الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٧

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٧

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-189-0
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٣

قد يكون هذا الاحتمال الأخير قريبا ، ثم الاحتمال الأول. والله هو العالم ..

إنحسار الإزار عن فخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وأما قولهم : جرى رسول الله في زقاق خيبر حتى انحسر الإزار عن

__________________

ص ٢٢٤٧ ومسند الشافعي ص ٣١٨ ومسند أحمد ج ٣ ص ١٠٢ وج ٣ ص ١١١ و ١٦٤ و ١٨٦ و ٢٠٦ و ٢٤٦ و ٢٦٣ و ٢٧٠ وج ٤ ص ٢٨ و ٢٩ وعن صحيح البخاري ج ١ ص ٩٨ و ١٥٢ و ٢٢٨ وج ٤ ص ٥ و ١٦ و ١٨٨ وج ٥ ص ٧٣ وعن صحيح مسلم ج ٤ ص ١٤٥ و ١٤٧ وج ٥ ص ١٨٥ والجامع الصحيح للترمذي ج ٣ ص ٥٤ وسنن النسائي ج ١ ص ٢٧٢ وج ٦ ص ١٣٢ وج ٧ ص ٢٠٤ والمستدرك للحاكم ج ١ ص ٤٦٠ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٢ ص ٢٣٠ وج ٩ ص ٥٥ و ٨٠ و ١٥٣ وشرح مسلم للنووي ج ١٢ ص ١٦٤ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١٤٩ وعن فتح الباري ج ٧ ص ٣٥٩ وشرح سنن النسائي للسيوطي ج ٦ ص ١٣٢ ومسند أبي داود ص ٢٨٣ ومسند الحميدي ج ٢ ص ٥٠٤ وبغية الباحث ص ٢٦١ وكتاب السنة ص ٥٩٤ والسنن الكبرى للنسائي ج ١ ص ٤٧٨ وج ٣ ص ١٦١ و ٣٣٥ وج ٥ ص ١٧٧ و ١٧٨ و ٢٠٠ وج ٦ ص ٤٤١ ومسند أبي يعلى ج ٥ ص ٢٨٦ و ٣٨٤ وج ٦ ص ٤٣١ وج ٧ ص ٣٠ وشرح معاني الآثار ج ٣ ص ٢٠٨ وصحيح ابن حبان ج ١١ ص ٥٠ وج ١٤ ص ٤٥٢ وج ١٦ ص ١٩٥ والمعجم الصغير للطبراني ج ١ ص ١٩٦ والمعجم الأوسط للطبراني ج ٣ ص ٩٥ وج ٤ ص ١٤٢ وج ٨ ص ٣٥٨ والمعجم الكبير للطبراني ج ٥ ص ٩٧ ومسند الشاميين ج ٤ ص ٢٢ ودلائل النبوة للإصبهاني ص ١١٢ والأذكار النووية للنووي ص ٢٠٩ ونصب الراية للزيلعي ج ٦ ص ١٣٥ وكنز العمال ج ١٠ ص ٣٨٥ وص ٤٦٥ وغير ذلك كثير.

١٢١

فخذه ، فنلاحظ عليه :

أولا : هل يراد الإيحاء : بأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يكن متحفظا في لباسه وستره بالمقدار الكافي؟!

وأين هو وقاره ، وسكينته «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟! فلماذا لا يحتفظ بهما في مثل هذه الحالات التي لا توجب عجلة ، إذ ليس هناك أمر يخاف فوته ، ولا يوجد عدو تخشى مباغتته؟!

ثانيا : أليس يقولون : إن الفخذ من العورة ، التي ينزه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من الغفلة عن التحفظ عليها ، أو التهاون في سترها؟ أو أن يعجله أمر عن ذلك؟!

وقد قدمنا في جزء سابق من هذا الكتاب (١) ما روي عنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أنه أمر رجلا بستر فخذه ؛ فإنها من العورة (٢).

وهناك نصوص كثيرة ، تدل : على أن ما بين السرة والركبة عورة ،

__________________

(١) راجع : الصحيح من السيرة ج ٢ ص ١٧٥ و ١٧٦.

(٢) مسند أحمد ج ٥ ص ٢٩٠ وج ١ ص ٢٧٥ وصحيح البخاري ج ١ ص ٥١ وسنن البيهقي ج ٢ ص ٢٢٨ والإصابة ج ٣ ص ٤٤٨ وفتح الباري ج ١ ص ٤٠٣ ونيل الأوطار ج ٢ ص ٥٠ ومستدرك الحاكم ج ٤ ص ١٨٠ و ١٨١ ومجمع الزوائد ج ٢ ص ٥٢ عن أحمد ، والطبراني في الكبير ، والغدير ج ٩ ص ٢٨٢ فما بعدها ، عن من تقدم ، وعن إرشاد الساري ، وابن حبان في صحيحه ، وليراجع : موطأ مالك ، والترمذي ، وأبو داود ، ومشكل الآثار ج ٢ ص ٢٨٤ و ٢٨٥ و ٢٨٦ وحتى ص ٢٩٣. والمصنف ج ١١ ص ٢٧ وتأويل مختلف الحديث ص ٣٢٣ و ٣٢٤.

١٢٢

فراجع (١).

هناك نصوص تدل على حياء أبي موسى الأشعري وأبي بكر ، والخدري ، لا مجال لإيرادها فعلا (٢). فيمكن الرجوع إليها في مظانها.

وقال العلامة الأميني : «هب أن النهي عن كشف الأفخاذ تنزيهي ، إلا أنه لا شك في أن سترها أدب من آداب الشريعة ، ومن لوازم الوقار ، ومقارنات الأبهة ، ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أولى برعاية هذا الأدب ، الذي صدع به هو الخ ..» (٣).

هذا ، ولا بأس بالمقارنة بين ما يذكر هنا عن نبينا الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وبين ما يذكر عن حياء عثمان ، حتى إن أبا بكر ، وعمر ليدخلان على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وفخذه مكشوفة ، فلا يسترها ، حتى إذا دخل عليه عثمان جلس ، وستر فخذه ، وسوى عليه ثيابه ؛ فتسأله عائشة عن ذلك.

فيجيبها : بأنه ألا يستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟! أو ما هو

__________________

(١) راجع : الغدير ج ٩ ص ٢٨٥ و ٢٨٤ و ٢٨٨ و ٢٩٠ و ٢٩١ و ٢٩٢. والمعجم الصغير ج ٢ ص ٩٦. وحياة الصحابة ج ٢ ص ٦١٢ و ٦١٣ تجد كثيرا من أقوال العلماء والنصوص حول ذلك.

(٢) راجع : طبقات ابن سعد ج ٤ ص ١١٣ و ١١٤ والزهد والرقائق ص ١٠٧ وربيع الأبرار ج ١ ص ٧٦٠ وحياة الصحابة ج ٣ ص ٤٨٢ عن كنز العمال ج ٨ ص ٣٠٦ وج ٥ ص ١٢٤ وعن حلية الأولياء ج ١ ص ٣٤ والغدير ج ٧ ص ٢٤٨ وج ٩ ص ٢٨١.

(٣) الغدير ج ٩ ص ٢٨٥.

١٢٣

قريب من هذا (١).

يضاف إلى ذلك : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نفسه يأمر بالحياء ويؤكد ويحث عليه باستمرار ، فيقول : إذا لم تستح ، فاصنع ما شئت (٢).

__________________

(١) مجمع الزوائد ج ٩ ص ٨٢ والبداية والنهاية ج ٧ ص ٢٠٢ عن الطبراني في الكبير ، والأوسط ، ومسند أحمد ، وأبي يعلى ، وتاريخ جرجان ص ٤١٦ ، والمصنف للصنعاني ج ١١ ص ٢٣٢ و ٢٣٣ والمحاسن والمساوئ ج ١ ص ٦١ وحياة الصحابة ج ٢ ص ٦١١ و ٦١٢ عن الأولين ، ومشكل الآثار ج ٢ ص ٢٨٣ و ٢٨٤ ومسند أحمد ج ١ ص ٧١ وج ٦ ص ٦٢ و ١٥٥ و ١٦٧ وصحيح مسلم ج ٧ ص ١١٦ و ١٧٧ والغدير ج ٩ ص ٢٧٤ و ٢٧٥ و ٢٨٧ وص ٢٩٠ عن الأخيرين ، وعن : مصابيح السنة ج ٢ ص ٢٧٣ والرياض النضرة ج ٢ ص ٨٨ وراجع : تأويل مختلف الحديث ص ٣٢٣ والتراتيب الإدارية ج ٢ ص ٣٨٣ و ٣٨٤ وفيه أحاديث أخرى عن حياء الملائكة من عثمان ، ومسند أبي يعلى ج ٧ ص ٤١٥.

(٢) راجع : كنز العمال ج ٣ ص ١٢٢ ومسند أحمد ج ٤ ص ١٢١ وج ٥ ص ٢٧٣ وعن صحيح البخاري ج ٥ ص ١٠٠ وتحفة الأحوذي ج ٢ ص ٧٤ ومسند ابن الجعد ص ١٣٠ والمعجم الكبير ج ١٧ ص ٢٣٦ و ٢٣٧ و ٢٣٨ ومسند الشهاب ج ٢ ص ١٨٦ والأذكار النووية ص ٤١٠ ورياض الصالحين للنووي ص ٧١٣ والجامع الصغير للسيوطي ج ١ ص ٦ و ٣٨٢ وعن فتح الباري ج ١٠ ص ٤٣٤ والغدير ج ٩ ص ٢٧٥ ومستدرك الوسائل ج ٨ ص ٤٦٦ والشرح الكبير لابن قدامة ج ١٢ ص ٤٣ وسبل السلام لابن حجر ج ٤ ص ٢٠٦ والمغني لابن قدامة ج ١٢ ص ٣٣ وتنوير الحوالك ص ١٦٧ وإعانة الطالبين ج ٤ ص ٣١٨ والإقناع للحجاوي ج ٢ ص ٢٨٠ ومغني المحتاج ج ٤ ص ٤٢٧ وميزان الحكمة ج ١

١٢٤

ويقول : الحياء من الإيمان ، والإيمان في الجنة (١).

__________________

ص ٧١٨ وفيض القدير ج ٢ ص ٦٨٥ وكشف الخفاء ج ١ ص ١٤ و ٩٨ وتفسير مجمع البيان ج ٨ ص ٣٨٨ والمحصول للرازي ج ٢ ص ٣٤ والكامل ج ٦ ص ٨٢ وطبقات المحدثين بإصبهان ج ٣ ص ٥٦٠ وتاريخ بغداد ج ٣ ص ٣١٥ وج ١٠ ص ٣٠٣ و ٣٥٤ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٥ ص ٣٨٨ وج ٣٦ ص ١٨٣ وج ٥٣ ص ١٢٠ وأسد الغابة ج ٢ ص ٢٢٧ وتهذيب الكمال ج ١٦ ص ١٢٤ والأنساب للسمعاني ج ٤ ص ١٥٤ والبداية والنهاية ج ٢ ص ١٦٩ وج ١٢ ص ٦٨ و ١٥٨.

(١) راجع : الكافي ج ١ ص ٧ وج ٢ ص ١٠٦ وتحف العقول ص ٣٩٤ وشرح أصول الكافي ج ٨ ص ٣٠١ والوسائل (ط دار الإسلامية) ج ١١ ص ٣٣٠ ومستدرك الوسائل ج ٨ ص ٤٦١ و ٤٦٣ وج ١٢ ص ٨١ وكتاب الزهد للكوفي ص ٦ والمسترشد للطبري ص ١٦ ودلائل الإمامة ص ٦٦ ومشكاة الأنوار للطبرسي ص ٤١١ والبحار ج ١ ص ١٤٩ وج ٦٨ ص ٣٢٩ وج ٧٥ ص ٣٠٩ وج ٧٦ ص ١١٢ والغدير ج ٩ ص ٢٧٥ ومستدرك سفينة البحار ج ١ ص ٣١٠ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٥٧٦ و ٥٧٧ وميزان الحكمة ج ١ ص ٧١٧ ومسند أحمد ج ٢ ص ٥٠١ وسنن ابن ماجة ج ٢ ص ١٤٠٠ وسنن الترمذي ج ٣ ص ٢٤٧ والمستدرك للحاكم ج ١ ص ٥٢ و ٥٣ ومجمع الزوائد ج ١ ص ٩١ وج ٨ ص ٢٦ و ١٦٩ وعن فتح الباري ج ١٠ ص ٤٣٣ ومسند ابن الجعد ص ٤٢١ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٦ ص ٩٢ وج ٧ ص ٢٢٢ والأدب المفرد للبخاري ص ٢٧٨ ومكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا ص ٣٥ وأمالي المحاملي ص ١٠٤ وصحيح ابن حبان ج ٢ ص ٣٧٣ و ٣٧٤ والمعجم الصغير ج ٢ ص ١١٥ والمعجم الأوسط ج ٥ ص ١٩٣ والمعجم الكبير ج ١٠ ص ١٩٦ وج ١٨ ص ١٧٨ وج ٢٢ ص ٤١٤ وموارد الظمآن ص ٤٧٦ والجامع الصغير ج ١

١٢٥

إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة المروية عنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولا مجال لتتبعها.

لا يظن اليهود : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله يغزوهم :

وقد ذكرت الرواية المتقدمة : أن اليهود كانوا لا يظنون قبل ذلك : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يغزوهم لمنعتهم وسلاحهم ، وعددهم.

ونقول :

١ ـ إن هؤلاء كانوا مغرورين بأنفسهم بدرجة كبيرة ، فهم يرون أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد خاض حروبا صعبة وهائلة ، ومنّ الله عليه بالنصر فيها ، وهو قد ألجأ قريشا ، التي لا يشك أحد في زيادة عددها أضعافا على العدد الذي عنده ، ولا يماري أحد في سيادتها ونفوذها في الحجاز كله ـ ألجأها ـ إلى طلب الصلح. وفرض عليها شروطه القوية ، رغم أن عدد الذين كانوا معه في جميع تلك المشاهد لا يقاس بعدد جيوش أعدائه. إضافة إلى ضعف ظاهر في التجهيز في السلاح ، وفي كثير من الامتيازات الحربية الأخرى.

__________________

ص ٥٩٦ وج ٢ ص ٢٥ والعهود المحمدية للشعراني ص ٤٥٩ وكنز العمال ج ٣ ص ٥٣ و ١٢٠ وج ١٥ ص ٨٧٧ وفيض القدير ج ٣ ص ٥٦٨ وج ٤ ص ٧٥ وتفسير الثعالبي ج ٤ ص ٢٦٩ وتاريخ بغداد ج ٦ ص ١٨٩ وتاريخ مدينة دمشق ج ١٤ ص ٥٥ وميزان الإعتدال ج ١ ص ١١٠ والكشف الحثيث لسبط ابن العجمي ص ٤٨ ولسان الميزان ج ١ ص ١٩٨ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٩٣ وبيت الأحزان للقمي ص ٤٦ ولسان العرب ج ١٤ ص ١٤٨.

١٢٦

ثم إنهم قد رأوا : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يكاتب ملوك الأرض ، ويدعوهم إلى دينه. وإلى الاعتراف بنبوته ..

فكيف مع هذا كله لم يكن اليهود يظنون أنه يغزوهم؟!

ومتى ظهر لهم : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد خاف من كثرة السلاح ، أو أرهبته منعة الحصون ، أو ثنى عزيمته كثرة عدد أعدائه؟!

٢ ـ إذا كانوا لا يظنون أنه يغزوهم لمنعتهم و .. فلماذا أرسلوا وفدهم إلى قبيلة غطفان لطلب العون ، وجعلوا لتلك القبيلة شطر ثمار خيبر ، إذا انتصروا على المسلمين؟! ..

ومع كل ذلك نؤكد على :

أنهم ربما كانوا يظهرون للناس هذا الأمر تجلدا منهم ، ومكرا ودهاء ، يخفي وراءه رعبا قاتلا ، وخوفا مخزيا ، دفعهم إلى الاتصال بتلك القبيلة ، وعرض ثمرة ديارهم عليهم ، ليفوزوا بنصرهم ..

ولكن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد عرض ثمرة بلاد عدوه ، مقابل وقوف تلك القبيلة على الحياد ، وشتان ما بينهما ..

الأذان علامة الإسلام :

وقد تقدم : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان ينتظر أذان الصبح ، فإن سمع الأذان امتنع عن الهجوم.

ولعل السبب في ذلك : أن قرار الحرب والسلم قد يتخذه زعماء تلك الجماعة ، لأطماع ، معينة ، أو لثارات شخصية ، أو أهداف شخصانية ، ترمي إلى بسط الزعامة والنفوذ لبعض الطامحين ، وقد تكون لأسباب اقتصادية أو

١٢٧

غيرها .. مع عدم رضا المرؤوسين بتلك الحرب ، أو مع عدم وجود مبرر لها في حياتهم .. فيسوق زعيم القبيلة مع حفنة من أعوانه قبيلته إلى حرب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في حين يكون عامة الناس في تلك القبيلة ، والجماعة غير راضين بخوض تلك الحرب.

فكان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يراقب حاله الناس ويميز بينهم ، فإن رأى فيهم أية أمارة تدل على استحقاق الرفق بهم ، أو تدل على إسلامهم ـ كالأذان ـ كف عنهم ، وسعى في حل الإشكال مع الذين يسوقونهم إلى الحرب بطرق أخرى ، أو سعى إلى استهداف المجرمين منهم دون المستضعفين المقهورين. وهذا هو الغاية في الحكمة ومنتهى اللطف منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بمن يظهرون العداوة وينصبون الحرب له.

ومن جهة أخرى ، فقد ذكرت الروايات : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان لا يهاجم عدوه ليلا ، بل ينتظر فيه طلوع الفجر ، وفقا لما أشير إليه في قوله تعالى : (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) (١).

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) (٢).

وقوله : (فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) (٣).

وقوله : (.. إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) (٤).

__________________

(١) الآية ٣ من سورة العاديات.

(٢) الآية ٣٨ من سورة القمر.

(٣) الآية ١٧٧ من سورة الصافات.

(٤) الآية ٨١ من سورة هود.

١٢٨

وقوله : (أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) (١).

وقوله : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ) (٢) وغير ذلك ..

وذلك كله يدل : على أن الهجوم على العدو صباحا ـ كما كان يفعل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وكذلك علي «عليه‌السلام» من بعده ـ هو الراجح والأولى ، ولعل لهذا الأمر اعتبارات نفسية ، وعملية قد يحتاج التعرف عليها إلى مزيد من التأمل والتدقيق.

إستعراضات وانتفاخات كاذبة :

وإن ما كان يقوم به اليهود من الخروج في كل يوم ، وهم عشرة آلاف ، يصطفون ويقولون : محمد يغزونا؟ هيهات!! هيهات!! لا يحتاج إلى تعليق.

فقد أشرنا أكثر من مرة إلى أن الاغترار بالكثرة والاعتماد عليها .. دليل الفشل والسقوط ..

خصوصا إذا كان ذلك في حال الحرب ، وبالأخص إذا كان أولئك الناس من أهل الدنيا ، والغارقين بالحياة المادية إلى آذانهم ، لأن كلا منهم يريد أن يضحي بغيره من أجل نفسه ، فهو يتخذ من غيره مجنا ، وترسا يتخفّى وراءه باستمرار ، وهو يشعر : أن نفسه التي بين جنبيه هي المستهدفة بالقتل وبالقتال ..

ولذلك فهو يتخيل : أن الكثرة من شأنها تكديس الموانع والحواجز التي سوف يختبئ وراءها .. ويحتاج العدو إلى إزالتها والتخلص منها قبل أن يصل إليه ..

__________________

(١) الآية ٦٦ من سورة الحجر.

(٢) الآية ٨٣ من سورة الحجر.

١٢٩

مع أنه إذا جد الجد وحمي الوطيس سيرى : أن الكل يفكر بنفس الطريقة ، فإن كانوا عشرة آلاف ، فسيجد العشرة آلاف كلهم يفكرون بما يفكر به هذا وذاك ، أي أن كل واحد منهم يريد أن يجعل الآخر ترسا ومجنا لهم ، ليكون في قبال حراب العدو ، وسيوفه وسهامه ، التي سوف تأكل من لحمه ، وتهشم عظمه.

فإذا وصل به الخيال إلى هذا الحد ، فإنه سوف يسعى لإبعاد شبح الحرب عن مخيلته ، وسوف يتلذذ بالصور التي يخترعها لمبررات التخلص من عدوه.

ولعل ألذها وأغلاها على قلبه هي تلك الصور التي تزين له كيفية انصراف العدو عن الحرب ، ولسوف يندمج ويتفاعل مع هذه الصور ، حتى تصبح هي الحقيقة التي لا محيص منها عنده ، ولا بديل عنها لديه ..

ولذلك اعتقد اليهود : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سوف لا يأتي لحربهم ، لأنهم توهموا : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يفكر كما يفكرون ، ويخشى من الكثرات كما يخشون ..

وكانت تلك الاستعراضات والانتفاخات الكاذبة تجسد لهم أحلامهم هذه ، وتزينها. حتى إذا استفاقوا من سباتهم هذا وجدوا أنفسهم أمام الحقيقة ، ولم يكن لهم بد من مواجهة مصيرهم المحتوم .. وهكذا كان ..

وهذا يصلح تفسيرا لما قد يعتبر تناقضا ظاهرا في مواقفهم ، فهم إذا كانوا قد أحسوا بخروج رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إليهم ، وطلبوا معونة غطفان ، ورتبوا حصونهم بحيث يحاربون في بعضها ، ويجعلون ذراريهم وأموالهم في البعض الآخر ..

فما معنى قولهم : محمد يغزونا؟! هيهات!! هيهات!!

١٣٠

ولكن شرط أن يضاف إليه : أن يكون المقصود بهذا الاستعراض ، إظهار الإعجاب بقوتهم وبكثرتهم ، والسعي للتشجع ، والحصول على الجرأة على خوض تلك الحرب التي يخشونها كل الخشية ..

مشورة الحباب :

وقال محمد بن عمر : إنه حين نزل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في خيبر ، وجاء الحباب بن المنذر ، فقال : يا رسول الله ، إنك نزلت منزلك هذا ، فإن كان من أمر أمرت به فلا نتكلم ، وإن كان الرأي تكلمنا.

فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «هو الرأي».

فقال : يا رسول الله ، دنوت من الحصون ، ونزلت بين ظهري النخل ، والنزّ ، مع أن أهل النطاة لي بهم معرفة ، ليس قوم أبعد مدى سهم منهم ، ولا أعدل رمية منهم ، وهم مرتفعون علينا ، ينالنا نبلهم ، ولا نأمن من بياتهم ، يدخلون في خمر النخل ، فتحوّل يا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى موضع بريء من النزّ ، ومن الوباء ، نجعل الحرة بيننا وبينهم ، حتى لا تنالنا نبالهم ، ونأمن من بياتهم ، ونرتفع من النزّ.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «أشرت بالرأي ، ولكن نقاتلهم هذا اليوم» (١). إذا أمسينا إن شاء الله تحولنا (٢).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١١٩ و ١٢٠ وفي هامشه عن ابن سعد في الطبقات ٣ / ٢ / ١٠٩ وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٣ و ٣٤ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٤٣ و ٦٤٤.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٣ و ٣٤ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٢٠ وراجع :

١٣١

ودعا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» محمد بن مسلمة ، فقال : انظر لنا منزلا بعيدا من حصونهم ، بريئا من الوباء ، نأمن فيه من بياتهم ، فطاف محمد حتى أتى الرجيع ، ثم رجع إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : يا رسول الله ، وجدت لك منزلا.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «على بركة الله» (١).

وسيأتي : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تحول لما أمسى ، وأمر الناس بالتحول.

ويذكرون أيضا : أن راحلته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قامت تجر بزمامها ، فأدركت لتردّ ، فقال : دعوها ، فإنها مأمورة.

فلما انتهت إلى موضع من الصخرة بركت عندها ، فتحول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى الصخرة. وتحول الناس إليها ، واتخذوا ذلك الموضع معسكرا.

وفي الأصل : أنه نزل بذلك الموضع ، ليحول بين أهل خيبر ، وبين غطفان ، لأنهم كانوا مظاهرين لهم على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وابتنى هنالك مسجدا صلى به طول مقامه بخيبر (٢).

__________________

المغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٤٤.

(١) طبقات ابن سعد ٣ / ٢ / ١٠٩ والمصنف للصنعاني (٩٢٩١) والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٤ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١١٩ و ١٢٠ وفي الهامش : أخرجه عبد الرزاق في المصنف (٩٢٩١).

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٤ وراجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٤٤.

١٣٢

ونقول :

إن لنا مع النص المتقدم عدة وقفات ، نجملها على النحو التالي :

ألف : الإنتقاص من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

قد أظهرت الرواية المتقدمة : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد اختار لجيشه منزلا غير صالح ، من حيث إنه ـ كما أوضح الحباب ـ قريب من العدو إلى حد أن سهامهم تصل إليه.

يضاف إلى ذلك : ارتفاع المواقع التي يتواجد العدو فيها بالنسبة لموقع جيش المسلمين ، فلهم إشراف ، وتسلط وهيمنة عليهم.

كما أن وجود النخل بكثافة يعطيهم الفرصة للاستفادة منه في مهاجمة المسلمين تحت جنح الظلام ..

فهذه الحيثيات كلها لا ينبغي أن تخفى على أي إنسان عادي ، يملك عقلا وإدراكا ، ويعيش حالة التوازن في شخصيته ، ولا يغفل عنها إلا من كان يعاني من اختلالات في عقله ، فكيف يصح نسبتها إلى عقل الكل ، وإمام الكل ، ومدبر الكل ، وهو سيد الأنبياء والمرسلين ، وأفضل الخلائق أجمعين ، من الأولين والآخرين ، إلى يوم الدين؟!

وكيف يكون الحباب بن المنذر أعرف ، وأرشد ، وأوفر عقلا من الرسول المسدد من الله ، والمؤيد بالوحي؟!

ويجب أن لا ننسى : أنهم قد نسبوا إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، مثل ذلك في غزوة بدر ، وقد ذكرنا هناك أيضا أننا لا نشك في كون ذلك من الأكاذيب ، فراجع ..

١٣٣

ب : إذا أمسينا تحولنا :

ولعل الصحيح هو : أن الناس أو معظمهم كانوا قد تسرعوا في الأمر ، ونزلوا في ذلك المكان القريب من العدو ، الذي تنز الأرض فيه ماء .. حتى إن من يقيم في ذلك الموضع يبتلى ـ بسبب ذلك ـ ببعض الأدواء والأوبئة. فشكى الناس بلسان الحباب بن المنذر ذلك لرسول الله ، وكان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عالما بالأمر ، وعازما على التحول ..

ولكنه كان لا يريد أن يكسر عنفوان أولئك الناس الذين انطلقوا فيما فعلوه من نوايا طيبة ، ونفوس سليمة ، وطاهرة. كما أنهم إذا عاينوا سوء ذلك الموضع بأم أعينهم فسوف يكون قرار الانتقال حاجة يشعرون هم أنفسهم بضرورة تلبيتها ، من دون أي تردد ، أو إحساس بالمرارة ، أو اتهام منهم للآخرين بالمبالغة والتجني.

كما أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يريد أن يشعر اليهود بأن ثمة ترددا أو اهتزازا في القرارات ، وفي السلوك والممارسة لدى المسلمين. فيجرؤهم ذلك عليهم ، وتهتز هيبتهم في أعينهم ، ويهيء لهم الأجواء للتفكير في منافذ من شأنها أن تثير بعض المتاعب لديهم ، فقرر «صلى‌الله‌عليه‌وآله» المقام في ذلك المكان إلى الليل ، للإيحاء لهم بأن ذلك داخل في جملة القرارات المدروسة والمؤثرة.

الحباب ذو الرأي من هو؟!

واللافت هنا : أن المؤرخين يذكرون : أن الحباب بن المنذر قد عارض أهل السقيفة ، وقال لقومه : لكأني بأبنائكم على أبواب أبنائهم (أي الذين

١٣٤

بويعوا في السقيفة) ، قد وقفوا يسألونهم بأكفهم ، ولا يسقون الماء .. (١).

بل ذكروا : أنه حين قال في السقيفة : أنا جذيلها المحكك ، وعذيقها المرجب ، أخذ ووطئ في بطنه ، ودسوا في فيه التراب (٢).

وهو القائل في السقيفة : منا أمير ، ومنهم أمير (٣).

ولكن ذلك : لا يدل على أنه كان بصدد مناصرة علي «عليه‌السلام» ، بل قد يفهم من سياق حديث السقيفة : أنه كان بصدد تدبير الأمر لسعد بن عبادة ، وأنه لم يكن ـ فيما يظهر ـ من المعروفين بالولاء لعلي «عليه‌السلام» ، أو لبني هاشم.

ومن جهة أخرى : فإننا تعودنا من فريق بعينه من الناس تعظيم مناوئي علي «عليه‌السلام» ، ومنحهم الأوسمة ، وإعطائهم الامتيازات ، فما الذي جعل الحباب يستحق هذه الأوسمة منهم يا ترى؟!

فهل تمكن الذين حكموا بعد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من اجتذابه إلى جانبهم ، فاستحق بذلك أن ينال بعض هذا الثناء ، فيكون الرجل الرشيد ، وصاحب الرأي السديد ، دون الرسول «صلى الله عليه

__________________

(١) الإمامة والسياسة (ط سنة ١٣٥٦ ه‍ بمصر) ج ١ ص ٩.

(٢) قاموس الرجال ج ٣ ص ٤٦ عن شرح النهج للمعتزلي ج ٦ ص ٤٠ والغدير للأميني ج ٧ ص ٧٦.

(٣) الإمامة والسياسة (ط سنة ١٣٥٦ ه‍ بمصر) ج ١ ص ٧ وشرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ٢٤ وج ٦ ص ٩ وصحيح البخاري كتاب الحدود باب رجم الحبلى من الزنى ، والكامل لابن الأثير ج ٢ ص ٢٥ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ حوادث سنة ١١ ه‍. والإحتجاج للطبرسي ج ١ ص ٩٢.

١٣٥

وآله» ، حتى ليدّعون أنه حين نزل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في بدر ، استنادا إلى رأي نفسه ، وأشار هو عليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالنزول في موضع آخر ، نزل جبرئيل «عليه‌السلام» ، فقال : الرأي ما أشار به حباب (١).

ج : حديث الراحلة :

١ ـ وكما كانت ناقة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مأمورة بتحديد المواقع كما جرى في الحديبية ، وحين وصوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى المدينة مهاجرا من مكة ، فقد كان لناقته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دور أيضا في واقعة خيبر. فإنها كانت مأمورة حين قامت تجر بزمامها حتى انتهت إلى موضع بعينه ، فبركت فيه ، فتحول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إليه. وتحول الناس معه ، واتخذوا ذلك الموقع معسكرا.

وكانت هذه إشارة كافية لتعريف الناس برعاية الله تعالى لهذه المسيرة ، ورضاه عنها .. فلتسكن القلوب إذن ، وليطمئن الناس إلى ما يختاره الله تعالى لهم. فالمقتول في هذه المعركة شهيد ، والباذل مهجته في سبيل الله مجاهد .. وما هي إلا إحدى الحسنيين : إما النصر ، وإما الشهادة!!.

٢ ـ وحديث الراحلة هذا يكذب الرواية الأخرى التي زعمت : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد طلب من محمد بن مسلمة : أن يبحث لهم عن مكان ينزلون فيه ، فطاف حتى أتى الرجيع فاختاره له ، فانتقل «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إليه ..

__________________

(١) قاموس الرجال ج ٣ ص ٤٤.

١٣٦

فإننا لا نجد في رواية الراحلة أية دواع للكذب ، والافتعال ، بينما تكون هذه الدواعي متوفرة بالنسبة لمحمد بن مسلمة ، حسبما أشرنا إليه عدة مرات ، وربما نشير إلى ذلك أيضا فيما يأتي ..

٣ ـ بل إن بعض النصوص قد صرحت : بأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد اختار ذلك المكان ليحول بين أهل خيبر وغطفان ..

وربما تكون الراحلة ، قد حددت الموضع ، ثم جاء التصريح من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : بأن النزول في ذلك المكان بعينه سوف يقطع طريق الاتصال بين اليهود ، وبين غطفان ..

د : بناء المسجد في خيبر :

وليس من قبيل الصدفة : أن يبادر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لبناء مسجد له في خيبر ، فإن ذلك يتضمن الإيحاء للمسلمين بالنتائج الإيجابية لهذه الحرب التي يقدمون عليها.

كما أنه إشارة ، بل إعلان ليهود خيبر بثقته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالنصر عليهم ، وبظهور الإسلام في بلادهم رغما عنهم ..

صوابية تدبير اليهود :

قالوا : «ابتدأ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من حصونهم بحصون النطاة. وقيل : ابتدأ بحصون الكتيبة ؛ لأنهم أدخلوا عيالهم وأموالهم في حصون الكتيبة ، وجمعوا المقاتلة في حصون النطاة» (١).

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٣.

١٣٧

غير أننا لم نستطع أن نقنع أنفسنا بصوابية هذا التدبير ، فإن فصل العيال عن المقاتلين بهذا النحو قد يعطي الفرصة للجيش المهاجم لتكليف طائفة من مقاتليه بمشاغلة المقاتلين في حصن النطاة ، ثم تتولى فئة أخرى مهاجمة الحصن الذي فيه العيال والأموال ، وفتحه ، والاستيلاء على ما ومن فيه .. وبذلك يكونون قد عرضوا أنفسهم لضربة قاصمة على الصعيد النفسي على أقل تقدير.

ومن جهة ثانية نقول : ماذا لو أن الجيش المهاجم اختار أن يهاجم الحصن الذي فيه المال والعيال بكل جنوده ، أو اختار حصنا آخر غير حصني النطاة والكتيبة ، ليهاجمه ، فما الذي يصنعه الجيش المتجمع في حصن النطاة؟! هل سيترك مواقعه ، ويبادر لنجدة مقاتلي الحصن الآخر؟!

وهل سوف يصحر للجيش المهاجم ، ويلاقيه في الصحراء ، أو بين أشجار النخيل؟

أم سوف يبقى معتصما بالحصن الذي هو فيه ، ويكتفي بالرمي من فوق الأسوار؟!

من أجل ذلك نقول :

لعل الحقيقة هي : أن اليهود قد وضعوا عيالهم وأموالهم ، ورجالهم في الحصن الأقوى بنظرهم. ووضعوا قسما من رجالهم في أول حصن يتوقعون مهاجمة الجيش القادم له .. على أمل أن يتمكنوا من حفظ تلك الحصون من أخذ المهاجمين لها ، والاستفادة منها في إذلالهم ، وقهرهم.

كما أن تواجدهم في تلك الحصون قد يربك المسلمين ، ويوهمهم صعوبة تحقيق النصر ، ويبعث في نفوسهم اليأس من الظفر ، ويحملهم على

١٣٨

التفكير بالرجوع عنهم بلا نتيجة ، أو بنتيجة هي لصالحهم في جميع احتمالاتها ووجوهها ..

قطع نخيل النطاة :

قالوا : «وأمر «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بقطع نخيل أهل حصون النطاة ؛ فوقع المسلمون في قطعها ، حتى قطعوا أربع مائة نخلة ، ثم نهاهم عن القطع ، فما قطع من نخيل خيبر غيرها» (١).

بل لقد زعموا : أن الحباب بن المنذر هو الذي أشار على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بقطع النخيل ، لأن النخيل أحب إلى اليهود من أبكار أولادهم ، فأمر «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بقطع النخل ، فوقع المسلمون في قطعها حتى أسرعوا في ذلك ، فجاء أبو بكر إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقال له : يا رسول الله ، إن الله عزوجل قد وعدكم خيبر ، وهو منجز ما وعدك. فلا تقطع النخل.

فأمر منادي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فنهى عن القطع (٢).

وفي نص آخر : أن الذي طلب من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عدم قطع النخيل هو عمر (٣).

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٤ والإمتاع ص ٣١١ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٤٤ و ٦٤٥ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٤٦.

(٢) راجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٤٤.

(٣) السير الكبير للشيباني ج ١ ص ٥٥ وتدوين القرآن ص ٢٧.

١٣٩

ونقول :

إن ذلك غير مقبول ، لأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يكن ألعوبة بأيدي الآخرين ، وكان أعلم الناس بالمصالح والمفاسد ، وبالتدبير الصحيح.

ومع ذلك نقول :

١ ـ إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يوصي سراياه وبعوثه بأن لا يقطعوا شجرا (١).

٢ ـ لماذا أمرهم بقطع نخيلهم في خصوص حصون النطاة دون سواها؟ مع أن النخيل في حصون الكتيبة كان أكثر بكثير ، فقد قيل ـ كما تقدم ـ : إنه كان فيها أربعون ألف عذق.

٣ ـ لماذا عاد فنهاهم عن مواصلة قطع النخيل ، مع أنهم لم يقطعوا سوى أربع مائة نخلة؟! فهل هو قد وجد : أن قطع النخيل لم يكن صوابا؟! أو لم يكن راجحا؟! ثم تبين له الصواب والراجح!!

٤ ـ إذا كانت مشورة أبي بكر هي التي منعته من مواصلة القطع .. فلماذا أدرك أبو بكر ما لم يدركه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

ولماذا كانت النبوة من نصيب الذي قصر فهمه عن إدراك هذا الأمر ، وحرم ذلك الرجل الراجح العقل من هذا المقام؟!

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ٣٣٤ و ٣٣٥ وج ٥ ص ٣٠ والبحار ج ١٩ ص ١٧٧ ـ ١٧٩ وراجع : مسند أحمد ج ١ ص ٣٠٠ والتهذيب للطوسي ج ٦ ص ١٣٨ و ١٣٩ والأموال ص ٣٥ وتذكرة الفقهاء ج ١ ص ٤١٢ و ٤١٣ ومنتهى المطلب ج ٢ ص ٩٠٨ و ٩٠٩ وجواهر الكلام ج ٢١ ص ٦٦ والوسائل ج ١١ ص ٤٣ و ٤٤ والمحاسن للبرقي ص ٣٥٥.

١٤٠