الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٧

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٧

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-189-0
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٣

يخطب على المنبر يوم الجمعة ، إذ أقبل أفعى من باب الفيل ..

إلى أن تقول الرواية :

إن عليا «عليه‌السلام» أخبرهم : أن هذا الأفعى هو من الجن قال :

«فأتاني في ذلك ، وتمثل في هذا المثال ، يريكم فضلي الخ ..» (١).

فلاحظ قوله : «وتمثل في هذا المثال».

وفي رواية أخرى : أن هاتفا كلّم النبي ، فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، له :

«اظهر رحمك الله في صورتك.

قال سلمان : فظهر لنا شيخ أذب ، أشعر ، قد لبس وجهه شعر غليظ الخ ..» (٢).

وفي حديث آخر : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان جالسا بالأبطح ، وعنده جماعة من أصحابه .. «إذ نظرنا إلى زوبعة قد ارتفعت فأثارت الغبار ، وما زالت تدنو والغبار يعلو إلى أن وقفت بحذاء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ثم برز منها شخص كان فيها ، ثم قال : يا رسول الله ..

إلى أن تقول الرواية :

فقال له النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : فاكشف لنا عن وجهك حتى نراك على هيئتك التي أنت عليها.

قال : فكشف لنا عن صورته ، فنظرنا فإذا الشخص عليه شعر كثير ،

__________________

(١) الثاقب في المناقب ج ٢ ص ٢٤٨ ومدينة المعاجز ج ١ ص ١٤١.

(٢) مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج ٢ ص ٣٠٨ ومدينة المعاجز ج ١ ص ١٤٤ و ١٤٥ والأنوار العلوية ص ١٣٣ وحلية الأبرار ج ١ ص ٢٦٨ وج ٢ ص ٩٥ والبحار ج ٣٩ ص ١٨٣.

٣٢١

فإذا رأسه طويل العينين ، عيناه في طول رأسه ، صغير الحدقتين الخ ..» (١).

وعن الإمام الصادق «عليه‌السلام» : إن إبليس لعنه الله قد طلب من ربه أن : «لا يولد لهم ـ أي لبني آدم ـ ولد إلا ولد لي اثنان ، وأراهم ، ولا يروني ، وأتصور لهم في كل صورة شئت» (٢).

وفي حديث آخر : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان جالسا ، وعنده جني يسأله عن قضايا مشكلة ، فأقبل أمير المؤمنين ، فتصاغر الجني حتى صار كالعصفور الخ .. (٣).

يضاف إلى ما تقدم حديث يقول : إن جنية من أهل نجران تمثلت في مثال أم كلثوم (٤) فراجع.

وأمثال ذلك كثير لا مجال لاستقصائه .. وهو يدل على ما ذكرناه من

__________________

(١) مدينة المعاجز ج ١ ص ١٤٨ و ١٤٩ وحلية الأبرار ج ١ ص ٢٧٠ وج ٢ ص ٩١٨ وعيون المعجزات ص ٤٣ والبحار ج ١٨ ص ٨٦ وج ٣٩ ص ١٦٩ وج ٦٠ ص ٩١ ونوادر المعجزات للطبري ص ٥٣ والإحتجاج للطبرسي ج ١ ص ١٦٩ واليقين لابن طاووس ص ٢٦١ وحلية الأبرار ج ٢ ص ٩٨.

(٢) تفسير الميزان ج ٨ ص ٦١ عن تفسير القمي.

(٣) مشارق أنوار اليقين ص ٨٥ ومدينة المعاجز ج ١ ص ١٤٢ عنه ، وحلية الأبرار ج ٢ ص ١٥ ومجمع النورين ص ١٩٠.

(٤) البحار ج ٤٢ ص ٨٨ والخرائج والجرائح ج ٢ ص ٨٢٥ و ٨٢٦ ومرآة العقول ج ٢١ ص ١٩٨ وراجع : المجدي في أنساب الطالبيين ص ١٧ و ١٨ ومدينة المعاجز ج ٣ ص ٢٠٢ والصراط المستقيم ج ٣ ص ١٣٠ وسفينة البحار (ط سنة ١٤١٤ ه‍) ج ١ ص ٦٨٤.

٣٢٢

قدرة الجن ـ وإبليس منهم ـ على الظهور بأية صورة أرادوا ..

شكوك حول مقتل عامر :

روى الشيخان ، والبيهقي ، عن سلمة بن الأكوع ، قال : لما تصاف القوم يوم خيبر ، وكان سيف عامر فيه قصر ، فتناول به ساق يهودي ليضربه ، فرجع ذباب سيفه ، فأصاب عين ركبته ، فمات منه.

فلما قفلوا سمعت نفرا من أصحاب محمد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقولون : بطل عمل عامر ، قتل نفسه. فأتيت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وأنا أبكي فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لما رآني شاحبا : ما لك؟

قلت : فداك أبي وأمي ، زعموا أن عامرا حبط عمله.

قال : «من قال»؟

قلت : فلان وفلان ، وأسيد بن الحضير الأنصاري الخ .. (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٤٦ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٢ وراجع : الإصابة ج ٢ ترجمة عامر بن سنان والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٦١ و ٦٦٢ وعبقات الأنوار ج ٣ ص ٢٧٨ ومسند أحمد ج ٤ ص ٤٨ وعن صحيح البخاري ج ٥ ص ٧٣ وج ٧ ص ١٠٨ وج ٨ ص ٤١ وعن صحيح مسلم ج ٥ ص ١٨٦ وعن فتح الباري (المقدمة) ص ٣٠٣ وج ٧ ص ٣٥٨ والمعجم الكبير ج ٧ ص ٣٣ وجزء أحاديث الشعر ص ١٠٢ والطبقات الكبرى ج ٤ ص ٣٠٤ وتاريخ مدينة دمشق ج ٦٠ ص ٢٤٠ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٠٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٤٧.

٣٢٣

ونقول :

إننا نشك في هذه الرواية لما يلي :

أولا : إن مجرد إصابة ذباب السيف لعين ركبة إنسان لا يقتضي موته ، بل هي جراحة بسيطة قابلة للشفاء ..

ثانيا : إن هذا النوع من الجراحات ـ لو كان يؤدي بالمجروح إلى الموت ـ لا يوجب الموت مباشرة ، فهو ليس مثل ضرب العنق ، أو الطعن في القلب ، أو شق الرأس. بل هو لا يميت إلا بعد وقت طويل ، وتفاعل أمراض ، وحصول مضاعفات ، مع أن ظاهر الكلام هو : أن عامرا قد مات من ذلك في وقت قصير.

ثالثا : لماذا يبكي سلمة ، ألم يكن يعلم : أن من لم يتعمد قتل نفسه لا يعد قاتلا لها ، ولا موجب لحبط عمله.

رابعا : إن ما ذكروه في وجه إصابة ذباب السيف لعين ركبة عامر مما يصعب تصوره ، إلا في حالة لا تكاد تحصل إلا ممن تعمد فعل ذلك ، ولماذا يتعمد فعل أمر يحتاج إلى تكلف وجهد ، ما دام أن بإمكانه تحقيق غرضه بضرب نفسه بمواضع من السيف هي أدنى من ذبابه ..

شائعات أسيد بن حضير :

قد تقدم : أن الناس قالوا عن عامر بن الأكوع ، الذي قتله مرحب ـ حسب زعمهم ـ : قد قتله سلاحه.

وفي رواية : قتل نفسه. أي فليس بشهيد.

وأن سلمة بن الأكوع قال لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : زعموا أن

٣٢٤

أخي عامرا حبط عمله ، أو قال : يزعم أسيد بن حضير ، وجماعة من أصحابك : أن عامرا حبط عمله ، إذ قتل بسيفه.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : كذب من قال ، وإن له لأجرين ، وجمع بين إصبعين.

وفي رواية : وإنه لشهيد.

وفي نص آخر : إنه لجاهد ، مجاهد قل عربي مشى ـ وفي لفظ : نشأ بها ـ مثله (١).

ونلاحظ هنا :

أولا : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أجاب بعبارة تتضمن اتهاما صريحا لأولئك القائلين ، بأنهم قد كذبوا فيما قالوه. حيث لم يقل : إنهم أخطأوا ، أو نحو ذلك.

فوصفهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالكذب يدل : على أنهم متعمدون للإخبار عن أمر يعلمون أنه خلاف الواقع ، وهذا يؤكد أنهم لا يملكون من الورع ما يحجزهم عن ارتكاب الكبائر ـ ومنها الكذب ـ حتى على إنسان قد نال مقام الشهادة في سبيل الله ..

مع أن كل أحد يعلم : أن من لم يتعمد قتل نفسه ، لا موجب لحبط عمله.

وقد حاول الحلبي : التخفيف من وقع هذا التعبير النبوي بادعاء : أن

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٢ وراجع : الإصابة ج ٢ ترجمة عامر بن سنان ، وإمتاع الأسماع ص ٣١٧.

٣٢٥

المراد بالكذب : الخطأ ، أي أخطأ من قال (١).

غير أننا نقول له :

أولا : إن هذا خلاف ظاهر الكلام ، إذ كان بالإمكان أن يقول : أخطأ من قال.

ثانيا : لقد وصف سلمة بن الأكوع عامرا في هذه الرواية : بأنه أخوه ، مع أنهم يقولون : إن الصحيح أنه عمه ، وهذا وجه آخر من وجوه ضعف هذه الرواية ..

وأجيب : بأنه من الجائز : أن يكون أخاه من الرضاعة ، وعمه في النسب ، فجاز له أن يقول : أخي (٢).

ونقول :

إن من الندرة بمكان ، أن يعدل عن التعبير بالعم إلى التعبير بالأخ ؛ لأجل الأخوة الرضاعية بمجردها. بل لم نجد أحدا يفعل ذلك.

بل الإنصاف يقضي : بأن يعدّ هذا من الأدلة على أن عامرا كان أخا لسلمة فعلا ، والله هو العالم.

ابن مسلمة قاتل مرحب .. كذبة مفضوحة :

قد تقدم أن هناك من يزعم : أن قاتل مرحب هو محمد بن مسلمة ، وليس علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» ، فقد روى البيهقي عن عروة ، وعن موسى بن عقبة ، وعن الزهري ، وعن ابن إسحاق ، وعن محمد بن عمر عن

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٢ وراجع : البحار ج ٢١ ص ٢ و ٣.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٢ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٤٦.

٣٢٦

شيوخه ، قالوا : واللفظ لابن إسحاق ، قال : حدثني عبد الله بن سهل بن عبد الرحمن بن سهل ، أخو بني حارثة ، عن جابر بن عبد الله ـ رضي‌الله‌عنه ـ قال :

خرج مرحب اليهودي من حصن خيبر ، وقد جمع سلاحه يقول : من يبارز؟ ويرتجز :

قد علمت خيبر أني مرحب

شاكي السلاح بطل مجرب

أطعن أحيانا وحينا أضرب

إذا الليوث أقبلت تجرب

إن حماي للحمى لا يقرب

فأجابه كعب بن مالك :

قد علمت خيبر أني كعب

مفرج الغمى جريء صلب

إن شبت الحرب تلتها الحرب

معي حسام كالعقيق عضب

نطؤكم حتى يذل الصعب

نعطي الجزاء أو يفيء النهب

بكف ماض ليس فيه عتب

قال ابن هشام : وأنشدني أبو زيد :

قد علمت خيبر أني كعب

وأنني متى تشب الحرب

ماض على الهول جريء صلب

معي حسام كالعقيق عضب

بكف ماض ليس فيه عتب

ندككم حتى يذل الصعب

قال : ومرحب : ابن عميرة.

قال جابر : فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «من لهذا»؟

قال محمد بن مسلمة : أنا له يا رسول الله ، أنا والله الموتور الثائر ، قتل

٣٢٧

أخي بالأمس.

فأمره بأن يقوم إليه ، قال : «اللهم أعنه عليه».

(وفي بعض المصادر : وأعطاه سيفه ، فخرج إليه ، ودعاه إلى البراز ، فارتجز كل منهما).

قال : فلما دنا أحدهما من صاحبه ، دخلت بينهما شجرة عمرية (غمرته) من شجر العشر ، فجعل أحدهما يلوذ بها من صاحبه ، فكلما لاذ منه بها اقتطع صاحبه ما دونه منها ، حتى برز كل واحد منهما لصاحبه ، وصارت بينهما كالرجل القائم ، ما فيها فنن.

ثم حمل مرحب على محمد بن مسلمة فضربه ، فاتقاه بالدرقة ، فوقع سيفه فيها ، فعضت به فأمسكته ، وضربه محمد بن مسلمة فقطع فخذيه حتى قتله (١).

قالوا : ونفّل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» محمد بن مسلمة يوم خيبر سلب مرحب : سيفه ، ورمحه ، ومغفره ، وبيضته (٢).

قال الواقدي : «فكان عند آل محمد بن مسلمة سيفه ، فيه كتاب لا

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٢٧ و ١٢٨ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٧ و ٣٨ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٥٥ و ٦٥٦ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٥٠ و ٥١ عن الإكتفاء وعن مسند أحمد ج ٣ ص ٣٨٥ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١٥٠ وبغية الباحث ص ٢١٧ وتاريخ مدينة دمشق ج ٥٥ ص ٢٦٨ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٩٩ عن السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٧٩٧ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢١٥.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٨ عن مختصر المزني وراجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٥٦.

٣٢٨

يدرى ما هو ، حتى قرأه يهودي من يهود تيماء ، فإذا فيه :

هذا سيف مرحب

من يذقه يعطب» (١)

ابن مسلمة يقتل كنانة بأخيه :

ويقولون أيضا : إنه بعد تعذيب كنانة ابن أبي الحقيق دفعه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لمحمد بن مسلمة ، فضرب عنقه بأخيه محمود.

وذكروا في توجيه بشارة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لمحمود هذا بنزول فرائض البنات : أن محمود بن مسلمة كان متمولا ، وكان ماله أكثر من أموال أخيه محمد. فلما سقطت عليه الرحى جعل يقول لأخيه : بنات أخيك لا يتبعن الأفياء ، يسألن الناس.

فيقول له محمد : لو لم تترك مالا لكان لي مال. ولم تكن فرائض البنات قد نزلت.

فلما كان يوم موته ، وهو اليوم الذي قتل فيه مرحب أرسل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» جعيل بن سراقة الغفاري ، ليبشر محمود بأن الله قد أنزل فرائض البنات وأن محمد بن مسلمة قد قتل قاتله.

فسر بذلك ، ومات في اليوم الذي قتل فيه مرحب بعد ثلاث من سقوط الرحى عليه من حصن ناعم (٢).

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٥٦.

(٢) إمتاع الأسماع ص ٣١٦ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٥٨.

٣٢٩

ونقول :

إن هذا الكلام كله غير صحيح ، وذلك لما يلي :

أولا : إن الفاصل بين ما جرى في حصن ناعم حيث قتل محمود بن مسلمة وبين قتل مرحب في حصن القموص كان أياما كثيرة تعد بالعشرات ..

ثانيا : إنه لا ربط بين البشارة بنزول فرائض البنات وبين البشارة بقتل مرحب.

ثالثا : إن فرائض البنات قد نزلت قبل ذلك بسنوات ، ويشهد لهذا : أن الآيات المرتبطة بذلك هي في سور قد نزلت قبل ذلك بزمان طويل ..

رابعا : إن قاتل مرحب هو علي «عليه‌السلام» ، لا محمد بن مسلمة ..

وشواهد ذلك كله يجدها المتتبع بالمراجعة.

خامسا : إن رواياتهم في قاتل محمود بن مسلمة مختلفة ومتناقضة.

فهم يدّعون : أن قاتله هو مرحب.

ثم يدّعي بعضهم أيضا : أن ابن مسلمة قد قتل مرحبا بأخيه.

ثم هم يدّعون : أن عليا «عليه‌السلام» حين فتح الحصن أخذ قاتل محمود ، ودفعه لأخيه محمد بن مسلمة ، فقتله به ..

ثم يدّعون أيضا هنا : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد دفع كنانة ابن أبي الحقيق إلى محمد بن مسلمة ليقتله بأخيه محمود (١).

فلماذا هذا الاختلاف؟! وما هو السبب في هذا التخبط؟!

وقد يقال في دفع هذا التناقض الأخير : إن عليا «عليه‌السلام» دفعه

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٤٣ وراجع : السير الكبير للشيباني ج ١ ص ٢١٨.

٣٣٠

للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، والنبي دفعه لمحمد بن مسلمة ، فصح نسبة ذلك إليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تارة ، وإلى علي «عليه‌السلام» أخرى ..

ونحن لو قبلنا هذا التوجيه ، فإنه لا يدفع التناقض الآخر .. ولا يدفع التناقض بين كون القاتل لمحمود هو مرحب ، أو كنانة ..

كما أن ملاحظة رواياتهم تعطي : أن هؤلاء الناس ليس لهم همّ ولا شغل إلا رواية الأحاديث في الإشادة بمحمد بن مسلمة ، وتسطير المآثر والبطولات له ، وكأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وعليا «عليه‌السلام» وسواهما متحيرون في كيفية إرضاء ابن مسلمة ، وتطييب خاطره ، وتلبية طلباته ..

سادسا : إن دعواهم تعذيب كنانة بن أبي الحقيق قبل قتله ، على يد هذا تارة وذاك أخرى ، دليل آخر على كذب هذه الرواية ، إذ لا مبرر لتعذيبه.

ويكفي أن نذكّر الناس بوصية علي «عليه‌السلام» بقاتله عبد الرحمن بن ملجم ، حيث قال :

«ما فعل ضاربي؟! أطعموه من طعامي ، واسقوه من شرابي ، فإن عشت فأنا أولى بحقي ، وإن مت فاضربوه ولا تزيدوه» (١).

وفي نص آخر : «احبسوه ، وأطيبوا طعامه ، وألينوا فراشه ، فإن أعش فعفو ، أو قصاص الخ ..» (٢).

__________________

(١) المناقب للخوارزمي ص ٢٨٠ و ٢٨١.

(٢) الثقات ج ٢ ص ٣٠٣ والأخبار الطوال ص ٢١٥ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٣ ق ١ ص ٢٥ و ٢٦ وراجع : أنساب الأشراف (بتحقيق المحمودي) ج ٢ ص ٤٩٥ و ٥٠٢ و ٥٠٤.

٣٣١

حدّث العاقل بما لا يليق له :

وحول دور محمد بن مسلمة في قتل مرحب نضيف إلى ما تقدم ما قاله الحاكم النيسابوري : «على أن الأخبار متواترة بأسناد كثيرة : أن قاتل مرحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام» (١).

وقال الذهبي : الأخبار متواترة : أن قاتل مرحب علي (٢).

وقال الصالحي الشامي :

قلت : جزم جماعة من أصحاب المغازي : بأن محمد بن مسلمة هو الذي قتل مرحبا.

ولكن ثبت في صحيح مسلم ـ كما تقدم ـ عن سلمة بن الأكوع : أن عليا ـ رضي‌الله‌عنه ـ هو الذي قتل مرحبا.

وورد ذلك : في حديث بريدة بن الحصيب ، وأبي نافع مولى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وعلى تقدير صحة ما ذكره جابر ، وجزم به جماعة ، فما في صحيح مسلم مقدم عليه من وجهين :

أحدهما : أنه أصح إسنادا.

الثاني : أن جابرا لم يشهد خيبر ، كما ذكره ابن إسحاق ، ومحمد بن عمر ، وغيرهما ، وقد شهدها سلمة ، وبريدة ، وأبو رافع. وهم أعلم ممن لم يشهدها.

وما قيل : من أن محمد بن مسلمة ضرب ساقي مرحب فقطعهما ، ولم

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ج ٣ ص ٤٣٧.

(٢) تلخيص مستدرك الحاكم (مطبوع مع المستدرك) ج ٣ ص ٤٣٧.

٣٣٢

يجهز عليه ، ومرّ به علي «عليه‌السلام» فأجهز عليه ، يأباه حديث سلمة ، وأبي رافع ، والله أعلم.

وصحح أبو عمر : أن عليا «عليه‌السلام» هو الذي قتل مرحبا ، وقال ابن الأثير : إنه الصحيح (١).

وقال ابن الأثير : «وقيل : إن الذي قتل مرحبا ، وأخذ الحصن علي بن أبي طالب ، وهو الأصح والأشهر» (٢).

وقال أيضا : «الصحيح الذي عليه أهل السير والحديث : أن عليا كرم الله وجهه قاتله» (٣).

وقال الحلبي : «وقيل : القاتل له علي كرم الله وجهه ، وبه جزم مسلم (ره) في صحيحه.

وقال بعضهم : والأخبار متواترة به».

وقال أيضا : «وقد يجمع بين القولين : بأن محمد بن مسلمة أثبته ، أي بعد أن شق علي كرم الله وجهه هامته ، لجواز أن يكون قد شق هامته ، ولم يثبته ، فأثبته محمد بن مسلمة. ثم إن عليا كرم الله وجهه وقف عليه» (٤).

ثم استدل الحلبي على ذلك بما في بعض السير عن الواقدي ، قال : «لما قطع محمد بن مسلمة ساقي مرحب ، قال له مرحب : أجهز عليّ.

فقال : لا ، ذق الموت كما ذاقه أخي.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٢٧ و ١٢٨ وعن أسد الغابة ج ٤ ص ٣٣١.

(٢) الكامل في التاريخ ج ٢ ص ٢١٩.

(٣) شرح مسلم للنووي ج ١٢ ص ١٨٦ عن ابن الأثير.

(٤) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٨.

٣٣٣

ومر به علي فضرب عنقه ، وأخذ سلبه ، فاختصما إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في سلبه.

فقال محمد : يا رسول الله ، ما قطعت رجليه وتركته إلا ليذوق الموت ، وكنت قادرا أن أجهز عليه.

فقال علي كرم الله وجهه : صدق.

فأعطى سلبه لمحمد بن مسلمة» (١).

وقالوا : لعل هذا كان بعد مبارزة عامر بن الأكوع لمرحب ، فلا ينافي ما مر عن فتح الباري (٢).

وفي الإستيعاب : «والصحيح الذي عليه أكثر أهل السير والحديث أن عليا قاتله» (٣).

ونقول :

إن ما تقدم هو محض اكاذيب ولا يصح ، والذي قدمناه من النصوص الصحيحة ، والمتواترة كاف في إثبات ذلك ، ونزيد هنا ما يلي :

١ ـ علي عليه‌السلام يفي بوعده :

رووا : أن عليا «عليه‌السلام» لما فتح الحصن ، أخذ الرجل الذي قتل أخا محمد بن مسلمة ، وسلمه إلى ابن مسلمة ، فقتله بأخيه ..

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٨. وأشار إلى ذلك في الإمتاع ص ٣١٥ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٥٦ وراجع : السير الكبير ج ٢ ص ٦٠٦.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٨.

(٣) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٨.

٣٣٤

وفي نص آخر : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دفع كنانة لمحمد بن مسلمة ليقتله (١).

ولا منافاة بين الروايتين ، إذ إن عليا «عليه‌السلام» لا يورد ولا يصدر إلا عن أمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فهو قد سلمه إليه بعد أن أحرز الإذن منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

فيصح أن يقال : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دفعه إليه ، ويصح أيضا القول : بأن عليا «عليه‌السلام» فعل ذلك.

٢ ـ الإشتراك في قتل محمود :

إن دعوى اشتراك مرحب ، وكنانة بن الربيع ، والرجل الذي سلمه علي «عليه‌السلام» لمحمد بن مسلمة ـ إن دعوى اشتراك الثلاثة ـ في قتل محمود بن مسلمة (٢) غير مقبولة :

أولا : لثبوت أن ابن مسلمة لم يقتل مرحبا بأخيه ـ كما زعموا ـ لكي يصح قولهم : إنه قتله بأخيه الذي كان قد شارك في قتله ، بل قاتل مرحب هو علي «عليه‌السلام» ..

ثانيا : لما روي : من أن عليا «عليه‌السلام» قد سلم قاتل محمود إلى أخيه محمد. وهو لم يسلم إليه مرحبا قطعا .. ولم يسلم إليه كنانة لأجل ذلك أيضا.

ثالثا : قيام احتمال أن يكون محمد بن مسلمة قد فرّ مع الفارين في غزوة خيبر ، كما سنرى في الفقرة التالية ، فإنه إذا كان قد فر وانهزم ، فلا يكون قد

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٩.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٩.

٣٣٥

قتل مرحبا بأخيه أيضا.

٣ ـ ابن مسلمة يفرّ بالراية أيضا :

لقد ورد في بعض النصوص : ما يثير بقوة احتمال أن يكون محمد بن مسلمة أحد الذين أعطاهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الراية وهرب ، فقد روى ابن الأثير بإسناده عن بريدة ، قال : «لما كان يوم خيبر أخذ أبو بكر اللواء ، فلما كان من الغد أخذه عمر. وقيل (أخذه) : محمد بن مسلمة (أي وهرب) ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» :

لأدفعن لوائي إلى رجل لم يرجع حتى يفتح الله عليه.

فصلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» صلاة الغداة ، ثم دعا باللواء ، فدعا عليا «عليه‌السلام» وهو يشتكي عينيه الخ ..» (١).

فقد دلت هذه الرواية : على أن ابن مسلمة كان هو أو عمر قد هرب في خيبر.

ومما يؤيد ذلك : الرواية التي تقول : إن جماعة طلبوا الراية من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في خيبر ، فلم يعطهم إياها ، وأعطاها عليا «عليه‌السلام» ، ففتح الله عليه (٢).

__________________

(١) أسد الغابة ج ٤ ص ٢١ والعمدة لابن البطريق ص ١٥٦ وعن المناقب لابن المغازلي ص ٨٨.

(٢) تذكرة الخواص ص ٢٥ عن أحمد في الفضائل وراجع : مسند أحمد ج ٣ ص ١٦.

٣٣٦

٤ ـ الإختصام في سلب مرحب :

ثم إن الحديث عن اختصام علي «عليه‌السلام» ومحمد بن مسلمة إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في سلب مرحب ، مكذوب أيضا ، بدليل :

أنهم قد رووا : أن عليا «عليه‌السلام» لم يقدم على سلب عمرو بن عبد ود وهو أنفس سلب ، وحين طالبه عمر بن الخطاب بذلك قال :

«كرهت أن أبز السبيّ ثيابه» (١).

قال المعتزلي : فكأن حبيبا (يعني أبا تمام الطائي) عناه بقوله :

إن الأسود أسود الغاب همتها

يوم الكريهة في المسلوب لا السلب (٢)

كما أنه «عليه‌السلام» قال لعمرو بن عبد ود حين طلب منه أن لا يسلبه حلته : هي أهون علي من ذلك (٣).

فمن كان كذلك : فهو لا يجاحش على السلب ، ولا ينازع أحدا فيه ، فضلا عن أن يرفع الأمر إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليفصل فيه.

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٢٣٧.

(٢) شرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٢٣٧.

(٣) كنز الفوائد للكراجكي ص ١٣٧ والبحار ج ٢٠ ص ٢١٦.

٣٣٧
٣٣٨

الفهارس

١ ـ الفهرس الإجمالي

٢ ـ الفهرس التفصيلي

٣٣٩
٣٤٠