الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٧

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٧

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-189-0
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٣

٥ ـ وإذا كان قطع النخيل يرضي الله تعالى ، فلماذا أطاع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أبا بكر؟!

وإذا كان لا يرضي الله تعالى فلماذا أطاع الحباب؟!

وكيف يصح هذا وذاك ، والنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يقول ولا يفعل إلا ما يرضي الله سبحانه؟!

فالظاهر هو : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أمر بقطع بعض النخلات استجابة لضرورات الحرب ، لاحتياج العسكر إلى الفسحة المناسبة ، حيث لا عوائق له عن الحركة ، ولا موانع من الرصد الدقيق لتحركات العدو ، ولغير ذلك من موجبات.

الأمان لمن أراد :

عن الضحاك الأنصاري ، قال : لما سار النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى خيبر جعل عليا «عليه‌السلام» على مقدمته ، فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : من دخل النخل فهو آمن.

فلما تكلم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نادى بها علي «عليه‌السلام» ، فنظر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى جبرائيل يضحك ، فقال : ما يضحكك؟!

قال : إني أحبه.

فقال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لعلي «عليه‌السلام» : إن جبرائيل يقول إنه يحبك!

قال «عليه‌السلام» : بلغت أن يحبني جبرائيل؟

قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : نعم ، ومن هو خير من جبرائيل ، الله عزّ

١٤١

وجلّ (١).

ونقول :

إن لنا مع ما تقدم عدة وقفات ، هي التالية :

من دخل النخل فهو آمن :

لقد تضمن هذا النص : أمرا هاما ، من حيث دلالته الصريحة على : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يكن يقاتل اليهود ، لأنه اتخذ قرارا مسبقا بقتلهم وبإبادتهم ، أو بقهرهم ، والاستيلاء على بلادهم ، وقد جاء الآن لتنفيذ هذا القرار.

كما أنه قد تضمن إعطاء الأمان للناس من دون أي شروط ، والاكتفاء بمجرد إظهار الرغبة في الدخول في الأمان ..

وهذا يعطي : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يكن يريد أن يستفيد من قوته العسكرية الضاربة لفرض شروطه على محاربيه ، بل كانت شروطه هي تلك الشروط ، التي يسعى إليها كل إنسان بحسب سجيته وفطرته العامة ، وهي كل ما يقتضيه العدل والإنصاف للناس.

وهذا يدل : على أن الهدف هو مجرد التخلص من الفتنة ، ودرء الأخطار ، وإعادة تصحيح الأوضاع لصالح السلم ، وإشاعة الأمن ، وضمان الحرية في نطاق الانضباط والالتزام بالحدود ، والوفاء بالعهود ، والمواثيق.

ثم إن هذه الشروط قد أعطت الإيحاء للعدو : بأن ثمة يقينا بالنصر ، وبأن عليهم أن يراجعوا حساباتهم ، فلا تغرهم عدتهم ، ولا عديدهم ..

__________________

(١) أسد الغابة ج ٣ ص ٣٤.

١٤٢

كما أن وجود هذا الخيار ، وظهور الميل إليه لدى بعض الفئات المحاربة ، سوف يضعف الثقة فيما بينهم ، ويخلّ بإمكانية الاعتماد على بعضهم البعض ، حين يبقى احتمال رغبة الناس بالأمان واحتمال أن يبادر إلى التماسه كل فرد منهم ، ماثلا أمامهم ، يثير القلق في نفوسهم ، ويضعف تأثير قراراتهم في تسكين النفوس ، وفي الشعور بالأمن ، وبالطمأنينة للسلامة ، والثقة بالنصر ، وبالتناصر ..

يضاف إلى ذلك : أنه قد يكون هناك أناس مستضعفون مغلوبون على أمرهم ، يقهرهم الأقوياء على مواقف لا يريدونها ، ويسخّرونهم لتحقيق مآربهم ، فيكون إعطاء هذا الأمان فرصة لهم يعيد إليهم الخيار ، ويمكنهم من الاختيار ، وبذلك يصبحون هم الذين يتحملون المسؤولية لو خاضوا تلك الحرب ، وارتكبوا أي خطأ ، أو ذنب.

وليس لهم أن يعتذروا بالاستضعاف ، وانسداد أبواب الخيارات الصحيحة أمامهم.

جعل علي عليه‌السلام على المقدمة :

وإن جعل قيادة ذلك الجيش إلى علي «عليه‌السلام» هو في حد ذاته أحد مفردات الحرب النفسية ، الشديدة التأثير على الأعداء ، الذين يعرفون عليا «عليه‌السلام» ، وقد أذاقهم سيفه الويلات ، وحلت بهم منه الكوارث والنكبات. وهو أيضا يعطي المسلمين المزيد من القوة والاندفاع ، والثقة بالنصر ..

التشكيك في قيادة علي عليه‌السلام :

وقد حاول بعضهم التشكيك بجعل علي «عليه‌السلام» على مقدمة الجيش.

١٤٣

فقد قال الديار بكري : «واستعمل على مقدمة الجيش عكاشة بن محصن الأسدي ، وعلى الميمنة عمر بن الخطاب ، وعلى الميسرة واحدا من أصحابه ، وفي بعض الكتب علي بن أبي طالب.

وهذا غير صحيح : لأن الروايات الصحيحة تدل على : أن عليا في أوائل الحال لم يكن في العسكر. وكان به رمد شديد. ولما لحق بالعسكر ، أعطاه الراية ، وأمّره على الجيش ، ووقع الفتح على يده كما سيجيء» انتهى (١).

ونقول :

إن لنا على ما ذكره بعض المؤاخذات :

فأولا : إن دعواه : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد جعل عمر بن الخطاب على الميمنة غريبة حقا ، فإننا لم نعهد في هذا الرجل طيلة حياته مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أية مواقف شجاعة ، تؤهله لهذا المقام الخطير.

وقد كنا نتوقع : أن يذكروا هنا أشخاصا آخرين ممن لهم بهم هوى ، حتى لو كان سعد بن عبادة ، أو الحباب بن المنذر ، أو الزبير ، الذي شفعت له عندهم حرب الجمل التي قادها ضد علي «عليه‌السلام» ، أو محمد بن مسلمة ، لأننا نعلم : أن لهم عناية خاصة بأمثال هؤلاء ، وحرصا على تسطير الفضائل والكرامات لهم.

وأما أبو دجانة ، والمقداد ، ونظراؤهم من الذين كان لهم ميل إلى علي «عليه‌السلام» ، فلا نكاد نشعر بأن لهم نصيبا في شيء من ذلك ..

ولعلهم قد أبهموا اسم الذي كان على الميسرة لأنه كان في جملة هؤلاء

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٤٢.

١٤٤

الذين لا يحبون ذكرهم في أمثال هذه المواقف ، ولم يكن ثمة مجال لتبديله بغيره ، لشدة ظهور أمره للناس.

ثانيا : سيأتي إن شاء الله تعالى : أن عليا «عليه‌السلام» كان على رأس جيش رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من حين خروجه من المدينة ، وقد طال مقامه في خيبر عشرات الأيام ، وربما بلغ أشهرا ، فالرمد لم يصب عليا «عليه‌السلام» كل هذه المدة الطويلة ، بل أصابه قبل قتل مرحب بوقت يسير ، وإنما قتل مرحب في أواخر ، بل في آخر أيام خيبر ، وبعد حصار حصونهم المختلفة عشرات الأيام ..

بل لقد حوصر حصن القموص نفسه عشرين يوما كما سيأتي.

وسيأتي أيضا في الفصل الثالث في فقرة «الرايات بدأت في خيبر» : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قبل أن يبدأ القتال في حصن ناعم قد أعطى لواءه إلى علي «عليه‌السلام» .. وحصن ناعم هو أول حصون خيبر فتحا ..

علي عليه‌السلام يسمع الناس أقوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وقد لوحظ : أن عليا «عليه‌السلام» هو الذي تولى إسماع الناس ما تكلم به النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. وكأن هذا الأمر قد جاء وفق توجيه مسبق ينيط هذه المهمة بعلي «عليه‌السلام».

لأننا نعلم : أن عليا «عليه‌السلام» لا يمكن أن يقدم على أمر ، إذا لم يكن هناك توجيه من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وقد ثبت ذلك بصورة قاطعة في نفس غزوة خيبر ، حين قال له النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : اذهب ولا تلتفت ، فسار قليلا ، ثم قام ولم يلتفت ،

١٤٥

فقال «عليه‌السلام» : علام أقاتلهم ، كما سيأتي إن شاء الله ..

جبرئيل يحب عليا عليه‌السلام :

ثم يأتي إخباره «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن ضحك جبرئيل حين نادى «عليه‌السلام» في الناس بكلامه «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فإن ما يثير الانتباه هو : أن ذلك قد جاء توطئة للإعلان بحب جبرئيل «عليه‌السلام» ، وحب الله تعالى لأمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، وهو الحب الذي لم يوجب له «عليه‌السلام». أي نوع من أنواع الغرور غير المقبول ، بل هو قد بادر إلى هضم نفسه ، ولم يعطها مداها ، ولا أتاح الفرصة لأن يتوهم أي كان أن لها أي دور ، أو تأثير سلبي في أي شأن من شؤونه «عليه‌السلام» ..

مع أنه هو الذي سيفتح الله تعالى خيبر على يديه ، وسوف يتمنى المنهزمون الذين كانوا يجبّنون أصحابهم ، ويجبنهم أصحابهم : أن يعطيهم الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الراية ، التي لا نشك في أنهم لو حصلوا عليها ، فسوف يفرون بها من جديد ، مرة بعد أخرى ..

وقد جاء بيان ذلك كله .. في سياق إعطاء الأمان لمن دخل النخل ، ليكون ذلك بمثابة إعلان لهم : بأن هذا الذي سوف يقتل فرسانهم ، ويفتح حصونهم ، هو إنسان قريب من الله سبحانه وهو له حبيب .. وليس مجرد فارس شجاع ، وبطل فاتك ، لا يبالي بإزهاق الأرواح ، ولا يهدف في حروبه تلك إلى أن يفرض إرادته على الآخرين بالجبروت وبالقهر ، وقوة السلاح ..

١٤٦

الفصل الثالث :

فتح حصن ناعم

١٤٧
١٤٨

حصار حصن ناعم :

قال ابن إسحاق ، ومحمد بن عمر ، وابن سعد : وفرق رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الرايات ، ولم تكن الرايات إلا يوم خيبر ، وإنما كانت الألوية (١).

وكانت راية رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سوداء من برد لعائشة ، تدعى العقاب ، ولواؤه أبيض ، دفعه إلى علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» ، ودفع راية إلى الحباب بن المنذر ، وراية إلى سعد بن عبادة.

وكان شعارهم : «يا منصور أمت» (٢).

وأضاف الحلبي : راية إلى أبي بكر ، وراية إلى عمر (٣).

ثم صف رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أصحابه ، ووعظهم ، ونهاهم

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٢٠ وأخرجه البيهقي في الدلائل ج ٤ ص ٤٨ وذكره ابن حجر في المطالب العالية (٤٢٠٢) والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٥ والإمتاع ص ٣١٣ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٤٩.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٢٠ وفي الهامش قال : أخرجه البيهقي في الدلائل ج ٤ ص ٤٨ وذكره ابن حجر في المطالب العالية (٤٢٠٢) والواقدي في المغازي ج ٢ ص ٦٤٩ وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٥ والإمتاع ص ٣١١ و ٣١٣.

(٣) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٥.

١٤٩

عن القتال حتى يأذن لهم ، فعمد رجل من أشجع ، فحمل على يهودي فقتله ، فقال الناس : استشهد فلان.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «أبعد ما نهيت عن القتال»؟.

قالوا : نعم.

فأمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مناديا فنادى في الناس : «لا تحل الجنة لعاص».

وروى الطبراني في الصغير ، عن جابر : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال يوم خيبر : «لا تتمنوا لقاء العدو ، واسألوا الله تعالى العافية ، فإنكم لا تدرون ما تبتلون به منهم ، فإذا لقيتموهم فقولوا : اللهم أنت ربنا وربهم ، ونواصينا ونواصيهم بيدك ، وإنما تقتلهم أنت.

ثم الزموا الأرض جلوسا ، فإذا غشوكم فانهضوا ، وكبروا» وذكر الحديث (١).

وقالوا : إن مرحبا هو الذي قتل ذلك الرجل الأشجعي (٢).

وأذن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في القتال ، وحثهم على الصبر ،

__________________

(١) المستدرك للحاكم ج ٣ ص ٣٨ ومجمع الزوائد ج ٥ ص ٣٢٨ وج ٦ ص ١٥١ والمعجم الصغير للطبراني ج ٢ ص ١١ وعيون الأثر ج ٢ ص ١٣٦ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٢٠ وفي هامشه عن : مسلم في الجهاد باب ٦ رقم (٢٠) ، ونحوه عند البخاري في الصحيح حديث (٧٢٣٧) وسنن الدارمي ج ٢ ص ٢١٦ والمصنف لعبد الرزاق (٩٥١٣) (٩٥١٨) وسنن أبي داود في الجهاد باب ٩٧ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٤ وراجع : الإمتاع ص ٣١٢.

(٢) الإمتاع ص ٣١٢ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٤٩.

١٥٠

وأول حصن حاصره حصن ناعم ، وقاتل «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يومه ذاك أشد القتال ، وقاتله أهل النطاة أشد القتال ، وترس جماعة من أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عليه يومئذ ، وعليه ـ كما قال محمد بن عمر ـ درعان ، وبيضة ، ومغفر ، وهو على فرس يقال له : الظرب ، وفي يده قناة وترس (١).

وتقدم في حديث أنس : أنه كان على حمار ، فيحتمل أنه كان عليه في الطريق ، ثم ركب الفرس حال القتال. والله أعلم.

وجعلت نبل يهود تخالط العسكر وتجاوزه ، والمسلمون يلتقطون نبلهم ثم يردونها عليهم. فلما أمسى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تحول إلى الرجيع ، وأمر الناس فتحولوا ، فكان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يغدو بالمسلمين على راياتهم حتى فتح الله الحصن عليهم.

وروى البيهقي من طريق عاصم الأحول ، عن أبي عثمان الفهري ، وعن أبي قلابة.

وأبو نعيم ، والبيهقي ، عن عبد الرحمن بن المرقع.

ومحمد بن عمر ، عن شيوخه : أن المسلمين لما قدموا خيبر كان التمر أخضر ، وهي وبيئة وخيمة ، فأكلوا من تلك الثمرة. فأهمدتهم الحمى ، فشكوا إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : «قرسوا الماء في الشنان ـ أي القرب ـ فإذا كان بين الأذانين ـ أي أذاني الفجر ـ فاحدروا الماء عليكم

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٣ ص ١٢٠ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٤ والإمتاع ص ٣١٣ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٤٤ وراجع : الغدير للشيخ الأميني ج ٧ ص ٢٠٤.

١٥١

حدرا ، واذكروا اسم الله تعالى».

ففعلوا ، فكأنما نشطوا من العقل (١).

ونقول :

على فرس ، أو على حمار؟!

قد ذكر آنفا : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان على فرس اسمه «الظرب» وهذا لا ينافي أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان في خيبر على حمار ، مخطوم برسن من ليف ..

فلعل ركوبه الحمار كان في مسيره إلى خيبر ، وفي غير ساحة القتال ..

بل لقد صرحت رواية ركوبه الحمار : بأن ذلك كان وهو متوجه إلى خيبر ، فراجع (٢).

وقد تقدم بعض الحديث عن ذلك فلا نعيد ..

قتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في خيبر :

وجاء في الروايات الآنفة الذكر : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قاتل يومه ذاك أشد القتال.

مع أنهم يقولون : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يباشر القتال بنفسه إلا في واقعة أحد.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٢٠ و ١٢١ وفي هامشه عن : ابن أبي شيبة ج ٧ ص ٤٥٤ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٥٣ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٤٤.

(٢) راجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٤.

١٥٢

يضاف إلى ذلك : أنه لو كان قد باشر القتال بنفسه لكان قد قتل أو جرح أحدا من المشركين ، ولكن أحدا لم يذكر ذلك ، مع أن هذا الأمر مما تتوفر الدواعي على نقله.

وقد يجاب عن ذلك : بأن المراد : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قاتل بجيشه أشد قتال (١).

ويجاب أيضا : بأنه ليس بالضرورة أن يكون ما ذكروه من أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يقتل أحدا في غير غزاة أحد صحيحا ، فإنهم ذكروا هنا أيضا ـ كما سيأتي ـ : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رمى بسهم فما أخطأ رجلا منهم (٢).

الرايات بدأت في خيبر :

ثم إنهم قد ادّعوا : أن راية رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تسمى العقاب ، وأن الرايات بدأت من خيبر ، وأن اللواء غير الراية ، وأن لواء رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان أبيضا ، وهو الذي أعطاه لعلي «عليه‌السلام» في خيبر ..

ونقول :

أولا : ذكروا : أن اللواء الذي دفعه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى علي «عليه‌السلام» يوم خيبر ـ وكان أبيضا ـ كان يقال له : العقاب أيضا (٣).

ألا يفيد ذلك : أن اللواء هو نفس الراية؟!

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٤.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٢٢.

(٣) راجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٦ عن سيرة الدمياطي.

١٥٣

ثانيا : قد صرحت الروايات : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أعطى اللواء لعلي في قضية قتل مرحب ، وفتح خيبر ..

مع أن عبارة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» التي تناقلتها الروايات الكثيرة هي : «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله الخ ..».

كما أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قال لعلي «عليه‌السلام» : خذ هذه الراية وتقدم (١).

إلا أن يجاب عن هذا الأمر الأخير : بأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أعطاه الراية واللواء معا ..

ثالثا : لقد صرحت الروايات التي ذكرناها في أوائل غزوة أحد : بأن لواء رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (أو رايته) ـ فقد عبرت الروايات بهذا تارة وبذاك أخرى ـ كانت مع علي «عليه‌السلام» في جميع المشاهد.

فلا معنى للتفريق بين اللواء والراية ، ثم توزيع هذه أو تلك على هذا الرجل أو ذاك ، وفقا لبعض الإعتبارات التي يراد التسويق لها.

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٦ وكشف الغطاء ج ١ ص ١٥ وشرح الأخبار للقاضي النعمان ج ١ ص ٣٠٢ والعمدة لابن البطريق ص ١٥٣ والطرائف لابن طاووس ص ٥٧ والصوارم المهرقة للتستري ص ٣٥ والبحار ج ٣٩ ص ٩٠ وبغية الباحث ص ٢١٨ والمعجم الكبير للطبراني ج ٧ ص ٣٥ والثقات لابن حبان ج ٢ ص ١٣ والكامل لابن عدي ج ٢ ص ٦١ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٢ ص ٨٩ والبداية والنهاية ج ٧ ص ٣٧٣ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٧٩٨.

١٥٤

الزموا الأرض جلوسا :

وحول أمر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لهم بلزوم الأرض ، ثم النهوض ، والتكبير ..

نقول :

ألف : إن جلوسهم في البداية ربما يثير رغبة العدو في اغتنام الفرصة والهجوم عليهم ، لأن حالة الجلوس قد تجعل هذا العدو يشعر بأن له هيمنة على الموقف ، وأن الذين هم أمامه أقل حجما وأضعف قدرة منه ، فإذا بادر إلى الهجوم عليهم ، وفوجئ بقيامهم ، فإن انقلاب الصورة بسرعة سوف يحدث إرباكا لدى هذا العدو المهاجم من حيث إيجاب ذلك تبدلا سريعا في مشاعره وارتجاجات قد تعيق ـ ولو للحظات ـ سيطرته على الموقف ، واتخاذ القرارات المناسبة للحظة المناسبة في هذا الوضع المستجد ..

فإذا صاحب ذلك تكبير هؤلاء الناهضين ، فإن ذلك سيزيد من تزاحم الصور ، واختلاطها ، وسوف تظهر علامات الفوضى والإرباك ، وفقدان القدرة على التمييز بين ما هو حسي وبين ما هو ذهني ، مما له اتصال بالفكر والمشاعر ، والتصورات العقيدية ، بالإضافة إلى حالات من الهواجس المبهمة التي توقظ مشاعر الخوف على النفس ، وتستدعي استحضار ما يفيد في حفظها ، ودفع الأخطار التي تتزاحم احتمالاتها في مخيلتهم ..

نداء لا تحل الجنة لعاص :

وقد تقدم أيضا : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان قبل ذلك أمر بلالا فنادى : لا تحل الجنة لعاص ، وذلك حين خرج رجل على جمل صعب ،

١٥٥

فصرعه فمات.

وها هم يقولون هنا : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أمر مناديا لينادي بنفس النداء ، وفي نفس غزوة خيبر أيضا ، وذلك في شأن رجل من أشجع ، حمل على يهودي فقتله اليهودي!!

فهل جرى هذا النداء مرتين؟!

ألم يكن المفروض : أن يتعلم الناس من النداء الأول ، فلا يقدم أحد منهم على معصية رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟! ..

وربما يجاب عن هذا السؤال بالإيجاب ، فيقال :

إن النداء في المرة الأولى لا يكفي للردع عن المخالفة في المرة الثانية ؛ لأن النداء في المرة الأولى قد يفهم أنه نداء على أمر يعتقدون أن المخالفة فيه لا تشكل خطرا كبيرا ، لأنها تكون في أمر هو أقرب إلى الأمور الشخصية التي تعني ذلك الراكب نفسه.

وينظر الناس إلى الأوامر والنواهي في مثله على أنها مجرد إرشادات ونصائح لا تشدّد فيها. بخلاف موضوع إشعال نار الحرب بين الجيشين ، بالمبادرة إلى البراز ، فإن اتخاذ قرار القتال بصورة منفردة وشخصية ، ومن دون مراجعة القيادة لا يمكن قبوله من أحد ، لأنه قد يورط القيادة ويسوق الأمور إلى خلاف ما ترمي إليه ، وقد يفسد عليها خططها ، ويبطل تدبيرها ..

إذن .. فقد لا يكون النداء الأول كافيا لردع الناس عن المخالفة الأقوى والأشد ..

ونقول :

إنه إذا ثبت أن المخالفة في ذلك الأمر العادي محرمة ، وأنها توجب

١٥٦

تحريم الجنة على العاصي ، فإن ثبوت هذا التحريم للجنة في الأمر الثاني ، يصبح أمرا بديهيا ، ولا يصح ارتكابه من أحد ..

فإذا حصل ذلك ، فإن النداء بتحريم الجنة على مرتكبه يكون أشد ضرورة ، وأكثر إلحاحا. ولا سيما إذا كان من يبادر إلى القتال ، قد ساقه إلى ذلك حبه للشهادة ، وشدة شوقه إلى الله وحنقه على أعدائه تبارك وتعالى.

الإنضباط ضرورة لا تقبل الجدل :

وعلى كل حال : فإن هذا الأمر إذا كان قد حصل من ذلك الرجل فعلا ، فإنه يكون عملا بالغ الخطورة ، من حيث إنه يصادر قرارات القيادة ، ويمهد لاستلاب زمام الأمور من يدها ، وإضعاف هيمنتها ، وإسقاط هيبتها ، وقد يسعى الأعداء للتأثير على قراراتها بمثل هذه الأساليب بالاستفادة من عناصر مدسوسة ، ووفق خطط مدروسة.

هذا عدا عن أن ذلك سوف يجعل القيادة تضيع في متاهات أهواء الناس ، واختلاف أذواقهم ومشاربهم ، فلا تعرف كيف تخطط ، ولا ماذا تقرر ، ولا كيف تفكر ..

من أجل ذلك : فإن للانضباط الدور العظيم في إنجاح أية قضية ، ولا بد أن تكون عقوبة من يخل بهذا الأمر كبيرة بحجم الفساد الذي تحدثه مخالفته ، ويفرضه إخلاله ..

تمني لقاء العدو :

وإذا ألقينا نظرة على الدعاء الذي طلب «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من أصحابه أن يدعوا به ربهم عند لقاء العدو ، فسوف تظهر لنا أمور كثيرة ،

١٥٧

نذكر منها ما يلي :

ألف : إن تمني لقاء العدو ، وإهمال التفكير في تلافي الحرب بوسائل الإقناع أو نحوها معناه : ترجيح خيار سفك دماء الناس المعارضين والتخلص منهم بأسلوب القتل والتدمير ، على خيار السلم ، والوئام ، وعلى بذل الجهد في محاولات إقناع حثيثة ومتعاقبة ، يمكن أن تكون ذات أثر في حسم الأمور.

مع أن ما يسعى إليه الإسلام هو الاستصلاح للناس ، وليس الاستئصال لهم ، إلا إذا فقدت جميع فرص الإصلاح ، وأصبح وجودهم مضرا بالإنسان والإنسانية.

ب : إن الاستهتار بقدرات العدو يجر إلى كوارث ونكبات ربما لم يحسب لها حساب.

وهذا نوع من السذاجة الاختيارية ، التي تصل إلى حد التفريط والتقصير غير المقبول .. حيث يؤدي إلى إهمال كثير من الإجراءات الاحتياطية ، التي من شأنها أن تبعد شبح كثير من الضربات القوية التي ربما يكون العدو قد أعدّ لها.

ج : إن تمني لقاء العدو يجسد شعورا بالقوة الذاتية ، وربما اغترارا بالقدرة على التصرف ، وعلى التأثير المستقل .. فكان لا بد من تصحيح هذه النظرة بالاستناد إلى أساس عقائدي متين. يستند إلى الاعتراف : بأن الله تعالى هو المتصرف بهم ، لأنه الرب والإله .. وذلك بالتصريح أو التلويح بأمرين :

أحدهما : أن ربوبيته تعالى للجميع تشير إلى : أن حق التصرف منحصر به سبحانه .. وأن ما يفعله الناس إنما هو بإذن منه تعالى ، من خلال إجراء

١٥٨

سنة إلهية جعلت من إرادة البشر حلقة في سلسلة العلل ، ومن موجبات الفيض الإلهي للوجود على بعض الأشياء.

الثاني : أن ذلك التصرف يرتكز إلى حقيقة : أن نواصي كلا الفريقين بيده تعالى ، فهو المالك الحقيقي ، والمهيمن على الجميع من موقع القدرة ، والقاهرية ؛ لأنه رب الجميع.

يسلم الراعي وتعود الغنم :

روى البيهقي ، عن جابر بن عبد الله ، والبيهقي عن أنس ، والبيهقي عن عروة ، وعن موسى بن عقبة : أن عبدا حبشيا لرجل من أهل خيبر ، كان يرعى غنما لهم ، لما رآهم قد أخذوا السلاح ، واستعدوا لقتال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سألهم : ما تريدون؟

قالوا : نقاتل هذا الرجل ، الذي يزعم أنه نبي.

فوقع في نفسه ذكر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فخرج بغنمه ليرعاها ، فأخذه المسلمون ، فجاؤوا به لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وفي لفظ ابن عقبة : أنه عمد بغنمه إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فكلمه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ما شاء الله أن يكلمه.

فقال الرجل : ماذا تقول ، وماذا تدعو إليه؟

قال : «أدعوك إلى الإسلام ، وأن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، وأن لا تعبد إلا الله».

قال العبد : وماذا يكون لي إن شهدت بذلك ، وآمنت بالله تعالى؟

قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «لك الجنة إن آمنت على ذلك».

١٥٩

فأسلم العبد ، وقال : يا رسول الله ، إني رجل أسود اللون ، قبيح الوجه ، منتن الريح ، لا مال لي ، فإن قاتلت هؤلاء حتى أقتل ، أدخل الجنة؟

قال : «نعم».

قال : يا رسول الله ، إن هذه الغنم عندي أمانة ، فكيف بها؟

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «أخرجها من العسكر ، وارمها بالحصباء ، فإن الله عزوجل سيؤدي عنك أمانتك».

ففعل ، وأعجب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كلمته ، فخرجت الغنم تشتد مجتمعة ، كأن سائقا يسوقها حتى دخلت كل شاة إلى أهلها ، فعرف اليهودي : أن غلامه قد أسلم.

ثم تقدم العبد الأسود إلى الصف ، فقاتل ، فأصابه سهم فقتله ، ولم يصل لله تعالى سجدة قط ، فاحتمله المسلمون إلى عسكرهم ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «أدخلوه الفسطاط» ، وفي لفظ : «الخباء».

فأدخلوه خباء رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حتى إذا فرغ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دخل عليه ، ثم خرج فقال : «لقد حسن إسلام صاحبكم ، لقد دخلت عليه ، وإن عنده لزوجتين له من الحور العين» (١).

وفي حديث أنس : فأتى عليه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٢٩ وفي هامشه عن : البيهقي في الدلائل ج ٤ ص ٢٢ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٢ ص ٣٤٤ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٩٠ وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٩ والإمتاع ص ٣١٣ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٤٩ و ٦٥٠ والمستدرك للحاكم ج ٢ ص ١٣٦ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ١٤٣ ودلائل النبوة ص ١٨٨ وكنز العمال ج ١٦ ص ٧٤٣.

١٦٠