبد الله يومئذ أجمل أهل زمانه كلّهم قد شغف به نساؤهم حتى لقي في زمانه ما لقي يوسف الصدّيق عليه السّلام من امرأة العزيز في زمانه فقالت السحرة انّا إذا لم نغلب هذا الفتى على هذا النور الذي بين عينيه تخوفنا أن يسلب علمنا عن قليل وكهانتنا.

فكانت الكهنة تعرض أنفسها عليه مع المال الكثير فيأباهم ويقول : لا سبيل لي إلى كلامكم وكان يخبر أباه عبد المطلب بالعجائب. فقال له يوما : يا أبه اني خرجت من

١٠٧

بطحاء مكّة فخرج من ظهري نوران أحدهما يأخذ المشرق والآخر المغرب وان النورين استدارا في ظهري كأسرع من طرف العين.

فقال له : ان صدقت رؤياك ليخرجن من ظهرك خير العالمين.

وبقي عبد الله على ذلك زمانا ودهرا ليس لنساء قريش تشوّق ولا همّة غيره.

وقدم عليه بعد ذلك سبعون حبرا من يهود الشام فتحالفوا أن لا يخرجوا أو يقتلوا عبد الله فجاءوا معهم بسبعين سيفا مسقاة سمّا فجعلوا يسيرون الليل ويكمنون النهار حتى نزلوا بفناء مكّة وأقاموا. فلما كان في بعض الأيام خرج عبد الله الى الصيد وحيدا فأصاب الأحبار منه خلوة فأحدقوا به ليقتلوه فلما نظر الى ذلك وهب بن عبد مناف الزهري وهو أبو آمنة أم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أدركته الحمية فقال : سبعون رجلا يحدقون برجل واحد من أهل مكّة لا ناصر له ولا معين أشهد لأنصرنه عليهم.

قال : فحمل من مكانه لنصرة عبد الله على اليهود فحانت منه التفاتة فنظر الى رجال لا يشبهون رجال الدّنيا ينزلون على الأرض من السماء فحملوا على اليهود فقطعوهم إربا إربا.

فلما نظر وهب الى ذلك رجع إلى أهله مبادرا فخبرها بالخبر وقال انطلقي الى عبد المطلب فاعرضي عليه ابنتك لابنه عبد الله لعلّه يتزوّجها قبل أن يسبقنا إليه قوم آخرون فتكون الحسرة الكبرى والمصيبة العظمى.

فجاءت (برة) الى عبد المطلب فعرضت ابنتها عليه وهي (آمنة) فقال عبد المطلب : لقد عرضت امرأة لا يصلح لا بني من النساء غيرها. فزوّجها إيّاه على مائة ناقة حمراء فلما ابتنى عبد الله (بآمنة) مرض نساء قريش وتلف خلق منهنّ ومن غيرهن أسفا إذ لم يتزوجهن عبد الله.

وأعطى الله عز وجل آمنة بنت وهب من النور والجمال والبهاء والكمال ما كانت تدعى سيدة قومها.

وبقي عبد الله على ذلك سنين ونور محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم بين عينيه لا يخرج الى بطن زوجته حتى أذن الله عز وجل لذلك النور أن ينزل من ظهر عبد الله الى بطن آمنة في ذي الحجة

١٠٨

عشيّة عرفة وليلة جمعة وأمر الله تبارك وتعالى رضوان خازن الجنّة عليه السّلام أن يفتح أبواب الجنّة وفتحت أبواب السماء والفراديس كلّها وبشّرت الأرض بأن النور المكنون منه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الليلة يستقر في بطن آمنة امّه.

وأصبحت يومئذ أصنام قريش وأصنام الدّنيا كلّها منكوسة مصفدة فيها شياطينها وأصبح عرش إبليس اللعين منكوسا أربعين يوما وأفلت محترقا هاربا حتى أتى جبل أبي قبيس فصاح صيحة اجتمع إليه كلّ شيطان مريد فقالوا لسيّدهم ما ذا الحال؟.

فقال : ويلكم هلكتم بهذه المرّة هلاكا لم تهلكوا مثله قط.

قالوا : ما القصة؟.

قال : هذا محمّد مبعوث بالسيف القاطع الذي لا حياة بعده. امّته امة هي التي ألعنني ربي من أجلها وجعلني شيطانا رجيما ، يظهرون الوحدانية ولا يشركون بربّهم شيئا ، وسيأتي من هذا النبي ومن امّته ما يسخن عيني وقلبي فإلى أين المفر والملجأ؟

فقالت له عفاريته : طب نفسا وقرّ عينا فان الله جل وعز خلق ذرية آدم على سبعة أطباق ولكلّ طبق منهم جزء مقسوم وقد مضت ستة أطباق وكانوا أشدّ من هؤلاء وأكثر جمعا وأولادا وقد استوثقنا منهم ولا بد من أن نستوثق من في الطبق السابع.

قال إبليس : فكيف تقدرون عليهم وفيهم الخصال الجميلة : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟.

قالت العفاريت : نأتي العالم من جهة علمه والجاهل من جهة جهله وصاحب الدّنيا من جهة الدّنيا ونأتي الزاهد من جهة زهده وصاحب الزنا من زنائه.

قال إبليس : انّهم يعتصمون بالله وحده.

قالت العفاريت : فان اعتصموا بالله ثبتنا فئة الأهواء الضالة المضلّة.

فضحك إبليس وقال : أقررتم عيني.

وكانت قريش في جدب جديب من الزمان ومحل وقحط فسمّيت السنة التي فيها حمل رسول الله صلّى الله عليه وآله سنة الفتح والاستبهاج وذلك ان الأرض في تلك السنة اخضرت وحملت الأشجار ووافاهم الوفود من كلّ مكان فخصبت مكّة وأكنافها خصبا

١٠٩

عظيما.

وكان عبد المطلب إذ ذاك يستسقى به قبل أن ينتقل منه النور الى ابنه عبد الله.

ما روي من يعقوب بن جعفر بن سليمان الهاشمي عن جدّه قال حدّثني أبي عن عبد الله عن عباس عن أبيه عبد الله بن عباس قال : قحطت بلاد قيس وأجدبت جدبا شديدا فلم يصبهم سماء يعقد الثرى ولا ينبت الكلإ فذهب اللحم وذاب الشحم وتهافتوا ضرّا وهزلا فاجتمعت قيس للمشورة واجالة الرأي وعزموا على الرحلة وانتجاع البلدان فقالت فرقة منهم : معشر قيس عيلان انّكم أصبحتم في أمر ليس بالهزل هذا أمر عظيم خطره ، بعيد منظره وقد بلغنا ان عبد المطلب سيّد البطحاء استسقى فسقي ودعا فأجيب وشفع فشفع فاجعلوا قصدكم إليه واتكالكم عليه واستشفعوا به كما استشفع به غيركم.

فقالوا : أصبت الرأي.

فأتوا عبد المطلب وقالوا : افلح الوجه أبا الحارث ، نحن ذوو أرحامكم الواشجات أصابتنا سنون مجدبات أهزلن السمين وأفقرن المعين وقد بلغنا خبرك وبان لنا أثرك فاشفع لنا إلى مشفعك.

فقال لهم : موعدكم جبل عرفات.

ثم خرج في بنيه وبني بنيه حتى أتى جبل عرفات فرفع عبد المطلب يديه ثم قال ، اللهم ربّ الريح العاصف والبرق الخاطف ، والرعد القاصف ، منشئ السحاب ، ومالك الرقاب وخالق الخلق ، ومنزل الرزق والحق ، هذه مضر ، خير البشر ، تشكو شدّة الحال ، وكثرة الامحال ، قد احدودبت ظهورها ، وشعثت شعورها ، وهزل سمينها ونضب معينها ، وغارت عيونها ، وقد خلفوا نشأ ظلعا ، وبهائم رتعا ، وأطفالا رضّعا ، اللهم فاتح لهم ريحا خرارة ، وسحابة درارة ، تضحك أرضهم وتذهب ضرّهم.

قال : فما برحوا حتى نشأت سحابة دكناء فيها دوي شديد.

فقال عبد المطلب : ايه. هذا أوان خريرك فسحي.

ثم قال : ارجعوا معاشر قريش فقد سقيت أرضكم.

١١٠

فرجعوا وقد فعل الله بهم ذلك ، فأنشأ أبو طالب يقول شعرا :

أبونا شفيع الناس حين سقوا به

من الغيث رجاس العشير بكور

ونحن سنين المحل قام شفيعنا

بمكّة يدعو والمياه تغور

فلم تبرح الأقدام حتى رأوا بها

سحابات مزن صوبهن درور

وقيس أتتنا بعد أزم وشدّة

وقد عضّها دهر أكب عثور

فما برحوا حتى سقى الله أرضهم

بشيبة غيثا فالنبات نضير

وكان صاحب أحكام قريش يخرج في كلّ يوم فيطوف بالبيت وكان ينظر الى جمال شخص رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ممثلا بين عينيه كأنّه قطعة نور فكان يقول : معاشر قريش اني إذا خرجت أطوف أنظر الى جمال شخص بين عيني كأنّه النور.

فتقول قريش : ولكنّا نحن لا نرى مثل ما يرى عبد المطلب.

قال ابن عباس : فكان من دلايل حمل محمّد صلّى الله عليه وآله ان كلّ دابة كانت لقرشي نطقت في تلك الليلة بأن قالت : حملت بمحمّد بربّ الكعبة وهو أمان الدنيا وصلاح أهلها.

ولم تبق كاهنة في قريش إلّا حجب عنها صاحبها وانتزع علم الكهانة منها ومرّت وحش المشرق الى وحش المغرب بالبشارات وكذلك أهل البحار بشّر بعضهم بعضا بحمله صلّى الله عليه وآله.

وروي عن العالم عليه السّلام انّه قال : لما أراد الله عز وجل أن يظهر سيّدنا محمّدا صلّى الله عليه وآله وسلّم أنزل قطرة من تحت العرش فألقاها على ثمرة من ثمار الأرض فأكلها أبوه فلما واقع آمنة وصارت في الموضع الذي خلقه الله جل وعلا فيه ومضى لها أربعون يوما سمع الصوت في بطن امّه فلما مضى له أربعة أشهر كتب على عضده الأيمن (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ، فلما ظهر بأمر الله جل وعز رفع له في كلّ بلدة عمود من نور ينظر به الى أعمال العباد.

وروي عن آمنة بنت وهب انّها قالت لما قربت ولادته صلّى الله عليه وآله وسلّم : رأيت جناح طاير أبيض قد مسح على فؤادي وكان قد دخلني رعب فذهب الرعب عني وأتيت بمشربة بيضاء كأنّها لبن وكنت عطشى فناولنيها مناول فشربتها فأضاء مني نور عال ثم رأيت

١١١

نسوة كأطول النخل يحدّثنني فعجبت وجعلت أقول في نفسي : من أين علم هؤلاء بموضعي. ثم اشتد بي الأمر وأنا أسمع الوجبة في كلّ وقت حتى رأيت كالديباج الأبيض قد ملأ ما بين السماء والأرض وقائل يقول «خذوه من أعين الناس» ثم رأيت رجالا وقوفا في الهواء بأيديهم أباريق ثم كشف الله لي عن بصري ساعتي تلك فرأيت مشارق الأرض ومغاربها ورأيت ثلاثة أعلام منصوبة علما في المشرق وعلما في المغرب وعلما على ظهر الكعبة ثم خرج صلّى الله عليه وآله ، فخرّ ساجدا لله جلّ ذكره ورفع أصبعه إلى السماء كالمتضرع المبتهل ورأيت سحابة بيضاء تنزل من السماء حتى غشيته وسمعت مناديا ينادي : طوفوا بمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم شرق الأرض وغربها والبحار ليعرفوه بصورته واسمه ونعته.

ثم تجلّت عنه الغمامة وإذا أنا به في ثوب أبيض أشدّ بياضا من اللبن وتحته حريرة خضراء وقد قبض على ثلاثة مفاتيح من اللؤلؤ الرطب وقائل يقول : قبض محمّد صلّى الله عليه وآله على مفاتيح الجنّة ومفاتيح النصر ومفاتيح النبوّة ومفاتيح الريح.

ثم أقبلت سحابة اخرى أنور من الاولى وسمعت مناديا ينادي : طوفوا بمحمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم المشرق والمغرب واعرضوه على روحاني الانس والجن والطير والسباع واعطوه صفاء آدم ورقّة نوح وحلّة إبراهيم ولسان اسماعيل وجمال يوسف وبشرى يعقوب وصوت داود وصبر أيوب وزهد يحيى وكرم عيسى.

ثم انكشف عنه فإذا انا به وبيده حريرة خضراء قد طويت طيّا شديدا وقد قبض عليها وقايل يقول : قد قبض محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم على الدّنيا كلّها لم يبق شيء إلّا دخل في قبضته.

ثم أتاني ثلاثة نفر كأن الشمس تطلع من وجوههم في يد أحدهم ابريق فضّة رايحته كالمسك وفي يد الثاني طشت من زمرد خضراء لها اربعة جوانب في كلّ جانب لؤلؤة بيضاء يقول : هذه الدّنيا فاقبض عليها يا حبيب الله.

فقبض على وسطها فقال قائل : قبض على الكعبة.

ورأيت في يد الثالث حريرة بيضاء مطوية نشرها وأخرج منها خاتما تحار أبصار الناظرين فيه ثم حمل ابني فغسل بذلك الماء من الابريق سبع مرات ثم ختم بين كتفيه

١١٢

بالخاتم ولفّف في الحريرة وادخل بين أجنحتهم ساعة.

وروي عن العالم عليه السّلام : ان الفاعل به ما فعل من الغسل (رضوان) عليه السّلام ثم انصرف وجعل يلتفت إليه ويقول : ابشر يا عز الدّنيا وشرف الآخرة.

وولد صلّى الله عليه وآله وسلّم طاهرا مطهّرا (وروي) ان الوصي الذي كان هو صاحب الزمان في ذلك الوقت هو أبي فلما ولد صلّى الله عليه وآله خبر ثقاته بأمره ثم صار بابا له عليه السّلام وكان ذلك الوصي حجّة له في الظاهر وبابا في الباطن لأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لم تكن له حجّة عليه قط ولا كان إلّا حجّة فكان صلّى الله عليه وآله وسلّم منذ وقت ولادته الى ان نطق بالرسالة حجّة على الوصي وعلى ثقات الوصي وذلك الوصي حجّة على الخلق في الظاهر وباب السيّد عليه السّلام محجوب به في الباطن.

وروي عن عبد المطلب انّه قال : كنت في ليلة ولادة ابني محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم في الكعبة أؤم من البيت شيئا فلما انتصف الليل إذا أنا ببيت الله الحرام قد استمال بجوانبه الأربعة وخرّ ساجدا في مقام إبراهيم عليه السّلام ثم استوى كما كان. فسمعت منه تكبيرا عظيما الله أكبر الله أكبر ربّ محمّد المصطفى الآن طهرني الله ربّي من أنجاس المشركين ورجسات الجاهلية. ثم انتقضت الأصنام كما تنتقض البيوت فكأني أنظر الى الصنم الأعظم (هبل) وقد انكسف فلما رأيت البيت وفعلها لم أدر ما أقول وجعلت أحسر عن عيني وأقول انّي لنائم ثم أقول كلا اني ليقظان ثم انطلقت الى بطحاء مكة وخرجت فإذا أنا بالصفا تتطاول والمروة ترتج واذا أنا أنادى من كلّ جانب : يا سيد قريش ما لك كالخائف الوجل؟ أمطلوب أنت؟.

ولا أخبر جوابا إنمّا همّتي آمنة حتى أنظر الى ابنها محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وإذا أنا بطير الأرض حاشرة إليها وإذا أنا بجبال مكّة مشرفة عليها وإذا أنا بسحابة بيضاء بازاء حجرتها فلما رأيت ذلك دنوت من الباب فاطلعت فإذا أنا بآمنة قد غلقت الباب على نفسها ليس بها أثر النفاس والولادة فدققت الباب فأجابت بصوت خفي. فقلت : عجّلي وافتحي الباب.

فأوّل شيء وقعت عيني عليه وجهها فلم أر موضع نور محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم فقلت : أنا نائم يا آمنة أم يقظان؟.

١١٣

قالت : بل يقظان. ما لك كالخائف الوجل؟ أمطلوب أنت؟.

قلت : لا ولكني منذ ليلتي في كلّ ذعر وخوف. وما لي لا أرى النور الذي كنت أراه بين عينيك ساطعا؟.

قالت : قد وضعته.

قلت : وكيف وليس بك أثر نفاس؟ وما أنكر من أمرك شيئا.

قالت : بلى قد وضعته أتمّ الوضع وأطيبه وأسهله وهذه الطير التي تراها بإزائي تنازعني أن أدفعه إليها فتحمله إلى أعشاشها ، وهذه السحاب تسألني مثل ذلك.

قال عبد المطلب : فهاتيه حتى أنظر إليه.

قالت آمنة : حيل بينك وبينه أن تراه لأنّه أتاني آت كأنّه قضيب فضة أو كالنخلة الباسقة فقال لي : انظري يا آمنة لا تخرجيه الى خلق من ولد آدم حتى يأتي عليه منذ ولدته ثلاثة أيام.

فغضب عبد المطلب من قولها وقال : تخرجينه إليّ أو لأقتلنّ نفسي.

فلما رأت الجدّ منه قالت : شأنك وإيّاه ، هو في ذلك البيت مدرج في ثوب صوف أشدّ بياضا من اللبن تحته حريرة خضراء ..

قال عبد المطلب : فقصدت لألج الباب ، فبدر الي من داخله رجل فقال لي : مكانك وارجع فلا سبيل لأحد من ولد آدم إلى رؤيته ثلاثة أيام أو تنقضي زيارة الملائكة له.

قال : فارتعدت جوارحي وخرجت مبادرا لأخبر قريشا بذلك ، فأخذ الله عز وجل بلساني فلم أنطق بخبره سبعة أيام بلياليها.

وروي ان السيد محمّدا صلّى الله عليه وآله وسلّم ولد مع طلوع الفجر من يوم الاثنين مطهّرا ـ وروي يوم الجمعة ـ لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول في عام الفيل وهو عام الفتح ـ وهو أصحّ ـ فعظمت قريش في العرب وسمّوا آل الله جل جلاله.

ودفعه عبد المطلب الى حليمة بنت أبي ذويب ، وكان من حديثها في ارضاعه ما رواه الناس وشرح في كتاب الدلائل لنبوّته صلّى الله عليه وآله وسلّم ودلايله في نحو مائتي ورقة بروايات المشايخ الثقات.

١١٤

ومات أبوه وأمّه وهو صلّى الله عليه وآله صغير السن وكفله جدّه عبد المطلب مدّة قليلة ثم عمّه أبو طالب الى أن بعث وأمره الله تعالى بإظهار أمره وتبليغ رسالاته.

فروي عن العالم عليه السّلام انّه قال : ان الله جلّ وعلا أيتم نبيّه صلّى الله عليه وآله لئلا تكون عليه رئاسة لأحد من الناس.

ثم نشأ فكان من خبره مع عمّه أبي طالب ما قصّ به من حديثه وخدمة زوجته فاطمة بنت أسد له ، وكان من قصّة اليهود وطلبهم إيّاه ومن خبر خروج السيّد صلّى الله عليه وآله وسلّم مع عمّه أبي طالب واجتيازه ببحيرا الراهب في طريق الشام ونزوله من صومعته لما رأى الغمامة قد أظلّت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وما ظهر من الدلالة في تلك الحال حتى أطعمهم الطعام وما كان من خبر تزويجه بخديجة عليهما السّلام وهو ابن نيف وعشرين سنة وما خطب به أبو طالب حيث زوّجه بها ، الى غير ذلك ممّا ظهر من كلام الشجر والمدر والحصى له ودعوتهم إيّاه بالرسالة في حال صغر سنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم وصلاته وصيامه وحجّه على خلاف ما كانت قريش تعمله وانكارهم ذلك ما أتت به الأخبار ورواه الرواة من كافّة الناس.

الوحي

فلما أراد الله جل تعالى جلاله أن يتمّ نوره ويظهر برهانه وأتت له أربعون سنة ـ وقبل ذلك كان نبيّا مستخفيا ـ أمر الله عز وجل جبرئيل عليه السّلام أن يهبط إليه صلّى الله عليه وآله وسلّم بإظهار الرسالة فقال له ميكائيل عليهما السّلام : أين تريد؟.

فقال له : لقد بعث الله جل وعلا نبيّ الرحمة فأمرني أن أهبط إليه بإظهار الرسالة.

فقال له ميكائيل : فأجيء معك؟.

قال له : نعم.

فنزلا فوجدا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم نائما بالأبطح ، بين أمير المؤمنين علي وبين جعفر ابني أبي طالب عليهما السّلام فجلس جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه ولم ينبهاه إعظاما له وهيبة فقال ميكائيل له : إلى أيّهم بعثت؟.

فقال : إلى الأوسط.

١١٥

فأراد أن ينبهه فمنعه جبرئيل عليه السّلام فانتبه أمير المؤمنين عليه السّلام فقال له : تنبّه ابن عمّك؟.

فنبهه فأدّى جبرئيل الرسالة إليه عن الله جل جلاله.

فلما نهض جبرئيل ليقوم ، أخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بثوبه وقال : ما اسمك؟.

قال : جبرئيل.

فنهض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ليلحق بغنمه ، فلم يمر بشجرة ولا مدرة إلّا سلّمت عليه وهنأته بالرسالة.

وكان جبرئيل عليه السّلام يأتيه فلا يدنو منه إلّا بعد أن يستأذن عليه ، فأتاه يوما وهو بأعلى مكّة بناحية الوادي فغمز بعقبه فانفجرت عين فتوضأ جبرئيل عليه السّلام وتطهّر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم للصلاة ثم صلّى وهي أول صلاة صلّاها في الأرض فرضها الله جل وعز.

وصلّى أمير المؤمنين عليه السّلام تلك الصلاة مع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فرجع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من يومه الى خديجة عليها السّلام فأخبرها فتوضّأت وصلّت صلاة العصر من ذلك اليوم ، فكان أول من صلّى من الرجال أمير المؤمنين عليه السّلام ومن النساء خديجة.

وأعطى الله جلّ ذكره رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم جميع ما أعطى الأنبياء المرسلين والملائكة المقرّبين وعلّمه جميع الكتب المنزلة والصحف على الأنبياء وأنزل عليه الكتاب والحكمة وآتاه ما لم يؤت أحدا من العالمين.

وروي عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم انّه قال : أعطيت ما أعطي النبيّون والمرسلون جميعا وأعطيت خمسة عشر لم يعطها أحد : نصرت بالرعب ، وجعل لي ظهر الأرض مسجدا وطهورا ، وأعطيت جوامع الكلم ، وفضلّت بالغنيمة ، وأعطيت الشفاعة في أمّتي.

وأعطاه الله عز وجل كلّما أعطى الأنبياء من المعجزات والآيات والعلامات وفضل بما لم يؤته أحدا منهم.

١١٦

حديث الدار

ثم أنزل الله جلّ وتعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) فجمع صلّى الله عليه وآله بني هاشم وهم في ذلك الوقت أربعون رجلا من المشايخ الرؤساء ، فأمر أمير المؤمنين عليه السّلام فاطبخ لهم رجل شاة وخبز لهم صاعا من طعام ثم ادخل إليه منهم عشرة ، فأكلوا حتى تصدروا ثم جعل يدخل إليه عشرة بعد عشرة حتى أكلوا وشربوا جميعا وشبعوا ، وان فيهم من يأكل الجذعة ويشرب الزق.

وروي أنّه أمر بشاة فذبحت لهم فأكلوا منها ثم أمر بجمع أهابها وعظامها ثم أحياها ثم أنذرهم ودعاهم الى نبوّته وقال لهم : قد بعثني ربي جل وعز الى الإنس والجن والأبيض والأسود والأحمر.

وروي انّه قال لهم : ان الله جل وتعالى أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين واني لا أملك لكم من الله حظّا إلّا أن تقولوا «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وان محمدا عبده ورسوله».

فقال أبو لهب له : ألهذا دعوتنا؟

ثم تفرّقوا عنه فأنزل الله : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ) ... السورة.

وروي انّه دعاهم ثانية فأطعمهم وسقاهم جميعا لبنا من عس واحد حتى تصدروا ثم قال لهم : يا بني عبد المطلب أطيعوني تكونوا ملوك الأرض وحكّامها. ان الله عز وجل لم يبعث نبيا قط إلّا جعل له وصيّا وأخا ووزيرا فأيّكم يكون أخي ووصيي ومؤازري وقاضي ديني؟.

فأبوا قبول ذلك وقالوا : ومن يطيق ما تطيقه أنت؟.

فقام إليه أمير المؤمنين عليه السّلام وهو أصغرهم سنّا فقال له : أنا يا رسول الله صلّى الله عليه وآله.

فقال له : أنت لعمري تقبل ما قلت وتجيب دعوتي.

١١٧

ولذلك كان وصيّه وأخاه ووارثه دونهم.

وفي رواية اخرى : انّه صلّى الله عليه وآله جمع عشيرته من بني هاشم وهم خمسة وأربعون رجلا فيهم عمّه أبو لهب فظنّوا انّه يريد أن ينزع عمّا دعا إليه.

فقال له من بينهم أبو لهب : يا محمّد هؤلاء عمومتك وبنو عمومتك قد اجتمعوا فتكلّم بما تريد واعلم انّه لا طاقة لقومك بالعرب.

فقام صلّى الله عليه وآله فيهم خطيبا فحمد الله وأثنى عليه كثيرا وذكّرهم بأيام الله جلّ ذكره والقرون الخالية من الأنبياء ـ صلّى الله عليهم ـ والجبابرة والفراعنة ووصف لهم الجنّة والنار ثم قال :

«ان الرايد لا يكذب أهله. والله الذي لا إله إلّا هو ، اني رسول الله إليكم حقّا وإلى الناس كافة. والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون ولتحاسبن كما تعلمون ولتجزون سرمدا وانّكم أوّل من أنذره».

وروي انّهم اجتمعوا إليه صلّى الله عليه وآله فقالوا له : لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف ـ يعنون من ذهب ـ أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك ، والله لو فعلت ذلك ما كنّا ندري أصدقت أم لا.

ثم آمن من بعد أمير المؤمنين عليه السّلام قوم من عشيرته ، أولهم : جعفر بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب.

١١٨

تآمر قريش ، ومعجزاته [ص]

واجتمعت قريش في دار أبي سفيان صخر بن حرب (وسمّيت دار الندوة للتدبير والمشاورة) وكتبوا بينهم صحيفة بخط معاوية وهو حدث أخذوا فيها الايمان الفاجرة الكافرة وحلفوا جميعا باللات والعزى ان لا يكلّموا بني هاشم ولا يبايعوهم أو يسلموا إليهم محمّدا صلّى الله عليه وآله فيقتلوه.

ثم أخرجوهم من بيوتهم حتى نزلوا شعب أبي طالب ووضعوا عليهم الحرس فمكثوا كذلك ثلاث سنين.

ثم بعث الله الارضة على الصحيفة فكان من حديثهم ما رواه الناس وكان من آيات رسول الله صلّى الله عليه وآله ما بهر العقول من أمر الحصاة ، وشقّ القمر ، ودعاء الشجر ، وكلام الوحش والبهائم والطير ، واخبارهم بما يأكلون وما يدّخرون في بيوتهم ، ونبع الماء من بين اصابعه ، الى غير ذلك من آياته ومعجزاته صلّى الله عليه وآله مما قد روي.

المعراج

وأنزل الله القرآن في ليلة من ليالي شهر رمضان دفعة واحدة ثم أوحى الله إليه : ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه.

وأتاه جبرئيل عليه السّلام ليلا ـ وهو بالأبطح ـ بالبراق ، وهو أصغر من البغل وأكبر من الحمار فركبه صلّى الله عليه وآله وأمسك جبرئيل عليه السّلام بركابه ومضى يزفّه زفا الى بيت المقدس ثم الى السماء فتلقته الملائكة فسلّمت عليه وتطايرت بين يديه حتى انتهى الى السماء السابعة ، فروي ان الأنبياء بعثوا إليه ودفعوا له ذلك الموضع حتى صلّى بهم وأمّهم ثم أوحى الله إليه : ان كنت في شكّ ممّا أوحينا إليك فاسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ـ يعني الأنبياء.

فالتفت إليهم فقال : بما ذا تشهدون؟.

١١٩

فقالوا : نشهد أن لا إله إلّا الله وانّك رسول الله وان عليّا ابن عمّك وصيّك أمير المؤمنين.

وروي في خبر آخر انّه قال : لا أشكّ يا ربّ ولا أسأل.

ثم روي : انّه عرج به الى السماء السابعة حتى كان من ربّه كقاب قوسين أو أدنى وان الحجب رفعت له ومشى فنودي : يا محمّد انّك لتمشي في مكان ، ما مشي عليه بشر قبلك.

فكلّمه الله جل وعلا فقال : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) فقال النبيّ : نعم يا ربّ (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).

فقال الله جل وعلا : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ).

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) ... الى آخر السورة.

فقال الله جل وعز له : قد فعلت.

ثم قال له : من لأمّتك من بعدك؟.

فقال : الله أعلم.

فقال : علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السّلام.

فكانت إمامته من الله مشافهة ..

وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وآله انّه قال : ان الله جل وعلا لمّا عرج بي إليه مثل لي امتي في الطين من أوّلها إلى آخرها ، فأنا أعرف بهم من أحدكم بأخيه وعلّمني الأسماء كلّها.

وفرض على امته الصلاة في تلك الليلة ، وروي انّه كان بعد مبعثه بخمس سنين ففرضت خمسين ركعة ثم ردت الى سبع عشرة ركعة تخفيفا عن امّته.

وروي احدى عشرة ركعة ففرض رسول الله صلّى الله عليه وآله ست ركعات وأضافها الى تلك وهي التي تسقط في السفر.

١٢٠