الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٨

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٨

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-190-4
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٩

إعطاء الأوسمة ، ومنح الفضائل والكرامات للفريق المناوئ لعلي «عليه‌السلام».

وهذا أمر لا يكاد يخفى على من له أدنى معرفة بالحديث والتاريخ ..

وأخيرا نقول :

وما أوفق قول الشاعر الآتي بمقامنا هذا :

ومكارم شهد العدو بفضلها

والفضل ما شهدت به الأعداء

ما قلعته بقوة جسمانية :

ثم إنهم قد رووا أيضا : أن عليا «عليه‌السلام» قال : ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية ، ولكن بقوة إلهية (١).

وفي نص آخر : أن عمر سأل عليا «عليه‌السلام» قال : يا أبا الحسن ، لقد اقتلعت منيعا ، وأنت ثلاثة أيام خميصا ، فهل قلعتها بقوة بشرية؟؟

فقال «عليه‌السلام» : ما قلعتها بقوة بشرية ، ولكن قلعتها بقوة إلهية ، ونفس بلقاء ربها مطمئنة رضية (٢).

وجاء في رسالته «عليه‌السلام» لسهل بن حنيف قوله : «والله ، ما قلعت باب خيبر ، ورميت به خلف ظهري أربعين ذراعا بقوة جسدية ، ولا حركة غذائية ، لكنني أيدت بقوة ملكوتية ، ونفس بنور ربها مضيئة ، وأنا من أحمد كالضوء من الضوء الخ ..» (٣).

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٥١ عن شرح المواقف.

(٢) البحار ج ٢١ ص ٤٠ عن مشارق أنوار اليقين.

(٣) أمالي الصدوق ص ٣٠٧ والبحار ج ٢١ ص ٢٦.

٢١

ونقول :

١ ـ بالرغم من أن عليا «عليه‌السلام» قد حقق أعظم إنجاز بفتح خيبر وبقلع باب حصنها ، وجعله ترسا وحمله بيده جسرا .. فإنه لا ينسب ذلك إلى نفسه ، ولا يدّعي : أنه قد فعل ذلك بقوته الشخصية ، وبقدرته الذاتية ، بل هو قد نسب ذلك إلى قدرة الخالق جل وعلا .. وبذلك يكون قد لقن نفسه ، وعلّم الناس بصورة عملية درسا في هضم النفس وفي التواضع لله عزوجل ، والإستكانة والخضوع له.

٢ ـ إنه بذلك يكون قد أبعد الناس عن الغلو فيه ، من حيث إنه قد أفقدهم أي مبرر لذلك ، وقد كان «عليه‌السلام» مهتما بالحفاظ على صفاء الفكر ونقاء العقيدة لدى كل الآخرين وقد عرّفهم أيضا : أن الأمور لا تؤخذ على ظاهرها ، بل لا بد من التأمل والتدبر والتفكر فيها ، ووضع الأمور في مواضعها الصحيحة.

٣ ـ إنه «عليه‌السلام» قد أوضح : أن الاطمينان إلى لقاء الله سبحانه ، والرضا به هو العنصر المؤثر على صعيد التضحية والجهاد ، أما إذا بقي الإنسان متعلقا بالدنيا ومخلدا إلى الأرض ، فإنه لن يتمكن من تحقيق شيء ، بل هو سوف يبقى يعيش الضعف ، والهروب ، والفشل الذريع ، والخيبة القاتلة ، والخزي في الدنيا ، والخسران في الآخرة.

وللشعراء كلمتهم :

وبعد ، فإننا إذا رجعنا إلى عالم الشعر ، فسنجد أنه قد خلد هذه الواقعة بكل تفاصيلها. فآلم ذلك قلوب مناوئي علي «عليه‌السلام» ، وأقضّ

٢٢

مضاجعهم.

ونكتفي هنا : بذكر مقطوعة واحدة تذكر فرار الذين فروا من خيبر ، وهي مقطوعة من القصيدة البائية لابن أبي الحديد المعتزلي.

ثم نعقب ذلك : بنماذج من الشعر الذي ذكر فيه قلع علي «عليه‌السلام» باب خيبر ، وسوف لا نكثر من ذلك ، ولا نتجاوز فيما نختاره موضع الشاهد.

فأما المقطوعة التي أنشدها المعتزلي في بائيته المشهورة ، فهي التالية :

وما أنس لا أنس اللذين تقدما

وفرهما والفرّ قد علما حوب

وللراية العظمى وقد ذهبا بها

ملابس ذل فوقها وجلابيب

يشلهما من آل موسى شمردل

طويل نجاد السيف أجيد يعبوب

يمج منونا سيفه وسنانه

ويلهب نارا غمده والأنابيب

أحضر هما أم حضر أخرج خاضب

وذان هما؟ أم ناعم الخد مخضوب

عذرتكما إن الحمام لمبغض

وإن بقاء النفس للنفس محبوب

ليكره طعم الموت والموت طالب

فكيف يلذّ الموت والموت مطلوب (١)

وأما القدر اليسير ، الذي اخترناه من الكثير مما قيل في قلع علي «عليه‌السلام» لباب خيبر ، فهو ما يلي :

قال ابن حماد العبدي ، (وهو من أعلام القرن الرابع) في جملة قصيدة له :

__________________

(١) الغدير ج ٧ ص ٢٠١.

٢٣

وزج بباب الحصن عن أهل خيبر

وسقّى الأعادي حتفها وحماها (١)

وقال أيضا :

وأبوهم لباب خيبر أضحى

قالعا ليس عاجزا بل جسورا

حامل الراية التي ردها بالأ

مس من لم يزل جبانا فرورا (٢)

وقال أبو القاسم الزاهي (المتوفى سنة ٣٥٢ ه‍) :

من أعطي الراية يوم خيبر

من بعد ما بها أخو الدعوى نكص

وراح فيها مبصرا مستبصرا

وكان أرمدا بعينه الرمص

فاقتلع الباب ونال فتحه

ودكّ طود مرحب لما قعص (٣)

وقال أبو فراس الحمداني (المتوفى سنة ٣٥٧ ه‍) :

من كان صاحب فتح خيبر من رمى

بالكف منه بابه ودحاه (٤)

وقال بعض الشعراء ، في فرارهم ، وفي فتح الله تعالى خيبر على يدي علي «عليه‌السلام» :

إذا كنتم ممن يروم لحاقه

فهلا برزتم نحو عمرو ومرحب

وكيف فررتم يوم أحد وخيبر

ويوم حنين مهربا بعد مهرب

ألم تشهدوا يوم الإخاء وبيعة ال

غدير وكل حضر غير غيب

__________________

(١) الغدير ج ٤ ص ١٥٢.

(٢) الغدير ج ٤ ص ١٦٦.

(٣) الغدير ج ٣ ص ٣٨٨.

(٤) الغدير ج ٤ ص ٤٠٤.

٢٤

فكيف غدا صنو النفيلي ويحه

أميرا على صنو النبي المرجب؟

وكيف علا من لا يطا ثوب أحمد

على من علا من أحمد فوق منكب

إمام هدى ردت له الشمس جهرة

فصلى أداء عصره بعد مغرب (١)

وقال القاضي الجليس (المتوفي سنة ٥٦١ ه‍.) في جملة قصيدة يمدح بها عليا «عليه‌السلام» :

ومن هزّ باب الحصن في يوم خيبر

فزلزل أرض المشركين وزعزعا (٢)

وقال ابن مكي النيلي (المتوفي سنة ٥٦٥ ه‍) : من قصيدة يمدح بها أمير المؤمنين «عليه‌السلام» :

فهزها فاهتز من حولهم

حصنا بنوه حجرا جلمدا

ثم دحا الباب على نبذة

تمسح خمسين ذراعا عددا

وعبر الجيش على راحته

حيدرة الطاهر لما وردا (٣)

وقال علاء الدين الحلي (وهو من أعلام القرن الثامن) ، في قصيدة له :

ودنا من الحصن الحصين وبابه

مستغلق حذر المنية موصد

فدحاه مقتلعا له فغدا له

حسان ثابت في المحافل ينشد

إن امرءا حمل الرتاج بخيبر

يوم الغدير بقدرة لمؤيد

حمل الرتاج رتاج باب قموصها

والمسلمون وأهل خيبر تشهد

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ٥ ص ٧ و ٨.

(٢) الغدير ج ٤ ص ٣٨٥.

(٣) الغدير ج ٤ ص ٣٩٥.

٢٥

فرمى به ولقد تكلف رده

سبعون شخصا كلهم متشدد

ردوه بعد تكلف ومشقة

ومقال بعضهم لبعض أرددوا (١)

وقال أيضا في قصيدة أخرى :

أم يوم خيبر إذ براية أحمد

ولى لعمرك خائفا متوجلا

ومضى بها الثاني ، فآب يجرها

حذر المنية هاربا ومهرولا

هلا سألتهما وقد نكصا بها

متخاذلين إلى النبي وأقبلا

من كان أوردها الحتوف سوى أبي

حسن وقام بها المقام المهولا

وأباد مرحبهم ومد يمينه

قلع الرتاج وحصن خيبر زلزلا (٢)

ويقول زين الدين الحميدي :

جعل الباب معجز القول ثقلا

ترسه يوم خيبر بنجاء (٣)

هذا وقد ذكر الصاحب بن عباد في كتابه «الإبانة» قول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لعلي «عليه‌السلام» في خيبر : لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، كرار غير فرار.

وأنه «عليه‌السلام» قاتل مرحب ، وقالع باب خيبر (٤) وذلك في سياق

__________________

(١) راجع : البحار ج ٢١ ص ١٧ وج ٤١ ص ٢٨١ وراجع : الإرشاد للمفيد ج ١ ص ١٢٩ وراجع أيضا : الغدير ج ٦ ص ٣٥٩ والثاقب في المناقب ص ٢٥٨ ومناقب آل أبي طالب ج ٢ ص ١٢٦ ومدينة المعاجز ج ١ ص ١٧٢.

(٢) الغدير ج ٦ ص ٣٨٨.

(٣) الغدير ج ١١ ص ٢٤١ عن ديوان الحميدي المطبوع سنة ١٣١٣ ه‍.

(٤) الغدير ج ٤ ص ٦٣.

٢٦

رده على أقوال العثمانية ، وطوائف الناصبية ، فراجع.

القموص ليس آخر ما فتح :

هذا ، وقد صرحت بعض الروايات : بأن حصن القموص ليس هو آخر الحصون التي فتحها الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وعلي «عليه‌السلام» ، بل هناك قلعة أخرى فتحت بعده ، يقول النص :

«ولما فتح علي حصن خيبر الأعلى بقيت لهم قلعة فيها جميع أموالهم ، ومأكولهم. ولم يكن عليها حرب بوجه من الوجوه.

فنزل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» محاصرا لمن فيها ، فصار إليه يهودي منهم ، فقال : يا محمد ، تؤمنني على نفسي ، وأهلي ، ومالي ، وولدي ، حتى أدلك على فتح القلعة؟

فقال له النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أنت آمن ، فما دلالتك؟

قال : تأمر أن يحفر هذا الموضع ؛ فإنهم يصيرون إلى ماء أهل القلعة ، فيخرج ويبقون بلا ماء ، ويسلمون إليك القلعة طوعا.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أو يحدث الله غير هذا وقد أمناك؟؟

فلما كان من الغد ركب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بغلته ، وقال للمسلمين : اتبعوني.

وسار نحو القلعة ، فأقبلت السهام والحجارة نحوه ، وهي تمر عن يمنته ويسرته ، فلا تصيبه ولا أحدا من المسلمين شيء منها حتى وصل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى باب القلعة.

فأشار بيده إلى حائطها ، فانخفض الحائط حتى صار مع الأرض ، وقال

٢٧

للناس : ادخلوا القلعة من رأس الحائط بغير كلفة» (١).

ونقول :

تستوقفنا هنا أمور عديدة ، نكتفي منها بما يلي :

١ ـ إن هذه الرواية إذا صحت ، فإنها تكون حجة على اليهود ، تفرض عليهم التخلي عن اللجاج والعناد ، وتوجب عليهم قبول الحق .. وتكون أيضا آية للمسلمين تقوي من ثباتهم ، وتربط على قلوبهم. وتعرفهم بأن الله سبحانه يرعى نبيه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ويحفظه ، ويسهل له العسير ، وأن انتصاره ليس متوقفا على أحد منهم ، ولا منوطا بهم.

فإذا فروا ، فإن فرارهم يحرمهم من الخيرات والبركات ، ويوجب لهم المذلة في الدنيا ، والخسران في الآخرة ..

٢ ـ إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يعمل بمشورة اليهودي ، واستعاض عنها بإظهار هذا الأمر الخارق للعادة ، من أجل أن يسهل على الناس تحصيل القناعة بهذا الدين ، والدخول في زمرة أهل الإيمان ، والتخلي عن الإستكبار والجحود ..

٣ ـ إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رغم عدم عمله بمشورة ذلك اليهودي ، لكنه لم ينقض الأمان الذي أعطاه إياه ، بل هو قد صرح بأنه ملتزم به ، وحافظ له ..

٤ ـ إننا نحتمل جدا أن تكون هذه القضية هي الرواية الصحيحة التي أوردناها فيما سبق ، وذكرت أن بعض اليهود دل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على

__________________

(١) البحار ج ٢١ ص ٣٠ و ٣١ عن الخرايج والجرايح.

٢٨

دبول (أي جدول ، أو نفق) لليهود تحت الأرض ، وأنهم سوف يخرجون منه ..

وربما تكون أيضا هي الأصل للرواية الأخرى التي تزعم : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد سمم لهم المياه التي يشربون منها.

وللرواية الثالثة التي تقول : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد رمى حصن النزار بكف من تراب فساخ ، ولم يبق له أي أثر. وذلك بعد قتال وحصار ..

وقد ذكرنا هذه الروايات في تضاعيف كلامنا ، في المواضع المناسبة ، وناقشناها هناك بما لاح لنا. والله هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل ..

علي عليه‌السلام يفتح خيبر وحده :

إن النصوص المتقدمة تؤكد على : أن عليا «عليه‌السلام» هو الذي فتح خيبر دون سواه. فقد ذكرت : أنه لما خرج أهل الحصن ، بقيادة الحارث أخي مرحب ، هاجموا أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» «فانكشف المسلمون ، وثبت علي» (١).

ويقول علي «عليه‌السلام» مخاطبا يهوديا سأله عن علامات الأوصياء :

إنّا وردنا مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مدينة أصحابك خيبر ، على رجال من اليهود وفرسانها ، من قريش وغيرها ، فتلقونا بأمثال الجبال ، من الخيل ، والرجال ، والسلاح ، وهم في أمنع دار ، وأكثر عدد ، كل ينادي ، ويدعو ، ويبادر إلى القتال ، فلم يبرز إليهم من أصحابي أحد إلا قتلوه.

حتى إذا احمرت الحدق ودعيت إلى النزال ، وأهمت كل امرئ نفسه ،

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٧ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٥٣ و ٦٥٤ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٢٥.

٢٩

والتفت بعض أصحابي إلى بعض ، وكل يقول : يا أبا الحسن انهض.

فأنهضني رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى دارهم ، فلم يبرز إلي منهم أحد إلا قتلته ، ولا يثبت لي فارس إلا طحنته ، ثم شددت عليهم شدة الليث على فريسته حتى أدخلتهم جوف مدينتهم ، مسددا عليهم ، فاقتلعت باب حصنهم بيدي ، حتى دخلت عليهم مدينتهم وحدي ، أقتل من يظهر فيها من رجالها ، وأسبي من أجد من نسائها ، حتى افتتحتها وحدي ، ولم يكن لي فيها معاون إلا الله وحده (١).

وهذا صريح في : أن الذين كانوا مع علي «عليه‌السلام» قد هربوا عنه ، وبقي «عليه‌السلام» وحده ، وبالتالي يكون «عليه‌السلام» قد أخذ المدينة وحده.

ثم إن في هذا النص الذي ذكرناه إشارات عديدة ، منها :

١ ـ أنه «عليه‌السلام» ذكر : أن اليهود لم يكونوا وحدهم في خيبر ، بل كان معهم فرسان من قريش ، ومن غيرها. وقد بقوا يحاربون معهم إلى النهاية ..

٢ ـ أن أعداد مقاتلي خيبر كانت كبيرة جدا ، حتى إنه «عليه‌السلام» يصفهم بأمثال الجبال من الرجال ، والخيل ، والسلاح ، وبأنهم قد قاتلوا المسلمين بأكثر عدد ، وأمنع دار ..

٣ ـ أن رغبة اليهود ومن معهم في الحرب كانت جامحة وقوية بصورة غير عادية ..

٤ ـ أنه يظهر من كلامه «عليه‌السلام» : أن عدد القتلى من المسلمين لم

__________________

(١) البحار ج ٢١ ص ٢٧ عن الخصال ج ٢ ص ١٦.

٣٠

يكن قليلا ، حيث قال : فلم يبرز من أصحابي أحد إلا قتلوه.

٥ ـ أن المسلمين قد تضايقوا إلى حدّ أن كلا منهم قد أهمته نفسه.

٦ ـ أنهم كانوا يرون : أن أحدا سواه «عليه‌السلام» لا يستطيع كشف هذه الغمة عنهم ، فكانوا يحثونه على مباشرة الحرب رغم ما هو فيه من رمد في العين ، وصداع في الرأس.

٧ ـ أنه «عليه‌السلام» قد طحن ذلك العدو طحنا ، حتى أدخلهم إلى جوف حصنهم.

٨ ـ أنه «عليه‌السلام» قد اقتلع باب حصنهم ، ودخل وحده ، ولم يشاركه المسلمون في ذلك ، فإن كانوا قد شاركوه فإنما كان ذلك بعد سكون رياح الحرب ..

٩ ـ والأهم من ذلك : تأكيده «عليه‌السلام» على أنه هو الذي فتح خيبر ، وأن أحدا غير الله تعالى لم يعنه على ذلك.

فلا يصح قولهم : «وقام الناس مع علي حتى أخذ المدينة».

لأن الناس بعد أن قاموا قد انهزموا أمام اليهود من أهل الحصن.

ولكن حين هاجمهم علي «عليه‌السلام» ، وأخذ بابا كان عند الحصن ، ثم قتل «عليه‌السلام» مرحبا وسائر الفرسان ، انهزم اليهود إلى داخل حصنهم ، واقتلع «عليه‌السلام» بابه ، وهاجمه ، فثاب إليه المسلمون ، وحمل «عليه‌السلام» باب الحصن بيده ، وصار المسلمون يصعدون عليه ، ويمرون إلى الحصن ، فلما حصل له ما أراد ألقاه خلف ظهره ثمانين شبرا ..

فلم يساعده المسلمون في الفتح ، كما تحاول بعض الروايات أن تدّعيه ، بل الحقيقة ، كل الحقيقة هي : أن عليا «عليه‌السلام» قد فتح الحصن وحده ،

٣١

ومن دون مساعدة أحد.

ولأجل ذلك : نسب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الفتح إلى علي «عليه‌السلام» كما تقدم.

كما أن نفس روايات الفتح فيها تصريحات عديدة بأنه «عليه‌السلام» هو الذي أخذ المدينة ، ولا تشير طائفة منها إلى مشاركة أحد له في ذلك ، فراجع النصوص في مصادرها تجد صحة ذلك.

بل فيها : أنه «عليه‌السلام» قد فتح الحصن قبل أن يلحق آخر الناس بأولهم ، كما صرحت به بعض الروايات (١).

وفي نص آخر : روي عن عبد الله بن عمر ، قال : «فلا والله ما تتامت الخيل حتى فتحها الله عليه» (٢).

وتقدم أنهم قالوا في الحديث الوارد في تفسير قوله تعالى : (.. وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (٣) : «أجمعوا على أنه فتح خيبر ، وكان ذلك بيد علي بن أبي طالب بإجماع منهم».

وهذا ، وسواه يجعلنا نعتقد : أن ذلك من الواضحات ، فلا حاجة إلى تكثير النصوص والمصادر.

__________________

(١) الإصابة ج ٢ ص ٥٠٢ والبحار ج ٢١ ص ٢٢ عن إعلام الورى ، ومسند أحمد ج ٥ ص ٣٥٨ والخصائص للنسائي ص ٥ وتاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ٣٠ والمستدرك للحاكم ج ٣ ص ٤٣٧.

(٢) مجمع الزوائد ج ٩ ص ١٢٣.

(٣) الآية ١٨ من سورة الفتح.

٣٢

تواتر حديث جهاد علي عليه‌السلام في خيبر :

لقد روى حديث جهاد علي «عليه‌السلام» في خيبر جم غفير ، وجماعة كثيرة ، منهم :

١ ـ علي أمير المؤمنين «عليه‌السلام».

٢ ـ الحسن المجتبى «عليه‌السلام».

٣ ـ سهل بن سعد.

٤ ـ حسان بن ثابت.

٥ ـ بريدة الأسلمي.

٦ ـ سويد بن غفلة.

٧ ـ أبو ليلى الأنصاري.

٨ ـ عبد الرحمن بن أبي ليلى.

٩ ـ ابن عباس.

١٠ ـ عمر بن الخطاب.

١١ ـ أنس بن مالك.

١٢ ـ أبو هريرة.

١٣ ـ سلمة بن الأكوع.

١٤ ـ سعد بن مالك.

١٥ ـ عمران بن حصين.

١٦ ـ الضحاك الأنصاري.

١٧ ـ أبو سعيد الخدري.

١٨ ـ أبو رافع.

٣٣

١٩ ـ ابن عمر.

٢٠ ـ جابر بن عبد الله الأنصاري.

٢١ ـ عامر بن سعد.

٢٢ ـ سعد بن أبي وقاص.

٢٣ ـ حذيفة.

رضي الله ورسوله عن علي عليه‌السلام :

ويبقى هنا أن نشير إلى قول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لعلي «عليه‌السلام» حين رجع : رضي الله عنك ، ورضيت أنا منك .. حيث لا بد لنا من عطفه على قوله حينما بعثه : «فاستبشر بالرضوان والجنة». وذلك بعد أن أخبر «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأن جبرئيل «عليه‌السلام» معه ، وأن معه سيفا لو ضرب الجبال لقطعها.

إذن ، فهو «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يبشره أولا : بالرضوان وبالجنة. وبعد رجوعه يخبره بأنه قد حصل على ما كان قد بشره به ، وذلك ليسمع الناس أولا وأخيرا : أن ما يقوله لهم هو الحق بعينه ، وليس مجرد دعاء يخضع في استجابة الله تعالى له للمتغيرات والطوارئ.

ويلاحظ أيضا : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بشره بالرضوان ، لا بمجرد الرضا ، فهو رضوان تام وشامل لمختلف الحالات ، ومنبسط على جميع الجهات ، والخصوصيات ، وهو أيضا رضوان ليس له حد ، بل هو مستغرق لجميع مراتب الرضا.

ولذلك فإنه حين أخبره برضا الله تعالى ، ورضا رسوله «صلى الله عليه

٣٤

وآله» عنه ، فإنما أخبره بالرضا التام ، الذي يعني جميع المراتب ، وفي مختلف الجهات ، وجميع الحالات.

ومن الواضح : أن هذا الرضا قد استحقه «عليه‌السلام» من خلال جهد بذله ، وعمل أنجزه ، وجهاد قبله الله تعالى منه ..

وقد اعتبر الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ذلك بشارة له ..

أما الآخرون الذين هربوا : فلم يكن رضوان الله تعالى ورسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو المطلوب لهم ، أو المهم عندهم ، بل كانت أنفسهم هي الأهم بالنسبة إليهم. ولعلهم لا يعدون الحصول على رضا الله ورسوله بشارة ذات قيمة لهم ..

ويلاحظ : اختلاف التعبير بين كلمتي عنك ومنك ، فالرضا الإلهي عدّي بعن ، ورضا الرسول عدّي بمن.

كما أن بشارة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لعلي «عليه‌السلام» لم تكن بالنجاة من الأعداء ، ولا بغير ذلك مما يطلب في هذه الحياة الدنيا ، وإنما بشّره بالرضوان وبالجنة ..

تشريف وتكريم في الأرض وفي السماء :

ولإظهار تشريفه وتكريمه «عليه‌السلام» تولى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بنفسه إلباسه درعه ، وتقليده سيفه ذا الفقار .. وهو السيف الذي أكرمه الله تعالى بالنداء بالثناء عليه من السماء في بدر ، وفي أحد ، ثم في خيبر كذلك ..

ثم أعلن «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : بأن الله عزوجل يجعل معه أكرم

٣٥

ملائكته ، وهو جبرئيل ، ومعه سيف لو ضرب الجبال لقطعها .. وذلك تعبيرا منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن اليقين بالنصر ، وإظهارا لكرامة علي «عليه‌السلام» على الله سبحانه وتعالى ..

علي عليه‌السلام سيد العرب هي الأصعب عليهم :

ثم إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد شرّف عليا «عليه‌السلام» بوسام آخر لا نشك في أنه كان هو الأصعب على حاسديه ومناوئيه ، الذين لم يكن يهمهم أن يقول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في علي «عليه‌السلام» ما شاء مما يرتبط بالآخرة ، أو في عالم السماء والملائكة ، وكل ما هو غيب ..

بل المهم عندهم : هو ما يؤثر على مشاريعهم الدنيوية ، التي يرون أنه هو المانع الأكبر من وصولهم إليها ..

وهذا الوسام هو : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أعلن : أن عليا «عليه‌السلام» هو «سيد العرب» ، وهذا يصادم بصورة مباشرة وخطيرة ما كانوا يفكرون فيه ؛ لأن سيادته على العرب تعني سيادته عليهم أيضا ، لأنهم من العرب ..

وإذا سمع الناس هذا التصريح النبوي ، فإنهم سوف لا يرضون بغير علي «عليه‌السلام» لهم قائدا ، ورائدا ، وسيدا ، وهذا سوف يضيف إلى هموم هؤلاء الطامحين هما جديدا ، قد يكون هو الأصعب عليهم في صراعهم مع علي «عليه‌السلام» ..

والأمرّ والأدهى بالنسبة إليهم : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد سد عليهم منافذ التأويل ، وأفقدهم القدرة على الإلتفاف ، حين بيّن : أن عليهم أن

٣٦

يفهموا السيادة بمعناها الدقيق ، وليست مجرد نعت اقتضته مصلحة إرضاء علي «عليه‌السلام» ، ودغدغة عواطفه ، ليكون شعارا فضفاضا ينعش النفس بالأحلام ، ويلذّها بالتصورات.

وليس المقصود وصفه «عليه‌السلام» بالسيادة في أجواء الحرب والقتال ، أو السيادة في الفروسية ، أو نحو ذلك ..

بل المقصود هو : إثبات سيادته التامة ، والشاملة ، تماما كما كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سيد ولد آدم «عليه‌السلام».

إستقبال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام بعد الفتح :

ولما بلغ النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فتح خيبر سر بذلك غاية السرور ، فاستقبل عليا «عليه‌السلام» ، واعتنقه ، وقبّل بين عينيه ، وقال : بلغني نبؤك المشكور ، وصنعك ، رضي الله عنك ، ورضيت أنا منك (١). أو : بلغني نبؤك المشكور ، وصنيعك المذكور ، قد رضي الله عنك ، فرضيت أنا عنك.

فبكى علي «عليه‌السلام» ، فقال له : ما يبكيك يا علي؟؟

فقال : فرحا بأن الله ورسوله عليّ راضيان (٢).

وعن علي «عليه‌السلام» ، قال : قال لي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يوم فتحت خيبر : لو لا أن تقول طائفة من أمتي مقالة النصارى في عيسى بن مريم «عليه‌السلام» لقلت فيك اليوم مقالا ، لا تمر بملأ من المسلمين إلا أخذوا من تراب رجليك ، وفضل طهورك يستشفون به ، ولكن حسبك أن

__________________

(١) معارج النبوة (الركن الرابع) ص ٢١٩.

(٢) البحار ج ٢١ ص ٢٢.

٣٧

تكون مني ، وأنا منك الخ .. (١).

حسبك أنك مني وأنا منك :

فالنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يصرح هنا : بأنه قد خشي من غلو بعض الناس في علي «عليه‌السلام» ، وأن يقولوا فيه كما قالت النصارى في عيسى «عليه‌السلام» ..

فكان ذلك هو المانع له عن أن يقول فيه مقالا ، لا يمر بأحد إلا أخذ من تراب رجليه ، وفضل طهوره للاستشفاء به ، ولكن حسبك أنك مني ، وأنا منك ..

وتفيدنا هذه القضية أمورا عديدة ، نذكر منها ما يلي :

١ ـ إن هذا يدل على : أن الناس ما كانوا في المستوى المطلوب ، فيما يرتبط بوعيهم لقضايا العقيدة ، وحدودها ، فكانت البيانات النبوية تراعي حالهم ، فلا تصرح لهم إلا بالمقدار الذي لا يوجب أية سلبية من هذه الناحية ..

وذلك لأن سلامة العقيدة هي الأهم والأولى بالمراعاة ، فلا يصح حشد المعلومات والمعارف ، وتكديسها ، إذا كان ذلك سيضر بالإعتقاد ، بل تبقى المستويات الدنيا ، والقناعة بالقليل منها مع السلامة أولى من الكثرة بدونها ..

٢ ـ إن هذا يشير إلى : أن ما صدر من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في حق

__________________

(١) ينابيع المودة (ط بمبي) ص ٥٢.

٣٨

علي «عليه‌السلام» لم يكن هو كل ما يعرفه النبي الكريم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن علي «عليه‌السلام». على قاعدة : يا علي ما عرفك إلا الله وأنا.

٣ ـ إن لقتل مرحب ، وفتح الحصون ، وقلع باب خيبر بتلك الطريقة الإعجازية ، دلالاته القوية على وجود سمات وميزات باطنية عالية القيمة لدى أمير المؤمنين «عليه‌السلام». وأن الأمر لا يقتصر على موضوع الشجاعة والقدرة الجسدية ، ولا ربط له بدرجة الانقياد لأوامر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كما أنه لم يكن من منطلق علاقة المحبة النسبية ، وعلاقة الإلف والتربية والخصوصية ..

وإنما هناك ما هو أعظم وأولى من ذلك كله .. ألا وهو تلك المعاني التي لو اطلع عليها الناس العاديون ، لوجدوا فيها ما يدعوهم إلى الغلو فيه ، وإعطائه صفات الإله ، تماما كما كان الحال بالنسبة إلى قول النصارى في عيسى «عليه‌السلام». وهي تلك المعاني التي تثير الحوافز لديهم لأخذ التراب من تحت قدميه ، وأخذ فضل وضوئه للاستشفاء به ..

٤ ـ إن هذا يشير إلى أن الاندفاع للاستشفاء بآثار الأولياء ، فضلا عن الأنبياء «عليهم‌السلام» ، وبكل من وما ينتسب إلى الله سبحانه ، وينتهي إليه لهو أمر مركوز في وجدان الناس ، وكامن في عمق فطرتهم ، وضميرهم ..

فإذا وجدت مكوناته وتوفرت المؤثرات والحوافز له ، فإنه لا بد أن يجد طريقه للظهور على حركات الناس ، وتصرفاتهم ، بصورة تبرك في فضل الوضوء ، واستشفاء بالتراب ، أو بأي شيء ينسب إلى مصدر القداسة ، ومحل البركة ..

٥ ـ ولعلك تسأل ، عن أنه إذا كان التبرك والاستشفاء بتراب قدمه ، وبفضل وضوئه «عليه‌السلام» محذورا ، فهذا يدل على صحة ما تدّعيه

٣٩

بعض الفرق من حرمة التبرك بالأشخاص ، واعتبار ذلك من الشرك.

وقد يؤيد مقالتهم هذه : التوطئة لهذا الكلام بقوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : لو لا أن يقول الناس فيك ما قالته النصارى في عيسى.

ونقول في الجواب :

لقد كان الناس ـ بلا شك ـ يتبركون بفضل وضوء رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ويستشفون به ، كما دلت عليه النصوص المتواترة التي تعد بالمئات .. وكان هناك من يتبرك بعلي «عليه‌السلام» أيضا ، حتى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نفسه ..

ولكنه تبرّك من شأنه أن يكون سببا في المزيد من القرب من الله تعالى ، والاستعداد لتلقي البركات والألطاف الإلهية.

وليس فيه أية شائبة للشرك ، أو الغلو ، بل هو محض الصفاء والطهر ، والخلوص.

ولا يقصد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بكلامه هنا هذا المعنى ـ عدم التبرك ـ بل هو يريد أن يقول : إن الذين يتبركون بفضل وضوئه ، وبآثاره ـ وهم الآن ثلة من المؤمنين ، أو من غيرهم من سائر المسلمين ـ ربما لو قال كلمته تلك فيه «عليه‌السلام» تتطور الأمور لديهم إلى حد أن يجدوا في أنفسهم دواعي قوية تدفعهم إلى الغلو إلى حد أن يقولوا فيه ما قالته النصارى في عيسى بن مريم «عليهما‌السلام».

ويؤكد ذلك : أن الناس الذين كانوا يتبركون بالرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لم يكونوا كلهم يتبركون بعلي «عليه‌السلام» .. فلو أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أطلق قوله ذاك في علي «عليه‌السلام» لتبرك به الناس كلهم ، حتى

٤٠