الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٧

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٧

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-189-0
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٣

أو فبات الناس يدركون ليلتهم أيهم يعطاها (١).

وفي اليوم التالي غدا الناس على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كلهم يرجو أن يعطاها (٢).

وعند الراوندي : فتطاول جميع المهاجرين والأنصار ، فقالوا : أما علي فهو لا يبصر شيئا ، لا سهلا ولا جبلا (٣).

__________________

(١) صحيح البخاري (ط محمد علي صبيح بمصر) ج ٥ ص ١٧١ وصحيح مسلم ج ٧ ص ١٢١ ومسند أحمد ج ٥ ص ٣٣٣ وتاج العروس ج ٧ ص ١٣٣ وينابيع المودة (ط بمبي) ص ٤١ فما بعدها ودلائل النبوة للبيهقي ج ٤ ص ٢٠٥ وحلية الأولياء ج ١ ص ٦٢ والسنن الكبرى ج ٩ ص ١٠٧ وجامع الأصول ج ٩ ص ٤٧٢ وتذكرة الخواص ص ٢٤ وأسد الغابة ج ٤ ص ٢٢ والصواعق المحرقة (ط الميمنية بمصر) ص ٧٤ والفصول المهمة لابن الصباغ ص ١٩ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٨٤ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٢٤ ومسند الطيالسي ص ٣٢٠ والخصائص الكبرى ج ١ ص ٢٥١ و ٢٥٢ وذخائر العقبى (ط مكتبة القدسي) ص ٧٤ والرياض النضرة (ط محمد أمين بمصر) ج ١ ص ١٨٤ ـ ١٨٨ وتاريخ الخلفاء (ط مكتبة السعادة بمصر) ص ١٦٨ وإسعاف الراغبين (بهامش نور الأبصار) ١٦٩ ونور الأبصار ص ٨١.

(٢) صحيح البخاري (ط محمد علي صبيح بمصر) ج ٥ ص ١٧١ وصحيح مسلم ج ٧ ص ١٢١ ومسند أحمد ج ٥ ص ٣٣٣ ومشكاة المصابيح (ط دهلي) ص ٥٦٤ والإصابة ج ٢ ص ٥٠٢ وذخائر العقبى (ط مكتبة القدسي) ص ٧٤ والخصائص للنسائي ص ٦ ومصابيح السنة (ط مكتبة الخيرية بمصر) ج ٢ ص ٢٠١ وتذكرة الخواص ص ٢٤ والصواعق المحرقة (ط المكتبة الميمنية بمصر) ص ٧٤.

(٣) البحار ج ٢١ عن الخرايج والجرايح.

٢٦١

وعند الطبري : فتطاولت لها قريش ورجال ، كل واحد منهم يرجو أن يكون هو صاحب ذلك (١).

وفي نص آخر : تطاول لها أبو بكر وعمر (٢).

ابن الصباغ ينقل عن صحيح مسلم :

قال ابن الصباغ : «وفي صحيح مسلم : قال عمر بن الخطاب : فما أحببت الإمارة إلا يومئذ ، فتساورت لها ، وحرصت عليها حتى أبديت وجهي ، وتصديت لذلك ليتذكرني ..

ثم قال : قالوا : وإنما كانت محبة عمر لما دلت عليه من محبته الله ورسوله ، ومحبتهما له ، والفتح» (٣).

ونقول :

إن سائر الروايات قد اقتصرت على القول : بأن عمر قال : ما أحببت

__________________

(١) تاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ٣٠ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ١٠٧ والكامل في التاريخ (ط دار صادر) ج ٢ ص ٢١٩ وراجع : منتخب كنز العمال (بهامش مسند أحمد) ج ٤ ص ١٢٨ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٨٥ فما بعدها والرياض النضرة (ط محمد أمين بمصر) ج ١ ص ١٨٤ ـ ١٨٨ والخصائص الكبرى ج ١ ص ٢٥١ و ٢٥٢ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٤٨.

(٢) راجع : منتخب كنز العمال (بهامش مسند أحمد) ج ٤ ص ١٢٨ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٤٨.

(٣) الفصول المهمة لابن الصباغ ص ٣٨ وكتاب الأربعين للماحوزي ص ١٨١ و ١٨٩.

٢٦٢

الإمارة إلا يومئذ.

قال : فتساورت لها ، رجاء أن أدعى لها (١).

فدعا عليا فأعطاه إياها ، وقال : امش ، ولا تلتفت.

فصرخ : يا رسول الله ، على ماذا أقاتل الناس؟!

قال : قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله.

فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم ومالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله (٢).

__________________

(١) صحيح مسلم (ط محمد علي صبيح) ج ٧ ص ١٢١ ومسند الطيالسي ص ٣٢٠ والتاج الجامع للأصول ج ٣ ص ٣٢٦ ومسند أحمد ج ٢ ص ٣٨٤ وعن صحيح البخاري ج ٧ ص ٥٤٤ (٤٢٠٩ و ٤٢١٠) والخصائص الكبرى ج ١ ص ٢٥١ و ٢٥٢ وخصائص علي بن أبي طالب للنسائي ص ٧ والطبقات لابن سعد (ط دار الثقافة الإسلامية مصر) ج ٣ ص ١٥٦ ومعارج النبوة ص ٢١٩ وراجع : سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٢٤ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٤ ص ٢٠٥ وجامع الأصول ج ٩ ص ٤٧٢ وتذكرة الخواص ص ٢٤ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٨٤ و ١٨٥ وذخائر العقبى (ط مكتبة القدسي) ص ٧٤ و ٧٥ والرياض النضرة (ط محمد أمين بمصر) ج ١ ص ١٨٤ ـ ١٨٨ والنهاية لابن الأثير ج ٢ ص ٤٢٠ وينابيع المودة ج ١ ص ١٥٤ والبحار ج ٣٩ ص ١٢ و ١٣ وشرح صحيح مسلم للنووي ج ١٥ ص ١٧٦ والديباج على مسلم ج ٥ ص ٣٨٧ ورياض الصالحين للنووي ص ١٠٨ والجوهرة في نسب علي بن أبي طالب وولده ص ٦٨ وشرح أصول الكافي للمازندراني ج ٦ ص ١٣٦ وج ١٢ ص ٤٩٤ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٤٨.

(٢) صحيح مسلم (ط محمد علي صبيح) ج ٧ ص ١٢١ ومسند الطيالسي ص ٣٢٠

٢٦٣

فهل كانت لدى ابن الصباغ نسخة من صحيح مسلم تختلف عن النسخة التي وصلت إلينا ..

أم أن أحدا قد كتب في هامش نسخته توضيحا لكلام عمر ، فظنه ابن الصباغ جزءا من الرواية ، فأدرجه فيها ..

أو أن ابن الصباغ نفسه قد شرح كلمة عمر بالنحو المتقدم ، لكن نساخ كلامه قد أسقطوا (كلمة).

أي أن كل ذلك محتمل ويؤيد هذا الاحتمال الأخير : أن الماحوزي نقل كلام ابن الصباغ بإضافة ما يدل على أنه بصدد توضيح كلام عمر فراجع (١).

٣ ـ كرار غير فرار :

وإذا أردنا العودة إلى شرح كلمات رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لعلي في خيبر ، فإننا نقول :

إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يكتفي بالإشارة إلى فرار هؤلاء الناس ، بل هو يتحدث عن أنهم كثيرو الفرار ، حتى كأن هذا الأمر قد أصبح عادة لهم ، في حين أن عليا «عليه‌السلام» ليس بفرار ، بل هو كثير الكر ، حتى أصبح

__________________

والتاج الجامع للأصول (ط مصر) ج ٣ ص ٣٢٦ ومسند أحمد ج ٢ ص ٣٨٤ والخصائص للنسائي ص ٧ والطبقات لابن سعد (ط دار الثقافة الإسلامية) ج ٣ ص ١٥٦ ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ٣٨ والمعجم الصغير (ط دهلي) ص ١٦٣ وتذكرة الخواص ص ٢٤ و ٢٥ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٨٤ و ١٨٥ والرياض النضرة (ط محمد أمين بمصر) ج ١ ص ١٨٤ ـ ١٨٨.

(١) كتاب الأربعين للماحوزي ص ١٨١ و ١٨٩.

٢٦٤

ذلك عادة له أيضا ..

٤ ـ لا يولي الدبر :

ثم أكد ذلك بقوله : لا يولي الدبر ، مستفيدا من تعبير يؤكد شعور السامع بالنفرة من عملهم هذا.

٥ ـ لا يرجع حتى يفتح الله عليه :

ثم يزيد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في توضيح ما يرمي إليه ، بقوله : لا يرجع .. أي كما رجع أولئك ، حتى يفتح الله سبحانه عليه ، لأن الفتح كرامة إلهية ، ولطف رباني ، يختص الله به من هو أهل للكرامة ، ومستحق للطف .. وهو ذلك الذي يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، فإنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد مهد تلك المقدمات لينتهي إلى هذه النتيجة ، بصورة عفوية وطبيعية.

فكأنها من القضايا التي تكون قياساتها معها ..

٦ ـ لا يخزيه الله أبدا :

وورد في بعض النصوص قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : لأبعثن رجلا لا يخزيه الله أبدا ، أي إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد تقدم خطوة أخرى في سياق الإعلان عن قبح الفرار الذي حصل ، ليدلنا ذلك على أنه لا يمكن المرور عن هذا الأمر مرور الكرام ، لشدة خطورته ، وعميق تأثيره ، مما يعني بقاء تبعاته وآثاره تلاحق الذين صدر منهم ذلك ، وتلقي بكلاكلها على سمعتهم ، وعلى موقعهم. وذلك حين ألمح على سبيل التعريض الذي هو

٢٦٥

أبلغ من التصريح إلى أن الفرار من موجبات الذل ، والمهانة ، والخزي ، الذي هو أشر أنواع السقوط.

ولتلاحظ : كلمة أبدا أيضا في كلامه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فإنها قد جاءت لتفيد المزيد من التأكيد على براءة ونزاهة ذلك المبعوث من هذا الأمر الشنيع.

حتى أنت يا عمر؟! :

وقد روي : أن عمر لما سمع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقول : لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، كرارا غير فرار ، قال : ما أحببت الإمارة إلا ذلك اليوم (١).

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٥ وراجع : شرح أصول الكافي ج ٦ ص ١٣٦ و ١٣٧ و ٤٩٤ ومناقب أمير المؤمنين ج ٢ ص ٥٠٣ وأمالي الطوسي ص ٣٨٠ والعمدة ص ١٤٤ و ١٤٩ والطرائف لابن طاووس ص ٥٩ والبحار ج ٢١ ص ٢٧ وج ٣٩ ص ١٠ و ١٢ وكتاب الأربعين للماحوزي ص ٢٩٠ ومقام الإمام علي للعسكري ص ٣٠ و ٤٢ ومستدرك سفينة البحار ج ٨ ص ٢٢٩ وأضواء على الصحيحين ص ٤٣٢ وعن صحيح مسلم ج ٧ ص ١٢١ وعن فتح الباري ج ٧ ص ٤٧ و ٣٦٥ والسنن الكبرى للنسائي ج ٥ ص ١١ و ١٨٠ وعن خصائص أمير المؤمنين للنسائي ص ٥٧ ورياض الصالحين للنووي ص ١٠٨ وعن تفسير ابن كثير ج ١ ص ٣٧٧ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٥ ص ٤٥٩ وج ٤٢ ص ٨٣ و ٨٤ وعن الإصابة ج ٤ ص ٤٦٦ وعن البداية والنهاية لابن كثير ج ٧ ص ٣٧٢ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٢ ص ٤٢٢ وعن عيون الأثر ج ١ ص ٢٩١ ونشأة التشيع ص ١٢٠ وعن التاج الجامع للأصول ج ٣ ص ٣٣١ ورواه الشيخان.

٢٦٦

ونقول :

١ ـ الظاهر هو : أنه قد ذكر ذلك عن نفسه ليقول للناس : إنه لم يكن من طلاب الدنيا فما جرى بعد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إنما كان لأجل الحفاظ على الإسلام ، وعلى أهله ..

٢ ـ إن عمر قد فهم من الأوصاف التي أوردها النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أنه يقصد ترشيح صاحب تلك الأوصاف لما هو أعظم من قيادة الجيش ومن أخذ الراية يوم خيبر.

فهو يريد أن يقول :

إن الذي يفتح الله على يديه ، ويحب الله ورسوله ، هو الذي يصلح لحمل الأمانة من بعده ، وهو سيد العرب كما تقدم.

أما من عداه فليس له الحق ؛ لأنه لا يؤمن على ذلك.

فكأن عمر أراد أن يظهر : أن هذه الميزات كانت موجودة فيه ، ولذلك رشح نفسه للإمارة ، وصار يتعرض لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

٣ ـ إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان قد منح أبا بكر وعمر ، كلا على حدة فرصة للفوز بالفتح ، وتحقيق النصر العظيم ، فضيعاها. ورجعا منهزمين.

بل ورد : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد منح الفرصة لعمر مرتين ، فما معنى تجدد حب الإمارة لدى عمر ، بعد أن أعلن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أنه سيعطي الراية رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله؟!

فقد يقال : إن ذلك جاء بدافع الحسد المذموم ..

وقد يقال : إن هذا الأمر قد جاء نتيجة الإحساس بأنه بعد فراره هو

٢٦٧

وصاحبه قد أصبحا في موضع التهمة ، وأن عليه أن يستعيد شيئا من ماء الوجه ، مع علمه بمقصود النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فعرض نفسه لذلك ، وطلب الراية لنفسه ، مع يقينه بأنه لن يختاره ، هو ولا غيره من الفارين ، فإن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين ، ولا يصح ، ولا يفيد تجريب المجرب ، إلا من السفيه ، وغير المتوازن. وحاشا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يكون كذلك.

٤ ـ إن المفروض : أن يكون نفس كلام النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مانعا لعمر ، ولغيره ممن هم مثله من التصدي للراية ، ولا يجوز لهم بمقتضاه أن يطلبوها من جديد ، إذ إن الكرار غير الفرار ، هو ذلك الذي كان من عادته الكر ، دون الفر ، وقد ظهر عمليا أنه ليس كذلك ، فما معنى صدور هذا التمني منه ، وما معنى أن يتطاول لها؟. وما معنى رجاءه أن يدعى لها؟ ثم أن يبادر إلى طلبها؟!

٥ ـ إن عمر يقول : إنه لم يتمن الإمارة إلا يومئذ ، مع أنه هو نفسه يقر ويقسم على أنه قد تمنى هذا الأمر مرة أخرى ، وذلك عند ما جاء وفد ثقيف إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال لهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : لتسلمن ، أو لأبعثن إليكم رجلا مني ، وفي رواية : مثل نفسي ، فليضربن أعناقكم ، وليسبين ذراريكم ، وليأخذن أموالكم (١).

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٥ وراجع : الطرائف لابن طاووس ص ٦٥ والبحار ج ٣٨ ص ٣٢٥ وج ٤٠ ص ٨٠ والمناقب للخوارزمي ص ١٣٦ ونهج الإيمان لابن جبر ص ٤٨١ والعدد القوية للحلي ص ٢٥٠ وجواهر المطالب لابن الدمشقي ج ١ ص ٦٠ وفي الهامش روى الحديث في أواسط ترجمة أمير المؤمنين

٢٦٨

قال عمر : فو الله ، ما تمنيت الإمارة إلا يومئذ ، وجعلت أنصب صدري له ، رجاء أن يقول : هو هذا.

فالتفت «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى علي «عليه‌السلام» ، وقال : هو هذا ، هو هذا.

فعمر يقول هنا : ما تمنيت الإمارة إلا يومئذ.

وفي غزوة خيبر يقول : ما تمنيت الإمارة ، إلا ذلك اليوم .. فأيهما هو الصحيح؟! ..

أم أنه قد تمنى الإمارة في كلا الموردين؟!

هذا كله .. عدا عن السؤال الذي يطرح نفسه ، وهو : أنه حين هاجم بيت الزهراء «عليها‌السلام» ، بعد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، واعتدى عليها بالضرب ، وتسبب في إسقاط جنينها المحسن ، وفي استشهادها «عليها‌السلام» ، ألم يكن ذلك منه حبا بالإمارة ، وطلبا لها ، وإزهاقا لأرواح أقدس الخلق من أجلها؟!

وكيف نفسر قول أمير المؤمنين «عليه‌السلام» له حينئذ : احلب حلبا لك شطره؟! (١).

__________________

«عليه‌السلام» من كتاب الإستيعاب (بهامش الإصابة) ج ٣ ص ٤٦ وأما عبد الرزاق فروى الحديث في فضائل علي «عليه‌السلام» تحت الرقم ٢٣٨٩ من كتاب المصنف ج ١١ ص ٢٢٦ ، وليلاحظ : ترجمة أمير المؤمنين «عليه‌السلام» من تاريخ دمشق ج ٢ ص ٣٧٣.

(١) راجع : الإحتجاج ج ١ ص ٩٦ والصراط المستقيم ج ٢ ص ٢٢٥ وج ٣ ص ١١ و ١١١ وكتاب الأربعين للشيرازي ص ١٧٣ والبحار ج ٢٨ ص ٢٨٥ و ٣٨٨

٢٦٩

وقوله «عليه‌السلام» عنه ، وعن أبي بكر : لشد ما تشطرا ضرعيها؟! (١). وغير ذلك ..

مقارنة ذات مغزى :

وعلينا أن نتأمل كثيرا في موقف عمر الآنف الذكر ، حيث تمنى الإمارة في خيبر تارة ، وفي ثقيف أخرى .. وبين موقف أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، فإنه لما بلغه ما قاله النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، عن الذي سوف يعطيه الراية ، قال : «اللهم لا معطي لما منعت ، ولا مانع لما أعطيت ..» (٢).

__________________

وج ٢٩ ص ٥٢٢ و ٦٢٦ ومناقب أهل البيت للشيرواني ص ٤٠٠ والسقيفة للمظفر ص ٨٩ والغدير ج ٥ ص ٢٧١ ونهج السعادة ج ٥ ص ٢١٠ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٧٠٨ وتثبيت الإمامة ص ١٧ وأنساب الأشراف ص ٤٤٠ والإمامة والسياسة (تحقيق زيني) ج ١ ص ١٨ وبيت الأحزان ص ٨١ وحياة الإمام الحسين للقرشي ج ١ ص ٢٥٧.

(١) نهج البلاغة (الخطبة الشقشقية) ج ١ ص ٣٣ ورسائل المرتضى ج ٢ ص ١٠٩ والإحتجاج ج ١ ص ٢٨٤ وكتاب الأربعين للشيرازي ص ١٦٧ وحلية الأبرار ج ٢ ص ٢٩٠ ومناقب أهل البيت للشيرواني ص ٤٥٧ والنص والإجتهاد ص ٢٥ والغدير ج ٧ ص ٨١ وج ١٠ ص ٢٥ والمعيار والموازنة لابن الإسكافي ص ٤٦ وشرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ١٦٢ و ١٧٠ والدرجات الرفيعة ص ٣٤ وبيت الأحزان ص ٨٩ وحياة الإمام الحسين للقرشي ج ١ ص ٢٨٢ وشرح شافية ابن الحاجب للأستر آبادي ج ١ ص ٧٨.

(٢) البحار ج ٢١ ص ٢١ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٤٨ وإعلام الورى ج ١ ص ٢٠٧ وقصص الأنبياء للراوندي ص ٣٤٤.

٢٧٠

فهو «عليه‌السلام» يعتبر : أن ذلك كرامة إلهية ، يختص الله تعالى بها من يشاء.

أما بالنسبة لتمنيات عمر ، فنقول :

ألف : إن كان يقصد بأنه أحب الإمارة ، طمعا منه في ملاقاة العدو ، فيرد عليه :

أولا : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان قبل ذلك قد نهى عن لقاء العدو ، وقال : لا تتمنوا لقاء العدو (١). فما معنى أن يخالف عمر هذا النهي

__________________

(١) قد تقدم الكلام حول هذه الفقرة في فصل سابق وراجع : المعجم الصغير (ط دهلي) ص ١٦٣ والمستدرك على الصحيحين ج ٣ ص ٣٨ وتنوير الحوالك ص ٦٤٤ والمحلى لابن حزم ج ٧ ص ٢٩٣ وفقه السنة للسيد سابق ج ٢ ص ٦٤٨ ومكاتيب الرسول ج ١ ص ٤٤٠ وسنن الدارمي ج ٢ ص ٢١٦ وعن صحيح البخاري ج ٤ ص ٩ وعن صحيح مسلم ج ٥ ص ١٤٣ وعن سنن أبي داود ج ١ ص ٥٩٢ والمستدرك للحاكم ج ٢ ص ٧٨ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ٧٦ وشرح مسلم للنووي ج ١٢ ص ٤٥ وج ١٤ ص ٢٠٧ وعن فتح الباري ج ١٠ ص ١٦٠ والمصنف للصنعاني ج ٥ ص ٢٤٨ و ٢٤٩ و ٢٥٠ والسنن الكبرى للنسائي ج ٥ ص ١٨٩ ومسند أبي يعلى الموصلي ج ٢ ص ١٥١ ومسند ابن أبي أوفى ص ١١٧ والكافي في علم الرواية للخطيب البغدادي ص ٣٧٣ والأذكار النووية ص ٢٠٩ و ٢١٠ ورياض الصالحين للنووي ص ٨٦ و ٥٣٤ و ٥٤٠ والجامع الصغير ج ٢ ص ٧٢٩ وكنز العمال ج ٤ ص ٢٩١ و ٣٦١ وفيض القدير ج ٦ ص ٥٠٤ وكشف الخفاء ج ٢ ص ٣٤٩ و ٣٥٩ وإرواء الغليل ج ٥ ص ٧ وتفسير الثوري ص ١١٩ وعن تفسير القرآن العظيم ج ١ ص ٤١٧ وج ٢ ص ٣٢٨ والجامع لأحكام القرآن ج ٣ ص ٢٣٣ و ٢٤٥ وعن الدر المنثور ج ٣ ص ١٨٩ وتفسير الثعالبي ج ١ ص ٤٨٩ وسير أعلام النبلاء ج ٦ ص ٧ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٣٨٣ وج ٥ ص ١٢٠ وج ٩ ص ١١٤.

٢٧١

من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

ثانيا : إنه قد جرب حظه مرتين ، ومع هذا العدو بالذات ، ولم يتغير شيء بين الأمس واليوم.

ب : وإن كان قد تمنى وتطاول إلى الحصول على الإمارة ، لما دلت عليه من محبة الله ورسوله ، وحصول الفتح ، فهو أعجب ، وأعجب. فإن كل الناس يعرفون ـ وعمر بن الخطاب منهم ـ : أن في جهاد العدو رضا الله ورسوله.

وأن محبة الله ورسوله لا تنال إلا بالعمل الصالح ، والطاعة والانقياد في الحرب والسلم ، والسراء والضراء ، وهو عارف بنفسه إن كان قد أطاع الله ورسوله ، ولبى نداء الواجب في جهاد العدو أم أنه لم يقم بذلك.

سعادتهم برمد علي عليه‌السلام :

لقد أظهرت النصوص المختلفة : أن قريشا والمتأثرين بمنهجها ، والتابعين لها ، كانوا سعداء بابتعاد علي «عليه‌السلام» عن الساحة ، ولعلهم ظنوا : أن كل الدور سيكون لهم ، وأن الانتصارات والإنجازات ستحقق على أيديهم ، وأن جميع الأوسمة ، ستكون من نصيبهم ..

وهذا أول الغيث ، فإنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يعلن عن وسام جديد وهو : أنه سيعطي الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، كرار غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله عليه ..

وفي جميع الأحوال نقول :

إنه بعد أن قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : لأعطين الراية غدا الخ .. غدت قريش يقول بعضهم لبعض :

٢٧٢

«أما علي فقد كفيتموه ، فإنه أرمد لا يبصر موضع قدمه» (١).

غير أن عليا «عليه‌السلام» لما سمع مقالة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : «اللهم لا معطي لما منعت ، ولا مانع لما أعطيت».

وربما يكون قد دار في خلدهم : أن هذه الأوسمة تعطى جزافا ، وأن وجود علي «عليه‌السلام» بينهم كان هو العائق لهم عن نيلها .. وأن فرارهم السابق لا يضر ، فلعل الجيش الذي سوف يقودونه سيجد الفرصة لتحقيق النصر أو لعل بعضهم قد ظن أن هذا الفتح ـ الذي وعدهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ سيكون سهلا ؛ لأنه وعد تضمن الإشارة إلى التدخل الإلهي الذي يأتي بالفتح ، فلا تعب ولا نصب ، بل هي معجزة يظهرها الله تعالى ، وينتهي الأمر .. وهم أهل لأن يظهر الله سبحانه المعجزات لمصلحتهم ومن أجلهم ..

وهذا سوف يعوضهم عن النكسة التي مني بها أحباؤهم ، الذين هربوا بالراية أكثر من مرة في هذه الحرب.

ولعل فيهم أيضا من احتمل أن يكون لغضب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تأثير على روحيات المقاتلين ، الذين سوف يهاجمون الحصن بقوة واندفاع ، يوفر على حاملي الراية جهدا ، ويحقق لهم نصرا على أيدي غيرهم ، ويظهر لهم فضلا يكون لهم بمثابة الغنيمة الباردة التي يحلم بها الضعفاء ، والفرارون عادة ..

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ج ٢ ص ٣١٩ والبحار ج ٢١ ص ٢١ عن ابن جرير وأبي إسحاق ، وإعلام الورى ج ١ ص ٢٠٧.

٢٧٣

يضاف إلى ذلك : أن نفس هذا التصدي ، واستعراض العضلات ، ربما يسهم في تبرئة القادة الذين فروا ، وكان أصحابهم يجبنونهم ، ويجعل التهمة بالجبن والفرار موجهة لغيرهم ، أكثر مما هي موجهة إليهم.

والأهم من ذلك كله : أن أي رجل يأخذ الراية لسوف يكون له كل الفضل على الذين هربوا حتى لو كان هو واحدا منهم ، ولا سيما بعد غضب الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، واستيائه ، وبعد ما قاله في حقهم تصريحا تارة ، وتلويحا أخرى.

كلهم يرجو أن يغطاها :

ولا ندري كيف يرجو أولئك الذين فروا بالراية ، مرة بعد أخرى وربما أكثر من ثلاث مرات ، أن يعطيهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الراية مرة رابعة ، أو خامسة؟!

فهل هم يحسبون أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يملك موازين صحيحة؟

أم يظنون أنه شديد النسيان إلى هذا الحد؟

أم أنه يخضع لتأثيرات الهوى ، والميول ، والعصبيات؟!

أم أنهم هم أنفسهم قد خولطوا في عقولهم؟!

أم أنهم يظنون أن الرسول سوف يخصهم بمعجزة إلهية ، يستطيع هو أن يختار لها من أحب؟!

ثم إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، هو الذي يقول : لا يلدغ المؤمن

٢٧٤

من جحر مرتين (١) ، فكيف يتوقع منه أبوبكر وعمر أن يعطيهما الراية ، وهما

__________________

(١) راجع : مجمع الزوائد ج ٨ ص ٩٠ ومسند ابن راهويه ج ١ ص ٣٩٥ والأدب المفرد ص ٢٧٢ ومنتخب مسند عبد بن حميد ص ٢٤٠ والديباج على مسلم ج ٦ ص ٢٩٩ وعن فتح الباري ج ١٠ ص ٤٣٩ و ٤٤٠ وصحيح ابن حبان ج ٢ ص ٤٣٨ والمعجم الكبير ج ٢ ص ٢٢٢ وج ١٧ ص ٢٠ والمعجم الأوسط ج ٧ ص ٣٤ و ٨٣ وج ١ ص ٣١ ومسند الشاميين ج ١ ص ١٦١ ومعرفة علوم الحديث ص ٢٥٠ ومسند الشهاب ج ٢ ص ٣٤ ورياض الصالحين ص ٧١١ وعن الجامع الصغير ج ٢ ص ٧٥٨ وعن كنز العمال ج ١ ص ١٤٧ و ١٦٦ وفيض القدير ج ٦ ص ٥٨٨ والفتوح لابن أعثم ج ٣ ص ٥٧ وسبل السلام للعسقلاني ج ٤ ص ٥٥ ومشكاة الأنوار للطبرسي ص ٥٥١ والصراط المستقيم ج ١ ص ١١٤ وعن بحار الأنوار ج ١١٠ ص ١٠ وعن مسند أحمد ج ٢ ص ١١٥ وسنن الدارمي ج ٢ ص ٣١٩ وعن البخاري ج ٧ ص ١٠٣ وعن مسلم ج ٨ ص ٢٢٧ وعن سنن أبي داود ج ٢ ص ٤٤٨ وسنن ابن ماجة ج ٢ ص ١٣١٨ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٦ ص ٣٢٠ وشرح النووي على صحيح مسلم ج ١٨ ص ١١٤ وسبل الهدى والرشاد ج ٢ ص ٩٧ وقصص الأنبياء للجزائري ص ٢٠٧ وكشف الخفاء ج ٢ ص ١٨٥ و ٣٧٤ و ٣٧٥ والأحكام لابن حزم ج ٧ ص ٩٦٨ والضعفاء الكبير للعقيلي ج ١ ص ٧٤ والمجروحون لابن حبان ج ١ ص ٤٠ والكامل لابن عدي ج ٣ ص ٣٣١ و ٤٤٤ وج ٤ ص ٦٥ والعلل للدارقطني ج ٩ ص ١٠٩ و ١١١ وتاريخ بغداد ج ٥ ص ٤٢٧ وتاريخ مدينة دمشق ج ٥٥ ص ٣٧٢ وسير أعلام النبلاء ج ٥ ص ٣٤٠ و ٣٤٢ والذريعة ج ٢٥ ص ٥١ وتاريخ جرجان ص ٣١٤ والبداية والنهاية ج ٣ ص ٣٨١ وج ٤ ص ٥٣ وتنزيه الأنبياء ص ١١٠ ونهج الإيمان لابن جبر ص ٥٤ و ٦١٨ والشفاء لعياض ج ١ ص ٨٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٤٨٦ وج ٣ ص ٩٢ وعن عيون الأثر ج ١ ص ٤٠١.

٢٧٥

لا يكادان يلتقطان أنفاسهما من عناء الهروب ، الذي يريد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يعالج سلبياته وآثاره؟.

وكيف يتطاولان لها ، وهما السبب في اتخاذ النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هذا القرار الحاسم ، وهو أن يعطي الراية لكرار غير فرار؟!.

حتى قريش :

والأغرب من ذلك أن يصرح المؤرخون : بأن قريشا هي التي تطاولت لهذا الأمر ، ورجا كل واحد منهم أن يكون هو صاحب الراية ، فما هو المبرر لهذا الطموح القبائلي القرشي؟!

ومتى كانت قريش ـ بما هي قبيلة ـ مهتمة بأمر الجهاد والتضحية والعطاء؟! فإننا لا ننكر : أن بعض أفرادها قد جاهد وضحى ، ولكنهم لم يكونوا أفضل من غيرهم في ذلك ..

أم يظنون : أن يغلب الحس العشائري على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فيخص عشيرته بالامتيازات ، ولو لم تكن مستحقة لها؟!

لماذا الإعلان المسبق؟!

وقد لوحظ هنا أيضا : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد وعد الناس بأن يعطي الراية في اليوم التالي لرجل ذكره لهم بوصفه دون اسمه ..

مع أنه كان يمكنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أن يسكت في ذلك اليوم ، ثم يطلب في اليوم التالي حضور علي «عليه‌السلام» ، فيعطيه الراية ، ويمكن أن يطلق عليه تلك الأوصاف في ساعة إرساله «عليه‌السلام» للقتال ..

ولكنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أراد للناس أن يفكروا في هذا الأمر ، وأن

٢٧٦

يطبقوه على هذا تارة ، وعلى ذاك أخرى .. وأن يتمناها الفرارون ، وأن تشرئب إليها الأعناق ، في الوقت الذي كان لا يمر في خيال الجميع أو في وهمهم حتى احتمال أن يكون المقصود هو علي «عليه‌السلام» لأن الجميع يعرفون أنه «عليه‌السلام» يعاني من الرمد ما يعاني .. ولذلك لم يعطه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الراية في أيام رمده ، حتى أظهر الله تعالى ضعف وخور أولئك القوم ، وعرف الناس حقيقتهم ، وأنهم لم يكونوا أهلا لما يؤملونه ، وليسوا في المواضع التي يضعون أنفسهم فيها.

وقد استقرت كلمات النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ في وصف صاحب الراية ـ في أنفسهم ، وطبقوها على الكثيرين منهم ، واستمرت الاحتمالات والمقارنات بين الأوصاف وبين ما ظهر من صفات المدّعين للمقامات طيلة تلك الليلة .. حتى تبين لهم في اليوم التالي خطؤهم جميعا في حساباتهم ، وأن أحدا من الناس الذين فكروا فيهم لا يملك تلك الصفات.

ولو أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أجّل إطلاق كلماته تلك لليوم التالي فلربما لا يفكر أحد بتلك الصفات ، ولا يقوم بأية مقارنة تطبيقية ، بل قد يظن الكثيرون أنها مجرد مدائح طارئة ، وأوسمة يطلقها الرئيس على القادة عادة ، لتشجيع فرسانهم ، وشحذ عزائمهم ، وقد لا تكون فضفاضة على أصحابها في مجال التطبيق.

التدخل الإلهي :

وقد أظهرت النصوص المتقدمة : أنه حين ظهر إحجام هؤلاء الناس عن القيام بواجبهم الشرعي في دفع العدو ، تدخل الله تعالى لحفظ دينه

٢٧٧

بصورة إعجازية ، وذلك بشفاء علي «عليه‌السلام» من دون أن يؤثر ذلك على خيار واختيار أعدائه تعالى ، أي أنه تعالى لم يحل بينهم وبين ما يريدون ، ولم يشل حركتهم ، ولم يمنعهم من ممارسة حقهم الطبيعي ، فليس لهم أن يشعروا بأنهم قد ظلموا في ذلك ..

كما أنه لم يقهر المسلمين ولا عليا «عليه‌السلام» على التصدي للحرب ، بل اكتفى بإزالة الموانع من طريق علي «عليه‌السلام» بشفاء عينيه ، وأفسح المجال له لكي يختار ، بعد أن أساء الآخرون الاختيار ، فاختاروا الحياة الدنيا ، وأنفسهم ، وأظهروا : أن أنفسهم أحب إليهم من الله ورسوله ..

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يصنع المعجزة :

وشفاء عيني علي «عليه‌السلام» وإن كان معجزة صنعها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لهم ، ولكنها لم تكن المعجزة التي يتوقف عليها إقناع الناس بالنبوة. لأن معجزة النبوة هي القرآن الكريم.

وقد كان الناس مقتنعين بنبوته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بالاستناد إليها ، أو إلى غيرها من موجبات ذلك ..

كما أن هذا الشفاء لم يأت ابتداء من الله تعالى ليظهر سبحانه فضل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أو علي «عليه‌السلام». بل هو أمر تعمد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نفسه أن يفعله. وقد اختاره ، وقصد إلى إيجاده بعد أن لم يكن ، مما يعني : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عارف به ، ومختار له ، واثق بالنتيجة قبل حصولها .. وعارف بأنه يملك القدرة على فعله ، من خلال ما خوله الله تعالى إياه ..

٢٧٨

وهذا يشير إلى : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يملك قدرات تمكّنه من التأثير التكويني في أمور واقعية ومادية خارجية ، من دون استخدام الوسائل المعتادة. بل من خلال هذه القدرات التي يملكها ، وأن القضية ليست مجرد دعاء ، قد استجابه الله تعالى له.

وهذا يفسر ما روي من أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد تفل في عيني علي «عليه‌السلام» ، وبزق في إلية يده ، فدلك بها عينيه ، أو نحو ذلك.

ولا بد من التوقف والتأمل في حقيقة أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يكتف بالدعاء والطلب إلى الله تعالى أن يشفيه ، بل قرن ذلك بممارسة عملية تؤكد : أنه يريد أن ينجز عملا يقع تحت قدرته وباختياره.

متى رمدت عينا علي عليه‌السلام؟

وأما حديث : أن عليا «عليه‌السلام» قد تخلف عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وبقي في المدينة ، فلما سار «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى خيبر ، قال علي : لا ، أنا أتخلف؟!

فلحق برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله». فلا يصح ؛ وذلك لما يلي :

أولا : إذا كان علي «عليه‌السلام» يعاني من رمد في عينيه ، حتى إنه لم يكن يبصر ، فإنه كان غير قادر على السير إلا بقائد يقوده ، ومدبر يدبره ، فإلى من أوكلت هذه المهمة يا ترى في كل هذه المدة الطويلة؟! فإن كان قائده هو سلمة بن الأكوع.

فإن الرواية قد صرحت : بأنه جاء به يقوده إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، في قضية قتل مرحب فقط ..

٢٧٩

فكيف جاء من المدينة؟! وكيف كان ينتقل من حصن إلى حصن ، ومن مكان إلى مكان لقضاء حوائجه؟!

وبعد .. فإن تخلف علي «عليه‌السلام» في المدينة لا بد أن يكون بإذن من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. كما أن مسيره لا بد أن يكون بإذن منه ، فهل استأذن «عليه‌السلام» في الخروج من المدينة؟ أم أنه فعل ذلك من عند نفسه؟ وإذا كان قد خرج بإذنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وبعلمه ، فلماذا لم يخرجه معه ، فإن حاله لم يختلف؟ وإن كان قد أذن له بالخروج ، فكيف أذن له وهو بهذه الحالة؟ وكيف؟ وكيف؟

ثانيا : إنهم يقولون : إن سبب رمد عيني علي «عليه‌السلام» هو دخان الحصن الخيبري نفسه ، وليس شيئا آخر عرض له في المدينة ، فراجع (١). فإذا صح هذا ، فلا يكون ثمة مبرر لبقائه في المدينة ، كما زعموا.

ثالثا : صرحت الروايات المتقدمة : بأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أعطى اللواء في غزوة خيبر إلى علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» (٢).

وقد أعطاه إياه في أول حصن ورد عليه ، وباشر معه القتال فيه ، وهو حصن ناعم ، وقد هاجم هو نفسه ذلك الحصن بالذات ، فقتل معه «عليه‌السلام» (٣) عبد يهودي اسمه ياسر ، وكان قد أسلم آنئذ.

__________________

(١) راجع : مجمع الزوائد ج ٩ ص ١٢٣ والمسترشد للطبري ص ٢٩٩ وراجع : كنز العمال ج ١٠ ص ٩٢.

(٢) راجع : دلائل النبوة للبيهقي ج ٤ ص ٤٨ والمطالب العالية ح ٤٢٠٢ والمغازي للواقدي ج ١ ص ٤٠٧ وج ٢ ص ٦٤٩ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٥.

(٣) راجع على سبيل المثال : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٤٩.

٢٨٠