الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٧

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٧

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-189-0
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٣

فكيف يعطيه اللواء ، وهو لا يبصر طريقه؟!

رابعا : قال المفيد : «كانت الراية يومئذ لأمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، فلحقه رمد أعجزه عن الحرب» (١).

أي إن هذا الرمد قد عرض له بعد أن تسلم الراية ..

خامسا : إن الرواية نفسها تدل على أن رمد عيني علي «عليه‌السلام» قد كان طارئا في تلك الفترة ، وأنه لم يدم برهة ، بحيث يصل خبر ذلك إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فقد ذكرت الرواية : أنه في يوم قتل مرحب : أصبح رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فصلى الغداة ، ثم دعا باللواء ، ووعظ الناس ، فقال : أين علي؟

قالوا : يشتكي عينيه.

قال : فأرسلوا إليه ..

فلما جيء به قال له النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : ما لك؟!

قال : رمدت ، حتى لا أبصر ما قدامي.

فظاهر السياق يعطي : أن الناس كانوا يرون : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يكن على علم بأمر الرمد ، فأخبروه به.

وسؤال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لعلي «عليه‌السلام» : ما لك؟ وجواب علي «عليه‌السلام» له يقطع كل عذر ، ويزيل كل شبهة في ذلك.

ولو كان علي «عليه‌السلام» غائبا عن ساحة القتال كل هذه الأيام ، لعلم بذلك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لا سيما وأنه هو الذي يعتمد

__________________

(١) راجع : الإرشاد ج ١ ص ١٢٦.

٢٨١

عليه في حروبه ، وهو القريب منه ، والذي يواصل الاتصال به ، والتفقد له ، وهو حامل لوائه ، وقائد جيوشه ..

علي عليه‌السلام فاجأهم :

وفي البخاري وغيره : أن عليا «عليه‌السلام» رمدت عيناه في المدينة ، فلما خرج رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لحق به ، فوصل في لحظة إعطاء الراية.

ففاجأ حضور علي «عليه‌السلام» الناس ، لأنهم كانوا لا يرجون حضوره ، حتى إنهم حين رأوه قالوا بعفوية : هذا علي.

ونقول :

قد ذكرنا فيما تقدم : أن رمد عيني علي «عليه‌السلام» إنما حصل في أواخر أيام الحصار ، بل لقد صرحت بعض الروايات : أن الرمد إنما أصابه بسبب دخان الحصن ..

وأما الحديث الدال على أنهم فوجئوا بحضور علي «عليه‌السلام» ، فقد يكون بعضه صحيحا إذا كان أكثر الناس لم يلتفتوا ، أو لم يسمعوا كلام النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حين سأل عن علي «عليه‌السلام» ، فتصدى عمار بن ياسر ، أو سلمة بن الأكوع لإخباره أو إحضاره. فلما جاء به فوجئوا بحضوره.

أما إن كان المقصود : أنهم كانوا يعتقدون أن رمده قد منعه من الخروج مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من المدينة إلى خيبر ، ثم لحق به ..

فقد تقدم : أنه لم يفارق رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» منذ خروجه من المدينة ، حسبما أوضحناه.

٢٨٢

لباس علي عليه‌السلام في الحر والبرد :

ورووا عن علي «عليه‌السلام» أنه قال : إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعث إليّ وأنا أرمد العين يوم خيبر ، فقلت : يا رسول الله ، إني أرمد!!

فتفل في عيني ، فقال : اللهم أذهب عنه الحر والبرد ، فما وجدت حرا ولا بردا منذ يومئذ.

وذكروا : أنه «عليه‌السلام» كان يلبس في الحر الشديد القباء المحشو الثخين. ويلبس في البرد الشديد الثوبين الخفيفين (١).

ونقول :

أولا : قد ذكروا : أن رجلا دخل على علي «عليه‌السلام» وهو يرعد

__________________

(١) مسند أحمد ج ١ ص ٩٩ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٦ وسنن ابن ماجة (ط المكتبة التازية بمصر) ج ١ ص ٥٦ والخصائص للنسائي (ط مكتبة التقدم بمصر) ص ٥ والعقد الفريد (ط مكتبة الجمالية بمصر) ج ٣ ص ٩٤ وكفاية الطالب (ط الغري) ص ١٣٠ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٤٩ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ١٢٢ وتذكرة الخواص ص ٢٥ والرياض النضرة (ط محمد أمين بمصر) ج ٢ ص ١٨٨ والخصائص الكبرى ج ١ ص ٢٥٢ و ٢٥٣ والبحار ج ٢١ ص ٤ و ٢٠ و ٢٩ عن الخرايج والجرايح ، وعن الخصال ج ٢ وعن دلائل النبوة للبيهقي والميزان (تفسير) ج ١٨ ص ٢٩٦ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٢ ص ١٠٦ وسبل الهدى والرشاد ج ١٠ ص ٢١٤ وكنز العمال (ط مؤسسة الرسالة) ج ١٣ ص ١٢١ عن ابن جرير ، والبزار ، وأحمد ، وابن أبي شيبة ، والطيالسي ، والمستدرك ، والبيهقي ، وغيرهم والمصنف لابن أبي شيبة ج ٧ ص ٤٩٧ ومناقب أمير المؤمنين ج ٢ ص ٨٨ و ٨٩ ومجمع البيان (ط سنة ١٤٢١ ه‍) ج ٩ ص ١٥٥.

٢٨٣

تحت سمل قطيفة ، (أي قطيفة خلقة) فقال : يا أمير المؤمنين ، إن الله جعل لك في هذا المال نصيبا ، وأنت تصنع بنفسك هكذا.

فقال : لا أرزؤكم من مالكم شيئا ، وإنها لقطيفتي التي خرجت بها من المدينة (١).

قال الحلبي : «قد يقال : لا مخالفة ، لأنه يجوز أن تكون رعدته رضي‌الله‌عنه ليست من البرد ، خلاف ما ظنه السائل ، لجواز أن تكون لحمى أصابته في ذلك الوقت» (٢).

ويرد عليه :

أن هذا تأويل بارد ، ورأي كاسد ، بل فاسد ؛ فإن ظاهر الكلام : أن رعدته قد كانت بسبب رقة ما يلبسه ، وهو قطيفة خلقة (أي بالية) ، وأنه لو استفاد من نصيبه من المال ، ولبس ما يدفع هذا البرد لم يكن ملوما. فما يجري له كان هو السبب فيه ، وهو الذي أورده على نفسه .. وقد أصر «عليه‌السلام» على عدم المساس بالمال الذي تحت يده.

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٦ وحلية الأبرار ج ٢ ص ٢٤٦ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٢ ص ٤٧٧ وعن ينابيع المودة ج ٢ ص ١٩٥ والبحار ج ٤٠ ص ٣٣٤ والتذكرة الحمدونية (ط بيروت) ص ٦٩ ومختصر حياة الصحابة (ط دار الإيمان) ص ٢٥٣ والأموال (ط دار الكتب العلمية) ص ٢٨٤ وقمع الحرص بالزهد والقناعة ص ٧٩ وصفة الصفوة (ط حيدر آباد الدكن) ج ١ ص ١٢٢ وحلية الأولياء ج ١ ص ٨٢ وإحقاق الحق (الملحقات) ج ٨ ص ٢٩٥ وجواهر المطالب لابن الدمشقي ج ١ ص ٢٨٤ وكشف الغمة للأربلي ج ١ ص ١٧٣.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٦.

٢٨٤

ولعلهم أرادوا في جملة ما أرادوه من هذا الحديث : أن يشككوا الناس بزهده «عليه‌السلام» في ملبسه ، وأن يقولوا لهم : إن ذلك بسبب عدم شعوره بحر ولا برد.

ثانيا : إننا لا نجد أي ارتباط بين شكوى علي «عليه‌السلام» من الرمد ، وبين الدعاء المنسوب للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو : اللهم أذهب عنه الحر والبرد. فإنه «عليه‌السلام» لم يكن يشكو من حر ولا برد.

بل كانت شكواه من رمد عينيه ، فهل هذا إلا من قبيل أن تقول لإنسان : إني عطشان ، فيقول لك : نم على السرير؟!

ثالثا : حتى لو كان قد دعا له بإذهاب البرد والحر عنه .. فإنه لا يجب استمرار أثر ذلك حتى الممات ، بل يكفي أن لا يشعر بالبرد والحر في ذلك اليوم ، أو في أيام خيبر مثلا.

ويدل على ذلك : أنهم قد رووا عن بلال ، قوله : أذّنت في غداة باردة فخرج رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فلم ير في المسجد أحدا ، فقال : أين الناس يا بلال؟!

قال : منعهم البرد.

فقال : اللهم أذهب عنهم البرد.

قال بلال : فرأيتهم يتروحون (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١٠ ص ٢١٤ عن البيهقي ، وأبي نعيم ، والطبراني وجمع الزوائد للهيثمي ج ١ ص ٣١٨ والكامل لابن عدي ج ١ ص ٣٤٦ والموضوعات لابن الجوزي ج ٢ ص ٩٣ وأسد الغابة ج ١ ص ٢٠٩ وميزان الإعتدال ج ١ ص ٢٨٩ ولسان الميزان لابن حجر ج ١ ص ٤٨٢ والبداية والنهاية ج ٦ ص ١٨٥.

٢٨٥

فلماذا لم يستمر ذهاب البرد عنهم إلى أن خرجوا من الدنيا؟ كما يزعمونه بالنسبة لعلي «عليه‌السلام»؟!

أم أن هذه هي القصة الواقعية ، وقد استفيد منها في قصة خيبر ، لحاجة في أنفسهم؟!

٢٨٦

الفصل الثالث :

قتل مرحب .. أحداث وتفاصيل

٢٨٧
٢٨٨

علوتم والذي أنزل التوراة :

وعن قول اليهودي لما سمع باسم علي «عليه‌السلام» : علوتم ، والذي أنزل التوراة على موسى ، نقول :

إن أبا نعيم قال : «فيه دلالة على أن فتح علي لحصنهم مقدم في كتبهم ، بتوجيه من الله وجهه إليهم ، ويكون فتح الله تعالى على يديه».

وهي التفاتة جليلة من أبي نعيم ، ويؤيدها :

أولا : ما روي من أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قال لعلي «عليه‌السلام» : خذ الراية ، وامض بها فجبرئيل معك ، والنصر أمامك ، والرعب مبثوث في قلوب القوم ..

واعلم يا علي ، أنهم يجدون في كتابهم : أن الذي يدمر عليهم اسمه (إيليا) ، فإذا لقيتهم فقل : أنا علي.

فإنهم يخذلون إن شاء الله تعالى الخ .. (١).

ثانيا : إن مرحبا نفسه قد هرب لما سمع باسم علي «عليه‌السلام» ، وكانت ظئره قد أخبرته : بأن اسم قاتله حيدرة.

__________________

(١) البحار ج ٢١ ص ١٥ عن الإرشاد للمفيد ج ١ ص ١٢٦ وراجع : كتاب الأربعين للماحوزي ص ٢٩٥ وكشف الغمة للإربلي ج ١ ص ٢١٣.

٢٨٩

وقد زعموا : أنها قالت له ذلك : لأنها كانت تتعاطى الكهانة.

والجواب : إن كونها تتعاطى الكهانة لا يعطيها القدرة على معرفة الغيب الإلهي ، فإنه تعالى وحده (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ ..) (١).

ويشهد لذلك : أننا وجدنا في جملة الأقوال حول تسمية علي «عليه‌السلام» بحيدرة : أن اسمه في الكتب المتقدمة أسد ، والأسد هو الحيدرة ..

وسيأتي بعض الحديث عن ذلك ، تحت عنوان : «من سمى عليا «عليه‌السلام» بحيدرة» إن شاء الله تعالى.

ولعل هناك من يريد اعتبار قول اليهودي : علوتم (أو غلبتم) والذي أنزل التوراة على موسى ، قد جاء على سبيل التفؤل بالاسم ..

ونحن وإن كنا لا نصر على بطلان هذا الاحتمال ، باعتبار أن الذين يشتد تعلقهم بالدنيا يتشبثون ولو بالطحلب ، ويخافون حتى من هبوب الرياح ، ويتشاءمون ويتفاءلون بالخيالات والأشباح ..

غير أننا نقول :

إنه مع وجود الشواهد والمؤيدات لما ذكره أبو نعيم ، لا يبقى مجال لترجيح الاحتمال الآخر ..

ونزيد هنا : أن ما أكد لهم صحة ما ورد في كتبهم ، هو ما تناهى إلى مسامعهم من مواقف علي «عليه‌السلام» التي تظهر أنه أهل لما أهّله الله تعالى له ، كما دلت عليه معالي أموره في المواقع المختلفة في الحرب ، وفي

__________________

(١) الآيتان ٢٦ و ٢٧ من سورة الجن.

٢٩٠

السلم على حد سواء ، ومن ذلك مبيته «عليه‌السلام» على فراش النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليلة الهجرة ، وجهاده في بدر ، وأحد ، والخندق ، وقريظة ، والنضير ، و .. و .. الخ ..

قتل علي عليه‌السلام مرحبا والفرسان الثمانية :

قالوا : ثم خرج أهل الحصن إلى ساحة القتال .. أما رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فإنه لما أصبح أرسل إلى علي «عليه‌السلام» وهو أرمد ، فتفل في عينيه. قال علي «عليه‌السلام» : فما رمدت حتى الساعة. ودعا له ، ومن معه من أصحابه بالنصر.

فكان أول من خرج إليهم الحارث أبو زينب ، أخو مرحب في عادية (أي ممن يعدون للقتال على أرجلهم) ـ قال الحلبي : وكان معروفا بالشجاعة ـ فانكشف المسلمون ، وثبت علي «عليه‌السلام» ، فاضطربا ضربات ، فقتله علي «عليه‌السلام».

ورجع أصحاب الحارث إلى الحصن ، وأغلقوا عليهم ، ورجع المسلمون إلى موضعهم ..

وخرج مرحب وهو يقول :

قد علمت خيبر أني مرحب

الخ ...

فحمل عليه علي «عليه‌السلام» فقطّره (أي ألقاه على أحد قطريه ، أي جانبيه) على الباب ، وفتح الباب ، وكان للحصن بابان (١).

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٥٣ و ٦٥٤ وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٤.

٢٩١

ورجع أصحاب الحارث إلى الحصن ، وبرز عامر ، وكان رجلا جسيما طويلا ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين برز وطلع عامر : «أترونه خمسة أذرع»؟ وهو يدعو إلى البراز.

فخرج إليه علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» ، فضربه ضربات ، كل ذلك لا يصنع شيئا ، حتى ضرب ساقيه فبرك ، ثم ذفّف عليه ، وأخذ سلاحه.

قال ابن إسحاق : ثم برز ياسر وهو يقول :

قد علمت خيبر أني ياسر

شاكي السلاح بطل مغاور

إذا الليوث أقبلت تبادر

وأحجمت عن صولة المساور

إن حسامي فيه موت حاضر

قال محمد بن عمر : وكان من أشدائهم ، وكان معه حربة يحوس الناس بها حوسا.

فبرز له علي بن أبي طالب ، فقال له الزبير بن العوام : أقسمت إلا خليت بيني وبينه ، ففعل.

فقالت صفية لما خرج إليه الزبير : يا رسول الله ، يقتل ابني؟

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «بل ابنك يقتله ، إن شاء الله» ، فخرج إليه الزبير وهو يقول :

قد علمت خيبر أني زبار

قرم لقرم غير نكس فرار

ابن حماة المجد ، ابن الأخيار

ياسر لا يغررك جمع الكفار

فجمعهم مثل السراب الختار

ثم التقيا فقتله الزبير.

٢٩٢

قال ابن إسحاق : وذكر أن عليا هو الذي قتل ياسرا.

قال محمد بن عمر : وقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للزبير لما قتل ياسرا : فداك عم وخال.

ثم قال : «لكل نبي حواري ، وحواري الزبير وابن عمتي» (١).

وفي حديث سلمة بن الأكوع عند مسلم ، والبيهقي : أن مرحبا خرج وهو يخطر بسيفه.

وفي حديث ابن بريدة ، عن أبيه : خرج مرحب وعليه مغفر معصفر يماني ، وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه ، وهو يرتجز ويقول :

قد علمت خيبر أني مرحب

شاكي السلاح بطل مجرب

إذا الليوث أقبلت تلهب

قال سلمة : فبرز له عامر (أي عامر بن الأكوع) وهو يقول :

قد علمت خيبر أني عامر

شاكي السلاح بطل مغامر

قال : فاختلفا ضربتين ، فوقع سيف مرحب في ترس عامر ، فذهب عامر يسفل له ، وكان سيفه فيه قصر ، فرجع سيفه على نفسه ، فقطع أكحله ، وفي رواية : أصاب عين ركبته ، وكانت فيها نفسه.

قال بريدة : فبرز مرحب وهو يقول :

قد علمت خيبر أني مرحب

شاكي السلاح بطل مجرب

إذا الليوث أقبلت تلهب

وأحجمت عن صولة المغلب

__________________

(١) راجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٥٧ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٢٥ و ١٢٦ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٥١.

٢٩٣

فبرز له علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» ، وعليه جبة أرجوان حمراء قد أخرج خملها ، وهو يقول :

أنا الذي سمتني أمي حيدرة

كليث غابات كريه المنظرة

أوفيهم بالصاع كيل السندرة

فضرب مرحبا ففلق رأسه ، وكان الفتح (١).

وفي نص آخر : أن عليا «عليه‌السلام» أجاب مرحبا بقوله :

أنا الذي سمتني أمي حيدرة

كليث غابات كريه المنظرة

عبل الذراعين شديد القصورة

أضرب بالسيف وجوه الكفرة

ضرب غلام ماجد حزوّرة

أكيلكم بالسيف كيل السندرة (٢)

وفي حديث بريدة ، فاختلفا ضربتين ، فبدره علي «عليه‌السلام» بضربة (بذي الفقار) فقدّ الحجر ، والمغفر ، ورأسه ، ووقع في الأضراس ، وأخذ المدينة.

وفي نص آخر : سمع أهل العسكر صوت ضربته. وقام الناس مع علي

__________________

(١) صحيح مسلم ج ٥ ص ١٩٥ ومسند أحمد ج ٥ ص ٣٣٣ و ٣٥١ والمستدرك للحاكم ج ٣ ص ٣٨ وتاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ٣٠ ومناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي (ط المكتبة الإسلامية بطهران) ص ١٧٦ ولباب التأويل ج ٤ ص ١٨٢ و ١٨٣ والرياض النضرة (ط محمد أمين بمصر) ج ١ ص ١٨٥ و ١٨٧ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٨٥ فما بعدها ومعالم التنزيل (ط مصر) ج ٤ ص ١٥٦ وحياة الحيوان ج ١ ص ٢٣٧ وطبقات ابن سعد (مطبعة الثقافة الإسلامية) ج ٣ ص ١٥٧ وينابيع المودة (ط بمبي) ص ٤١ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٥٧.

(٢) تذكرة الخواص ص ٢٦.

٢٩٤

حتى أخذ المدينة (١).

وفي نص آخر : ضربه على هامته حتى عض السيف منها بأضراسه ، وسمع أهل العسكر صوت ضربته.

قال : وما تتام آخر الناس مع علي «عليه‌السلام» حتى فتح لأولهم (٢).

وفي نص آخر : «فخرج يهرول هرولة ، فو الله ما بلغت أخراهم حتى دخل الحصن.

قال جابر : فأعجلنا أن نلبس أسلحتنا.

وصاح سعد : اربع يلحق بك الناس.

فأقبل حتى ركزها قريبا من الحصن الخ ..» (٣).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٢٦ و ١٢٥ وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٢ و ٣٧ و ٣٨ ومسند أحمد ج ٥ ص ٣٥٨ وتاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ٣٠ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٨٥ فما بعدها ، ولباب التأويل ج ٤ ص ١٨٢ و ١٨٣ ومعارج النبوة ص ٢١٩ والإصابة ج ٢ ص ٥٠٢ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٢٢٠ والمستدرك للحاكم ج ٣ ص ٤٣٧ ومعالم التنزيل ج ٤ ص ١٥٦ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٥٠ وراجع بعض ما تقدم في : إمتاع الأسماع ص ٣١٥ و ٣١٦.

(٢) مسند أحمد ج ٥ ص ٣٥٨ وتاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ٣٠ والمستدرك للحاكم ج ٣ ص ٤٣٧ وراجع : العمدة لابن البطريق ص ١٤١ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١٥ والسنن الكبرى ج ٥ ص ١١٠ و ١٧٨ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٢ ص ٩٥ وعن الإصابة ج ٤ ص ٤٦٦ وعن تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٠٠ وفضائل الصحابة لابن حنبل ج ٢ ص ٦٠٤.

(٣) البحار ج ٢١ ص ٢٢ عن إعلام الورى ج ١ ص ٢٠٨ وفي هامشه قال : انظر الإرشاد للمفيد ج ١ ص ١٢٥ والخرائج والجرائح ج ١ ص ١٥٩ و ٢٤٩ والمغازي للواقدي.

٢٩٥

وفي بعض النصوص : «أن مرحبا لما رأى أن أخاه قد قتل خرج سريعا من الحصن في سلاحه ، أي وقد كان لبس درعين ، وتقلد بسيفين ، واعتم بعمامتين ، ولبس فوقهما مغفرا ، وحجرا قد ثقبه قدر البيضة ، ومعه رمح لسانه ثلاثة أسنان ، وذكر أن ياسرا خرج بعد مرحب» (١).

ولم يكن بخيبر أشجع من مرحب ولم يقدر أحد من أهل الإسلام أن يقاومه في الحرب (٢).

وزعموا : أن محمد بن مسلمة قتل أسيرا أيضا (٣).

وعن علي «عليه‌السلام» قال : لما قتلت مرحبا ، جئت برأسه إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٤).

قال الديار بكري : قيل هذا ـ أي قتل علي مرحبا ـ هو الصحيح ، وما نظمه بعض الشعراء يؤيده ، وهو :

علي حمى الإسلام من قتل مرحب

غداة اعتلاه بالحسام المضخم

وفي رواية قتله محمد بن مسلمة (٥).

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٧ و ٣٨ وراجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ٥٠.

(٢) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٥٠.

(٣) إمتاع الأسماع ص ٣١٥.

(٤) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٢٧ ومسند أحمد ج ١ ص ١١١ وتذكرة الخواص ص ٢٦ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ١٨٥ فما بعدها ، ومجمع الزوائد للهيثمي ج ٦ ص ١٥٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٥٧.

(٥) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٥٠ وراجع : مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ٥ عن جماعة من السفاف والمعاندين ادّعوا : أن مرحبا قتله محمد بن مسلمة ، وادّعوا ، وادّعوا.

٢٩٦

وسيأتي الكلام حول ذلك ، وأنه مكذوب ومختلق.

ولنا مع هذه النصوص وقفات عديدة ، نكتفي منها بما يلي :

قطع رأس مرحب لماذا؟!

بالنسبة لما روي من أن عليا «عليه‌السلام» قد قطع رأس مرحب ، وجاء به إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، نقول :

أولا : هو أمر لم نعهده منه «عليه‌السلام» في مختلف مواقفه الجهادية ..

وثانيا : إننا لا نرى مبررا لتصرف كهذا. فإن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وكذلك علي «عليه‌السلام» لم يكونا ممن يرغب في التشفي من الأشخاص ، لا في حياة أولئك الأشخاص ، ولا بعد مماتهم ، بل كانا يريدان دفع الفساد ، وإقامة الدين.

ثالثا : إنه إذا كان «عليه‌السلام» قد شق رأس مرحب وجسده نصفين حتى بلغ السرج (١) ، كما ذكرته بعض الروايات ؛ فإن قطع الرأس في هذه الحال يصبح بمثابة جمع أشلاء ، وحمل قطع ذات منظر مثير ، وهو أمر لا يليق فعله بالإنسان العادي ، فكيف بأنبل الناس ، وأشرفهم ، وأكرمهم؟!

صفية تتدخل لمصلحة ولدها :

وأما قصة الزبير ، وأن أمه قد خافت عليه ، حين برز لذلك اليهودي. فنحن نشك في صحتها. وذلك لما يلي :

أولا : إنهم يقولون : إن هذه القضية قد حصلت في بني قريظة ، حيث

__________________

(١) معارج النبوة ص ٣٢٣ و ٢١٩.

٢٩٧

برز أحد الأعداء ، فقال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للزبير : قم يا زبير.

فقالت أمه صفية : واحدي يا رسول الله.

فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أيهما علا صاحبه قتله ، فعلاه الزبير فقتله. فنفله رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سلبه وقال : السلب للقاتل (١).

ثم نجد الحلبي يشكك في هذه القضية أيضا ، فيقول : فليتأمل ، فإني لم أقف في كلام أحد على أن بني قريظة وقعت منهم مقاتلة بالمبارزة (٢)

فأي ذلك هو الصحيح؟!.

ثانيا : قولهم : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قال للزبير حين قتل ياسرا : فداك عم ، وخال .. يثير أمامنا سؤالا عن السبب في اختيار تفديته بالعم والخال ، دون الأب والأم كما هو المعتاد ، ومن هو العم المقصود بالتفدية؟! فهل أراد أن يفديه بعمه المشرك أبي لهب ، أو بعمه الآخر أبي طالب ، الذي يزعمون أنه مات مشركا أيضا؟! مع أن دعواهم الثانية في أبي طالب محض افتراء وبهتان ، كما أثبتناه في كتابنا : «ظلامة أبي طالب عليه‌السلام».

ومن هو الخال الذي يقصدونه؟ وهل كان مسلما أم مشركا؟!

ولماذا ترك «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تفدية الزبير بأبويه ، مع أنهم يزعمون أنه كان قد فداه بهما في أحد ، وفي بني قريظة (٣).

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٨ عن الزمخشري والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٥٠٤.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٨ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٥٠٥.

(٣) المواهب اللدنية ج ١ ص ١١٢ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢١٧ وراجع ص ٣٢٧ و ٣٢٨ كلاهما عن الشيخين.

وقال الترمذي : حديث حسن. والتاريخ الكبير للبخاري ج ٦ ص ١٣.

٢٩٨

قال ابن عبد البر : ثبت عن الزبير أنه قال : جمع لي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أبويه مرتين : يوم أحد ، ويوم بني قريظة.

فقال : ارم فداك أبي وأمي (١).

ورغم : أنهم يقولون هذا ، فإنهم ينكرونه في موضع آخر فيقولون أيضا : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يجمع أبويه لأحد إلا لسعد بن أبي وقاص (٢).

ثالثا : زعموا : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قال للزبير حين قتل ياسرا : «لكل نبي حواري ، وحواري الزبير وابن عمتي».

مع أنهم يقولون : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال له ذلك ، حين جاءه بخبر بني قريظة (٣).

فأيهما هو الصحيح؟ وإن كنا نعتقد بعدم صحة أي منهما أيضا.

فقد ذكرنا في غزوة بني قريظة : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إنما استخبر عن أمر بني قريظة بواسطة سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة ، فلم

__________________

وقول الزبير الأخير : موجود في السيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٥ و ١٠ وكذا في سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٥٦٢ لكنه لم يصرح ببني قريظة. وحدائق الأنوار ج ٢ ص ٥٩٠ عن الصحيحين ، وليس فيهما تصريح ببني قريظة أيضا.

وفيه : أنه لما قال له الزبير : أنا ، قال : إن لكل نبي حواري ، وإن حواريي الزبير.

وراجع : صحيح البخاري كتاب أصحاب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، باب مناقب الزبير.

(١) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٢١٧ و ٢٢٩.

(٢) السيره الحلبية ج ٢ ص ٢٢٩ وشرح مسلم للنووي ج ١٥ ص ١٨٤.

(٣) المغازي ج ٢ ص ٤٥٧ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٢٧ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢١٧.

٢٩٩

يكن هناك حاجة لإرسال الزبير.

رابعا : صرحت بعض الروايات : بأن الزبير كان أيضا قد طلب الراية يوم خيبر ، وأنه كان قد فرّ بها ، وأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يعطه إياها بل قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : والذي كرم الله وجه محمد لأعطين الراية رجلا لا يفر ، هاك يا علي (١).

وسيأتي بعض الحديث عن ذلك إن شاء الله تعالى ..

الزبير حواري رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وأما الحديث الذي يقول : لكل نبي حواري ، وإن حواريي الزبير ، وابن عمتي ..

فلا نشك : في أنه مكذوب على الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

ويكفي أن نذكر شاهدا على ذلك :

أولا : روى الكشي بسنده عن أسباط بن سالم ، عن الإمام الكاظم «عليه‌السلام» أنه قال : إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين حوارييّ محمد بن عبد الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، الذين لم ينقضوا العهد ، ومضوا عليه؟!

__________________

(١) مجمع الزوائد ج ٩ ص ١٢٤ وراجع : شرح الأخبار ج ١ ص ٣٢١ والعمدة ص ١٤٠ و ١٤٣ وفضائل الصحابة ج ٢ ص ٦١٧ ح ١٠٥٤ وص ٥٨٣ ح ٩٨٧ وذخائر العقبى ص ٧٣ عن مسند أحمد ج ٣ ص ١٦ ومسند أبي يعلى ج ٢ ص ٥٠٠ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٢ ص ١٠٤ و ١٠٥ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢١٢ ونهج الإيمان لابن جبر ص ٣١٧ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٥٢ وينابيع المودة ص ١٦٤ ومصادر أخرى تقدمت.

٣٠٠