الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٧

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٧

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-189-0
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٣

السلاح ، فراجع كتابنا : أفلا تذكرون ، ومختصر مفيد.

الموقف الشائن :

وإن مطالبة قبيلة أسلم النبيّ «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بهذا الأمر ؛ لها وجهان :

فإما أنهم يعلمون : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يكابد ما يكابدون ، ويعيش كما يعيشون ، فلا يبقى لهذه المطالبة ما يبررها.

وإما أنهم كانوا يظنون برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أنه يحتفظ بشيء من الطعام لنفسه ، كان يتناوله في الخفاء ، ويؤثر به نفسه عليهم ، وهي تهمة شائنة ، يعرف الناس كلهم بطلانها ، وزيفها ، وسوء سريرة من يأتي بها .. ولأجل ذلك اعترض عليهم رجل منهم ، وهو : بريدة الأسلمي. ولامهم على فعلهم هذا.

ولعلنا نرجح الاحتمال الأخير ، وهو : أن قبيلة أسلم كانت تظن برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هذا ، فإنها إحدى قبائل الأعراب التي كانت تحيط بالمدينة ، ونزل القرآن ليخبر بوجود المنافقين في تلك القبائل .. ولا نريد أن نقول أكثر من هذا!!

اللواء للحباب بن المنذر :

هذا .. وقد ذكرت الفقرة السابقة أيضا : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أعطى اللواء للحباب بن المنذر ، بعد فتح حصن ناعم ، وذلك حين مهاجمة حصن الصعب ..

مع أننا نعلم : أن لواء رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان مع علي

١٨١

«عليه‌السلام» في جميع المشاهد ، باستثناء تبوك ..

وقد تقدمت النصوص الدالة على ذلك في واقعة أحد ، فراجعها ..

وما زعموه من أن عليا «عليه‌السلام» لم يحضر بداية حرب خيبر .. غير صحيح كما أظهرته النصوص حسبما أثبتناه في سياق حديثنا في وقائع هذه الغزوة ..

الصعب أكثرها طعاما :

زعمت الرواية المتقدمة : أن حصن الصعب كان أكثر حصون خيبر طعاما ، وأن الجوع قد أصاب أسلم ، وسائر المسلمين ، حتى فتح عليهم حصن الصعب ، ولكننا في مقابل ذلك نرى :

ألف : أن عائشة تروي : أن حصن ناعم قد سد حاجتهم إلى الطعام ، فلم تبق لديهم أية مشكلة ، فقد قالت : ما شبع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من خبز الشعير والتمر ، حتى فتحت دار بني قمة ـ وقالوا : إن المقصود : هو حصن ناعم (١).

ولا يعقل : أن يشبع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ويجوع من معه!!

كما لا يعقل : أن يكون المقصود : أنه شبع مرة واحدة ثم جاع.

ب : وأن اليهود كانوا موجودين في حصن ناعم بالمئات وكانوا قد أعدوا من الأطعمة ما يكفيهم في حصار المسلمين لهم مدة طويلة ..

وبعد فرارهم وخروج الحصن من يدهم بقي ما كانوا قد أعدوه في

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٩ وراجع : معجم ما استعجم للبكري الأندلسي ج ٢ ص ٥٢٣.

١٨٢

مكانه ، ووقع في أيدي المسلمين ..

بقي أن نشير إلى قولهم : إن اليهود جعلوا أموالهم في حصون الكتيبة (١). لا يصح الاستدلال به هنا. إذ يجوز أن يكون المراد بأموالهم هو : خصوص النقود ونحوها ، دون ما ذكرها هنا (٢).

تسخين الماء في آنية اليهود :

وعن تسخين الماء في آنية اليهود ، قبل استعمال المسلمين لها قال الحلبي : «حكمة تسخين الماء لا تخفى ، وهي : أن الماء الحار أقوى في النظافة ، وإخراج الدسومة ، والله أعلم» (٣).

ونضيف :

أن تدخل النبي الكريم في هذا الأمر يشير إلى : أن ثمة أمرا هاما ، يحتاج إلى معالجته ، وإلا فقد كان من المناسب ترك هذا الأمر إلى سليقة الناس في تعاملهم مع أواني الآخرين.

ولكن الروايات عجزت عن التصريح بالأمر الذي دعاه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى هذا التدخل في هذه التفاصيل والجزئيات ..

فهل السبب في ذلك : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يخشى من كيد اليهود للمسلمين ، بوضع سموم لا تزول بمجرد غسل الآنية بالماء؟ ..

أم أنه يريد أن يعرّف الناس بمدى قذارة اليهود ، وبعدهم عن فروض

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٩.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٩ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٦٤.

(٣) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٤١.

١٨٣

النظافة ، مهما كانت عادية وسطحية؟.

أو أنه يريد أن يتلافى دسومة كانت في تلك الأواني ، هي بقايا أطعمة محرمة ، يرى ضرورة تنزيه المسلمين عنها؟! ..

أو أن الهدف هو تأكيد حالة الفصل بين المسلمين واليهود في تعاملهم مع بعضهم البعض ، إذ ربما لم يكن المسلمون يتنزهون عن أي شيء من مستويات هذا التعامل ، وحالاته ، وكيفياته ، في الوقت الذي كانت هناك حاجة إلى درجة من التحاشي عن هذا الاندماج المطلق بين الفريقين ، وإيجاد مستوى من الإحساس بالفارق ، وعدم الرضا بواقع اليهود ، وبحالاتهم ..

أعظم حصون خيبر :

وزعم حديث بني أسلم : أن حصن الصعب بن معاذ كان أعظم حصون خيبر ..

مع أن النصوص تصرح : بأن حصن القموص كان أعظمها ، وأنه كان منيعا حاصره المسلمون عشرين ليلة ، ثم فتحه الله تعالى على يد علي «عليه‌السلام» (١).

فلعلهم أرادوا بتهويل أمر حصن الصعب التفخيم والتعظيم للحباب بن المنذر ، ولبني أسلم وغفار ، والتخفيف من وهج فتح حصن القموص ، وقلع باب خيبر؟!

أم أنهم وقعوا تحت تأثير اسمه «الصعب» فاستنبطوا له هذه الصعوبة

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٤١ وراجع : سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٢٤.

١٨٤

التي ميزته عن سائر الحصون ..

أم أنهم أرادوا تبرير الهزيمة التي مني بها أولئك المتخاذلون ، والتي حدثت أكثر من مرة حتى في هذا الحصن الذي لم يستحق سوى يومين من الحصار ، ثم سقط أمام عزمة صادقة من عزمات أهل الإيمان.

قد يكون هذا الاحتمال الأخير هو الأوضح والأظهر ، وقد يكون قد تناغم مع الاحتمال الأول حتى كان ما كان ..

الإفتخار في الحرب :

وقد حكم الناس على عمارة بن عقبة الغفاري : بأنه قد بطل جهاده لمجرد قوله ، حين ضرب هامة ذلك اليهودي :

خذها وأنا الغلام الغفاري ...

فصحح النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لهم هذا المفهوم الخاطئ ، وحكم بأنه يؤجر ويحمد.

ونقول :

إن الافتخار في الحرب الموجب لإرعاب العدو ، وهزيمته النفسية هو في حد ذاته جهاد يثاب الإنسان عليه. ويوجب الثناء والحمد لفاعله ؛ لأنه يكون قد أسهم في كسر شوكة العدو ، وإضعافه ، وتمهيد السبيل إلى إلحاق الهزيمة التامة به ..

كما أن إظهار القوة والعزة في قبال العدو ، يمنح أهل الإيمان المزيد من الثبات ، والثقة بالنصر ، ويزيد في تصميمهم ، وفي قوتهم ، وعزيمتهم ، فيجتمع على العدو ضعفان :

١٨٥

ضعف : نابع من داخل ذاته ، من خلال الكبت والشعور بالخيبة.

وضعف آخر : ينشأ عن رؤية قوة المسلمين ، وشدة اندفاعهم.

ويكون فيه للمسلمين قوتان :

إحداهما : نابعة من داخل ذاتهم.

والأخرى : تتبلور في ضعف عدوهم ، وفي هزيمته الروحية.

حديث الشاتين ، وقطيع الغنم :

ونحن لا نشك في كذب حديث قطيع الغنم ، والاستيلاء على شاتين منه ، وذلك لسبب بسيط ، هو :

أولا : إنه لا يعقل وجود قطيع الغنم هذا خارج الحصن ، ثم لا يستولي عليه المسلمون ، ليصبح من غنائمهم.

ثانيا : إذا كان أخذ المسلمين لذلك القطيع حلالا ، فلماذا لا يرسل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سرية قادرة على أخذ القطيع كله ، أو جانب كبير منه. بل يكتفي بالأمر بأخذ شاة أو شاتين؟! وإن كان حراما فكيف جاز له أخذ تينك الشاتين؟!

ثالثا : إذا كان المقصود للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو : إطعام جيشه من ذلك القطيع ، فلا تكفي ذلك الجيش الشاة والشاتان ولا العشرة ..

وإن كان المقصود هو : أن يأكل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ومن حوله من أهل بيته وخاصته ، فذلك بعيد عن خلقه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

ولأجل ذلك نقول :

لا يمكننا قبول ما ذكرته الرواية : من أن قسما من المسلمين لم يستفيدوا

١٨٦

من لحم تينك الشاتين ، وهم الذين كانوا في الرجيع. بل اقتصر الأمر على الذين كانوا مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في موضعه الذي كان فيه ..

رابعا : قد صرحت الرواية نفسها : بأن المسلمين كانوا يحاصرون ذلك الحصن ، وأنه كان قد مضى على حصارهم له ثلاثة أيام ، فأين كان ذلك القطيع في تلك الأيام الثلاثة؟! ولماذا لم يره المسلمون ، قبل أن يبادر إلى دخول الحصن؟! وأين كان المسلمون حين اقتربت الغنم من باب الحصن المفتوح ، هل كانوا يحاصرونه؟ أم أنهم تركوه وابتعدوا عنه؟ ومن أين أقبلت غنم ذلك الرجل اليهودي؟!

وكيف يجرؤ أهل هذا الحصن المحاصر بالرجال على فتح أبواب حصنهم ، وإخراج غنمهم منه ، أو إدخالها إليه؟! .. وكيف؟! وكيف؟! ..

الحباب بن المنذر في الواجهة :

ويلاحظ هنا : أن الروايات قد اختارت الحباب بن المنذر ليكون هو المتصدر لواجهة الأحداث في حصن الصعب بن معاذ ، وله نصيب أيضا من ذلك في غيره .. ولكن لم يظهر لعلي «عليه‌السلام» ، ولا لأبي دجانة ، ولا للمقداد ، ولا حتى للزبير ، أو محمد بن مسلمة. وعشرات الفرسان الآخرين ، لم يظهر لأحد منهم في هذا الحصن ، مع أن محمود بن مسلمة كان قد قتل قبل ذلك في حصن ناعم ، فلماذا لا يتحرك أخوه محمد في كل الحصون التي حوصرت عشرات الأيام حتى فتحت؟! ..

ولماذا لم يطالب بالأخذ بثارات أخيه فيها ، بل صبر إلى حصن القموص ليقتل مرحبا هناك بأخيه كما يزعمون؟!

١٨٧

ولماذا لم يلاحق مرحبا في حصن الصعب ، أو النزار ، أو حصون الشق أو غير ذلك؟! ..

فأين كان هذا الرجل؟ وأين كان هؤلاء في هذا الحصار الذي استمر أياما لحصن حصين فيه خمس مائة مقاتل ، ولم يكن بخيبر حصن أكثر طعاما ، وماشية ، ومتاعا منه الخ .. كما زعموا؟!

ولماذا غابوا جميعا عن الواجهة ، وخبا وهجهم ، وأفل نجمهم؟! ..

فهل للحباب شأن في موضوع بعينه ، يراد التسويق له؟! ..

ابن مسلمة يقول : تبسم إليّ صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وفي حديث رمي النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بسهم صائب في هذا الحصن ، يقول محمد بن مسلمة : «وتبسم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إليّ».

ونحن لم نستطع أن نفهم سبب تبسمه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لخصوص محمد بن مسلمة ، تاركا حوالي ألف وخمس مائة مقاتل محروما من نعمة هذه البسمة ، ومن الإيحاء بمعانيها ومراميها ، من دون سبب ظاهر؟!

فهل أعجب ـ والعياذ بالله ـ النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بنفسه ، حين أصاب ذلك الرجل ، وظهر أنه يجيد الرمي ، وأراد أن ينال إعجاب خصوص محمد بن مسلمة .. إن القول بهذا يتجاوز حدود إساءة الأدب ليكون إنكارا لعصمة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

أم أن لابن مسلمة خصوصية لديه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم تكن لأحد سواه حتى لعلي «عليه‌السلام» ، فضلا عن غيره من أصحابه؟!

١٨٨

وهذا أمر ينكره ولا يعترف لابن مسلمة به أحد حتى محبوه ، والمهتمون بشأنه ، والساعون لتخصيصه بالكرامات والفضائل ..

الإهتمام بالطعام والغنيمة :

والنصوص المتقدمة ، وبعض النصوص الأخرى ، قد أظهرت : أن ثمة اهتماما خاصا بالطعام والمال ، وبالغنيمة ، والغنم ، بما في ذلك : السمن ، والعسل ، والسكر ، والزيت ، والشعير ، والتمر ، والودك ، والشحم ، والماشية ، والمتاع ..

وهي أيضا تتحدث عن جوع ، وشكوى ، ودعاء ، وابتهال ..

فهل ذلك يعبر عن واقع المسلمين؟! أو هل هذا كان كل همهم ، وغاية قصدهم؟!

مدة الحصار :

وقد صرحت النصوص أيضا : بأمور متناقضة ، فيما يرتبط بمدة الحصار لحصن الصعب.

فهي تارة تقول : إن الحصار دام أياما ، هي أكثر من ثلاثة أيام ، بلا شك ؛ لأن الاستيلاء على الشاتين كان بعد ثلاثة أيام من الحصار ، ولا ندري كم دام الحصار بعدها؟!

وتارة تقول ـ كما يظهر من حديث أم مطاع ـ : إنهم فتحوه في يوم واحد ..

ولكن نصا آخر يقول : إن الحصار دام يومين فقط ، فأي ذلك هو الصحيح؟

وألا يشير هذا إلى : أن ثمة تعمدا للاختلاق والكذب في هذا الأمر بالذات؟!

١٨٩

حصن قلة الزبير :

كان حصن قلعة الزبير في رأس قلعة أو قلّة ، لا تقدر عليه الخيل ولا الرجال ، فلما تحولت يهود من حصن ناعم ، وحصن الصعب بن معاذ إلى قلّة (أو قلعة) الزبير حاصرهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فيه.

فأقام «صلى‌الله‌عليه‌وآله» محاصرهم ثلاثة أيام ، فجاء يهودي يدعى غزال فقال : يا أبا القاسم ، تؤمنني على أن أدلك على ما تستريح به من أهل النطاة ، وتخرج إلى أهل الشق ، فإن أهل الشق قد هلكوا رعبا منك؟

فأمنه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على أهله وماله.

فقال اليهودي : إنك لو أقمت شهرا ما بالوا ، لهم دبول (١) تحت الأرض ، يخرجون بالليل فيشربون منها ، ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك ، فإن قطعت عنهم شربهم أصحروا لك.

فسار رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى دبولهم فقطعها ، فلما قطع عليهم مشاربهم خرجوا وقاتلوا أشد قتال (٢).

وقتل من المسلمين يومئذ نفر ، وأصيب من اليهود في ذلك اليوم عشرة ، وافتتحه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وكان هذا آخر حصون النطاة.

__________________

(١) الدبول : الجدول (القاموس المحيط ج ٣ ص ٣٧٣).

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٢٢ و ١٢٣ وفي هامشه عن : البيهقي في الدلائل ج ٤ ص ١٢٤ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٤٦ و ٦٦٧. وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٤٠.

١٩٠

قيل : سمي هذا الحصن بحصن قلّة الزبير ، لأنه صار في سهم الزبير بن العوام بعد ذلك (١).

ونقول :

أولا : إن إطلاق هذا الاسم على هذا الحصن لا يعقل أن يكون لأجل ما ذكروه ، وذلك لما يلي :

ألف : لا شك في أنه قد كان لهذا الحصن اسم يتداوله أهل تلك البلاد أنفسهم ، وذلك قبل أن يأتي النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إليه ، فما هو هذا الاسم.

فإذا ظهر : أنهم كانوا يطلقون عليه نفس هذه التسمية ، فذلك يدل على :

أنه كان قد سمي باسم زبير آخر ، ممن كان على دينهم ، ومن الشخصيات المرموقة فيهم مثل الزبير بن باطا ، أو غيره.

ب : إن من غير المعقول ، ولا المقبول : أن يعطي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حصنا بأكمله إلى رجل واحد هو الزبير بن العوام ..

ولماذا يعطي الزبير هذا العطاء الكبير ، وهو لم يكن له ذلك الأثر العظيم في تلك الحرب ..

ج : يضاف إلى ذلك : أن أراضي خيبر لم تقسم على المسلمين ليكون للزبير سهم بهذا الحجم بل أبقاها النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بيد اليهود ، يعملون فيها على النصف من ثمارها .. وإنما أخرجهم منها عمر بن الخطاب كما سيأتي بيانه.

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٤٠ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٦٠.

١٩١

د : إنه إذا أراد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يعطي أحدا شيئا فإنه لا يعطيه حصنا أو قلعة ـ كما ورد في بعض التعابير ـ بل يعطيه أرضا زراعية ، يستطيع أن يستغلها ، أو بستانا يستفيد من ثمار أشجاره.

ثانيا : إن هذا اليهودي قد بادر من عند نفسه ـ كما تقول الرواية ـ إلى إخبار رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأمر خطير ، من شأنه أن يسقط الحصن بأكمله في أيدي المسلمين ، ويمكنهم من إلحاق هزيمة منكرة بمن هم على دينه ، لا لشيء ، بل لمجرد إعطائه الأمان على نفسه ، وأهله وماله!!

غير أننا نلاحظ :

أن النصوص لا تصرح بما جرى لهذا اليهودي المخبر ، فهل أخذ أسيرا ، فخاف من القتل ، فأقر بما أقر به؟!

أم أنه جاء باختياره متطوعا بإخبار النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بهذا الأمر الخطير؟! الذي يوجب حلول البلاء بمن هم على دينه؟!

ربما يقال : إن ظاهر النص هو هذا الأمر الثاني ؛ لأنه قال : فجاء يهودي يدعى نزال ، فقال : يا أبا القاسم الخ ..

وعلى فرض صحة هذه الرواية ـ ونحن نشك في صحتها ـ فإن هذا يشير إلى : أن هؤلاء الناس لا يعيشون همّ الدين ، ولا يلتزمون بالمبادئ والقيم ، بل ولا بالعادات والتقاليد ، وإنما همتهم هي في حفظ أنفسهم وامتيازاتهم ، حتى إنهم إذا قاتلوا فليس ذلك رغبة منهم في جنة ، أو خوفا من عقوبة الله تعالى لهم على تقصيرهم ، وإنما من أجل الدنيا ، أو استجابة لنزوات الميول والأهواء ، أو لجاجا ، أو عنادا ، بداعي الحقد والضغينة ، أو لأن الشيطان يزين لهم أنهم ظاهرون ومنتصرون ، أو سعيا لاكتساب ثناء لا

١٩٢

يدوم ، أو مجد موهوم .. أو نحو ذلك.

بطولات موهومة :

وفي صورة تشبه الصورة التي سبقت ، يذكر بعضهم : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مكث سبعة أيام يقاتل أهل حصون النطاة ، يذهب كل يوم بمحمد بن مسلمة للقتال ، ويخلف على محل العسكر عثمان بن عفان ، فإذا أمسى رجع «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى ذلك المحل. ومن جرح من المسلمين يحمل إلى ذلك المحل ليداوي جرحه. فجرح أول يوم خمسون من المسلمين.

ونادى يهودي من أهل النطاة بعد ليل : أنا آمن وأبلغكم.

قالوا : نعم.

فدخل على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فدله على عورة ليهود.

فدعا أصحابه وحضهم على الجهاد ، فظفره الله تعالى بهم الخ ..

وفي نص آخر : كان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يناوب بين أصحابه في حراسة الليل ، فلما كانت الليلة السادسة من السبع استعمل «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عمر ، فطاف عمر بأصحابه حول العسكر ، وفرقهم ، فأتي برجل من يهود خيبر في جوف الليل ، فأمر عمر أن يضرب عنقه.

فقال : اذهب بي إلى نبيكم حتى أكلمه ، فأمسك عنه ، وانتهى به إلى باب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فوجده يصلي ، فسمع «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كلام عمر ، فسلم وأدخله عليه ، فدخل اليهودي ، فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لليهودي : ما وراءك؟

فقال : تؤمنني يا أبا القاسم؟!

١٩٣

فقال : نعم.

فقال : خرجت من حصن النطاة ، من عند قوم يتسللون من الحصن في هذه الليلة.

قال : فأين يذهبون؟

قال : إلى الشق ، يجعلون فيه ذراريهم ، ويتهيأون للقتال.

وفي هذا الحصن الذي هو الحصن الصعب من حصون النطاة ، في بيت فيه تحت الأرض ، منجنيق ، ودبابات ، ودروع ، وسيوف ، فإذا دخلت الحصن غدا ، وأنت تدخله.

قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : إن شاء الله.

قال اليهودي : إن شاء الله ـ أوقفتك عليه ، فإنه لا يعرفه غيري. وأخرى ..

قيل : ما هي؟

قال : يستخرج المنجنيق ، وينصب على الشق (والمراد هو : حصن البريء) ، ويدخل الرجال تحت الدبابات ، فيحفروا الحصن ، فتحته من يومك. وكذلك تفعل بحصون الكتيبة.

ثم قال : يا أبا القاسم ، احقن دمي.

قال : أنت آمن.

قال : ولي زوجة فهبها لي.

قال : هي لك. ثم دعاه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى الإسلام.

فقال : انظرني أياما.

ثم قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لمحمد بن مسلمة : لأعطين الراية إلى رجل

١٩٤

يحبه الله ورسوله ، ويحبانه.

وفي لفظ : قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : لأدفعن الراية إلى رجل يحب الله ورسوله ، لا يولي الدبر ، يفتح الله عزوجل على يده ، فيمكنه الله من قاتل أخيك الخ .. (١).

ونقول :

إن في هذه الرواية أمورا عديدة ، لا بد من التوقف عندها ، وهي :

نصب المنجنيق :

إن هذه الرواية ذكرت : أن المنجنيق قد نصب على حصن البريء من حصون الشق .. أو على حصن النزار (٢).

مع أنهم يقولون : لم ينصب المنجنيق إلا في غزوة الطائف (٣).

والغريب في الأمر : أن الحلبي يقول في وجه الجمع : إنه يجوز أن يكون قد نصب ولم يرم به هنا ، ونصب ورمي به هناك (٤).

لقد قال الحلبي هذا ، مع أن التعبير الذي أورده هو نفسه يقول : لم ينصب المنجنيق إلا في غزوة الطائف ، ولم يقل : لم يرم بالمنجنيق .. وما ذلك

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٤ و ٣٥ وراجع ص ٤١ والإمتاع ص ٣١٢ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٤٥ و ٦٤٧ و ٦٤٨ ونظم درر السمطين للزرندي الحنفي ص ٩٩.

(٢) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٤٨.

(٣) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٤١.

(٤) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٤١.

١٩٥

إلا لأن المفهوم من التعبير بنصب المنجنيق هو الرمي به.

والأولى أن يقال : إن الإشكال غير وارد من الأساس.

فإن الرواية لم تذكر : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد نصب ذلك المنجنيق ، ورمى به.

بل قالت : إن ذلك اليهودي قد افترض أو اقترح ذلك ، فبذلك ينحل الإشكال المتعلق بالمنجنيق.

يضاف إلى ما تقدم : أن هذه الرواية تدل على : أن أول حصن بدأ به من حصون الشق هو حصن البريء.

مع أنه سيأتي في فقرة «حصون الشق» : أن أول حصن بدأ به هو أبي. وبالتحديد بقلعة سموان.

ذراري اليهود لم تكن في حصن الشق :

ويفهم من الرواية السابقة : أن ذراري اليهود كانوا معهم في حصن النطاة ، وأنهم نقلوهم بعد أن أرهقهم الحصار إلى حصن الشق (١).

ونقول :

أولا : قد صرحوا : بأن الذراري لم يكونوا في حصن النطاة ، بل كان فيه المقاتلون فقط.

ثانيا : إن هؤلاء الذراري لم يجعلوا في حصن الشق ، بل كانوا في حصن الكتيبة كما هو معلوم ، وقد جعلوهم ـ حسب تصريحهم ـ فيه قبل حصار

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٤٨.

١٩٦

رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لهم ..

إلا أن يكون المقصود : هو بعض الذراري ، الذين كانوا معهم يساعدونهم في إعداد الطعام والشراب للمقاتلين ، أو للقيام على جرحاهم ، أو نحو ذلك ..

ابن مسلمة تارة ، والحباب أخرى :

لقد ركزت الرواية المتقدمة على محمد بن مسلمة ، وجعلته محور التحركات النبوية في حصون النطاة ..

فهي تقول : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يذهب كل يوم بمحمد بن مسلمة للقتال ، ويرجع في المساء .. فهل كانت قيادة الجيش الإسلامي قد أنيطت بابن مسلمة؟! فإن كان الأمر كذلك ، فلماذا لم يحدثنا عنه التاريخ ويقول : إن محمد بن مسلمة كان صاحب لواء رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في خيبر؟!

أما أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يأخذه لأجل القتال فقط ، لا بعنوان قيادة ، ولا غير ذلك؟

فالسؤال هو : إن المشاركين في القتال كثيرون ، فلماذا خص الرواة ابن مسلمة بالذكر من بين ألف وخمس مائة مقاتل؟! ..

ولماذا لم يذكروا عليا «عليه‌السلام» ، أو أبا دجانة ، أو المقداد ، أو غير هؤلاء أيضا؟!

أم يعقل أن يكون هؤلاء قد أصبحوا متخاذلين؟! وغير ذوي أثر ، وأن ابن مسلمة أصبح أكثر نشاطا وحركة منهم؟

هذا .. واللافت : أن الحباب بن المنذر قد غاب هنا أيضا ، ولم يكن له

١٩٧

نصيب يذكر ، رغم أنه قد أعطي دورا كبيرا في موقع آخر ..

واللافت أيضا : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم ير محمد بن مسلمة أهلا لأن يقتل قاتل أخيه ، كما صرحت به هذه الرواية ، فوعده بأن يعطي الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبانه ، يمكنه الله من قاتل أخيه (أي أخي محمد بن مسلمة) ، فلماذا لا يمكّن الله محمد بن مسلمة نفسه من أن يقتل قاتل أخيه؟!

وإذا كان محمد بن مسلمة هذا لم يستطع أن يقتل قاتل أخيه ، حتى احتاج إلى علي «عليه‌السلام» ليقوم بهذه المهمة .. فكيف كان يختاره النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليذهب معه للقتال؟! وما هو نوع ومستوى القتال الذي كان يذهب به إليه؟!

بل سيأتي : أن محمد بن مسلمة نفسه قد انزعج من قتل علي «عليه‌السلام» لأخيه مرحب اليهودي ، وحقد على أمير المؤمنين «عليه‌السلام» بسبب ذلك ، واعتبر ذلك ذنبا له «عليه الصلاة والسلام».

موقع عثمان هو الأنسب :

ولعل أنسب ما في هذه الرواية إعطاء عثمان بن عفان مهمة حراسة منازل النساء ، وأثقال العسكر ، وهو الموضع الذي يحمل إليه المجروحون للتداوي .. لأنه أكثر المواضع أمنا ، وأبعدها عن الخطر.

وقد كان عثمان ـ فيما يبدو ـ بحاجة إلى هذا الأمن ، فقد أظهر ما جرى له في واقعة أحد : أنه لا يقدر على مواجهة الأهوال ، أو ملاقاة الرجال. حيث إن فزعته ـ الشهيرة ـ في أحد جعلته يهرب في الهضاب والشعاب ، ولا

١٩٨

يعود إلا بعد ثلاثة أيام ، حتى قال له النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : لقد ذهبت بها عريضة (١).

عمر يأمر بضرب عنق شخص :

وقد صرحت الرواية المتقدمة أيضا : بأن عمر بن الخطاب حين مناوبته في حراسة العسكر قد أتي بيهودي ، فأمر بضرب عنقه ..

وسؤالنا هو :

أولا : لماذا يأمر غيره بضرب عنق ذلك اليهودي ، ولا يبادر هو إلى ذلك؟! أم أنه يريد أن يجد من يشاركه في هذا الفعل ، ليكون اللوم عليه

__________________

(١) راجع : تفسير المنار ج ٤ ص ١٩١ والجامع لأحكام القرآن ج ٤ ص ٢٤٤ وفتح القدير ج ١ ص ٣٩٢ وتفسير القرآن العظيم ج ١ ص ٤١٤ وتفسير التبيان ج ٣ ص ٢٦ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٠٣ والإرشاد للشيخ المفيد ص ٥٠ والبحار ج ٢٠ ص ٨٤ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٨ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٢١ عن الواقدي ، لكن مغازي الواقدي المطبوع لم يصرح بالأسماء بل كنّى عنها في ج ١ ص ٢٧٧ إلا أنه في الهامش قال : في نسخة (عمر وعثمان) والكامل لابن الأثير ج ٢ ص ١٥٨ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٢٢٧ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٥ والدر المنثور ج ٢ ص ٨٨ و ٨٩ عن ابن جرير وابن المنذر ، وابن إسحاق. وراجع : سيرة ابن إسحاق ص ٣٣٢ وجامع البيان ج ٤ ص ٩٦ وغرائب القرآن (مطبوع بهامش جامع البيان) ج ٤ ص ١١٣ والتفسير الكبير للرازي ج ٩ ص ٥٠ و ٥١ وأنساب الأشراف ج ١ ص ٣٢٦. وراجع عن فراره يوم أحد وتخلفه يوم بدر : محاضرات الراغب ج ٣ ص ١٨٤ ومسند أحمد ج ٢ ص ١٠١ وج ١ ص ٦٨ والصراط المستقيم للبياضي ج ١ ص ٩١.

١٩٩

أخف؟! أو أنه لا يجرؤ على قتل أحد بنفسه؟!

ثانيا : كيف يجوز أن يأمر بضرب عنق ذلك اليهودي من دون استجازة من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟! بل حتى من دون أن يعلمه بأمره؟!

وهل للحارس أن يتولى ضرب أعناق الناس الذين يجدهم في نوبة حراسته؟! من دون مراجعة؟!

وكيف لا يرجع أمره إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟! فلعل له فيه رأيا آخر وسياسة أخرى.

وهذا العمل هل يتوافق مع قوله تعالى : (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ)؟! (١).

ثالثا : كيف يأمر بضرب عنق الرجل قبل استجوابه ، ومعرفة نواياه ، والذي جاء به ، وما يحمل من معلومات تفيد المسلمين في حربهم؟! فلعل الأمور كانت تسير في غير الاتجاه الذي ظنه ..

رابعا : إن رواية الواقدي تقول : إن الذي أخذ ذلك العين هو عباد بن بشر ، وليس عمر بن الخطاب ، فجاء به إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأخبره الخبر.

فتدخل عمر وقال : اضرب عنقه.

قال عباد : جعلت له الأمان الخ .. (٢).

__________________

(١) الآية ١ من سورة الحجرات.

(٢) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٤١.

٢٠٠