الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٨

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٨

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-190-4
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٩

ولنا هنا ملاحظات :

الأولى : أن الصحيح هو : «أبو محذورة» بدلا من «حذيفة» كما هو في سائر المصادر.

الثانية : أنهم يحاولون القول : إن آخرهم موتا هو سمرة بن جندب ، مع أنهم يقولون : إن سمرة قد مات سنة ثمانية وخمسين (١).

وقال العسقلاني : مات سنة ستين ، وقيل : مات سنة ثمان وخمسين ، وقيل : سنة تسع وخمسين ، وقيل : في أول سنة ستين (٢).

ثم هم يقولون : إن أبا هريرة توفي ـ على الصحيح ـ في سنة تسع وخمسين (٣).

وقيل : توفي سنة سبع وخمسين ، وقيل سنة ثمان (٤).

__________________

(١) الإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج ٢ ص ٧٩ وتحفة الأحوذي ج ١ ص ٤٥٥ وأبو هريرة للسيد شرف الدين ص ٢١٩ وطبقات خليفة ص ٩٧ والتاريخ الكبير للبخاري ج ٤ ص ١٧٦ وتهذيب الكمال ج ١٢ ص ١٣٤ وتهذيب التهذيب ج ٤ ص ٢٠٧ وتقريب التهذيب ج ١ ص ٣٩٥ وعن الإصابة ج ٧ ص ٣٠٣ وكتاب الغيبة ص ١٢٦.

(٢) الإصابة ج ٢ ص ٧٩.

(٣) شيخ المضيرة ص ٢٦٤ عن شرح صحيح مسلم للنووي ، وأبو هريرة لشرف الدين ص ٢٠٩ عن الواقدي ، وابن نمير ، وأبي عبيد ، وابن الأثير ، وابن جرير ، وغيرهم.

(٤) أبو هريرة لشرف الدين ص ٢١١ وصحيح ابن حبان ج ١٠ ص ٤٦٣ وتاريخ مدينة دمشق ج ٦٧ ص ٣٩٠.

١٢١

وهذا يظهر بجلاء : أن الأقوال في تاريخ موت كل من أبي هريرة وسمرة بن جندب متناقضة ، فلا مجال للحكم بأن سمرة هو الذي مات آخرا ، كما يحاول محبو أبي هريرة أن يصرفوا إليه الأذهان.

قيمة هذا الوسام :

إن ذكر هؤلاء الثلاثة في سياق واحد ، والتصريح : بأن آخرهم موتا في النار ، يدل دلالة واضحة على أنهم غير مرضيين عند الله وعند رسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

إذ إن إطلاق هذه الكلمة يجعل لدى الناس شكوكا قوية تمنع من التعامل معهم جميعا على أساس الوثوق والاحترام والتكريم.

وهي تفرض على الناس : أن يتجنبوهم ، وأن يحتاطوا منهم ، للريب المستمر في أمرهم .. وأن يستمر إبهام أمرهم إلى أن يلتحق النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالرفيق الأعلى ..

وهذا معناه : أن هؤلاء الثلاثة جميعا يستحقون هذا الموقف الرافض لهم من الناس ، وأنهم لا حرمة لهم عند الله تعالى ، إذ لو لا ذلك لوجب حفظهم ، وإبعاد الشبهات عنهم ، وتوصية الناس بإحسان الظن بهم ، والتأكيد على حقوقهم الإيمانية التي تفرض ذلك كله.

ومعرفة الناس بالذي يموت أخيرا ، ويقينهم بأنه سوف يدخل النار ، لا يكفي للحكم بإيمان رفيقيه ؛ بل يبقيان في دائرة الاحتمال.

فإذا ضممنا إلى ذلك : أن إسقاط حرمتهما لا يكون إلا لأمر عظيم ارتكبوه أوجب هذا الإسقاط ، وحرمهما من حقوق أهل الإيمان ، فإن

١٢٢

النتيجة تكون هي : أن حرمانهما هذا يدل على فقدانهما لصفة الإيمان الموجبة لما حرما منه.

وهذا يعني : أنهما ليسا بعيدين من مصير ثالثهم ..

الثالثة : أن هذا الحديث يدل على عدم صحة ما ادّعوه : من عدالة جميع الصحابة ، وما ادعوه من أن الصحابي مغفور له في الآخرة ..

الرابعة : إن الحديث قال : آخركم موتا في النار ، ولم يقل بالنار.

والفرق بينهما : أن «في» تدل على : أنه سيكون في النار وأن النار هي ظرفه وموقعه.

أما الباء فتدل على السببية ، أي : أن سبب موته هو النار ؛ لأنه وقع فيها مثلا. والظرفية إنما هي لما دلت عليه كلمة «آخركم» وهو نفس الشخص.

فلا معنى لقولهم : إن موته يكون فيها.

بل المقصود : أنه هو نفسه يكون فيها ، بغض النظر عن موته.

الخامسة : أن هذا القول من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إنما جاء بهدف نصح الأمة وتحذيرها من هؤلاء الثلاثة.

ونكتفي من الحديث عن أبي هريرة بهذا القدر .. مع أن هناك مؤلفات كثيرة قد خصصت للحديث عنه وعن قضاياه ، وأهمها كتاب شيخ المضيرة للشيخ محمود أبي رية ، وأبو هريرة للعلامة الراحل السيد عبد الحسين شرف الدين رحمه‌الله ..

١٢٣
١٢٤

الفصل الرابع :

لمسات أخيرة

١٢٥
١٢٦

معجزات .. وكرامات :

١ ـ روي : أنه لما انصرف رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من خيبر إلى المدينة ، قال جابر : وصرنا على واد عظيم قد امتلأ بالماء ، فقاسوا عمقه برمح ، فلم يبلغ قعره ، فنزل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقال : «اللهم أعطنا اليوم آية من آيات أنبيائك ورسلك».

ثم ضرب الماء بقضيبه ، واستوى على راحلته ، ثم قال : سيروا خلفي باسم الله ، فمضت راحلته على وجه الماء ، فاتبعه الناس على رواحلهم ؛ فلم تترطب أخفافها ، ولا حوافرها (١).

٢ ـ عن سلمة بن الأكوع : أنه أصابته ضربة يوم خيبر ، قال : فأتيت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : فنفث فيه (أي في الجرح) ثلاث نفثات ، فما

__________________

(١) البحار ج ١٦ ص ٤١٠ وج ١٧ ص ٢٥٤ و ٣٦٥ ولكن في ج ١٠ ص ٣٨ في حنين ، وج ٢١ ص ٣٠ و ٢٨ عن الخرائج والجرائح ج ١ ص ٥٤ و ١٦١ وج ٢ ص ٩١٢ وعن الإحتجاج ج ١ ص ٣٢٤ وفي الثاقب في المناقب ص ٤٦ في حنين ، وعن مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١١٤ و ١٨٩ وفي نور البراهين ج ٢ ص ٤٦٢ في حنين ، وفي نور الثقلين ج ٣ ص ٣٨٤ أيضا في حنين ، وج ٤ ص ٥٣ في خيبر ، وعن البداية والنهاية ج ٦ ص ٣١١.

١٢٧

اشتكيت منها ساعة (١).

٣ ـ وذكرت أمور أخرى في هذه الغزوة ، عن طاعة الشجر له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : وأنه كان يأمر الشجرة بالانقياد له ، فيجرها حتى يصل بها إلى جنب شجرة أخرى ، ثم يقضي حاجته ، ثم ترجع الشجرتان كل واحدة إلى مكانها (٢).

٤ ـ وسيأتي في فصل : سم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في خيبر : أن كتف الشاة أخبرته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأنها مسمومة.

٥ ـ وتقدم ذكر ما جرى لبعض الحصون على يد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بالإضافة إلى أمور أخرى تدخل في هذا السياق.

ونقول :

إننا لا نريد أن نخضع كل هذه الأمور إلى التحقيق والبحث العلمي

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٥٣ والخرائج والجرائح ج ١ ص ٤٢ والبحار ج ١٨ ص ٩ وعن مسند أحمد ج ٤ ص ٤٨ وعن صحيح البخاري ج ٥ ص ٧٦ وعون المعبود ج ١٠ ص ٢٧٦ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٢ ص ٩٤ و ٩٥ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢١٦ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٤٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٦٠ وعن فتح الباري ج ٧ ص ٣٦٤ وسبل الهدى والرشاد ج ١٠ ص ٢٤ وسنن أبي داود ج ٢ ص ٢٢٧ وصحيح ابن حبان ج ١٤ ص ٤٣٩ ومستدرك سفينة البحار ج ١٠ ص ١٠٧.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٥٣ وسنن الدارمي ج ١ ص ١٣ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٥ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٧ ص ٤٣٥ وكنز العمال ج ١٢ ص ٤٠٣ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤ ص ٣٧١ والبداية والنهاية ج ٦ ص ١٥٣ والخرائج والجرائح ج ١ ص ٤٦ ومسند أحمد ج ٤ ص ٧.

١٢٨

الدقيق الذي قد يعجز عن الإثبات بسبب عدم توافر الأدلة على ذلك ..

تماما كما هو عاجز عن النفي القاطع ، فإن عدم توفر الدليل على الإثبات لا يلازم عدم الوقوع فعلا.

ويظهر من النصوص المختلفة : أن بعض هذه الأمور الغيبية قد جاء ابتداء ، ومن دون أن يكون لإرادة الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أي تدخل فيه ، مثل إخبار الكتف له بأنها مسمومة ..

وبعضها ظهر منه : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يتعمد التصرف في الأمور الغيبية ، من أجل أمر يتصل بالشأن العام تارة ، ثم من أجل أمر يرتبط بنفسه أخرى ، مثل إيجاد ساتر له حين قضاء حاجته ، فهو يأمر الشجرة بالحركة ، والمجيء والذهاب ، وما إلى ذلك ..

وهذا يشير إلى : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يملك القدرة على التصرف في الشجر ، وفي غيره من الجمادات ، وأن لإرادته دخلا في حركتها ، وسكونها .. وهو ما يعبر عنه بعضهم ب «الولاية التكوينية» للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بمعنى خضوع الجمادات لإرادته واختياره «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وعلينا أن نذكّر القارئ الكريم : بأن هذه المعجزات والخوارق قد ظهرت له وهو في خيبر ، وبعد فراغه ورجوعه منها أيضا ..

وقد أشرنا أكثر من مرة إلى : أن ما حصل في خيبر ربما كان بهدف طمأنة المسلمين إلى أن الله معهم يكلؤهم ، ويرعاهم. فلا ينبغي أن ترهبهم كثرة عدوهم وعدته ، وحصونه .. وبالنسبة لليهود يريد أن يقيم الحجة عليهم في أمر الإيمان والجحود ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حيي عن بينة.

كما أن الذي حصل بعد فراغهم من خيبر ، لعله يهدف إلى إبعاد حالة

١٢٩

الغرور عن المسلمين ، وتخيل : أن ما حصل إنما هو نتيجة قدراتهم الذاتية ..

العاقبة السيئة :

وذكر الحلبي : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال لرجل من المسلمين : هذا من أهل النار ، فلما حضر القتال ، قاتل الرجل قتالا أشد القتال ، فارتاب بعض الصحابة ، أي كيف يكون من أهل النار مع هذه المقاتلة الشديدة؟ ..

فلما كثرت الجراحات في ذلك الرجل ، ووجد ألمها أخرج سهما من كنانته ونحر نفسه ، فأخبر بذلك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : قم يا بلال فأذن : لا يدخل الجنة إلا مؤمن ، وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ، إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة .. الحديث.

وفي رواية : إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ، وهو من أهل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس ، وهو من أهل الجنة.

وتقدم في غزوة أحد مثل ذلك ، ولا بعد في التعدد إن لم يكن من الاشتباه على الراوي (١).

ونقول :

لا نستطيع أن نقبل على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أن يكون قد أخبر عن رجل أنه من أهل النار ما دام أن ظاهره الإسلام ، والاستقامة ،

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٥٤ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢١٧ والمعجم الأوسط ج ٣ ص ٣٥٦ والمعجم الكبير ج ١٩ ص ٨٤ ومجمع الزوائد ج ٧ ص ٢١٣ في حنين.

وراجع : فتح الباري ج ٧ ص ٣٦١ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٣٣.

١٣٠

فلم يكن ذلك من عادته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. بل كان من عادته الستر حتى على من يعرف أنه من المنافقين ، إلا إذا كان ثمة حاجة للجوء إلى هذا الإخبار الغيبي ، توجب عدم رعاية ظاهر حال الناس.

ولم تذكر لنا الروايات الوجه الذي اقتضى فضح هذا الرجل ، وبرر خروج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن عادته هذه بالنسبة إليه.

وربما يكون الأمر قد اشتبه على الراوي ، وكان ما حصل هو : مجرد إخباره «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأنه من أهل النار بعد ما أخبروه بأنه نحر نفسه ، لا قبل ذلك. والله هو العالم.

صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي عليه‌السلام في التوراة :

عن عبد الله بن أبي أوفى : أنه لما فتحت خيبر قالوا للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : إن بها حبرا قد مضى له من العمر مائة سنة ، وعنده علم التوراة ، فأحضر بين يديه ، وقال له : أصدقني بصورة ذكري في التوراة ، وإلا ضربت عنقك.

قال : فانهملت عيناه بالدموع ، وقال له : إن صدقتك قتلني قومي ، وإن كذبتك قتلتني.

قال له : قل ، وأنت في أمان الله وأماني.

قال له الحبر : أريد الخلوة بك.

قال له : أريد أن تقول جهرا.

قال : إن في سفر من أسفار التوراة اسمك ، ونعتك ، وأتباعك ، وأنك تخرج من جبل فاران ، وينادى بك وباسمك على كل منبر. فرأيت في

١٣١

علامتك [أن] بين كتفيك خاتما تختم به النبوة ، أي لا نبي بعدك ، ومن ولدك أحد عشر سبطا يخرجون من ابن عمك ، واسمه علي ، ويبلغ ملكك المشرق والمغرب ، وتفتح خيبر ، وتقلع بابها ، ثم تعبر الجيش على الكف والزند ، فإن كان فيك هذه الصفات آمنت بك ، وأسلمت على يدك.

قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أيها الحبر ، أما الشامة فهي لي ، وأما العلامة فهي لناصري علي بن أبي طالب «عليه‌السلام».

قال : فالتفت إليه الحبر وإلى علي «عليه‌السلام» ، وقال : أنت قاتل مرحب الأعظم.

قال علي «عليه‌السلام» : بل الأحقر ، أنا جدلته بقوة الله وحوله ، وأنا معبر الجيش على زندي وكفي.

فعند ذلك قال : مد يدك ، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وأنك معجزه ، وأنه يخرج منك أحد عشر نقيبا ، فاكتب لي عهدا لقومي ، فإنهم كنقباء بني إسرائيل أبناء داود «عليه‌السلام».

فكتب له بذلك عهدا (١).

ونقول :

١ ـ بغض النظر عن سند هذا الحديث : فإن ثمة بعض علامات الإستفهام حوله ، فقد ذكر فيه تهديد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لذلك

__________________

(١) البحار ج ٣٦ ص ٢١٢ و ٢١٣ عن روضة الواعظين ص ١٣٩ وعن فضائل ابن شاذان ، ومكاتيب الرسول ج ١ ص ٢٥٧ واللمعة البيضاء ص ١٩٢ والروضة في المعجزات والفضائل ص ١٤٦.

١٣٢

اليهودي بالقتل ..

كما أن فيه نوع اضطراب ، إذ لم نجد مبررا يدعو هذا اليهودي إلى تأخير إسلامه إلى ما بعد إخباره بما في التوراة. حيث يظهر من كلامه : أنه عارف باسمه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ونعته ، وأتباعه ، وبكثير من الأمور التي تجري له ..

فإنه رأى بأم عينيه قلع باب خيبر ، وكان بإمكانه أن يسأل عن اسم قالعه ، كما أن بإمكانه أن يتحقق من سائر الأمور التي وجدها في التوراة ، فلماذا يرفض إخبار النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بهذا الأمر؟؟ ولماذا يطلب منه الخلوة ليبوح له به ، إن كان في نيته أن يسلم إذا وجد صدق هذا الخبر التوراتي؟؟

ومن جهة أخرى : فهو تارة يقول للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : إن في سفر من أسفار التوراة اسمك ، ونعتك وأتباعك ، وأنك تخرج من جبل فاران ، وينادى باسمك .. ثم يستمر بخطابه إياه على هذا النحو.

وتارة أخرى يقول له : فإن كان فيك هذه الصفات آمنت بك ، وأسلمت على يديك. وها هو يرى بأم عينيه كيف تجري الأمور باتجاه تأكيد صحة ما هو مكتوب عنده في التوراة.

وأما القول : بأنه إنما كان يعدّد له ما وجده في التوراة ، دون أن يتعرض لانطباقها عليه ، أو عدم انطباقها .. فلما وجد أنها منطبقة عليه أعلن إسلامه ، فهو لا يكفي للإجابة على السؤال عن سبب تأخره في رؤية هذا الانطباق.

٢ ـ وأما العهد الذي طلبه من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يكتبه لقومه ، فالظاهر : أنه كتب له عهدا يتضمن كونه في أمان الله وأمان رسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وفي ذمته. وذلك وفاء منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله»

١٣٣

بما كان قد أعطاه إياه من الأمان .. وليمنع قومه من العدوان عليه بعد عودته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى المدينة.

٣ ـ ونشير أخيرا : إلى أن الرواية لم تشتمل على أمر غريب فيما يرتبط ببشارة التوراة برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله». بل ذكرت ما هو معروف من ذلك .. خصوصا وأن القرآن قد صرح : بأن اليهود يجدون اسم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مكتوبا عندهم في التوراة.

وصرح : بأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، وقد قرأنا في الحوادث التاريخية الكثير مما يدل على معرفتهم هذه.

ولكن الرواية تضمنت تفاصيل عن علي «عليه‌السلام» ، وعما يكون منه في خيبر ، فيحتمل أن يكون ذلك الحبر صادقا فيما يدّعيه من قراءته ذلك في التوراة فعلا .. ويكون مقصوده هو التوراة الحقيقية ، التي كان أحبار اليهود يتكتمون عليها ، ولا يظهرونها لأتباعهم ، لأنها تسقط مزاعمهم ، وتكذب أباطيلهم ..

وأما احتمال أن يكون قوله ذلك من عند نفسه ، حكاية منه لما جرى ، وتزلفا منه للمسلمين .. فهو غاية في البعد ، لما ظهر من أنه كان صادقا فيما أخبر به ؛ لأن الأمر انتهى بإسلامه. ولو كان متزلفا لكان همه أن يخلص نفسه ، دون أن يعلن إسلامه ، خصوصا بعد أن أعطاه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الأمان ، فهو لا يرى نفسه مطالبا بشيء ، لا بالإسلام ولا بغيره ..

مراهنات قريش :

روى البيهقي ، عن عروة ، وعن موسى بن عقبة ، وعن الواقدي عن

١٣٤

عبد الله بن أبي بكر بن حزم ، قالوا : واللفظ للواقدي :

كان حويطب بن عبد العزى يقول : انصرفت من صلح الحديبية ، وأنا مستيقن أن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سيظهر على الخلق ، وتأبى حمية الشيطان إلا لزوم ديني ، فقدم علينا عباس بن مرداس السلمي يخبرنا : أن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد سار إلى خيابر ، وأن خيابر قد جمعت لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فمحمد لا يفلت.

إلى أن قال عباس بن مرداس : من شاء بايعته ، إن محمدا لا يفلت.

قلت : أنا أخاطرك.

فقال صفوان بن أمية : أنا معك يا عباس.

وقال نوفل بن معاوية الديلمي : أنا معك يا عباس.

وضوى إليّ نفر من قريش ، فتخاطرنا مائة بعير أخماسا إلى مائة بعير ، أقول أنا وحزبي : يظهر محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

ويقول عباس وحزبه : تظهر غطفان.

وجاء الخبر بظهور رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فأخذ حويطب وحزبه الرهن (١).

ونقول :

يظهر : أن هذا الذي جرى ، كان قبل أن يتبيّن لهؤلاء : أن قسما كبيرا من غطفان قد انسحب إلى بلاده ، خوفا ورعبا.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٢٩ وتاريخ مدينة دمشق ج ١٥ ص ٣٥٧ وعن الإصابة ج ٢ ص ١٢٥.

١٣٥

وهكذا تظهر آثار صلح الحديبية على روحيات قريش ، وعلى تصرفاتها ؛ لتؤكد على يأسها من أن تقف في وجه دعوة الإسلام ، وفي وجه نبيه الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بل إن حويطبا لا يستيقن بظهوره على قريش وحسب ، وإنما بظهوره على جميع الخلق أيضا ..

وإذا كانت قريش تظن فيما سلف : أن في اليهود بعض القوة على المواجهة ، فها هي أصبحت تراهن على اندحارهم أمام النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وتعطي الضمانات الكبيرة والكثيرة (مائة بعير) ، للدلالة على صحة يقينها بنصره «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على أعظم قوة ضاربة في المنطقة ، فإن اليهود كانوا عشرة آلاف.

يضاف إلى ذلك : نصف هذا العدد من حلفائهم من غطفان ، وبني فزارة ..

وكانوا يملكون كنزا من الذهب يضيق عنه مسك جمل ، ولديهم من المزارع والنخيل ، والأرض الواسعة ، والمياه الغزيرة .. ما لم يكن لأحد سواهم في تلك المناطق.

ولديهم الحصون الحصينة والكثيرة. ولم يكن لدى غيرهم مثلها ، أو ما يدانيها.

ولديهم من الطعام الذي جمعوه في حصونهم ما يكفيهم الأيام المديدة ، والشهور العديدة ..

ولديهم أنواع من السلاح والعتاد ما لم يكن نظيره لدى المسلمين ، لا من حيث النوع ، مثل الدبابات ، والمنجنيق ، ولا من حيث الكمية.

ولديهم الحقد الدفين ، والثارات والترات التي يطلبونها من رسول الله

١٣٦

«صلى‌الله‌عليه‌وآله» الذي أنزل ضرباته القاضية بإخوانهم من بني قينقاع ، والنضير ، وقريظة ، جزاء خياناتهم وغدرهم الذي لا ينتهي.

ولديهم أيضا : خوفهم من بطلان هيمنتهم ، وسقوط زعامتهم ، وعدم قدرتهم على التسويق لترهاتهم ، وخداع الناس بأضاليلهم ، وخشيتهم من أن تسقط نظرة الناس إليهم.

ويظهر بوار زعمهم للناس : أن لديهم العلوم والمعارف ، وأنهم يعرفون أخبار الأمم السالفة ، ويقدرون على رصد المستقبل ، والتنبؤ بما سوف يحدث ..

ولديهم حسدهم للعرب ، لكون النبي الخاتم منهم ..

ولديهم .. ولديهم ..

فإن كل ذلك يزيد من حدة المواجهة بينهم وبين رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ومن معه من المسلمين ..

ولذلك كان عباس بن مرداس السلمي مستيقنا بأن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يفلت من براثن اليهود.

وكان الناس يعرفون ذلك كله ، فقد ورد في حديث الحجاج بن علاط ، حين سار إلى مكة لأخذ أمواله ، وبلغ الثنية البيضاء قوله :

«وإذ بها رجال من قريش يتسمّعون الأخبار ، قد بلغهم أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد سار إلى خيبر ، وقد عرفوا : أنها قرية الحجاز : أنفة ، ومنعة ، وريفا ، ورجالا ، وسلاحا ، فهم يتحسبون (يتجسسون ـ ظ ـ) الأخبار ، مع ما كان بينهم من الرهان» (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٤٠ وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٥١ و ٥٢ ـ

١٣٧

ولكن قريشا كانت ـ برغم ذلك كله ـ مقتنعة : بأن النصر سيكون له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليس على اليهود وحسب ، ولا على الجزيرة العربية ، وحدها ، وإنما على جميع الخلق أيضا .. ولذلك كانت المخاطرة بينهم على مائة بعير ، ويأخذ المخاطرون هذا الرهن كله ..

ابن علاط يستنقذ ماله بمكة :

وقالوا : كان الحجاج بن علاط السلمي خرج يغير في بعض غاراته ، فذكر له : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بخيبر ، فأسلم ، وحضر مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وكانت أم شيبة ابنة عمير بن هاشم ـ أخت مصعب بن عمير العبدري ـ امرأته ، وكان الحجاج مكثرا ـ له مال كثير ـ وله معادن الذهب التي بأرض بني سليم ، فقال : يا رسول الله ، ائذن لي ، فأذهب فآخذ مالي عند امرأتي ، فإن علمت بإسلامي لم آخذ منه شيئا ، ومال لي متفرق في تجّار أهل مكة.

فأذن له رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : يا رسول الله ، إنه لا بد لي من أن أقول.

قال : «قل».

قال الحجاج : فخرجت ، فلما انتهيت إلى الحرم ، هبطت فوجدتهم بالثنية

__________________

وتاريخ مدينة دمشق ج ١٢ ص ١٠٥ وعن أسد الغابة ج ١ ص ٣٨٢ والثقات ج ٢ ص ١٩ وعن تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٠٥ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٤٥ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٨٠٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٠٨.

١٣٨

البيضاء ، وإذا بها رجال من قريش يتسمعون الأخبار ، قد بلغهم : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد سار إلى خيبر ، وعرفوا أنها قرية الحجاز أنفة ومنعة ، وريفا ، ورجالا ، وسلاحا.

فهم يتحسبون (لعل الصحيح : يتجسسون) الأخبار ، مع ما كان بينهم من الرهان ، على مائة بعير ، على أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يغلب أهل خيبر أو لا.

فلما رأوني قالوا : الحجاج بن علاط عنده ـ والله ـ الخبر ـ ولم يكونوا علموا بإسلامي ـ : يا حجاج ، إنه قد بلغنا : أن القاطع (١) قد سار إلى خيبر ، بلد يهود ، وريف الحجاز؟

فقلت : بلغني أنه قد سار إليها ، وعندي من الخبر ما يسركم.

فالتبطوا بجانبي راحلتي ، يقولون : إيه يا حجاج؟؟

فقلت : لم يلق محمد وأصحابه قوما يحسنون القتال غير أهل خيابر ، كانوا قد ساروا في العرب يجمعون له الجموع ، وجمعوا له عشرة آلاف ، فهزم هزيمة لم يسمع بمثلها قط ، وأسر محمد أسرا.

فقالوا : لا نقتله حتى نبعث به إلى مكة ، فنقتله بين أظهرهم ، بمن قتل منا ومنهم.

ولهذا فإنهم يرجعون إليكم يطلبون الأمان في عشائرهم ، ويرجعون إلى ما كانوا عليه ، فلا تقبلوا منهم ، وقد صنعوا بكم ما صنعوا.

__________________

(١) أي قاطع الرحم. كانوا يصفون رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بذلك كذبا وزورا ، وإمعانا في البغي عليه.

١٣٩

قال : فصاحوا بمكة ، وقالوا : قد جاءكم الخبر ، هذا محمد ، إنما تنتظرون أن يقدم به عليكم ، فيقتل بين أظهركم.

وقلت : أعينوني على جمع مالي على غرمائي ، فإني أريد أن أقدم فأصيب من غنائم محمد وأصحابه : قبل أن تسبقني التجار إلى ما هناك.

فقاموا فجمعوا إليّ مالي كأحثّ جمع سمعت به.

وجئت صاحبتي فقلت لها : مالي ، لعلي ألحق بخيبر فأصيب من البيع قبل أن يسبقني التجار.

وفشا ذلك بمكة ، وأظهر المشركون الفرح والسرور ، وانكسر من كان بمكة من المسلمين.

وسمع بذلك العباس بن عبد المطلب ، فقعد ، وجعل لا يستطيع أن يقوم ، فأشفق أن يدخل داره فيؤذى ، وعلم أنه يؤذى عند ذلك ، فأمر بباب داره أن يفتح ، وهو مستلق ، فدعا بقثم ، فجعل يرتجز ويرفع صوته لئلا يشمت به الأعداء.

وحضر باب العباس بين مغيظ ومحزون ، وبين شامت ، وبين مسلم ومسلمة مقهورين بظهور الكفر ، والبغي.

فلما رأى المسلمون العباس طيبة نفسه ، طابت أنفسهم ، واشتدت منتهم ، فدعا غلاما له يقال له : أبو زبيبة.

فقال : اذهب إلى الحجاج ، فقل له : يقول لك العباس : الله أعلى وأجل من أن يكون الذى جئت به حقا.

فقال له الحجاج : اقرأ على أبي الفضل السلام ، وقل له : ليخل لي في بعض بيوته ، لآتيه بالخبر على ما يسره ، واكتم عني.

١٤٠