الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٧

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٧

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-189-0
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٣

مقتول ، فقال : «لقد حسّن الله وجهك ، وطيب ريحك ، وكثّر مالك. لقد رأيت زوجتيه من الحور العين ، ينزعان جبته يدخلان فيما بين جلده وجبته» (١).

وعند ابن إسحاق : «ينفضان التراب عن وجهه ، ويقولان : ترب الله وجه من تربك ، وقتل من قتلك» (٢).

ونقول :

أولا : من الواضح : أنه إذا قامت الحرب بين فريقين ، فأي مال يحصل عليه أحدهما فإنه يستولي عليه بعنوان أنه غنيمة. فلا يعقل أن يخرج الراعي بالغنم إلى أي مكان يصل إليه جيش المسلمين ؛ لأن ذلك معناه : أن يستولي المسلمون على ذلك الغنم فور رؤيتهم له ..

ولا يمهلون ذلك الراعي حتى يراجع أحدا في الأمر ..

بل إنهم سوف يعتبرون نفس ذلك الراعي أحد الغنائم ، إن كان عبدا ، أو يعتبرونه أسيرا إن لم يكن كذلك.

اللهم إلا أن يكون ذلك قد حصل في فترة المفاوضات ، والسعي لإقامة الحجة على اليهود ، حتى إذا لم يستجيبوا لداعي الله سبحانه ، وأصروا على معاندة الحق وأهله ، وأعلنت الحرب ، وتنابذ الفريقان ، فإن كل فريق سوف يسعى إلى حماية ماله ، ووضعه في أماكن مأمونة ، بعيدا عن متناول يد عدوه.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٢٩ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢١٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٦٢.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٣٠ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٨٠٦ وعيون الأثر ج ٢ ص ١٤٨.

١٦١

ولكن ليس في الرواية ما يشير إلى ذلك ، فيبقى مجرد احتمال معلق في الهواء.

ثانيا : إن وصول الغنم إلى أصحابها بمجرد رميها بالحصباء قد يوجب يقين أصحاب تلك الغنم بأنهم محقون ، وبأن الله تعالى هو الذي رد عليهم غنمهم ، لأنه راض عنهم ، ماض لطفه فيهم ..

وفي هذا إغراء بالعناد واللجاج ، والتشبث بالباطل ، ودخول الشبهة على المبطلين ، فلا يعقل صدور عمل يؤدي إلى ذلك من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

وأما الاعتذار عن ذلك : بأن عدم أخذهم لذلك العبد ، إنما هو لعدم كونه محاربا ، فهو اعتذار واه ، لأن المفروض : أن جميع من هم في تلك المنطقة ، ويترددون إلى الحصون هم من المحاربين لأهل الإسلام ..

والكلام إنما هو بالنسبة للناس العاديين ، لا بالنسبة لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» المتصل بالوحي والغيب.

ومما يضحك الثكلى احتمال البعض : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إنما أرجع الغنم إلى الحصن بهذه الطريقة لكي يظهر لذلك العبد معجزة تقنعه بنبوته.

فإن الأمور لم تضق على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى حد أنه يصنع معجزة من شأنها أن تعيد لليهود قطيعا كبيرا من الغنم ، بحيث يعود إليهم لوحده ..

وليس ثمة ما يدلهم على : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو الذي أرجعها إليهم ، فإن دخول العبد في الإسلام قد لا يكون استنادا إلى عودة الغنم إليهم ، بل لأنه قد استضعف وخاف ..

١٦٢

هذا لو سلم أنهم عرفوا بإسلامه ، ولم يثبت ذلك.

متى شبع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من خبز الشعير؟!

وقالوا : إن حصن ناعم هو أول حصن فتح من حصون النطاة على يد علي «عليه‌السلام».

وعن عائشة قالت : ما شبع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من خبز الشعير والتمر حتى فتحت دار بني قمة ، أي وهي أول دار فتحت بخيبر ، وهي بالنطاة ، وهي منزل ياسر أخي مرحب ، وظاهر السياق أنها ناعم (١).

ونقول :

إن ثمة قدرا من الجرأة من عائشة على مقام رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حيث ساقت حديثها بنحو يوحي : بأن الجوع والشبع كان يمثل قضية ذات أهمية بالنسبة إليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

كما أنها عبرت بكلمة «ما شبع» ، وهي لا تناسب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. الذي لم يكن يتملى من الطعام ، وفقا لقاعدة : اجلس على الطعام وأنت جائع ، وقم عنه وأنت تشتهيه .. مع ملاحظة النواهي الصادرة عنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن الأكل حتى الشبع ، وعن التملي من الطعام ، وهي لا يكاد يجهلها أحد ..

وفي جميع الأحوال نقول :

لماذا يجعلون رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» محور الحديث عن هذا

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٩.

١٦٣

الأمر بالذات؟! .. وقد كان بإمكانهم جعل الحديث عن غيره ، أو أن يستفيد المتحدثون من عناوين عامة ، ليس فيها هذا الإيحاء غير المحبب ، فيقولون مثلا ، ما شبعنا ، أو ما شبع الناس ، أو المسلمون ، أو نحو ذلك.

محمود بن مسلمة يقتل في حصن ناعم :

ويقولون : إن السبب في قتل محمود بن مسلمة هو : أنه كان قد حارب في حصن ناعم حتى أعياه الحرب ، وثقل السلاح. وكان الحر شديدا ، فانحاز إلى ظل ذلك الحصن يبتغي فيئه.

قالوا : ولا يظن محمود أن في ذلك الحصن أحدا من المقاتلة ، وإنما ظن أن فيه متاعا وأثاثا.

فألقى عليه مرحب حجر الرحا ، فهشم البيضة على رأسه ، ونزلت جلدة جبينه على وجهه ، وندرت عينه. فأدركه المسلمون ، فأتوا به النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فسوى الجلدة إلى مكانها ، وعصبه بخرقة ، فمات من شدة الجراحة. وتحول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» خشية على أصحابه من البيات (١).

وجاء أخوه محمد بن مسلمة إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : إن اليهود قتلوا أخي محمود بن مسلمة ، وبكى.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : لا تمنوا لقاء العدو ، واسألوا الله العافية ، فإنكم لا تدرون ما تبتلون به منهم ، فإذا لقيتموه ، فقولوا : اللهم أنت ربنا وربهم ، ونواصينا ونواصيهم بيدك ، وإنما تقتلهم أنت.

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٤٥ والإمتاع ص ٣١١ و ٣١٢ وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٤.

١٦٤

ثم الزموا الأرض جلوسا ، فإذا غشوكم ، فانهضوا ، وكبروا (١).

ونحن نشك في صحة هذه الرواية من أساسها.

فأولا : إن القتال كله كان مع المدافعين عن حصن ناعم ، فما معنى قولهم : «ولا يظن محمود : أن فيه أحدا من المقاتلة ، إنما ظن : أن فيه متاعا وأثاثا»؟! فهل ترك المقاتلون حصنهم ، وتاهوا في الصحراء؟!

ثانيا : إذا كان اليهود بعد القتال قد دخلوا حصنهم. فإن من غير المعقول : أن يحارب محمود بن مسلمة اليهود حتى أعياه الحرب ، وثقل السلاح ، ثم يجلس في أسفل حصنهم ليستريح.

إذ أي عاقل لا يخطر في باله : أن اليهود قد يفكرون في إلقاء حجر عليه لقتله ، وأن عليه أن يتحرز من ذلك؟!

وقد علم الناس كلهم : أن سبب حرب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لبني النضير ، حتى أجلاهم من ديارهم ، هو : أنه جاءهم مع أصحابه في أمر ، وجلس إلى بعض بيوتهم ، فحاولوا إلقاء حجر عليه لقتله ، فأخبره الله تعالى بذلك فقام وتركهم ، وكانت الحرب.

فإذا كان هذا حال اليهود في السلم ، فكيف ستكون حالهم في الحرب؟! ولا سيما بعد حصول معركة حامية يعيا فيها المحارب ..

ألم يسمع محمود بحرب النضير؟!

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٤ وراجع : المعجم الصغير ج ٢ ص ١٣٦ والمستدرك على الصحيحين ج ٣ ص ٣٨ ومجمع الزوائد ج ٥ ص ٣٢٨ وج ٦ ص ١٥١ وكتاب الدعاء للطبراني ص ٣٢٨ وكنز العمال ج ٤ ص ٣٦١ وعيون الأثر ج ٢ ص ١٣٦.

١٦٥

وألم يعرف سبب نشوبها ، وهي الحرب التي انتهت إلى تلك النتائج الخطيرة والكبيرة على مستوى المنطقة بأسرها؟!

ثالثا : كيف لم يحذّر أحد من المسلمين محمود بن مسلمة من مغبة جلوسه في ذلك الموضع؟! أم يعقل أن يكون الجميع قد تركوه وحده ، وغادروا المكان؟!

رابعا : والغريب في الأمر : أنهم يذكرون عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أنه قال لمحمد بن مسلمة ، حينما أخبره بقتل أخيه : إنه سوف يرسل رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، ليأخذ له بثأر أخيه ، ثم أرسل عليا «عليه‌السلام» (١).

فلماذا لم يرسل محمد بن مسلمة نفسه. مع أنهم يدّعون له مقاما فريدا في الفروسية والشجاعة ، حتى زعموا ـ كذبا وزورا ـ : أنه هو الذي قتل مرحبا؟!

بالإضافة إلى ما لا يجهله أحد من أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله الخ .. بعد فرار أبي بكر وعمر ، ولأجل تلافي ما حصل .. لا في مناسبة إخبار محمد بن مسلمة له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بقتل أخيه محمود.

خامسا : والأغرب من ذلك ، والأعجب : أن يجيب «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ابن مسلمة على إخباره إياه بقتل أخيه ، بقوله : لا تمنوا لقاء العدو الخ .. فهل تراه يحذّر ابن مسلمة ، من أن يحدث نفسه بلقاء العدو الذي قتل أخاه للتو؟!

وهل هو يخشى أن يصيبه ما أصاب أخاه؟!

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٥ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ١٢٣.

١٦٦

وهل ينسجم هذا ، وذاك مع ما زعموه من أن محمد بن مسلمة قد بارز مرحبا وقتله بأخيه؟!

أم أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يريد أن يتنبأ له مسبقا بفراره وفرار غيره حينما يواجهون اليهود في حصن القموص ، حينما يرسلهم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالراية إلى حرب الخيبريين؟! ..

سادسا : قد ذكرت الروايات المتقدمة : أن مرحبا هو الذي ألقى الرحى على محمود بن مسلمة ، فقتله بها ..

ولكن رواية أخرى تقول : إن الذي ألقى الرحى عليه هو كنانة بن الربيع ..

وفي رواية ثالثة : أن قاتله هو شخص آخر ، وهو الذي سلمه علي «عليه‌السلام» لمحمد بن مسلمة ليقتله بأخيه ..

وقد حاول الحلبي الجمع بين الروايتين الأوليين : بأن من الممكن أن يكون الرجلان قد اجتمعا على قتل محمود هذا (١).

ولكننا نقول له : إن مجرد الإمكان لا يكفي لصياغة التاريخ ، بل ذلك يحتاج إلى شواهد وأدلة صالحة للاعتماد ..

سابعا : إن الظاهر هو : أن مرحبا كان حبيبا وقريبا لأخيه محمد بن مسلمة ، فقد صرح أمير المؤمنين «عليه‌السلام» : بأن محمدا كان ينقم على علي «عليه‌السلام» أنه قتل أخاه مرحبا (٢).

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٤.

(٢) الإمامة والسياسة (ط سنة ١٣٥٦ ه‍ ـ بمصر) ج ١ ص ٥٤ وقاموس الرجال ج ٨ ص ٣٨٨ عنه.

١٦٧

ولعله كان أخا له من الرضاعة ، إن لم يكن أخاه لأمه ..

وفي جميع الأحوال نقول :

إن ذلك كله يشير إلى مدى الإصرار والحرص على الكذب والافتعال في هذا الأمر بالذات.

ولعلهم أرادوا إسداء خدمة لمحمد بن مسلمة ، بتضخيم أمر قتل أخيه محمود من جهة ، بادّعاء : أن أعظم بطل في اليهود هو الذي قتله .. ثم بإظهار اهتمام النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بقتل قاتله ، ثم سعيه للثأر لأخيه.

وذلك كله : في سياق التوطئة والتسويق المؤثر لادّعاء : أن محمد بن مسلمة هو قاتل مرحب ، بطل أبطال اليهود.

وبذلك يمكنهم أيضا : حرمان علي «عليه‌السلام» من هذا الفضل ، أو تشكيك الناس به على الأقل ..

والأهم من ذلك كله : التقليل من شأن هذا النصر العظيم الذي سجله «عليه‌السلام» ، بقتل مرحب ، واقتلاع باب خيبر ، وظهور فضله على الصحابة كلهم ، بعد أن اتخذوا طريق الفرار سبيلا للنجاة في الحياة الدنيا ، دون أن يعبأوا بعقاب الآخرة.

أين قتل ابن مسلمة؟!

إن ظاهر بعض النصوص المتقدمة : أن محمود بن مسلمة قد قتل في حصن القموص (١). مع أنه إنما قتل في حصن ناعم حسبما تقدم تفصيله ..

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٤ ص ١٨٥ عن البيهقي.

١٦٨

الفصل الرابع :

فتح سائر حصون النطاة والشق

١٦٩
١٧٠

حصار وفتح حصن الصعب بن معاذ :

لم يكن بخيبر حصن أكثر طعاما ، وودكا ، وماشية ، ومتاعا من حصن الصعب بن معاذ ووجدوا فيه ما لم يكونوا يظنون ، من الشعير ، والتمر ، والسمن ، والعسل ، والزيت ، والودك (١). وكان فيه خمسمائة مقاتل ، وكان المسلمون قد أقاموا أياما يقاتلون ، ليس عندهم طعام إلا العلف (٢).

بل قال الواقدي : إن الأطعمة كلها كانت في هذا الحصن (٣).

وروى محمد بن عمر ، عن أبي اليسر كعب بن عمر : أنهم حاصروا حصن الصعب بن معاذ ثلاثة أيام ، وكان حصنا منيعا ، وأقبلت غنم لرجل من يهود ترتع وراء حصنهم ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «من رجل يطعمنا من هذه الغنم»؟

فقلت : أنا يا رسول الله.

فخرجت أسعى مثل الظبي.

__________________

(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٢١ و ١٢٢ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٥٨ و ٦٥٩ وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٩ و ٤٠.

(٢) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٢١ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٥٨.

(٣) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٦٢.

١٧١

وفي لفظ : مثل الظليم ، فلما نظر إليّ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» موليا قال : «اللهم متعنا به».

فأدركت الغنم ـ وقد دخل أولها الحصن ـ فأخذت شاتين من آخرها فاحتضنتهما تحت يدي ، ثم أقبلت أعدو ، كأن ليس معي شيء ، حتى انتهيت إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأمر بهما فذبحتا ، ثم قسمهما ، فما بقي أحد من العسكر الذين معه محاصرين الحصن إلا أكل منهما.

فقيل لأبي اليسر : كم كانوا؟

قال : كانوا عددا كثيرا (١).

فيقال : أين بقية الناس؟.

فيقول : في الرجيع ، بالمعسكر (٢).

وروى ابن إسحاق ، عن بعض قبيلة أسلم ، ومحمد بن عمر ، عن معتب الأسلمي ، واللفظ له ، قال : أصابتنا معشر أسلم مجاعة حين قدمنا خيبر ، وأقمنا عشرة أيام على حصن النطاة ، لا نفتح شيئا فيه طعام ، فأجمعت أسلم أن أرسلوا أسماء بن حارثة ، فقالوا : ائت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فقل له : إن أسلم يقرئونك السلام ، ويقولون : إنّا قد جهدنا من الجوع والضعف.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٢١ وإمتاع الأسماع ص ٣١٦ و ٣١٧ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٦٠ وراجع : مجمع الزوائد ج ٦ ص ١٤٩ وج ٩ ص ٣١٦ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٢١ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٧٩٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٦٨.

(٢) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٠.

١٧٢

فقال بريدة بن الحصيب : والله ، إن رأيت كاليوم قط من بين العرب يصنعون هذا!!

فقال زيد (هند) بن حارثة أخو أسماء : والله ، إني لأرجو أن يكون هذا البعث إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مفتاح الخير.

فجاءه أسماء فقال : يا رسول الله إن أسلم تقرأ عليك السلام ، وتقول : إنا قد جهدنا من الجوع والضعف ، فادع الله لنا.

فدعا لهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ثم قال : «والله ما بيدي ما أقويهم به ، قد علمت حالهم ، وأنهم ليست لهم قوة ، ثم قال : «اللهم فافتح عليهم أعظم حصن فيها ، أكثرها طعاما ، وأكثرها ودكا» (١).

ودفع اللواء إلى الحباب بن المنذر ، وندب الناس ، فما رجعنا حتى فتح الله علينا حصن الصعب بن معاذ.

قالت أم مطاع الأسلمية : لقد رأيت أسلم حين شكوا إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ما شكوا من شدة الحال ، فندب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الناس فنهضوا ، فرأيت أسلم أول من انتهى إلى حصن الصعب بن معاذ ، فما غابت الشمس من ذلك اليوم حتى فتح الله ..

إلى أن قال : وكان عليه قتال شديد.

وبرز رجل من يهود يقال له : يوشع ، يدعو إلى البراز ، فبرز له الحباب بن المنذر ، فاختلفا ضربات ، فقتله الحباب.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٢١ و ١٢٢ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٩ وإمتاع الأسماع ص ٣١٦.

١٧٣

وبرز له آخر ـ يقال له : الزيال ، أو الديال ـ فبرز له عمارة بن عقبة الغفاري ، فبادره الغفاري فضربه ضربة على هامته ، وهو يقول : خذها وأنا الغلام الغفاري.

فقال الناس : «بطل جهاده».

فبلغ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ذلك ، فقال : «ما بأس به ، يؤجر ويحمد» (١).

وروى محمد بن عمر ، عن محمد بن مسلمة ، قال : رأيت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رمى بسهم فما أخطأ رجلا منهم ، وتبسم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلي ، وانفرجوا ، ودخلوا الحصن (٢).

ووجدوا في حصن الصعب بن معاذ : آلة حرب ، ودبابات ، ومنجنيقا.

وكان أحدهم قد أخبر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأن في حصن الصعب بن معاذ ، في بيت منه تحت الأرض منجنيق ، ودبابات ، وسيوف (٣).

وحسب نص الحلبي : إن اليهود حملت حملة منكرة ، فانكشف المسلمون حتى انتهوا إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وهو واقف قد نزل عن فرسه ، فثبت الحباب بن المنذر ، فحرض «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على الجهاد ، فأقبلوا ، وزحف بهم الحباب ، فانهزمت يهود ، وأغلقت الحصون عليهم.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٢٢ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٩ و ٤٠ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٥٩ وراجع : المعجم الكبير للطبراني ج ٦ ص ٩٤ و ٩٥ ورياض الصالحين للنووي ص ٣٨٥ وعن سنن أبي داود ج ٢ ص ٢٦٧.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٢٢ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٢٢.

(٣) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٤٠ وراجع ص ٤١ عن الإمتاع.

١٧٤

ثم إن المسلمين اقتحموا الحصن ، يقتلون ، ويأسرون ، فوجدوا في ذلك الحصن من الشعير الخ .. (١).

ونادى منادي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : كلوا ، واعلفوا ، ولا تحملوا ، أي لا تخرجوا به إلى بلادكم (٢).

وحسب نص الواقدي : وقد أقمنا عليه يومين نقاتلهم أشد القتال ، فلما كان اليوم الثالث بكّر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عليهم ، فخرج رجل من اليهود كأنه الدقل في حربة له ، وخرج وعاديته معه ، فرموا بالنبل ساعة سراعا ، وترسنا عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأمطروا علينا بالنبل ، فكان نبلهم مثل الجراد ، حتى ظننت ألّا يقلعوا ، ثم حملوا علينا حملة رجل واحد.

فانكشف المسلمون حتى انتهوا إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو واقف ، قد نزل عن فرسه ، ومدعم (٣) يمسك فرسه.

وثبت الحباب برايتنا ، والله ما يزول ، يراميهم على فرسه ، وندب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» المسلمين وحضهم على الجهاد ورغبهم فيه ، وأخبرهم أن الله قد وعده خيبر يغنمه إياها.

قال : فأقبل الناس جميعا حتى عادوا إلى صاحب رايتهم ، ثم زحف بهم

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٤٠.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٢٢ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٤٠ وراجع : السنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ٦١ وبغية الباحث ص ٢١١ ونصب الراية للزيعلي ج ٤ ص ٢٦٧ والسير الكبير للشيباني ج ٣ ص ١٠١٨.

(٣) مدعم : هو العبد الأسود الذي كان مولى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

١٧٥

الحباب ، فلم يزل يدنو قليلا قليلا ، وترجع اليهود على أدبارها حتى لحمها الشر ، فانكشفوا سراعا ، ودخلوا الحصن وغلّقوا عليهم ، ووافوا على جدره ـ وله جدر دون جدر ـ فجعلوا يرموننا بالجندل (١) رميا كثيرا ، ونحونا عن حصنهم بوقع الحجارة ، حتى رجعنا إلى موضع الحباب الأول.

ثم إن اليهود تلاومت بينها ، وقالت : ما نستبقي لأنفسنا؟ قد قتل أهل الجد والجلد في حصن ناعم.

فخرجوا مستميتين ، ورجعنا إليهم ، فاقتتلنا على باب الحصن أشد القتال ، وقتل يومئذ على الباب ثلاثة من أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أبو صياح ، وقد شهد بدرا ، ضربه رجل منهم بالسيف فأطن قحف رأسه. وعدي بن مرة بن سراقة ، طعنه أحدهم بالحربة بين ثدييه فمات ، والثالث الحارث بن حاطب وقد شهد بدرا ، رماه رجل من فوق الحصن فدمغه.

وقد قتلنا منهم على الحصن عدة ، كلما قتلنا منهم رجلا حملوه حتى يدخلوه الحصن.

ثم حمل صاحب رايتنا وحملنا معه ، وأدخلنا اليهود الحصن ، وتبعناهم في جوفه ، فلما دخلنا عليهم الحصن فكأنهم غنم ، فقتلنا من أشرف لنا ، وأسرنا منهم ، وهربوا في كل وجه ، يركبون الحرة ، يريدون حصن قلعة الزبير ، وجعلنا ندعهم يهربون.

وصعد المسلمون على جدره ، فكبروا عليه تكبيرا كثيرا ، ففتتنا أعضاد

__________________

(١) الجندل : الحجارة. لسان العرب ج ١٣ ص ١٣٦.

١٧٦

اليهود بالتكبير ، لقد رأيت فتيان أسلم وغفار فوق الحصن يكبرون ، فوجدنا والله من الأطعمة ما لم نظن أنه هناك ، من الشعير الخ ..

ونادى منادي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : كلوا واعلفوا ولا تحتملوا.

يقول : لا تخرجوا به إلى بلادكم.

فكان المسلمون يأخذون من ذلك الحصن مدة مقامهم ؛ طعامهم وعلف دوابهم ، لا يمنع أحد أن يأخذ حاجته ، ولا يخمس الطعام.

ووجدوا فيه من البز والآنية ، ووجدوا خوابي السّكر ، فأمروا فكسروها ، فكانوا يكسرونها حتى سال السكر في الحصن ، والخوابي كبار لا يطاق حملها.

وكان أبو ثعلبة الخشنى يقول : وجدنا فيه آنية من نحاس وفخار ، كانت اليهود تأكل فيها وتشرب ، فسألنا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : اغسلوها واطبخوا وكلوا فيها واشربوا.

وقال : أسخنوا فيها الماء ثم اطبخوا بعد ، وكلوا واشربوا.

وأخرجنا منه غنما كثيرا ، وبقرا ، وحمرا ، وأخرجنا منه آلة كثيرة للحرب ، ومنجنيقا ، ودبابات وعدة ، فنعلم أنهم قد كانوا يظنون أن الحصار يكون دهرا ، فعجل الله خزيهم.

فحدثني عبد الحميد بن جعفر عن أبيه ، قال : لقد خرج من أطم من حصن الصعب بن معاذ من البز عشرون عكما (١) محزومة من غليظ متاع

__________________

(١) العكم : ثوب يبسط ، ويجعل فيه المتاع ويشد. تاج العروس ج ٨ ص ٤٠٤.

١٧٧

اليمن ، وألف وخمس مائة قطيفة ، يقال : قدم كل رجل بقطيفة على أهله ، ووجدوا عشرة أحمال خشب ، فأمر به فأخرج من الحصن ثم أحرق ، فمكث أياما يحترق ، وخوابي سكر كسرت ، وزقاق خمر فأهريقت.

وقالوا أيضا : كان من سلم من يهود حصن ناعم انتقل إلى حصن الصعب من حصون النطاة ، ففتحه الله قبل ما غابت الشمس من ذلك اليوم. من بعد ما أقاموا على محاصرته يومين (١).

ونقول :

إن لنا مع ما تقدم وقفات ، هي التالية :

فرار المسلمين .. وثبات الحباب :

١ ـ قد أظهر هذا النص : أن المسلمين قد فروا أمام اليهود ، حتى انتهوا إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأن هذه الهزيمة قد تكررت منهم.

وهذا أمر لا بد أن يزعج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ويؤذيه ، خصوصا إذا كان هذا الفرار يشجع اليهود ، ويزيدهم إصرارا على مواصلة الحرب ، ويوجب تعرض المسلمين للمزيد من الأخطار ، ويوقع في صفوفهم خسائر أكبر في الأرواح ..

٢ ـ إن رواية الواقدي ، زعمت : أن الحباب قد ثبت بالراية.

ولا ندري أين ثبت الحباب؟ ومتى؟

فإنه حامل الراية ـ إن صح أنه حاملها حقا ـ فلا بد أن يكون في المقدمة.

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٩.

١٧٨

فهل انهزم عنه الناس ، وبقي يقاتل وحده بين اليهود؟! ..

أم أنه انهزم معهم ، ثم لما وصل إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ثبت هناك؟!

فإن كان وحده ، فلا بد أن نسأل ماذا جرى له مع اليهود؟ وكيف خرج سالما من بينهم؟! وهل خرج خروج منهزم؟ أم خروج منتصر؟! وكيف؟ أم أنه بقي بينهم إلى حين انقضاء القتال ، أو إلى حين معاودة المسلمين هجومهم؟! وكيف استطاع أن يحفظ نفسه منهم في هذه الحال؟

وأين كان عنه مرحب وسائر الأبطال اليهود في هذه المدة؟!

ولماذا لم يسجل التاريخ له هذه المفخرة العظيمة؟! ولماذا؟! ولماذا؟!

٣ ـ إن ظاهر النص : أن المسلمين لم يرجعوا إلى القتال إلا بعد تطميعهم بالغنيمة ، لأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : حضهم على الجهاد ورغبهم فيه ، وأخبرهم أن الله قد وعده خيبر ، يغنمه إياها ..

٤ ـ ما معنى تخصيص فتيان أسلم وغفار بالمدح ، وأن المتحدث قد رآهم فوق الحصن يكبرون؟! خصوصا بعد أن ذكر : أن المسلمين صعدوا على جدر الحصن يكبرون ، فكبروا تكبيرا كثيرا.

لماذا الإحراج؟ :

إن ما فعلته قبيلة أسلم من شأنه أن يحرج رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بل قد اقتضى الأمر : أن يظهر «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للملأ ما لم تجر عادته على إظهاره ، وهو أنه ليس بيده شيء يعطيهم إياه.

مع أن لهذا الإظهار سلبياته أيضا ، فإنه ربما يؤثر على سكينة ضعفاء

١٧٩

الناس وثباتهم ، ويثير لديهم الكثير من الهواجس تجاه مصيرهم ، وسيتمثل لهم الخطر الذي ينتظرهم أمام أعينهم.

وأما إذا بلغ ذلك إلى مسامع الأعداء ، الذين يملكون الكثير من الطعام في حصونهم ، فقد يزيدهم ذلك إصرارا على التحدي ، ويدفعهم إلى التفكير في وسائل تسويف الوقت ، انتظارا لتأثير الجوع في ثبات عدوهم المحارب لهم ، حتى يضطر إلى التخلي عن حصارهم ، بحثا عن لقمة تحفظ له خيط الحياة ، وتمكنه من البقاء والنجاة.

أوسمة أسلم :

وقد تحدثت النصوص المتقدمة : أن أسلم هي التي عانت من الجوع ، وأنها شكت ذلك إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فدعا «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لها ، بعد أن أظهر الرقة والتعاطف معها ، وقد تضمن دعاؤه أن يفتح الله عليهم أعظم حصن.

ثم ذكرت أم مطاع : أن أسلم أول من انتهى إلى حصن الصعب ، وأن شمس ذلك اليوم لم تغب حتى فتح الله ذلك الحصن.

ونقول :

إن ما كانت تعاني منه قبيلة أسلم هو ما كان يعاني منه سائر المسلمين .. ولكن لعل أسلم تستحق كل هذه الأوسمة من هؤلاء ، بل وأزيد منها ، وأعظم وأفخم ، لأنها هي التي ساعدت أبا بكر يوم السقيفة على نيل الخلافة ، حيث جاءت إلى المدينة بقضها وقضيضها واحتلتها ، واستخرجت كل معارض من بيته ، وأتت به إلى المسجد ليبايع أبا بكر ، تحت تهديد

١٨٠