الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٧

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٧

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-189-0
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٣

١ ـ أن يظهر خبرة الدليل ، وأنه قادر على إنجاز المهمة التي أوكلت إليه.

٢ ـ أن يوجهه إلى الطريق الأكثر أمنا ، والأشد ملاءمة للأهداف المتوخاة.

٣ ـ أن يعرف الناس بأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عالم بمسالك تلك البلاد ، وإن لم يكن قد وطأتها قدمه من قبل.

لا حول ولا قوة إلا بالله :

روى أصحاب الكتب الستة ، عن أبي موسى الأشعري ، قال : أشرف الناس على واد ، فرفعوا أصواتهم بالتكبير : «الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله».

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «اربعوا على أنفسكم ، إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ، إنكم تدعون سميعا قريبا ، وهو معكم».

وأنا خلف دابة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فسمعني وأنا أقول : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

فقال : «يا عبد الله بن قيس».

قلت : لبيك يا رسول الله ، فداك أبي وأمي.

قال : «ألا أدلّك على كلمة من كنز الجنة»؟.

قلت : بلى يا رسول الله ، فداك أبي وأمي.

قال : «لا حول ولا قوة إلا بالله» (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٥٠ وفي هامشه عن : البيهقي ج ٢ ص ١٨٤ وابن أبي عاصم ج ١ ص ٢٧٤ والطبري ج ٨ ص ١٤٧ وابن السني (٥١٢) وعبد

١٠١

ونقول :

هناك حالات تنتاب الجماعات ، وهي تواجه قضاياها الكبرى ، لا يصح الانسياق معها ، بل لا بد من معالجتها والتخلص منها. ومن هذه الحالات : أن اجتماعها مع بعضها البعض قد يشعرها بالقوة بدرجة قد تتجاوز حدود قوتها الطبيعية ، الأمر الذي يهيء لوقوعها في براثن الغفلة عن بعض الثغرات التي تعاني منها .. وربما يكون ذلك سببا في تدني مستوى قوتها بصورة كبيرة وخطيرة ..

وقد ظهر مصداق ذلك في حرب حنين ، حيث تلاشت قوة المسلمين أو كادت ، بسبب هذا الشعور بالذات. فقد قال تعالى : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) (١).

ومن هذه الحالات أيضا ، هيمنة العقل الجماعي على تلك الجماعة ، وتدني مستوى تفكيرها ليصل إلى أضعف حالاته ..

__________________

الرزاق (٩٢٤٤) وانظر البداية والنهاية ج ٤ ص ٢١٣ وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٣ ومسند أحمد ج ٤ ص ٤١٨ و ٤٠٢ وج ٥ ص ٢٦٥ وعن صحيح البخاري ج ٥ ص ٧٥ وج ٧ ص ١٦٩ وعن صحيح مسلم ج ٨ ص ٧٤ ومجمع الزوائد ج ١٠ ص ٩٨ والديباج على مسلم ج ٦ ص ٥٩ ومسند أبي داود ص ٣٢٦ ومنتخب مسند عبد بن حميد ص ١٩٢ والسنن الكبرى للنسائي ج ٤ ص ٣٩٨ وج ٦ ص ٧ وكتاب الدعاء للطبراني ص ٤٧٢ وسير أعلام النبلاء ج ٨ ص ٣٣٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٠٤.

(١) الآية ٢٥ من سورة التوبة.

١٠٢

ويزيد هذه الحالة حدة فيهم ، تعالي الصرخات ، واختلاط الأصوات ، والصخب ، والعجيج والضجيج.

وهذا يفسر لنا : أمره «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لأصحابه بأن يربعوا على أنفسهم ، ويخففوا من غلوائهم ، ويخفضوا أصواتهم ، حتى لو كانوا يجهرون بكلمة «الله أكبر».

فقد كان ثمة حاجة إلى الهدوء والتعقل ، ليمكن النظر إلى الأمور والأحجام ، والقدرات بواقعية واتزان ، بعيدا عن الانتفاخات والتضخيمات الصوتية وغير الواقعية ..

ثم .. إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» صرح لهم بالحقيقة وطلب منهم ترديدها في عملية تلقين عفوية للنفس ، وإدراك للعقل ، وتلمس للوجدان ، حين دلهم على كلمة هي كنز الجنة ، يتعلمون منها : أن قدرتهم ليست بكثرة جمعهم ، ولا بجودة سلاحهم ، ولا بقدراتهم الذاتية وشجاعتهم ؛ إذ «لا حول ولا قوة إلا بالله».

المطلوب هو الخير لا الغنائم :

روى ابن إسحاق ، عن أبي مغيث بن عمرو. ومحمد بن عمر عن شيوخه ، قالوا : إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لما أشرف على خيبر ـ وكان وقت الصبح ـ قال لأصحابه : «قفوا». فوقفوا.

فقال : «اللهم رب السموات السبع وما أظللن ، ورب الأرضين السبع وما أقللن ، ورب الشياطين وما أضللن ، ورب الرياح وما أذرين ، فإنّا نسألك من خير هذه القرية وخير أهلها ، ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها. أقدموا بسم الله».

١٠٣

وكان يقولها لكل قرية يريد دخولها.

ورواه النسائي ، وابن حبان عن صهيب (١).

ونقول :

إن هذا الدعاء قد جاء ليحدث تغييرا جذريا في أهداف هؤلاء القادمين إلى بلاد أعدائهم. إذ إن الإنسان حين يتخذ صفة المقاتل ، ويعد للقتال عدته ، ويحمل سلاحه ، ويشرف على بلد عدوه ، فإنه لا يحدث نفسه إلا بالنزال والقتال ، ولا يفكر إلا بالموت أو الحياة ، وبالنصر أو الهزيمة ، ولا يحلم إلا بالغنائم والسبايا.

ولذلك يوقف النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أصحابه ، ويوجههم إلى الله تعالى ، ليفهمهم أنه تعالى هو المهيمن والمشرف على إيصال كل شيء إلى كماله ، من حيث هو الرب المدبر الحكيم ، والخبير العليم ، والرؤوف الرحيم ، وهو القاهر فوق عباده ..

فحلول هذا الجيش بهذا البلد لا ينبغي أن يكون بهدف الحصول على المغانم ، والاستيلاء على البلاد والعباد.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١١٨ وقال في هامشه : أخرجه ابن خزيمة (٢٥٦٥) والبخاري في التاريخ الكبير ج ٦ ص ٤٧٢ والطبراني في الكبير ج ٨ ص ٣٩ والبيهقي في الدلائل ج ٤ ص ٢٠٤ وابن السني (٥١٨).

وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٢ و ٣٣ والبحار ج ٢١ ص ١ و ١٤ وج ٧٣ ص ٢٤٩ وعن مجمع البيان ج ٩ ص ٢٠٠ والإمتاع ص ٣١٠ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٤٢ ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٧٦ والمزار ص ٥٢ والأمان من الأخطار ص ١٣٢ ومدينة المعاجز ج ١ ص ١٧٣.

١٠٤

بل يجب أن يكون الهدف هو الحصول على الخير : خير البلد وخير أهله ، وتجنب الشر : شر البلد وشر ما فيه .. سواء أكان الشر من الناس ، أم من غيرهم.

ويلاحظ أيضا : أن هذا الدعاء قد أظهر للداعين ولغيرهم : أن الهيمنة الإلهية كما تشمل السماوات والأرض ، من حيث هي موجودات كونية ، فإنها تشمل ما أظللن ، وما أقللن من موجودات ، لها وظائف ومهمات ، فيهما على حد سواء ..

وأفاد أن هذه السلطة تشمل أيضا حتى الموجودات المتمردة والطاغية ، وتشمل من وقع تحت تأثيرها .. فهو تعالى رب الشياطين وما أضللن .. كما أنها تشمل ما له حركة وتصرف ، وما يكون محلا للحركة والتصرف ، وإن لم يكن من الموجودات العاقلة والمختارة. فهو رب الرياح وما أذرين.

فإذا كانت الهيمنة لله تعالى على ذلك كله ، فلا بد من أن يتوجه الناس إليه في حاجاتهم. وقد حدد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هذه الحاجات في دعائه ، بأنها الحصول على الخير ، وتجنب الشر ..

ثم إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : «أقدموا باسم الله ..».

فإذا كان إقدامهم متمازجا مع اسم الله تعالى ، وملابسا له ، فلا بد أن يلتزموا بخطه تعالى ، وأن لا يشذوا عنه ، فيكون معهم في كل حركة ، وكل سكون ، وكل موقف.

وما أحوجهم إلى استحضار الله تعالى في مواقفهم هذه التي ينسى الإنسان فيها أكثر الأشياء قربا منه ، فينسى حتى الطعام والشراب ، وينسى الأهل والأولاد ، وينسى المال والمقام ، وينسى .. وينسى .. وكل هذا النسيان

١٠٥

لا ضير فيه ، إذا كان ذاكرا لله سبحانه ، مستشعرا لوجوده ، منسجما معه .. ولأجل ذلك قال لهم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «أقدموا باسم الله ..».

ابن أبي يحذر اليهود :

وذكروا : أن عبد الله بن أبي أرسل إلى اليهود يخبرهم : بأن محمدا سائر إليكم ، فخذوا حذركم ، وأدخلوا أموالكم حصونكم ، واخرجوا إلى قتاله ، ولا تخافوا منه ، إن عددكم كثير ، وقوم محمد شرذمة قليلون ، عزّل لا سلاح معهم إلا قليل.

فلما علم بذلك يهود خيبر أرسلوا وفدا إلى غطفان يستمدونهم كما سيأتي (١).

ونقول :

إن توجيهات ابن أبي لهم ، وتحريضه إياهم على التصدي لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد استند إلى عدة أمور ، نشير منها إلى الأمرين التاليين :

١ ـ كثرة عددهم ، وقلة عدد جيش المسلمين ، مع أن ابن أبي والناس كلهم قد شاهدوا كيف ينتصر المسلمون في حروبهم ، وخصوصا في بدر ، رغم قلة عددهم ، وكثرة عدد جيش عدوهم المهاجم.

وقد بيّن القرآن هذه الحقيقة في موارد كثيرة. وصرح : بأن العشرة من المسلمين قادرون على أن يغلبوا مائة ، فيما لو تدرعوا بالصبر والإيمان.

__________________

(١) راجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ٤٢ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٣٦٤.

١٠٦

قال تعالى أيضا : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ ..) (١)

٢ ـ إنه قد ركز على السلاح ، كعنصر حاسم في المعركة بين الإيمان والكفر.

غير أن من الواضح : أن للسلاح في نوعه وفي مقداره بعض التأثير في الحرب.

ولكن قد أثبتت الوقائع أيضا : أن الكلمة الأخيرة ، والفاصلة ليست له ، وإنما هي للعزيمة والإيمان بالقضية ، والالتجاء إلى الله سبحانه ، بالإضافة إلى مفردات كثيرة من منظومة القيم ، والمفاهيم ، والاعتقادات ، والنظرة إلى الكون وإلى الحياة ، ومستوى تربية النفس ، ودرجة التفاعل مع تلك القيم ، ودرجات رسوخ تلك النظرات والاعتقادات في كيان الإنسان ، وفي أعماق وجوده ..

غطفان تخاف ، فتتراجع :

أرادت غطفان ، وسيدهم عيينة بن حصن أن يعينوا أهل خيبر ـ وكانوا أربعة الآف ـ لما سمعوا بمجيئه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إليهم ، فأرسلوا كنانة ابن أبي الحقيق ، وهوذة بن قيس ، في أربعة عشر رجلا إلى غطفان ، يستمدونهم ، وشرطوا لهم نصف ثمار خيبر إن غلبوا على المسلمين.

فجمعوا أربعة آلاف مقاتل ـ كما في بعض المصادر ـ ثم خرجوا ليظاهروا يهود خيبر.

__________________

(١) الآية ٢٤٩ من سورة البقرة.

١٠٧

ويقال : إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أرسل إليهم : أن لا يعينوهم على أن يعطيهم من خيبر شيئا سماه لهم ، وهو نصف ثمارها تلك السنة ، وقال لهم : «إن الله قد وعدني خيبر».

فأبوا ، وقالوا : جيراننا وحلفاؤنا.

فلما ساروا قليلا سمعوا خلفهم في أموالهم وأهليهم حسا ظنوه القوم. أي ظنوا أن المسلمين أغاروا على أهليهم ، فألقى الله الرعب في قلوبهم.

وحسب نص الواقدي : سمعنا صائحا ـ ثلاث مرات ـ لا ندري من السماء ، أو من الأرض أهلكم أهلكم بحفياء (أو حيفاء ـ موضع قرب المدينة) ، فإنكم قد خولفتم إليهم.

فرجعوا على الصعب والذلول. أي مسرعين على أعقابهم ، فأقاموا في أهلهم وأموالهم ، وخلوا بين رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وبين أهل خيبر.

وفي رواية : سمعوا صوتا يقول : أيها الناس ، أهليكم خولفتم إليهم ، فرجعوا فلم يروا لذلك نبأ (١).

زاد في نص آخر : أنهم قالوا : «فعلمنا : أن ذلك من قبل الله ، ليظفر محمد بيهود خيبر» (٢).

بل ذكر بعضهم : أن عيينة بن حصن قد جاء إلى خيبر في أربعة آلاف ، فدخلوا مع اليهود في حصون النطاة ، قبل قدوم رسول الله «صلى الله عليه

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٥١ والإمتاع ص ٣١٣ وراجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٤٢ و ٦٥٠ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٤٢ والبحار ج ٢١ ص ٣٠ عن الخرائج والجرائح والإصابة ج ٣ ص ٢٥٤ و ٣٠١.

(٢) البحار ج ٢١ ص ٣٠ وج ٢١ ص ٣٠ والخرايج والجرايح ج ١ ص ١٦٤.

١٠٨

وآله» بثلاثة أيام. فلما قدم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» خيبر أرسل إليهم سعد بن عبادة وهم في الحصن.

فلما انتهى سعد إلى الحصن ناداهم : إني أريد أكلّم عيينة بن حصن.

فأراد عيينة أن يدخله الحصن ، فقال مرحب : لا تدخله فيرى خلل حصننا ، ويعرف نواحيه التي يؤتى منها ، ولكن تخرج إليه.

فقال عيينة : لقد أحببت أن يدخل فيرى حصانته ، ويرى عددا كثيرا. فأبى مرحب أن يدخله ، فخرج عيينة إلى باب الحصن.

فقال سعد : إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أرسلني إليك ، يقول : إن الله قد وعدني خيبر فارجعوا ، وكفوا ، فإن ظهرنا عليها فلكم تمر خيبر سنة.

فقال عيينة : إنّا والله ما كنا لنسلم حلفاءنا لشيء ، وإنّا لنعلم ما لك وما معك مما ههنا طاقة ، هؤلاء قوم أهل حصون منيعة ، ورجال عددهم كثير ، وسلاح. إن قمت هلكت ومن معك ، وإن أردت القتال عجلوا عليك بالرجال والسلاح.

ولا والله ، ما هؤلاء كقريش ، وقوم ساروا إليك ، إن أصابوا غرّة منك فذاك الذي أرادوا وإلا انصرفوا ، وهؤلاء يماكرونك الحرب ويطاولونك حتى تملهم.

فقال سعد بن عبادة : أشهد ليحصرنك في حصنك هذا حتى تطلب الذي كنا عرضنا عليك ، فلا نعطيك إلا السيف ، وقد رأيت يا عيينة من قد حللنا بساحته من يهود يثرب ، كيف مزقوا كل ممزق!

فرجع سعد إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فأخبره بما قال.

١٠٩

وقال سعد : يا رسول الله ، لئن أخذه السيف ليسلمنهم ، وليهربن إلى بلاده ، كما فعل ذلك قبل اليوم في الخندق.

فأمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أصحابه : أن يوجهوا إلى حصنهم الذي في غطفان ، وذلك عشية وهم في حصن ناعم ، فنادى منادي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن أصبحوا على راياتكم عند حصن ناعم الذي فيه غطفان.

قال : فرعبوا من ذلك يومهم وليلتهم ، فلما كان بعد هذه من تلك الليلة سمعوا صائحا يصيح ، لا يدرون من السماء أو الأرض : يا معشر غطفان ، أهلكم أهلكم!! الغوث ، الغوث بحيفاء ـ صيح ثلاثة ـ لا تربة ولا مال!

قال : فخرجت غطفان على الصعب والذلول ، وكان أمرا صنعه الله لنبيه.

فلما أصبحوا أخبر كنانة ابن أبي الحقيق ـ وهو في الكتيبة ـ بانصرافهم ، فسقط في يديه (١).

ونقول :

١ ـ إن قبيلة غطفان أصرت على أن تنصر اليهود ، لأمرين ، هما : أنهم جيرانهم. وأنهم حلفاؤهم.

والإستجابة لنداء الجيرة والحلف ليس بأولى من الاستجابة لما يوجبه العقل ، وتفرضه الفطرة ، فإن غطفان كانت على الشرك الذي هو ظلم عظيم ، وتأباه العقول ، وتنفر منه الفطرة ..

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٥٠ و ٦٥١.

١١٠

فكان من المفروض : أن تستجيب ـ قبل كل شيء ـ لنداء العقل والفطرة ، لتكتشف صحة ما جاء به رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فتسير في خط طاعة الله سبحانه ، موالية لأوليائه ، ومعادية لأعدائه ، ومحاربة لهم بكل قوة وصرامة وحزم. فلا عهد فوق عهد الله تعالى ، ولا جوار لأحد في معصية الله سبحانه وتعالى.

٢ ـ إنه إذا كان اليهود قد وعدوا غطفان بشطر ثمار خيبر ، فإن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد وعدهم بنفس ما وعدوهم به ، مع فارق عظيم وهام ، وهو : أن اليهود كانوا معروفين بالغدر.

أما النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فكان الصادق الأمين ، والوفي بالوعود والعهود ..

٣ ـ إن اليهود إنما وعدوهم : بأن يعطوهم شطر ثمار خيبر ، ولكن بشرط أن يعينوهم ، ويحاربوا معهم ، ولا بد أن يقتل من يقتل منهم ، وأن تنشأ العداوات ، والثارات ، والإحن بينهم وبين المجتمع الإسلامي كله ..

أما النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فلم يكلفهم بالحرب ، بل اكتفى منهم بالكف وعدم الإقدام على مساعدة اليهود ، فلا قتلى ، ولا عداوات ، ولا إحن ، ولا أحقاد ..

مع ملاحظة : أن طلب اليهود العون يشير إلى ضعفهم أمام عدوهم ، وطلب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» منهم اعتزال الحرب ، والحياد يشير إلى استغنائه عنهم ، وإلى ثقته بالنصر على أعدائه. فكانت الاستجابة لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هي الأصلح لهم حتى في حسابات الربح والخسارة الدنيوية.

١١١

٤ ـ ولعل الحس الذي سمعته غطفان ، وخافت أن يكون في أهليها قد جاء ليؤكد شدة خوفهم ، ومدى رعبهم في قبال جيش المسلمين ، على قاعدة : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ) (١). لمجرد أنهم علموا بتوجه المسلمين نحو خيبر ، رغم أنهم يعرفون : أن طريق النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الآتي من المدينة إلى خيبر لا تمرّ بهم ، لأن طريق غطفان إلى خيبر كانت من جهة الشام.

وقد استطاع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في هذا الالتفاف اللافت : أن يقطع هذه الطريق عليهم ، كما أسلفنا ..

٥ ـ إن غطفان لم تكن صادقة فيما ادّعته : من أنها تريد أن تستجيب لنداء الجيرة والعهد ، حيث قالوا : هم جيراننا وحلفاؤنا. فإنه إذا كان هذا هو دافعهم الحقيقي فلماذا يكلفون اليهود نصف ثمار خيبر؟ فإنها إذا كانت تريد أن تفي بالتزاماتها الأخلاقية ، وتستجيب لنداء الجيرة ، وتنفذ عهدها فيما بينهم وبينها. فلا حاجة إلى هذه الأموال ..

بل إن قبولها من المتبرع بها ، فضلا عن المطالبة بها عيب ، وعار ، وخسة ، وصغار.

٦ ـ وإذا كانت غطفان قد خافت من إغارة المسلمين على ديارها وأهلها ، فقد كان بإمكانها أن ترسل سرية ـ لو رمزية ـ من رجالها ، لمساعدة اليهود ، قضاء لحق الجيرة ، ووفاء بالعهد والحلف. ويبقى الآخرون لدفع المهاجمين المحتملين.

__________________

(١) الآية ٤ من سورة المنافقون.

١١٢

فإذا كان ثمة من هجوم ، فإن باستطاعة هؤلاء أن يشاغلوا المهاجمين إلى أن يرسلوا إلى حلفائهم وجيرانهم من اليهود ليعينوهم مع باقي الرجال الذين ذهبوا لنجدتهم ، وإن لم يهاجمهم أحد ، فإنهم يكونون قد وفوا بالتزاماتهم ، ودفعوا عن جيرانهم ، ووفوا بعهودهم ، لو صح أنه كانت لهم معهم عهود!!

٧ ـ إن كلمة ب «حيفاء» قد صحفت فصارت «جنفا» ، كما سيأتي حينما قال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لبني فزارة عندما هددوه بالقتال إن لم يعطهم الغنائم : «موعدكم حيفا». حيث أراد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يذكرهم بهذا النداء السماوي ، ليفهمهم أن الله تعالى هو الذي يدافع عنه ، أو يهيء له الأمور.

٨ ـ ثم إن النداء الذي سمعته غطفان ، قد عرّفهم : أن الله سبحانه يريد أن يظفّر نبيه الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بيهود خيبر .. وقد كان هذا الأمر كافيا لهم ليعودوا إلى أنفسهم ، وليؤمنوا بالله ، وبرسوله ، وأن يتهافتوا لنصرة هذا الرسول العظيم على أعدائه وأعدائهم ..

ولكنهم لم يفعلوا ذلك ، بل استمروا على الكفر والجحود ، ولو وجدوا الفرصة لخرجوا إلى حرب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وإلى نصرة أعداء الله تعالى ..

وهذا هو الخذلان الإلهي ، والخيبة والخسران. نعوذ بالله من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب.

٩ ـ وسيأتي : أن العرب وقريشا قد شاركوا اليهود في الحرب ضد الإسلام والمسلمين ..

١١٣

بل في بعض النصوص الآتية تصريح : بأن عدد الذين واجههم المسلمون في خيبر كان أربعة عشر ألفا ..

١٠ ـ إن الظاهر : أن هذه الأعداد الكبيرة كانت موزعة على الحصون المختلفة ، وكانوا قد قرروا أن لا يخرجوا للقتال في ساحات الحرب والنزال .. فكان رأيهم هذا وبالا عليهم أيضا ..

١١٤

الفصل الثاني :

قبل أن يبدأ القتال

١١٥
١١٦

وصول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى خيبر :

قال محمد بن عمر : ثم سار رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حتى انتهى إلى المنزلة ، وهي سوق لخيبر ، صارت في سهم زيد بن ثابت ، فعرّس رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بها ساعة من الليل.

وكانت يهود لا يظنون قبل ذلك أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يغزوهم لمنعتهم ، وحصونهم ، وسلاحهم ، وعددهم ، فلما أحسوا بخروج رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إليهم ، قاموا يخرجون كل يوم عشرة آلاف مقاتل صفوفا ، ثم يقولون : محمد يغزونا؟!! هيهات!! هيهات!! وكان ذلك شأنهم.

وكان يهود المدينة يقولون حين تجهز النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى خيبر : ما أمنع ـ والله ـ خيبر منكم. لو رأيتم خيبر ، وحصونها ، ورجالها لرجعتم قبل أن تصلوا إليهم ، حصون شامخات في ذرى الجبال ، والماء فيها واتن (أي لا ينقطع).

إن بخيبر لألف دارع. ما كانت أسد ، وغطفان يمتنعون من العرب إلا بهم. فأنتم تطيقون خيبر؟!

فخرج رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إليهم فعمّي عليهم مخرجه ،

١١٧

حتى نزل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بساحتهم ليلا ، وكانوا حين بلغهم عزم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على المسير إليهم ، اختلفوا في خطة حربهم معه ، ولم يتحركوا تلك الليلة ، ولم يصح لهم ديك حتى طلعت الشمس ، فأصبحوا وأفئدتهم تخفق ، وفتحوا حصونهم غادين معهم المساحي ، والكرازين (١) والمكاتل ، فلما نظروا إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ولّوا هاربين إلى حصونهم (٢).

وروى الشافعي ، وابن إسحاق ، والشيخان من طرق ، عن أنس ، قال : سار رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى خيبر ، فانتهى إليها ليلا ، وكان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إذا طرق قوما بليل لم يغر عليهم حتى يصبح ، فإذا سمع أذانا أمسك ، وإن لم يسمع أذانا أغار عليهم حتى يصبح.

فصلينا الصبح عند خيبر بغلس ، فلم نسمع أذانا ، فلما أصبح ركب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وركب معه المسلمون ، وأنا رديف أبي طلحة.

فأجرى نبي الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فانحسر عن فخذ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فإني لأرى بياض فخذ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وإن قدمي لتمس قدم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٣).

__________________

(١) الكرازين : الفؤوس.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١١٨ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٣ والإمتاع ص ٣١٠ وراجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٣٧ و ٦٤٢ و ٦٤٣ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٠٦.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١١٨ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٣ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٤٣.

١١٨

وخرج أهل القرية إلى مزارعهم بمكاتلهم. ومساحيهم ، فلما رأوا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، قالوا : محمد والخميس. فأدبروا هربا.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ورفع يديه : «الله أكبر ، خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم ، فساء صباح المنذرين» (١).

وروي بسند ضعيف ، عن أنس ، قال : كان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يوم خيبر على حمار مخطوم بر سن من ليف ، وتحته إكاف من ليف (٢).

قال ابن كثير : الذي ثبت في الصحيح : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» جرى في زقاق خيبر حتى انحسر الإزار عن فخذه.

فالظاهر : أنه كان يومئذ على فرس لا على حمار.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١١٩ وفي هامشه عن : البخاري ج ٢ ص ٨٩ (٦١٠ / ٢٩٩١) ومسلم ج ٣ ص ١٤٢٦ (١٢٠ / ١٣٦٥) وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٣ ولباب التأويل ج ٤ ص ١٥٢ والإمتاع ص ٣١١ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٤٢ و ٦٤٣.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٧ ص ٣٣ وج ٥ ص ١١٩ وفي هامشه عن : الحاكم في المستدرك ج ٢ ص ٤٦٦ والبيهقي في الدلائل ج ٤ ص ٢٠٤ ، وانظر : الدر المنثور ج ٦ ص ١١١.

وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٤ ومستدرك الوسائل ج ٨ ص ٢٦٨ ومكارم الأخلاق ص ١٥ والبحار ج ٦ ص ٢٢٩ وسنن ابن ماجة ج ٢ ص ١٣٣٩ والجامع الصحيح ج ٢ ص ٢٤١ وفتح الباري ج ٦ ص ٥٦ وشرح النهج للمعتزلي ج ١١ ص ١٩٤ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤ ص ٢١٠ والشفا بتعريف حقوق المصطفى ج ١ ص ١٣١ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٥٠ وعن تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٩٣.

١١٩

قال : ولعل هذا الحديث ـ إن كان صحيحا ـ محمول على أنه ركبه في بعض الأيام ، وهو محاصرها.

ونقول :

إن لنا مع النصوص المتقدمة عدة وقفات ، هي التالية :

الجيش هو الخميس :

سمي الجيش بالخميس ، لأنه خمسة أقسام : المقدمة ، والقلب ، والجناحان ـ أعني : الميمنة والميسرة ـ والساقة.

خربت خيبر :

وذكروا : أن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رفع يديه ، وقال :

«الله أكبر ، خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم ، فساء صباح المنذرين ..».

فهل كان هذا منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دعاء بخراب خيبر؟!

أو أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد تفاءل بخرابها ، حين رأى الفؤوس والمساحي ، التي هي آلة الهدم ، كما زعمه بعضهم.

أو أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بصدد الإخبار عن خرابها ، بقرينة قوله : «إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ..» (١).

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٣٣ والدر المنضود ج ٢ ص ١٤٥ والبحار ج ٢٠ ص ٢٣٤ و ٢٦٢ وج ٢١ ص ٣٢ والأم للشافعي ص ٢٦٧ والمجموع للنووي ج ١٩ ص ٢٨٨ وتنوير الحوالك ص ٣٩١ والمبسوط للسرخسي ج ١٠ ص ٣١ ومناقب أمير المؤمنين ج ٢ ص ٥٠٩ والإرشاد للمفيد ج ١ ص ١١٠ وميزان الحكمة ج ٣

١٢٠