دلائل الصدق لنهج الحق - ج ٤

الشيخ محمد حسن المظفر

دلائل الصدق لنهج الحق - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد حسن المظفر


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-357-8
الصفحات: ٤٤٢

فإنّ قريشا أجمعت على إخراج الأمر من يده عداوة وحسدا له وطلبا بالتّرات (١).

ألا ترى أنّه لم يكن معه في صفّين من قريش إلّا خمسة أو نحوهم ، ومع معاوية ثلاث عشرة قبيلة (٢) ، مع علمهم ببغي معاوية وعدم مشاهدتهم لما فعله أمير المؤمنين عليه‌السلام بأسلافهم ، إلّا القليل ، فكيف بمن شاهدوا؟!

ولا يستبعد من قريش بغضه وعداوته ، فإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع طهارته وعصمته وقداسة نفسه ، لم يطق رؤية وحشيّ قاتل حمزة عليه‌السلام ، وقد أسلم ، حتّى قال له : « ما تستطيع أن تغيّب وجهك عنّي؟! » كما في « الاستيعاب » (٣) و « المسند » (٤) ..

فكيف بمن أفنوا أعمارهم بالكفر ، وربّوا على عادات الجاهلية ، أن يروا صاحب تراتهم أميرا عليهم ، وحاكما مطاعا فيهم وفي غيرهم ، ولهم طريق إلى صرف الأمر عنه؟!

مضافا إلى أنّ كلّ دم أراقه أخوه وابن عمّه إنّما يعصبونه به على قواعد العرب ، وكلّ أمر صنعه بهم إنّما يطلبونه منه ؛ لأنّه أقرب الناس إليه وأخصّهم به ، وأشدّهم مؤازرة له ، وأعظمهم اجتهادا في نصرته من يوم

__________________

(١) التّرة ، وجمعها : أوتار وترات : الثأر ، يقال : وتره يتره وترا وترة ، والموتور : الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه ؛ انظر مادّة « وتر » في : الصحاح ٢ / ٨٤٣ ، لسان العرب ١٥ / ٢٠٥.

(٢) رجال الكشّي ١ / ٢٨١ ح ١١١.

(٣) الاستيعاب ٤ / ١٥٦٤ ـ ١٥٦٥ رقم ٢٧٣٩.

(٤) مسند أحمد ص ٥٠١ من الجزء الثالث. منه قدس‌سره.

وانظر : السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٩ / ٩٨.

٢٨١

مبعثه إلى يوم وفاته.

مضافا إلى حسدهم ؛ لعلوّ مقامه وظهور فضله ، وتعظيم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيّاه ، وتقريبه إليه بالأخوّة والمصاهرة على بضعته سيّدة النساء ، وتخصيصه له بالمنازل العظمى ، كالمباهلة به وبآله ، وجعله مولى كلّ مؤمن ومؤمنة.

.. إلى غير ذلك ممّا يظهر به مكانته السامية وشرفه الباهر عند الله وعند رسوله والناس.

هذا ، مع رجاء كثير منهم للإمرة بعد أبي بكر ، فإنّه إذا وليها أبو بكر وهو أدناهم شرفا ، كانوا إليها أقرب ، وبها أطمع ، بخلاف ما لو وليها أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فإنّها تستقرّ في بيته ، كما يشهد له قول المغيرة لأبي بكر وعمر عند موت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وسّعوها في قريش تتّسع! .. فقاما إلى السقيفة » ، حكاه في ( شرح النهج ) (١) ، عن أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري.

وما في كتاب « الإمامة والسياسة » في باب إمامة أبي بكر وإباء عليّ عليه‌السلام من بيعته ، من حديث قال فيه عليّ لعمر : « احلب حلبا لك شطره ، [ و ] اشدد له اليوم أمره ليردّه عليك غدا » (٢).

ومثله في ( شرح النهج ) نقلا عن الجوهري (٣).

هذا حال قريش ..

وأمّا الخزرج ، فقد كانوا أوّل الحال يطلبونها لأنفسهم ، وبعد أن

__________________

(١) ص ١٨ من المجلّد الثاني [ ٦ / ٤٣ ]. منه قدس‌سره.

(٢) الإمامة والسياسة ١ / ٢٩.

(٣) ص ٥ من المجلّد الثاني [ ٦ / ١١ ]. منه قدس‌سره.

٢٨٢

صرفت عنهم وكبا (١) جدّهم (٢) ونبا (٣) حدّهم ، لم تبق لهم قوّة وهمّة على العدول إلى أمير المؤمنين ، لا سيّما مع صيرورتهم محلّ التهمة.

وأمّا الأوس ، فقد كان همّهم صرف الأمر عن الخزرج ، مع أنّ كثيرا منهم ومن الخزرج مبغضون لأمير المؤمنين عليه‌السلام ، كأسيد بن حضير (٤) ، وبشير بن سعد (٥).

وفوق ذلك كلّه قد سمعت إعلام الله سبحانه انقلاب الأمّة على أعقابها (٦) ، وإخبار النبيّ بأنّهم يتّبعون سنن بني إسرائيل حذو النعل بالنعل (٧) ..

وبأنّهم يرتدّون على أدبارهم القهقرى ، ويصيرون إلى النار ،

__________________

(١) كبا كبوا وكبوّا : عثر وانكبّ على وجهه ؛ انظر : لسان العرب ١٢ / ٢٠ مادّة « كبا ».

(٢) الجدّ : البخت والحظوة والحظّ ؛ انظر : لسان العرب ٢ / ١٩٨ ـ ١٩٩ مادّة « جدد ».

(٣) نبا حدّ السيف : إذا لم يقطع ، ونبا الشيء عنّي أي تجافى وتباعد ؛ انظر : لسان العرب ١٤ / ٢٩ ـ ٣٠ مادّة « نبا ».

والمعنى هنا أنّهم لم يعد لهم قوّة أو شوكة يطلبون بها الإمارة.

(٤) تقدّمت ترجمته في الصفحة ٢٤٢ ه‍ ٣ من هذا الجزء.

(٥) تقدّمت ترجمته في الصفحة ٢٤٢ ه‍ ٢ من هذا الجزء.

(٦) في قوله تعالى : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) سورة آل عمران ٣ : ١٤٤.

(٧) انظر : المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ ٨ / ٦٣٦ ح ٢٧٩ ، الثقات ـ لابن حبّان ـ ٦ / ١٦١ ترجمة حميد بن زياد اليمامي ، تاريخ دمشق ١٣ / ٩٨ رقم ١٣٣٨ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٩ / ٢٨٦ ، الدرّ المنثور ٢ / ٢٩٠ ، كنز العمّال ١ / ١٨٣ ح ٩٢٨.

وتقدّمت بقيّة تخريجاته في ج ٣ / ٢٠٢ ه‍ ١ ؛ فراجع!

وانظر الصفحتين ٢٦٨ و ٢٦٩ من هذا الجزء.

٢٨٣

ولا يخلص منهم إلّا مثل همل النعم (١) ..

وبأنّ الأمّة ستغدر بأمير المؤمنين (٢) ..

.. إلى غير ذلك.

فكيف مع هذا كلّه يمكن لأمير المؤمنين عليه‌السلام منازعة القوم ، وإن كان أحسب وأنسب وأكثر قبيلة وقائم الدين؟! إذ ليس هو بأعظم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا ترك الحرب بمكّة وفي أوائل الهجرة ويوم صلح الحديبية ، وقد كان أكثر ناصرا من أمير المؤمنين عليه‌السلام!

على أنّ أمير المؤمنين قد نازعهم لكن بغير الحرب ، فقد امتنع مدّة من بيعتهم حتّى قهروه وأرادوا حرق بيته ، وجمع أعوانا في داره حتّى تهدّدهم عمر (٣).

وحمل الزهراء والحسنين ليلا مستنصرا بوجوه المسلمين فلم ينصروه ، كما رواه ابن قتيبة (٤).

__________________

(١) تقدّم تخريج ذلك مفصّلا في ج ٢ / ٢٧ ه‍ ١ ، وانظر : الصفحة ٢١٢ ـ ٢١٣ ه‍ ١ من هذا الجزء.

(٢) كما رواه الحاكم في المستدرك ص ١٤٠ من الجزء الثالث وصحّحه [ ٣ / ١٥٠ ح ٤٦٧٦ ، وانظر : ص ١٥١ ح ٤٦٧٧ وص ١٥٣ ح ٤٦٨٦ ووافقه الذهبي عليها كلّها ]. منه قدس‌سره.

وانظر : التاريخ الكبير ـ للبخاري ـ ٢ / ١٧٤ رقم ٢١٠٣ ، الغارات ـ للثقفي _ : ٣٣٥ ، الكنى والأسماء ـ للدولابي ـ ١ / ١٠٤ ، المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٥٠ ح ٤٦٧٣ ، تاريخ بغداد ١١ / ٢١٦ رقم ٥٩٢٨ ، مجمع الزوائد ٩ / ١١٨ ، كنز العمّال ١١ / ٦١٧ ح ٣٢٩٩٧.

(٣) مصنّف ابن أبي شيبة ٨ / ٥٧٢ ح ٤ ، الإمامة والسياسة ١ / ٣٠ ، تاريخ اليعقوبي ٢ / ١١ ، تاريخ الطبري ٢ / ٢٣٣ ، العقد الفريد ٣ / ٢٧٣ ، المغني ـ للقاضي عبد الجبّار ـ ٢٠ ق ٢ / ٢٦٩ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٦ / ٤٨.

(٤) في كتابه : الإمامة والسياسة ص ١٣ [ ١ / ٢٩ و ٣٠ ]. منه قدس‌سره.

٢٨٤

ونقله ابن أبي الحديد عن الجوهري (١).

وذكره معاوية في كتابه المشهور إلى أمير المؤمنين ، قال :

« وأعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلا على حمار ، ويداك في يد ابنيك الحسن والحسين ، يوم بويع أبو بكر الصدّيق ، فلم تدع من أهل بدر والسوابق إلّا دعوتهم إلى نفسك ، ومشيت إليهم بامرأتك ، وأدليت إليهم بابنيك ... فلم يجبك منهم إلّا أربعة أو خمسة » (٢).

وما زال أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : « لو وجدت أربعين رجلا ذوي عزم منهم لناهضت القوم » ، كما ذكره معاوية في كتابه المذكور ، قال : « ومهما نسيت فلا أنسى قولك لأبي سفيان لمّا حرّكك وهيّجك : لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لنا هضت القوم » (٣).

وروى ابن أبي الحديد نحوه عن نصر (٤) ، قال نصر ما حاصله :

« لمّا استولى معاوية على الماء يوم صفّين ، قال له ابن العاص : خلّ بينهم وبين الماء ، فإنّ عليّا لم يكن ليظمأ وأنت ريّان ، وفي يده أعنّة الخيل ... وأنت تعلم أنّه الشجاع المطرق ... وقد سمعته مرارا وهو يقول : ( لو استمكنت من أربعين ) يعني في الأمر الأوّل ».

وممّا بيّنّا من أحوال قريش والأنصار يعلم ما في قول الفضل : « ثمّ إنّ فاطمة ـ مع علوّ منصبها ـ زوجته ».

ومن العجب أنّه يرجو أن يكون وجود الزهراء والحسنين عليهم‌السلام

__________________

(١) ص ٥ من المجلّد الثاني [ ٢ / ٤٧ وج ٦ / ١٣ ]. منه قدس‌سره.

(٢) شرح نهج البلاغة ٢ / ٤٧.

(٣) شرح نهج البلاغة ٢ / ٤٧ و ٢٢.

(٤) ص ٣٢٧ من المجلّد الأوّل [ ٣ / ٣٢٠ ]. منه قدس‌سره.

وانظر : وقعة صفّين : ١٦٣.

٢٨٥

مؤثّرا في قوّة أمير المؤمنين عليه‌السلام وتمكّنه من أخذ الزعامة العظمى والإمامة الكبرى ، وهي سلام الله عليها لم تقدر على أخذ فدك وهي مال يسير ، مع شأنها العظيم ، ومكانتها الرفيعة ، وحججها الرصينة ، وخطبها البليغة ، واستنصارها بمن يدّعون الإسلام!!

ولو كانت فدك لهم ، وحقّا من حقوقهم ، لكان حقّا عليهم أن يعطوها إيّاها بمجرّد إرادتها ، حفظا لنبيّهم في بضعته التي لم يخلّف فيهم غيرها مع قرب وفاته.

فكيف يمكن أن يكون وجودها بنفسه سببا لقدرة أمير المؤمنين على إعادة الزعامة العظمى؟!

وأمّا اتّفاق العبّاس والزبير معه ، فلا يغني عنه شيئا في مقابلة جمهور قريش ، كيف؟! وقد كسروا سيف الزبير لمّا همّ بهم فلم يدفع عن نفسه ضيما (١)!!

وكذلك اتّفاق أبي سفيان معه ، لا سيّما وهو منافق لم يرد إلّا الفتنة ..

روى الطبري (٢) وابن الأثير (٣) : « أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام زجر أبا سفيان وقال : والله ما أردت إلّا الفتنة ، وإنّك والله طالما بغيت للإسلام شرّا ؛ لا حاجة لنا في نصيحتك ».

ويدلّ على نفاقه أنّه لمّا رشوه صار تابعا لهم (٤).

روى الطبري (٥) : « أنّه لمّا استخلف أبو بكر قال أبو سفيان : ما لنا

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٢ / ١٨٩ ، وراجع الصفحة ٢٧٧ ه‍ ٣ من هذا الجزء.

(٢) في تاريخه ص ٢٠٣ من الجزء الثالث [ ٢ / ٢٣٧ ]. منه قدس‌سره.

(٣) في كامله ص ١٥٧ من الجزء الثاني [ ٢ / ١٨٩ حوادث سنة ١١ ه‍ ]. منه قدس‌سره.

(٤) انظر : شرح نهج البلاغة ٢ / ٤٤.

(٥) ص ٢٠٢ من الجزء المذكور [ ٢ / ٢٣٧ حوادث سنة ١١ ه‍ ]. منه قدس‌سره.

٢٨٦

ولأبي فصيل (١)؟! إنّما هي بنو عبد مناف!

فقيل له : إنّه قد ولّى ابنك.

قال : وصلته رحم ».

ونقل ابن أبي الحديد (٢) ، عن الجوهري : « أنّ النبيّ [ قد ] بعث أبا سفيان ساعيا ، فرجع من سعايته وقد مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلقيه قوم فسألهم ، فقالوا : مات رسول الله.

فقال : من ولّي بعده؟

قيل : أبو بكر.

قال : أبو فصيل؟!

قالوا : نعم.

.. إلى أن قال : فكلّم عمر أبا بكر فقال : إنّ أبا سفيان قد قدم وإنّا لا نأمن شرّه ؛ فدفع له ما في يده ، فتركه فرضي ».

وأمّا قوله : « وكرهت الأنصار خلافة أبي بكر ، فقالوا : منّا أمير ... » إلى آخره ..

فصحيح بالنسبة إلى أكثر الخزرج ، لكن كراهتهم لخلافته ؛ لأنّهم يريدونها لأنفسهم لا نصرة لأمير المؤمنين ؛ ولذا قالوا : « منّا أمير ومنكم أمير ».

__________________

(١) قالها أبو سفيان استصغارا وانتقاصا واستنكارا ..

فالبكر : الفتيّ من الإبل ، بمنزلة الغلام من الناس ؛ انظر : لسان العرب ١ / ٤٧٢ مادّة « بكر ».

والفصيل : ولد الناقة إذا فصل عن أمّه ، أي فطم عن الرضاعة ؛ انظر مادّة « فصل » في : لسان العرب ١٠ / ٢٧٣ ، تاج العروس ١٥ / ٥٧٤.

(٢) ص ١٣٠ من المجلّد الأوّل [ ٢ / ٤٤ ]. منه قدس‌سره.

٢٨٧

ومنه يعلم ما في قوله : « ولو كان على إمامته نصّ لأظهروه » ..

فإنّ إظهارهم مناف لطلبهم الإمرة كما سبق (١) ، ولم يبق بعد هذا الطلب مجال لإظهار النصّ ؛ لتسرّع عمر إلى بيعة أبي بكر ، حتّى وصفها عمر بأنّها فلتة (٢).

على أنّه لا يبعد أنّ كثيرا من الأنصار أظهروه وأخفاه رواة القوم ، كما يرشد إليه ما نقلناه سابقا عن الطبري وابن الأثير من أنّهما رويا أنّ الأنصار أو بعضهم قالوا : « لا نبايع إلّا عليّا ».

مع أنّ النصّ لمّا كان بمرأى من الناس ومسمع لا يحتاج إلى الإظهار ؛ لقرب عهد الغدير ونزول قوله تعالى : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ ) (٣) .. الآية ، لكنّ الناس خالفوه على عمد ، انقلابا منهم عن الدين ، وغدرا بوليّهم ومولاهم ، واقتفاء لسنّة بني إسرائيل.

فقد اتّضح ممّا بيّنّا أنّ ما لفّقه الفضل تبعا للمواقف لإثبات إمكان المنازعة ، إنّما هو أمور خيالية وأوهام كاذبة صوّرها الهوى والتعصّب ، وإلّا فالوجدان والأحاديث شاهدان بخلافه ، حتّى

روى أحمد في مسنده (٤) ، عن أمّ الفضل ، قالت :

« أتيت النبيّ في مرضه فجعلت أبكي ، فرفع رأسه فقال : ما يبكيك؟!

قلت : خفنا عليك ، وما ندري ما نلقى من الناس بعدك يا رسول الله!

__________________

(١) انظر الصفحة ٢٦٧ من هذا الجزء.

(٢) انظر الصفحة ٢٥٨ ه‍ ١ من هذا الجزء.

(٣) سورة المائدة ٥ : ٥٥.

(٤) ص ٣٣٩ من الجزء السادس. منه قدس‌سره.

وانظر : المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ٢٥ / ٢٣ ح ٣٢ ، مجمع الزوائد ٩ / ٣٤.

٢٨٨

قال : أنتم المستضعفون بعدي »

انظر إلى هذه الحرّة كيف أدركت من الناس الشحناء والبغضاء لهم ، وطلب الترات منهم ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيّ بينهم حتّى بكت ، وقال لها النبيّ : « أنتم المستضعفون بعدي »

وأهل السنّة رأوا ما رأوا من اتّفاق الكلمة على أهل البيت عليهم‌السلام ، وهجوم من هجم على دارهم وإرادتهم إحراقها عليهم ، وغصب بضعة الرسول حقّها حتّى ماتت غضبى (١) .. ومع ذلك يزعمون أنّ أمير المؤمنين قويّ الجانب بالمسلمين ، وكان يمكنه منازعة أبي بكر ، وما بايعه إلّا طوعا!

ولا ينافي ما قلنا جبن أبي بكر وضعفه وذلّته في نفسه وبيته ، حتّى عبّر عنه أبو سفيان بأبي فصيل وقال : « إنّه من أرذل بيت في قريش » كما في « الاستيعاب » وغيره (٢) ..

فإنّه إنّما قوي على أمير المؤمنين بقريش وبعض الأنصار ، وما مكّنهم الله سبحانه من ذلك إلّا فتنة لهم ولغيرهم كما قال سبحانه : ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) (٣).

__________________

(١) انظر : صحيح البخاري ٤ / ١٧٧ ـ ١٧٨ ح ٢ وج ٥ / ٢٨٨ ح ٢٥٦ ، صحيح مسلم ٥ / ١٥٣ ـ ١٥٤ ، مسند أحمد ١ / ٦ و ٩ ، تاريخ الطبري ٢ / ٢٣٦ ، مشكل الآثار ١ / ٣٤ ح ٩٤ ، السيرة النبوية ـ لابن حبّان ـ : ٤٢٩ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٦ / ٣٠٠.

(٢) انظر : الاستيعاب ٣ / ٩٧٤ رقم ١٦٣٣ وج ٤ / ١٦٧٩ رقم ٣٠٠٥ ، المصنّف ـ لعبد الرزّاق ـ ٥ / ٤٥١ ح ٩٧٦٧ ، أنساب الأشراف ٢ / ٢٧١ ، شرح نهج البلاغة ٢ / ٤٥ وج ٦ / ٤٠.

(٣) سورة العنكبوت ٢٩ : ٢.

٢٨٩

ثمّ إنّ أكثر هذه الأمور التي قرّب بها وقوع الإجماع على أبي بكر بالاختيار أدلّ على خلافه ، كعدم ترجيح الأنصار لأبي بكر على عليّ عليه‌السلام ، وكون العبّاس معه ، وسلّ الزبير سيفه في نصرته ، وتظاهر أبي سفيان بخلاف أبي بكر وذمّه له ..

فإنّ هذه الأمور ونحوها مقرّبة لكون بيعة أبي بكر لم تكن عن رغبة ، بل لأمور تسخط الله ورسوله.

وممّا ذكرنا يعلم ما في قوله : « وبايعه حيث رآه أهلا للخلافة » ، وقد أشرنا إلى كيفية البيعة مجملا (١) وستعرفها مفصّلا.

وكيف يقال : إنّه بايعه طوعا حيث رآه أهلا للخلافة ، وآثار العداوة ظاهرة بينهما وبين أتباعهما إلى يومنا هذا؟!

وهو عليه‌السلام لم يزل يتظلّم منهم إلى حين وفاته ، حتّى قال في بعض كلامه :

« اللهمّ إنّي أستعديك على قريش ومن أعانهم ، فإنّهم قطعوا رحمي ، وصغّروا عظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي أمرا هو لي ، ثم قالوا : ألا إنّ في الحقّ أن تأخذه ، وفي الحقّ أن تتركه » (٢).

قال ابن أبي الحديد في شرح هذا الكلام (٣) : « إعلم أنّه قد تواترت الأخبار عنه عليه‌السلام بنحو من هذا القول ، نحو قوله : وما زلت مظلوما منذ قبض الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى يوم الناس هذا.

__________________

(١) راجع الصفحة ٢٧٧ وما بعدها من هذا الجزء.

(٢) نهج البلاغة : ٢٤٦ الخطبة ١٧٢.

(٣) ص ٤٩٥ من المجلّد الثاني [ ٩ / ٣٠٥ ]. منه قدس‌سره.

٢٩٠

وقوله : اللهمّ اجز (١) قريشا ، فإنّها منعتني حقّي ، وغصبتني أمري.

وقوله : فجزى قريشا عنّي الجوازي ، فإنّهم ظلموني حقّي ، واغتصبوني سلطان ابن أمّي.

وقوله ـ وقد سمع صارخا ينادي : أنا مظلوم! ـ فقال : هلمّ فلنصرخ معا ، فإنّي ما زلت مظلوما.

وقوله : وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى.

وقوله : أرى تراثي نهبا.

وقوله : أصغيا بإنائنا (٢) ، وحملا الناس على رقابنا.

وقوله : إنّ لنا حقّا إن نعطه نأخذه ، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل وإن طال السرى.

وقوله : ما زلت مستأثرا عليّ مدفوعا عمّا أستحقّه وأستوجبه » (٣).

وأمّا قوله : « ولم يكن غرض بين الصحابة لأجل السلطنة والزعامة ، بل عزمهم كان إقامة الحقّ وتقويم الشريعة » ..

فبعيد عن الصواب ؛ لأنّ من يقصد إقامة الحقّ وتقويم الشريعة لا يصدّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كتابة ما لا يضلّون بعده أبدا ، حتّى نسبه إلى

__________________

(١) في شرح نهج البلاغة : « أخز ».

(٢) أصغى الإناء : أماله وحرفه على جنبه ليجتمع ما فيه ، وأصغاه نقصه ، ويقال : فلان مصغى إناؤه إذا نقص حقّه ، وأصغى فلان إناء فلان إذا أماله ونقصه من حظّه ؛ انظر : لسان العرب ٧ / ٣٥٣ مادّة « صغا ».

(٣) شرح نهج البلاغة ٩ / ٣٠٦ ـ ٣٠٧ ، وانظر : نهج البلاغة : ٥٣ الخطبة ٦ وص ٤٨ الخطبة ٣ وص ٤٧٢ الحكمة ٢٢ ، تاريخ دمشق ٤٢ / ٤٢٩ ، الفائق في غريب الحديث ٢ / ٣٩٧.

٢٩١

الهجر ، فقابل إحسانه بأعظم إساءة ، ونصيحته بأكبر غشّ ، وهدايته بأضلّ ضلالة!

وكيف يريدون إقامة الحقّ وتقويم الشريعة ، ووليّهم بنصّ الكتاب المجيد ، ومولاهم ، وأخو نبيّهم ، وباب علمه ، ووارثه بين أظهرهم (١) ، لا يلتفتون إليه بوجه ، بل ينتهزون فرصة اشتغاله بتجهيز النبيّ ويتنازعون الإمرة بينهم في السقيفة ، ويستعملون في نيلها الحيل والتزويرات؟!

وكيف يقصدون إقامة الحقّ وقد انتهكوا حرّمة نبيّهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بترك دفنه وغصب بضعته ولمّا يطل العهد حتّى ماتت مقهورة غضبى؟!

وكيف يقال في حقّهم ذلك وقد ارتدّوا على أدبارهم القهقرى ، وكلّهم إلى النار ، ولا يخلص منهم إلّا مثل همل النعم؟!

وقد روى الطبري (٢) ، عن ابن عبّاس ، أنّ عمر قال : أتدري ما منع قومكم منكم بعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!

فكرهت أن أجيبه ، فقلت : إن لم أدر فأمير المؤمنين يدريني.

فقال عمر : كرهوا أن يجمعوا لكم النبوّة والخلافة فتبجّحوا على قومكم بجحا بجحا (٣) ، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت.

فقلت : يا أمير المؤمنين! إن تأذن لي في الكلام وتمط عنّي الغضب تكلّمت.

فقال : تكلّم [ يا بن عبّاس ]!

__________________

(١) سيأتي ذكر مصادر الفقرات المتقدّمة في محالّها مفصّلة.

(٢) في تاريخه ص ٣١ من الجزء الخامس [ ٢ / ٥٧٨ حوادث سنة ٢٣ ه‍ ]. منه قدس‌سره.

(٣) البجح : الفرح ، والتّبجّح : الفخر ، والمعنى هنا أنّهم سيفخرون بالخلافة على قومهم فرحا وعجبا ؛ انظر : لسان العرب ١ / ٣١٦ مادّة « بجح ».

٢٩٢

فقلت : أمّا قولك : « اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت » ، فلو أنّ قريشا اختارت لأنفسها حيث اختار الله عزّ وجلّ لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود.

وأمّا قولك : « إنّهم كرهوا أن تكون لنا النبوّة والخلافة » ، فإنّ الله عزّ وجلّ وصف قوما بالكراهيّة فقال : ( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ ) (١).

فقال عمر : هيهات! والله يا بن عبّاس قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت أكره أن أفرّك (٢) عنها فتزيل منزلتك منّي.

فقلت : وما هي؟! فإن كانت حقّا فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك ، وإن كانت باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه.

فقال عمر : بلغني أنّك تقول : إنّما صرفوها عنّا حسدا وظلما.

فقلت : أمّا قولك : « ظلما » فقد تبيّن للجاهل والحليم ؛ وأمّا قولك :

« حسدا » فإنّ إبليس حسد آدم ، فنحن ولده المحسودون.

فقال عمر : هيهات! أبت والله قلوبكم يا بني هاشم إلّا حسدا ما يحول ، وضغنا وغشّا ما يزول.

فقلت : مهلا! لا تصف قلوب قوم أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا بالحسد والغشّ ، فإنّ قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قلوب بني هاشم.

فقال عمر : إليك عنّي .. الحديث.

ومثله في ( كامل ) ابن الأثير (٣).

__________________

(١) سورة محمّد ٤٧ : ٩.

(٢) فارك الرجل صاحبه : تاركه وفارقه وأبغضه ، والمفرّك : المتروك المبغض ؛ انظر : لسان العرب ١٠ / ٢٥٠ مادّة « فرك ».

(٣) ص ٣١ من الجزء الثالث [ ٢ / ٤٥٨ حوادث سنة ٢٣ ه‍ ]. منه قدس‌سره.

٢٩٣

ونحوه في ( شرح النهج ) (١).

وأمّا قوله : « وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليكم بالسواد الأعظم » ..

فلا يعرف معناه حتّى يعرف المقام الذي ورد فيه ، فإنّه قد يرد في مقام محاربة الجمع الكثير ، فيفيد الأمر بقتالهم ، كما قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في بعض أيّام صفّين : « عليكم بهذا السواد الأعظم [ والرواق المطنّب ] فاضربوا ثبجه (٢) » (٣).

وقد يرد في مقام ترجيح الاجتماع والسكنى في البلاد الكبيرة لا ستحبابه شرعا ؛ لأنّها أجمع للمعارف ما لم تكن بلاد كفر.

ولو سلّم أنّ المراد به الأمر باتّباع السواد الأعظم في الدين ، فليس المراد فيه بالسواد : الجمهور ، فإنّ أكثر الناس غير مؤمنين ، بل المراد به جماعة المؤمنين الخلّص وإن قلّوا ، فإنّهم السواد الأعظم ، أي محلّ النظر والالتفات والعناية.

قال الزمخشري والرازي في تفسير قوله تعالى : ( وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) (٤) :

« فإن قيل : لم قال : ( أُذُنٌ واعِيَةٌ ) على التوحيد والتنكير؟!

قلنا : للإيذان بأنّ الوعاة فيهم قلّة ، وتوبيخ الناس بقلّة من يعي منهم ، والدلالة على أنّ الأذن الواعية (٥) إذا وعت فهي السواد الأعظم ، وأنّ

__________________

(١) ص ١٨ من المجلّد الثاني [ ١٢ / ٥٣ ـ ٥٤ ]. منه قدس‌سره.

(٢) ثبج كلّ شيء : معظمه ووسطه وأعلاه ؛ انظر : لسان العرب ٢ / ٨٠ مادّة « ثبج ».

(٣) انظر : نهج البلاغة : ٩٧ الخطبة ٦٦ ، تاريخ دمشق ٤٢ / ٤٦٠ ، كنز العمّال ١١ / ٣٤٧ ح ٣١٧٠٥.

(٤) سورة الحاقّة ٦٩ : ١٢.

(٥) في المصدرين : الواحدة.

٢٩٤

ما سواها لا يلتفت إليه وإن امتلأ العالم منهم » (١).

وأمّا ما أجاب به عن أدلّة المصنّف العقلية ، فقد تبيّن لك ما فيه ممّا سبق (٢) ، ودعوى العلم والزهد الحقيقي والشجاعة للمشايخ الثلاثة محلّ نظر.

هذا ، ويمكن أن يستدلّ على إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام بوجه آخر عقلي ، وهو :

إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يفارق المدينة قطّ إلّا وخلّف فيها من يخلفه ، ولا أرسل جيشا إلّا وأمّر عليهم كما تقتضيه الرئاسة والسياسة ، فكيف يمكن أن يتركهم في غيبته الدائمة معرضا للفتن ، وغرضا لسهام الخلاف ، على قرب عهدهم بالكفر ، وتوقّع الانقلاب منهم ، ووجود من مردوا على النفاق ، وتربّص الكفرة بهم الدوائر ، كما نطقت به آيات الكتاب العزيز؟!

وكيف يمكن أن لا يطالبه المسلمون ـ على كثرتهم ـ بنصب إمام لهم ، مع طول مرضه وإعلامه مرارا لهم بموته؟!

فلمّا لم يقع الطلب منهم مع ضرورة حاجتهم إلى إمام ، علم أنّه قد أغناهم بالبيان الذي علمه الشاهد والغائب ، وليس هو إلّا نصّ الغدير ونحوه ، فيكون أمير المؤمنين عليه‌السلام هو الإمام.

ولا يمكن أن يكون تشريع جواز ترك الاستخلاف سببا لترك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للنصّ كما زعموا ؛ لأنّ فائدة التشريع اتّباع الناس له في فعله.

وبالضرورة أنّه لم يتّفق ترك ملك أو خليفة للنصّ على من بعده عملا بالسنّة.

__________________

(١) الكشّاف ٤ / ١٥١ ، التفسير الكبير ٣٠ / ١٠٨.

(٢) راجع الصفحة ١٩٢ وما بعدها من هذا الجزء.

٢٩٥

ويمكن أن يستدلّ على إمامته بوجه سابع عقلي ، وهو :

إنّه لا ريب بأنّ من يعرف طرفا من التاريخ رأى أنّ بين أمير المؤمنين عليه‌السلام والمشايخ الثلاثة مباينة بعيدة ، ومناوأة شديدة ، حتّى لم يشهد التاريخ بحرب له في نصرتهم ، مع أنّه أبو الحرب وابن بجدتها (١) وما قام الإسلام إلّا بسيفه ، وما تخلّف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في موقف (٢) سوى تبوك ، وقام بأعباء الحروب الثقيلة في أيّام تولّيه الخلافة.

وقد امتلأت كتب التاريخ بما وقع بينه وبينهم ، لا سيّما الثالث (٣).

وذلك لا يجتمع مع البناء على أنّهم جميعا أركان الدين ، وأقطاب الحقّ ، وإخوة الصدق ، وهمّهم نصر الإسلام لا الزعامة الدنيوية ، فلا بدّ من وقوع خلل هناك ، إمّا لكونهم جميعا على باطل ـ ولا يقوله مسلم ـ ، أو لكون أحد الطرفين على الحقّ والآخر على الباطل ، وهو المتعيّن ، ولا قائل من أهل الإسلام بأنّ عليّا عليه‌السلام إذ ذاك : مبطل ، حتّى الخوارج ..

فيتعيّن أن يكون أمير المؤمنين عليه‌السلام هو المحقّ ، وغيره المبطل ، فلا بدّ أن يكون هو الإمام.

* * *

__________________

(١) بجد : بجد بالمكان : أقام به ، وعنده بجدة ذلك : أي علمه ، ومنه يقال : هو ابن بجدتها للعالم بالشيء المتقن له ، وكذلك يقال للدليل والهادي ؛ انظر : لسان العرب ١ / ٣١٦ مادّة « بجد ».

(٢) انظر : صحيح البخاري ٦ / ١٨ ح ٤٠٨ ، صحيح مسلم ٧ / ١٢٠ ، السيرة النبوية ـ لابن هشام ـ ٥ / ١٩٩ ، تاريخ الطبري ٢ / ١٨٣ ، الاستيعاب ٣ / ١٠٩٠ رقم ١٨٥٥ ، الكامل في التاريخ ٢ / ١٥٠ ، الإصابة ٤ / ٥٦٤ رقم ٥٦٩٢.

(٣) انظر : تاريخ اليعقوبي ٢ / ٦٨ ـ ٦٩ ، مروج الذهب ٢ / ٣٤١ ـ ٣٤٢ ، شرح نهج البلاغة ٩ / ١٤ ـ ٢٤.

٢٩٦

تعيين إمامة عليّ بالقرآن

١ ـ آية : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ ... )

قال المصنّف ـ أعلى الله درجته ـ (١) :

وأمّا المنقول : فالقرآن ، والسنّة المتواترة ..

أمّا القرآن ، فآيات :

الأولى : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) (٢).

أجمعوا على نزولها في عليّ عليه‌السلام (٣) ، وهو مذكور في [ الجمع بين ] (٤)

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٧٢.

(٢) سورة المائدة ٥ : ٥٥.

(٣) انظر التصريح بإجماع المفسّرين واتّفاقهم على ذلك في : المواقف : ٤٠٥ ، شرح المقاصد ٥ / ٢٧٠ ، شرح المواقف ٨ / ٣٦٠ ، شرح تجريد الاعتقاد ـ للقوشجي _ : ٤٧٦.

(٤) أثبتناه من نسخة « نهج الحقّ » في إحقاق الحقّ ٢ / ٣٩٩.

وكتاب « التجريد في الجمع بين الصحاح الستّة » للمحدّث أبي الحسن رزين بن معاوية بن عمّار العبدري الأندلسي السّرقسطي المالكي ، المجاور بمكّة ، المتوفّى سنة ٥٣٥ ه‍.

انظر : سير أعلام النبلاء ٢٠ / ٢٠٤ رقم ١٢٩ ، العبر في خبر من غبر ٢ / ٤٤٧ ، تذكرة الحفّاظ ٤ / ١٢٨١ ، مرآة الجنان ٣ / ٢٠١ ، كشف الظنون ١ / ٣٤٥ ، شذرات الذهب ٤ / ١٠٦.

٢٩٧

الصحاح الستّة ، لمّا تصدّق بخاتمه على المسكين في الصلاة بمحضر من الصحابة (١).

والوليّ : هو المتصرّف (٢).

وقد أثبت الله تعالى الولاية لذاته وشرك معه الرسول وأمير المؤمنين.

وولاية الله عامّة ، فكذا النبيّ والوليّ.

* * *

__________________

(١) انظر : جامع الأصول ٨ / ٦٦٤ ح ٦٥١٥ عن رزين العبدري ، المعجم الأوسط ٦ / ٢٩٤ ح ٦٢٣٢ ، تفسير السدّي : ٢٣١ ، المعيار والموازنة : ٢٢٨ ، أنساب الأشراف ٢ / ٣٨١ ، تفسير الطبري ٤ / ٦٢٨ ـ ٦٢٩ ح ١٢٢١٥ ـ ١٢٢١٩ ، أحكام القرآن ـ للجصّاص ـ ٢ / ٦٢٥ ـ ٦٢٦ ، معرفة علوم الحديث : ١٠٢ ، تفسير الماوردي ٢ / ٤٩ ، المتّفق والمفترق ـ للخطيب البغدادي ـ ١ / ٢٥٨ ح ١٠٦ ، أسباب النزول ـ للواحدي ـ : ١١٠ ـ ١١١ ، مناقب الإمام عليّ عليه‌السلام ـ لابن المغازلي _ : ٢٦٠ ـ ٢٦١ ح ٣٥٤ ـ ٣٥٧ ، شواهد التنزيل ١ / ١٦١ ـ ١٨٤ ح ٢١٦ ـ ٢٤٠ ، تفسير البغوي ٢ / ٣٨ ، الكشّاف ١ / ٦٢٤ ، تفسير القرطبي ٦ / ١٤٣ ـ ١٤٤ ، مناقب الإمام عليّ عليه‌السلام ـ للخوارزمي ـ : ٢٦٤ ح ٢٤٦ ، تاريخ دمشق ٤٢ / ٣٥٧ ، تفسير الفخر الرازي ١٢ / ٢٨ ، تفسير البيضاوي ١ / ٢٧٢ ، شرح المقاصد ٥ / ٢٦٩ ، مجمع الزوائد ٧ / ١٧ ، شرح المواقف ٨ / ٣٥٩ ـ ٣٦٠ ، الدرّ المنثور ٣ / ١٠٥.

(٢) انظر مادّة « ولي » في : لسان العرب ١٥ / ٤٠١ ، تاج العروس ٢٠ / ٣١١ و ٣١٥.

٢٩٨

وقال الفضل (١) :

جوابه : إنّ المراد من الوليّ : الناصر ، فإنّ الوليّ لفظ مشترك ، يقال للمتصرّف ، والناصر ، والمحبّ ، والأولى بالتصرّف ، كوليّ الصبيّ والمرأة.

والمشترك إذا تردّد بين معانيه ، يلزم وجود القرينة للمعنى المطلوب منه ، وهاهنا كذلك ، فلا يكون هذا نصّا على إمامة عليّ ، فبطل الاستدلال به.

وأمّا القرائن على أنّ المراد بالوليّ : الناصر ـ في الآية ـ لا الأولى والأحقّ بالتصرّف ؛ لأنّه لو حمل على هذا لكان غير مناسب لما قبلها ، وهو قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) (٢) ، فإنّ الأولياء هاهنا : الأنصار ، لا بمعنى الأحقّين بالتصرّف ..

وغير مناسب لما بعدها ، وهو قوله تعالى : ( وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ ) (٣) ، فإنّ التولّي هاهنا بمعنى المحبّة والنصرة.

فوجب أن يحمل ما بينهما على النصرة أيضا ؛ ليتلاءم أجزاء الكلام.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٤٠٨.

(٢) سورة المائدة ٥ : ٥١.

(٣) سورة المائدة ٥ : ٥٦.

٢٩٩

وأقول :

لا يبعد أنّ الوليّ مشترك معنى ، موضوع للقائم بالأمر ، أي الذي له سلطان على المولّى عليه ـ ولو في الجملة ـ ، فيكون مشتقّا من الولاية ، بمعنى السلطان.

ومنه : وليّ المرأة والصبي والرعيّة ، أي القائم بأمورهم وله سلطان عليهم في الجملة.

ومنه أيضا : الوليّ : بمعنى الصديق والمحبّ ، فإنّ للصديق ولاية وسلطانا في الجملة على صديقه وقياما بأموره.

وكذا الناصر بالنسبة إلى المنصور ، والحليف بالنسبة إلى حليفه ، والجار بالنسبة إلى جاره .. إلى غير ذلك (١).

فيحنئذ يكون معنى الآية : إنّما القائم بأموركم هو الله ورسوله وأمير المؤمنين ، ولا شكّ أنّ ولاية الله تعالى عامّة في ذاتها ، مع أنّ الآية مطلقة فتفيد العموم بقرينة الحكمة (٢) ، فكذا ولاية النبيّ والوصيّ ..

فيكون عليّ عليه‌السلام هو القائم بأمور المؤمنين ، والسلطان عليهم ، والإمام

__________________

(١) انظر مادّة « ولي » في : لسان العرب ١٥ / ٤٠١ ـ ٤٠٣ ، تاج العروس ٢٠ / ٣١٠ ـ ٣١٦.

(٢) قرينة الحكمة : هي أنّه إذا كان المتكلّم الحكيم في مقام بيان مراده الجدّي ، وكان ملتفتا إلى انقسامات موضوع حكمه ، ولم يقم قرينة على إرادة خصوصية منها ، كان كلامه ظاهرا في الإطلاق بحكم العقل ، ويعمّ كلّ الانقسامات ؛ لأنّه لو أراد شيئا منها بخصوصه كان مقتضى الحكمة إقامة القرينة على ذلك.

انظر مثلا : أصول الفقه : ١٨٤ ـ ١٨٦.

٣٠٠