الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٧

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٧

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-189-0
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٣

السلام ، المؤمن :

ورغم أن الله مالك ، وأن مقتضى ألوهيته أن يكون عباده مطيعين ، خاضعين ، منقادين له .. فإن الناس ، سواء في ذلك الملوك أم السوقة يستكبرون على ربهم ، ولا يخضعون ، ولا ينقادون له ، ولا يطلبون حاجاتهم منه ، ولا يعترفون بضعفهم أمام قوته ، وبنقصهم أمام كماله ، وبفقرهم أمام غناه و .. و ..

ولكنه تبارك وتعالى لا يعاملهم بما يستحقون ، ولا يعاجلهم بالعقوبة على ما يقترفون ، ولا يبادرهم بالانتقام رغم أنهم مجرمون. بل هو السلام الحاني ، والمؤمن لهم من كل ما يخافون ويحذرون ، وهو التواب على من تاب ، والمؤمن لهم من العذاب.

أما سلام الملوك ، فإنه يفرض بالقوة ، وهو ليس في حقيقته سلام ، بل هو إذلال وقهر .. ولذلك الأمن الذي يأتي من قبلهم فإنه يكون خوفا واستكانة ، واستخذاء ، وخمودا ..

المهيمن :

ولم تكن صفة السلام والمؤمن فيه تعالى ، من أجل أنه فاقد للسيطرة ، وغير متمكن من الإمساك بمقاليد الأمور بسبب قلة خبرة ، أو انحسار سلطان ، أو ضعف في مستوى مراقبة الأحوال ..

بل من أجل أنه تعالى : يمنح السلام والأمن لمستحقيه وطالبيه من موقع الشاهدية ، والرقابة ، والإمساك بالأمور بصورة حقيقية ، وبقدرة وفاعلية ، فكان المهيمن والشاهد. لا بواسطة الاستعانة بغيره ، ولا بالاعتماد

٤١

على الوسائل المتاحة له ، كما هو حال ملوك الأرض ، بل بالقدرة الذاتية ، والشاهدية الحقيقية ..

العزيز الجبار المتكبر :

والله تعالى هو العزيز ، الجبار ، المتكبر على نحو الحقيقة ، وأما ملوك الأرض فإنهم يدّعون ذلك لأنفسهم ، ولكن على سبيل تسمية الأمور بغير أسمائها الحقيقية ، فيصورون ذلهم ومهانتهم عزا وكرامة ، ويصورون ضعفهم الذي يجرهم إلى ظلم الآخرين ـ على قاعدة : وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف (١) ـ جبروتا ، وبطشا وقوة ..

كما أن صغر أنفسهم حين يغطونه بانتفاخات كاذبة يسمونه كبرياء ، مع أن جبروت الله هو عين عدله ، وعزته تبارك وتعالى كرامة كامنة في حقيقة ذاته ، وتتجلى في المظاهر المشيرة إلى عظمته ..

__________________

(١) من دعاء السجاد «عليه‌السلام» يوم الأضحى والجمعة ، راجع : الصحيفة السجادية (ط مؤسسة المهدي قم) ص ٣٤٩ ـ ٣٥٣. وراجع : المقنعة للمفيد ص ١٢٩ ومصباح المتهجد ص ٢٧٠ و ٢٧٤ و ٤٢٣ ومكارم الأخلاق ص ٢٩٥ وإقبال الأعمال ج ١ ص ٢٥٠ و ٣٢٦ و ٥٠١ ومن لا يحضره الفقيه ج ١ ص ٤٩١ وتهذيب الأحكام ج ٣ ص ٨٨ والمزار لابن المشهدي ص ٤٧١ وعن إقبال الأعمال ج ١ ص ٢٠٥ و ٣٢٦ و ٥٠١ وج ٢ ص ١٨١ وجمال الأسبوع ص ١١١ و ١٣٣ و ٢٦٦ والبحار ج ٥ ص ٥٣ وعن ج ٨٤ ص ٢٠٣ و ٢٦١ و ٢٦٨ وعن ج ٨٦ ص ٢٩٥ وعن ج ٨٧ ص ٣٢٩ وعن ج ٨٨ ص ٢٤ وعن ج ٩٥ ص ١٨ و ١٣١ و ٢٠٨ و ٢٨٦ ونور البراهين ج ٢ ص ٣٠٦ وميزان الحكمة ج ٣ ص ١٩١٤ وجامع البيان ج ١٧ ص ٨٢.

٤٢

شهادة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعيسى أولا :

والذي يستوقف الباحث هنا : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نفسه وقبل أن يطلب من غيره شيئا قد بادر إلى الشهادة لعيسى «عليه‌السلام» ، بما يعتقده فيه ، وفي أمه على نبينا وآله وعلى عيسى وأمه الصلاة والسلام ، فقال :

أشهد أن عيسى بن مريم روح الله.

وقد اقتصرت شهادته على النقطة المحورية للخلاف في أمر عيسى «عليه‌السلام» ، وهي نقطة الارتكاز للديانة المسيحية كلها ، حتى إذا تعرضت هذه النقطة لأي اهتزاز ، فإن ذلك سوف يزعزع بناء تلك الديانة كله ، ويسقط الهيكل على رؤوس أصحابه .. ألا وهي قضية خلق عيسى ، فقرر أنه «عليه‌السلام» مخلوق لله تعالى ، حين وصفه بأنه روح الله وكلمته ..

أي أنه روح خلقه الله بحكمته ، واختاره واصطفاه ، وأضافه إلى نفسه ، من بين سائر الأرواح.

وهو كلمة الله أيضا ؛ لأنه ولد من غير أب ، بل بواسطة كلمته ، وهي قوله تعالى : (كُنْ ..) فكان.

فإن كان عيسى «عليه‌السلام» روحا مخلوقا لله عزوجل ، بواسطة أمره التكويني. و (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١). فهو مخلوق محدث ، لا يحمل أي عنصر إلهي ، وهذا بالذات هو ما تقضي به العقول ، وتهدي إليه الفطرة السليمة والصافية ..

__________________

(١) الآية ٨٢ من سورة يس.

٤٣

مريم البتول ، الطيبة ، الحصينة :

ثم إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد شهد لمريم بثلاثة أوصاف هي :

١ ـ البتول : وتعني : المرأة المتبتلة التي قررت الانقطاع عن الرجال ، من حيث إنها تلتزم العفة والعصمة عن كل ما لا يرضاه الله في هذا الإتجاه ، أو المنقطعة إلى الله تعالى عن الدنيا وزينتها ، أو كما قال أحمد بن حنبل : «لانقطاعها عن نساء أهل زمانها ، ونساء الأمة عفافا ، وفضلا ، ودينا ، وحسبا» (١).

فعن علي «عليه‌السلام» : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سئل ما البتول ، فإنا سمعناك يا رسول الله تقول : إن مريم بتول ، وفاطمة بتول؟

فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : البتول التي لم تر حمرة قط. أي لم تحض فإن الحيض مكروه في بنات الأنبياء (٢).

__________________

(١) راجع : لسان العرب (نشر أدب الحوزة ـ قم) ج ١١ ص ٣٤ مادة : بتل. وراجع : النهاية في اللغة ، مادة بتل أيضا. والكافي ج ٥ ص ٥٠٩ ومعاني الأخبار ص ٦٤ والمزار الكبير لابن المشهدي ص ٧٨ والبحار ج ٦ ص ٦٤ وج ١٤ ص ٣٠٠ وج ٤٣ ص ١٥ وعن ج ٩٧ ص ٢٠١ ومكاتيب الرسول ج ٢ ص ٤٣٥ وتحفة الأحوذي ج ٤ ص ١٧١ واللمعة البيضاء ص ٢٠٣ وبيت الأحزان ص ٢٦ والسيدة فاطمة الزهراء للبيومي ص ١٠٩.

(٢) علل الشرائع ج ١ ص ١٨١ ومعاني الأخبار للصدوق ص ٦٤ ومشرق الشمس للبهائي العاملي ص ٣٢٥ وروضة الواعظين ص ١٤٩ ومستدرك الوسائل ج ٢ ص ٣٧ ودلائل الإمامة ص ١٥٠ ومستدرك سفينة البحار ج ١ ص ٢٧٧ والبحار ج ٤٣ ص ١٥ و ١٦ وج ٧٨ ص ١١٢ ومكاتيب الرسول ج ٢ ص ٤٣٥ وكشف الغمة ج ٢ ص ٩٢.

٤٤

والبتل : القطع ، ومنه قيل لمريم : البتول ولفاطمة «عليها‌السلام» ، لانقطاعها عن نساء زمانها ، دينا وفضلا ، ورغبة في الآخرة (١).

والتبتل : الانقطاع إلى عبادة الله (٢).

وامرأة متبتلة : كل جزء منها يقوم بنفسه في الحسن (٣).

وقيل لفاطمة البتول : لانقطاعها عن الأزواج غير علي «عليه‌السلام» أو لانقطاعها عن نظرائها في الحسن والشرف (٤).

أو لأنها تبتلت عن النظير (٥).

٢ ـ الطيبة : أي الطاهرة التي صرح الله تعالى بطهارتها ، عما نسبه اليهود إليها حين قالوا لها : (يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) (٦).

وقال تعالى : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) (٧).

٣ ـ الحصينة : وهي المرأة العفيفة ـ المتشددة في عفتها ، المتمنعة بها ، كما

__________________

(١) سبل السلام لابن حجر ج ٣ ص ١١١ وشرح مسلم للنووي ج ٩ ص ١٧٦.

(٢) الكافي هامش ج ٢ ص ٣٧٩ ومن لا يحضره الفقيه ج ١ ص ٥٧ والتبيان ج ١٠ ص ١٦٤ والجامع لأحكام القرآن ج ١٩ ص ٤٤.

(٣) رسائل المرتضى ج ٤ ص ٨٥.

(٤) فتح الباري ج ٩ ص ٩٦.

(٥) مكاتيب الرسول ج ٢ ص ٤٣٥ عن ابن الهروي.

(٦) الآية ٢٨ من سورة مريم.

(٧) الآية ٤٢ من سورة آل عمران.

٤٥

يتمنع المحارب في حصنه ..

فخلقه من روحه ونفخه :

وبعد التلويح جاء التصريح : بأن عيسى «عليه‌السلام» مخلوق محدث ، وأن الله سبحانه قد خلقه من روح اختاره واصطفاه ، ونسبه إلى نفسه كما ينسب الشيء إلى مالكه وصاحبه ، فيقال : بيته ، وقميصه ، ونحو ذلك ..

ثم بين كيفية هذا الخلق وأنه بنفخ الروح فيه بعد تكونه في بطن أمه مريم جنينا كاملا ..

كما خلق آدم عليه‌السلام بيده ونفخه :

ثم بالغ في تحديد كيفية الخلق وأسبابه وشؤونه حين قرر : أن خلقه مثل خلق آدم «عليه‌السلام» ، فإن الله تعالى خلقه بيده ، أي بقدرته التي يعبر عنها باليد ، كما قال تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (١). أي أن قدرة الله وبطشه فوق قدرتهم وبطشهم ، ولكن بما أن البطش ، وإعمال القدرة إنما يكون بواسطة اليد ؛ فإنه تعالى أورد هذه الكلمة أيضا إمعانا في تجسيد المعنى إلى حد أصبح شيئا يناله الإنسان بحواسه الظاهرة. فقد تجلت القدرة وتجسدت آثارها حتى أصبحت وكأنها يد ظاهرة للعيان ..

ثم أشار إلى كيفية حلول الروح في جسد آدم وعيسى «عليهما‌السلام» ، وقال : إن ذلك قد جاء بطريقة النفخ ، الذي هو عبارة عن الإيجاد والتكوين المباشر في داخل الجسد نفسه ..

__________________

(١) الآية ١٠ من سورة الفتح.

٤٦

الموالاة على طاعة الله عزوجل :

وبعد أن دعا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» النجاشي إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، ـ وقد تحدثنا عن هذه الشهادة حين الكلام عن رسالته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لكسرى ـ طلب منه الموالاة على طاعة الله سبحانه. فيكون بذلك قد حدد المنطلق والإطار للعلاقة الروحية ، ولطريقة تعامله مع جميع البشر ويدخل في هذا السياق إرشاد الناس إلى المعايير ، والضوابط ، من خلال المبادرة منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نفسه إلى التعامل مع الناس على أساسها ، ومن خلالها ، ويسوقهم بذلك إلى السعي للحصول على وضوح الرؤية ، والاستفادة من جميع القدرات ، والطاقات التي زودهم الله تعالى بها بصورة صحيحة ..

ولا يكل ذلك إلى الأهواء والميول ، ونزوات الغرائز ، وهذا النهج من شأنه إذا اتبعوه : أن يخرجهم من العشوائية والإبهام ، والغموض ، إلى آفاق بالغة الصفاء ، شديدة الوضوح ، وفقا لقوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١).

وقال : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (٢).

وقال أيضا : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) (٣).

والآيات المشيرة إلى هذا المعنى كثيرة ..

__________________

(١) الآية ٥٢ من سورة الشورى.

(٢) الآية ٤٢ من سورة الأنفال.

(٣) الآية ١٤ من سورة محمد.

٤٧

أدعوك وجنودك :

وبعد ذكر أمور أخرى ـ أشرنا إلى بعض دلالاتها حين تكلمنا عن رسالته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى كسرى ـ قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للنجاشي : «وإني أدعوك وجنودك إلى الله عزوجل ..».

والأمر الشائع بين الناس هو خضوع الجند لقادتهم ولملوكهم فيما يعرضونه عليهم ، حيث يكون كل همهم وسعيهم محصورا في تنفيذ أوامرهم ، والكون رهن إشارتهم في إقامة صرح العدل ، أو في إشاعة الذل والظلم والتعدي على حد سواء ..

ومن الواضح : أن الجنود هم الأداة التي يعتمد عليها الملوك في بسط سلطانهم ونفوذهم ، وبهم يوسعون دائرة حكمهم ، وهم الأدوات التي يستفيدون منها في قهر الناس ، وفي ظلمهم وابتزاز حقوقهم ..

ولكن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. قد وجه خطابه إلى هؤلاء بالاستقلال عن قائدهم النجاشي ، ليثير لديهم الإحساس بهذه الاستقلالية ، ولإفهامهم أن هناك أمورا لا يجوز لأحد أن يقررها لهم ، أو أن ينوب عنهم فيها. ومن ذلك معرفة الله سبحانه والخضوع له ، والاعتراف بالأنبياء المرسلين والطاعة لهم ، والعمل بأحكامه تعالى وشرائعه ، والالتزام بأوامره ونواهيه.

ويلاحظ : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يذكر ذلك في كتابه لكسرى وقيصر ، والمقوقس ؛ لأنه كان عارفا بأنهم سوف يستكبرون عن قبول دعوته ، فضلا عن أن يفسحوا المجال لدعوة أي كان من الناس إلى دين الحق ، فكيف إن كانوا من جندهم الذين يعتمدون عليهم في استمرار

٤٨

تسلطهم على الآخرين ، ويستخدمونهم بمثابة أدوات للبطش ، والإذلال والقهر والعدوان على الناس.

هذا .. وليس في الرسالة : أن على النجاشي إثم أحد من الناس ، بخلاف رسالة كسرى وقيصر والمقوقس ؛ فإنه قد حمّلهم إثم أقوامهم في صورة عدم قبولهم دعوته ..

٤٩
٥٠

الفصل الخامس :

كتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى النجاشي الثاني

٥١
٥٢

كتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى النجاشي الثاني :

تقدم : أن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد كتب في سنة ست أو سبع إلى كسرى وقيصر ، والنجاشي ، والمقوقس ، وغيرهم بنسخة واحدة ، يدعوهم فيها إلى الإسلام ، وفي هذه الكتب كلها كتب الآية المباركة : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).

ونص كتابه إلى هؤلاء ، واحد كما تقدم .. وهو يختلف عن النص الذي قدمنا : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد كتبه للنجاشي الأول.

والنص الذي ذكرناه يدل : على أن ذلك الكتاب قد أرسل إلى النجاشي الأول حين هجرة جعفر والمسلمين إلى الحبشة ، مما يدل على : أن الذي كتبه في سنة سبع كان موجها إلى نجاشي آخر غير النجاشي الأول ، فلاحظ ما يلي :

١ ـ قول أنس : «إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كتب إلى كسرى وإلى قيصر ، وإلى النجاشي ، وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى ، وليس

٥٣

بالنجاشي الذي صلى عليه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..» (١).

٢ ـ إن النجاشي الأول الذي مدحه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وهاجر إليه المسلمون قد أسلم على يد جعفر بن أبي طالب وآمن به «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقد روي عن الحسن بن علي العسكري «عليهما‌السلام» عن آبائه «عليهم‌السلام» : «أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لما أتاه جبرئيل «عليه‌السلام» بنعي النجاشي بكى بكاء الحزين عليه ، وقال : إن أخاكم أصحمة ـ وهو اسم النجاشي ـ مات ، ثم خرج إلى الجبانة وصلى عليه وكبر سبعا ، فخفض الله له كل مرتفع حتى رأى جنازته وهو بالحبشة (٢). وكان ذلك من معجزاته «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

__________________

(١) الدر المنثور ج ٣ ص ٧ عن أبي الشيخ ، وابن مردويه ، وعن صحيح مسلم ، والجامع الصحيح للترمذي ج ٥ ص ٦٨ ومكاتيب الرسول ج ٢ ص ٤٣٧ وميزان الحكمة ج ٤ ص ٣٢١٤ وصحيح مسلم ج ٥ ص ١٦٦ وشرح مسلم للنووي ج ١٢ ص ١١٢ ونصب الراية ج ٦ ص ٥٥٩ وفتح القدير ج ٢ ص ١٠٦ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٩٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٩٤ وسبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ٣٤٥.

(٢) راجع : البحار ج ١٨ ص ٤١٨ وج ٧٨ ص ٣٤٨ والأقطاب الفقهية لابن أبي جمهور ص ٦٥ وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٥٢ والخصال ص ٣٥٩ و ٣٦٠ باب السبعة حديث رقم ٤٧ والوسائل (ط مؤسسة أهل البيت) ج ٣ ص ١٠٧ ومستدرك الوسائل ج ٢ ص ٢٧٥ ومستدرك سفينة البحار ج ٩ ص ٥٤١ ومسند الإمام الرضا ج ٢ ص ٤١٧ و ٤٩٠ وعوالي اللآلي ج ٢ ص ٦٠ وراجع : المناقب لابن شهر آشوب ج ١ ص ١٤٦ ومجمع البيان ج ٢ ص ٥٦١ والكشاف (ط سنة ١٤٠٦ ه‍) ج ١ ص ٤٥٩.

٥٤

أما الذي كتب إليه حين كتب إلى الملوك والجبارين فهو النجاشي الثاني الذي استولى على السلطة بعد وفاة النجاشي الأول ..

وقد زعموا : أنه هو الذي خرق كتاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : «إني كتبت بكتابي إلى النجاشي فخرقه ، والله مخرق ملكه» (١).

ونحن نقول :

إن ذلك غير دقيق ، فإن الظاهر هو : أن هناك ملوكا ثلاثة من ملوك الحبشة كلهم عاصر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وسيتضح ذلك فيما يأتي.

النجاشي ثلاثة ، أسلم منهم اثنان :

بل إننا نستقرب : أن يكون ثلاثة من ملوك الحبشة قد عاصروا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقد كاتبهم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» جميعا ، وهم :

١ ـ النجاشي الأول ، الذي أرسل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إليه جعفر ، وأرسل إليه الرسالة الأولى التي قدمناها وشرحناها ، وقد أسلم هذا وآمن ..

__________________

(١) راجع : مسند أحمد ج ٤ ص ٧٥ وتهذيب تاريخ ابن عساكر ج ١ ص ١١٤ وحياة الصحابة ج ١ ص ١٠٧ ونصب الراية ج ٤ ص ٤١٨ وراجع : مجمع الزوائد ج ٨ ص ٢٣٥ والمنتظم ج ٣ ص ٢٨٩ ومكاتيب الرسول ج ٢ ص ٤١٦ وكنز العمال ج ١ ص ٢٦٨ وعن البداية والنهاية ج ٥ ص ٢٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٢٨ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٥٨ وج ١١ ص ٣٥٥.

٥٥

٢ ـ النجاشي الثاني ، الذي مات حين زواج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأم سلمة ، في أول الهجرة. حسبما ورد في الرواية المتقدمة ..

والظاهر من رواية أنس المتقدمة : أنه توفي قبل سنة ست أو سبع ، أي قبل كتابة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى الملوك والجبارين.

فقول من قال : إنه مات سنة تسع ، أو بعد غزوة مؤتة ، أو سنة ثمان (١) ، لا مجال لقبوله ..

وربما يكون القول بوفاته سنة تسع ناشئا عن الاشتباه في قراءة الكلمة ، حيث يكثر تصحيف كلمة (سبع) بكلمة (تسع) بسبب اتحادهما في الشكل مع عدم وجود النقط في الحروف في تلك العصور ..

والحاصل : أن النجاشي الأول رحمه‌الله قد مات ـ على ما يظهر ـ في أول الهجرة ، والنجاشي الثاني مات في سنة سبع ، أو في آخر سنة ست ، ثم تولى الحكم بعده النجاشي الثالث ، فكتب إليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فخرق الكتاب ، وأخبر «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بتخريق ملكه ..

ومما يدل على موت النجاشي الأول في أوائل الهجرة : أن أم كلثوم

__________________

(١) راجع هذه الأقوال في : البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٧٧ وأسد الغابة ج ١ ص ٩٩ والإصابة ج ١ ص ١٠٩ و ١٠٢ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٣٠ والبحار ج ٢١ ص ٣٦٨ وعن العبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ ص ٨٢٦ والكامل ج ٢ ص ٢٩٣ وراجع : عمدة القاري ج ١٧ ص ١٥ وفتح الباري ج ٧ ص ١٤٦ وعن تاريخ الأمم والملوك. ج ٣ ص ١٢٢ ومرآة الجنان ج ١ حوادث سنة تسع ، وزاد المعاد ج ٣ ص ٦٠ ومكاتيب الرسول ج ٢ ص ٤٣٨ عنهم ، وعن السيرة النبوية لدحلان ج ٣ ص ٦٩ وعن السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٨٠ وغير ذلك كثير.

٥٦

قالت : «لما بنى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأم سلمة» ، قال :

«قد أهديت إلى النجاشي أوراقا من مسك وحلية ، وإني لأراه قد مات. ولا أرى الهدية إلا سترد عليّ ..» فكان كما قال (١).

وكان زواج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأم سلمة في السنة الرابعة (٢).

وقيل : في السنة الثالثة (٣) ، أو في الثانية (٤).

__________________

(١) مجمع الزوائد ج ٨ ص ٢٨٩ وراجع : المعجم الكبير ج ٢٥ ص ٨١ وج ٢٣ ص ٣٥٣ ومكاتيب الرسول ج ٢ ص ٤٣٩ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٣١٧ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٢٥ والخلاف والوفاق لعلي بن محمد القمي ص ٣٧٠ عن الخلاف ج ٣ ص ٥٥٥ والإقناع للحجاوي ج ٢ ص ٣٢ ومغني المحتاج للشربيني ج ٢ ص ٤٠٠ وإعانة الطالبين ج ٣ ص ١٧٥ ودلائل النبوة ص ١٥٠ وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ١٠٩ والطبقات الكبرى ج ٨ ص ٩٥ والآحاد والمثاني ج ٦ ص ٢٢٦.

(٢) الإصابة ج ٤ ص ٤٥٨ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٩ وراجع : تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٣٠ وتنقيح المقال ج ٣ ص ٧٢ والتنبيه والإشراف ص ٢١٣ وسيرة مغلطاي ص ٥٥ والإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج ٤ ص ٤٢١ و ٤٢٢ وسير أعلام النبلاء ج ١٦ ص ١٠٠ وشرح مسند أبي حنيفة ص ٢٠٣ والطبقات الكبرى (ط دار صادر) ج ٨ ص ٢١٧ ومعرفة الثقات ج ١ ص ٩٧ وعن أسد الغابة ج ٣ ص ١٩٦.

(٣) راجع : المغازي للواقدي ج ١ ص ٣٤٤ والطبقات الكبرى ج ٨ ص ٨٧ ومعرفة الثقات ج ١ ص ٩٧ وعن فتح الباري ج ١ ص ٣٢٤ وسير أعلام النبلاء ج ١٦ ص ١٠٠.

(٤) راجع : تنقيح المقال ج ٣ ص ٧٢ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٤٦٦ وسيرة مغلطاي ص ٥٥ والمستدرك للحاكم ج ٤ ص ٣ وسبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ١٤٥ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣ ص ٢٠٨.

٥٧

فلما مات النجاشي الأول تولى العهد بعده النجاشي الثاني ، فراسله أيضا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ودعاه إلى الإسلام ، فأسلم أيضا. كما دلت عليه رواية زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام : أنه «كان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعث قبل أن يسير إلى خيبر عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي عظيم الحبشة ، ودعاه إلى الإسلام ، وكان أمر عمروا أن يتقدم بجعفر وأصحابه. فجهز النجاشي جعفرا وأصحابه بجهاز حسن ، وأمر لهم بكسوة ، وحملهم في سفينتين» (١).

ولعل هذا هو الذي مات آخر سنة ست ، أو في أول سنة سبع ، والظاهر : أنه هو الذي أرسل وفدا إلى المدينة للتحقيق في أمر نبوة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٢).

كما أنه هو الذي كتب إليه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في تزويج أم حبيبة ، فزوجه إياها ، وأصدقها النجاشي نفسه أربعة آلاف درهم (٣).

__________________

(١) راجع : إعلام الورى ج ١ ص ٢١٠ والبحار ج ٢١ ص ٢٣ ومكاتيب الرسول ج ٢ ص ٤٤٥ والطبقات الكبرى ج ١ ص ٢٥٨ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٥ ص ٤٣٠.

(٢) الدر المنثور ج ٢ ص ٣٠٢ و ٣٠٣ والبداية والنهاية ج ٣ ص ١٨ وإعلام الورى ص ٦ وتفسير الميزان ج ٦ ص ٨٥ وأسباب نزول الآيات ص ١٣٧ وزاد المسير ج ٢ ص ٣١٠ وتفسير الجلالين ص ٣٥٠ ولباب النقول ص ٨٤ وفتح القدير ج ٢ ص ٦٩.

(٣) الوسائل ج ١٥ ص ٦ والكافي ج ٥ ص ٢٨٢ والمحاسن للبرقي ص ٢٤٠ ومرآة العقول ج ٢٠ ص ١١١ ومن لا يحضره الفقيه ج ٣ ص ٤٧٣ وعلل الشرايع ج ٢ ص ٥٠٠ ومكارم الأخلاق ص ٢٣٦ وعن البحار ج ١٠٠ ص ٣٤٩ وعن سنن

٥٨

٣ ـ النجاشي الثالث : وهو الذي نص كتابه يتوافق مع نص كتابه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لكسرى ، وقيصر ، والمقوقس ، وفيه آية الكلمة السواء ، ولم يسلم هذا ، بل مزق ـ هذا الخبيث ـ كتاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأخبر «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أن الله سيمزق ملكه ، حسبما تقدم.

النجاشي يموت وهو مهاجر :

وقد ذكر القمي : أن النجاشي وفد على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فلما عبر البحر توفي رحمه‌الله تعالى (١).

ويحتمل أن يكون المقصود بهذا الكلام هو النجاشي الأول ، ويحتمل أن يكون المقصود هو الثاني ، ولم نستطع أن نتحقق من هذا الأمر وزمانه ، بسبب قلة النصوص.

__________________

أبي داود ج ١ ص ٤٦٨ وسنن النسائي ج ٦ ص ١١٩ وعون المعبود ج ٦ ص ٩٥ و ٩٦ ومسند ابن راهويه ج ٤ ص ٢٧ والسنن الكبرى للنسائي ج ٣ ص ٣١٥ والمنتقى من السنن المسندة ص ١٧٩ وكشف الخفاء ج ١ ص ٣٨٨ ودفع شبهة التشبيه لابن الجوزي ص ٥٣ وتاريخ مدينة دمشق ج ٦٩ ص ١٣٦ و ١٣٩ وتهذيب الكمال ج ١ ص ٢٠٤ وسير أعلام النبلاء ج ١ ص ٤٤٢ وج ٢ ص ٢٢١ وج ٧ ص ١٣٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٢٧٣ وسبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ١٩٤.

(١) البحار ج ١٨ ص ٤١٦ ومكاتيب الرسول ج ٢ ص ٤٥٢ عن ناسخ التواريخ ، ترجمة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ص ٢٧٣ ومدينة البلاغة ج ٢ ص ٢٤٤ وميزان الحكمة ج ٤ ص ٣٤٢٦ وتفسير القمي ج ١ ص ١٧٩ والتفسير الصافي ج ٢ ص ٧٩ والتفسير الأصفى ج ١ ص ٢٩٢ ونور الثقلين ج ١ ص ٦٦٤.

٥٩

إخلاص النجاشي :

ومما يدل على مدى محبة النجاشي لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» واهتمامه بظهور أمره ، وإعزاز دينه ، ما روي عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» قال : «أرسل النجاشي إلى جعفر بن أبي طالب وأصحابه ، فدخلوا عليه ، وهو في بيت جالس على التراب ، وعليه خلقان الثياب.

قال : فقال جعفر «عليه‌السلام» : فأشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحال ، فلما رأى ما بنا ، وتغير وجوهنا قال :

الحمد لله الذي نصر محمدا ، وأقر عينه ، ألا أبشركم؟

فقلت : بلى أيها الملك.

فقال : إنه جاءني الساعة من نحو أرضكم عين من عيوني هناك ، فأخبرني أن الله عزوجل قد نصر نبيه محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأهلك عدوه ، وأسر فلان وفلان وفلان ، التقوا بواد يقال له : بدر ، كثير الأراك ، لكأني أنظر إليه حيث كنت أرعى لسيدي هناك ، وهو رجل من بني ضمرة.

فقال له جعفر : أيها الملك ، فما لي أراك جالسا على التراب ، وعليك هذه الخلقان؟

فقال له : يا جعفر ، إنا نجد فيما أنزل الله على عيسى «عليه‌السلام» : أن من حق الله على عباده أن يحدثوا له تواضعا عند ما يحدث لهم من نعمة ، فلما أحدث الله عزوجل لي نعمة بمحمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أحدثت لله هذا التواضع.

فلما بلغ ذلك النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال لأصحابه : إن الصدقة تزيد صاحبها كثرة ، فتصدقوا يرحمكم الله ، وإن التواضع يزيد صاحبه رفعة ،

٦٠