دلائل الصدق لنهج الحق - ج ٤

الشيخ محمد حسن المظفر

دلائل الصدق لنهج الحق - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد حسن المظفر


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-357-8
الصفحات: ٤٤٢

وما أدري كيف تتصوّر الخطيئة من نوح في دعائه ، وهو إنّما دعا على الكافرين الّذين لا يلدون إلّا فاجرا كفّارا؟!

ودعوى أنّ خطيئته لنسبته ذلك إليهم كذبا ، باطلة ، إذ لو سلّم عدم إضلالهم وأنّهم يلدون مؤمنا ، فنسبة ذلك إن صدرت منه خطأ فلا خطيئة له ، وإن صدرت عمدا كانت له خطيئتان : الكذب والدعوة على من لا يستحقّ ، لا خطيئة واحدة كما يظهر من الأخبار هذه!

وممّا ينكره العقل على هذه الأحاديث :

أوّلا : إعراض المسلمين عن طلب الشفاعة من نبيّهم وهم يعتقدون أنّه سيّد الأنبياء ، وعدول من عدا عيسى من هؤلاء الأنبياء عن نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم يعلمون أنّه أولى بالشفاعة.

كما ينكر العقل عليها ثانيا : مخاطبة الناس بعضهم بعضا ، وطلبهم الرأي وهم في حال الشدّة وقد دنت الشمس منهم ، والله سبحانه يقول : ( يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ ) (١).

وأيضا فقد نسب في حديثي أنس إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رؤية الله (٢) ، وقد عرفت امتناعها (٣).

ونسب إليه في حديث أنس بكتاب التوحيد ، أنّه قال : « فأستأذن

__________________

(١) سورة الحجّ ٢٢ : ٢.

(٢) انظر الهامش رقم ٣ من الصفحة السابقة ، عن البخاري وغيره.

(٣) راجع ج ٢ / ٤٧ و ١١٠ فما بعدها من هذا الكتاب.

١٠١

على ربّي في داره » (١) فأثبت له المكان ، وهو يوجب الإمكان.

واعلم أنّا نعتقد أنّ إبراهيم عليه‌السلام لم يكذب قطّ حتّى بقوله : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ) (٢) ..

إمّا لكونه ليس من باب الإخبار الحقيقي ، بل من باب التبكيت والإلزام لهم بالحجّة على بطلان مذهبهم وعبادتهم لما لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع عنها ضرّا ، كما يشهد له قوله : ( فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ) (٣).

وإمّا للاشتراط بقوله : ( إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ) ؛ لدلالته على أنّ إخباره مقيّد به بناء على كونه شرطا لقوله : ( فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ ).

ولكنّ الكلام في أحاديث القوم الدالّة على الكذب الحقيقي من إبراهيم عليه‌السلام ، وأنّ خطيئته تمنعه من الشفاعة.

نعم ، للبخاري في « كتاب بدء الخلق » ، ولمسلم في « باب فضائل إبراهيم » ، رواية تدلّ على أنّ كذبتين من الثلاث حقيقيّتان ، إلّا أنّهما في ذات الله! والثالثة بصورة الكذب لمصلحة شرعية (٤)! ..

وهذه الرواية لا توجب صرف روايات الشفاعة عن ظاهرها من الخطيئة ، بل تنافيها وتضادّها ، وإلّا فما معنى اعتذار إبراهيم عن الشفاعة بالكذب والخطيئة إذا كان كذبه في ذات الله ، أو صوريّا لمصلحة شرعية؟!

__________________

(١) الجمع بين الصحيحين ـ للحميدي ـ ٢ / ٥٤٨ ذ ح ١٩٠٢ ، وانظر : صحيح البخاري ٩ / ٢١٧ ـ ٢١٨ ح ٣٩ ، مسند أحمد ٣ / ٢٤٤ ، السنّة ـ لابن أبي عاصم ـ : ٣٦٠ ح ٨٠٤ ، التوحيد ـ لابن خزيمة ـ : ٢٤٨.

(٢) سورة الأنبياء ٢١ : ٦٣.

(٣) سورة الأنبياء ٢١ : ٦٣.

(٤) صحيح البخاري ٤ / ٢٨٠ ح ١٦١ كتاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، صحيح مسلم ٧ / ٩٨ ؛ وقد تقدّم ذلك عنهما وعن غيرهما في الصفحة ٩٧ من هذا الجزء.

١٠٢

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ (١) :

وفي « الجمع بين الصحيحين » أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « نحن أحقّ بالشكّ من إبراهيم إذ قال : ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) (٢) ، ويرحم الله لوطا ، لقد كان يأوي إلى ركن شديد ، ولو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي » (٣).

كيف يجوز لهؤلاء الاجتراء على النبيّ بالشكّ في العقيدة؟!

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٥٣.

(٢) سورة البقرة ٢ : ٢٦٠.

(٣) الجمع بين الصحيحين ٣ / ٤٥ ح ٢٢٢٥ ، وانظر : صحيح البخاري ٤ / ٢٩٠ ح ١٧٤ وج ٦ / ٦٧ ح ٦٠ ، صحيح مسلم ١ / ٩٢ وج ٧ / ٩٨ ، سنن ابن ماجة ٢ / ١٣٣٥ ح ٤٠٢٦ ، مسند أحمد ٢ / ٣٢٦ ، مسند أبي عوانة ١ / ٧٧ ـ ٧٨ ح ٢٣٠ ـ ٢٣٢ ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان ٨ / ٣٠ ح ٦١٧٥.

١٠٣

وقال الفضل (١) :

كان من عادة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التواضع مع الأنبياء كما قال : « لا تفضّلوني على يونس بن متّى » (٢) ..

وقال : « لا تفضّلوني على موسى » (٣).

وقد ذكر في هذا الحديث فضائل الأنبياء ، فذكر ثبات إبراهيم في الإيمان ، والمراد بالحديث أنّ إبراهيم مع ثباته في الإيمان وكمال استقامته في إثبات الصانع ، كان يريد الاطمئنان ويقول : ( وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) (٤) ، فغيره أحقّ بهذا التردّد الذي يوجب الاطمئنان.

وأمّا الترحّم على لوط فهو أمر واقع ، فإنّ لوطا كان يأوي إلى ركن شديد كما قال : ( آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) (٥) ، فترحّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له لكونه كان ضعيفا ، وليس فيه الدلالة على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاب لوطا في إيوائه إلى ركن شديد.

وأمّا قوله : « لو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي » ..

ففيه : وصف يوسف بالصبر والتثبّت في الأمور ، وأنّه صبر مع طول

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٢٥١.

(٢) انظر : الشفا بتعريف حقوق المصطفى ١ / ٢٢٦ ، البداية والنهاية ١ / ٢١٣ ، إتحاف السادة المتّقين ٢ / ١٠٥.

(٣) صحيح البخاري ٣ / ٢٤٣ ح ٢ ، صحيح مسلم ٧ / ١٠١.

(٤) سورة البقرة ٢ : ٢٦٠.

(٥) سورة هود ١١ : ٨٠.

١٠٤

السجن حتّى تبيّن أمره.

فانظروا معاشر الناظرين : هل في هذه الأمور يرجع عيب وشين إلى الأنبياء ، مع أنّ الحديث صحّ وهو يطعن في قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!

نعوذ بالله من رأيه الفاسد.

* * *

١٠٥

وأقول :

لا ريب بتواضع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المؤمنين فضلا عن النبيّين ، لكن لا وجه للتواضع المدّعى مع إبراهيم ويوسف ، إذ لا يصحّ تواضع الشخص بإثباته لنفسه أمرا قبيحا ، كقول الشخص : أنا فاسق ، أو نحوه.

وقول النبيّ : « نحن أحقّ بالشكّ من إبراهيم » فإنّ الشكّ في الصانع والحشر أعظم الأمور نقصا ومباينة لمن هو في محلّ الدعوة إلى الإقرار بالصانع والحشر.

وقريب منه قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي » ، فإنّه دالّ على قلّة صبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحكمته بالنسبة إلى يوسف ، وهو لا يلائم دعوته إلى مكارم الأخلاق والصبر الكامل والتسليم ..

فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا جعل نفسه أدنى صبرا من يوسف الذي توسّل غفلة إلى خلاصه من السجن بمخلوق ، فقال : ( اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ) (١) ، لما ناسب طلبه من الناس الصبر الأعلى ، والتسليم لأمر الله في كلّ شيء ، والاستعانة بالله لا بغيره في كلّ أمر.

كما إنّ تواضع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي ذكره الخصم مع موسى ويونس كاذب ، وإلّا كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متناقض القول ؛ لأنّه يقول في مقامات أخر :

__________________

(١) سورة يوسف ١٢ : ٤٢.

١٠٦

« أنا سيّد ولد آدم » (١)

ويقول : « إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيّين ، وخطيبهم ، وصاحب شفاعتهم غير فخر » (٢) ..

ويقول : « أنا سيّد الناس يوم القيامة » (٣).

وكذا في الحديث السابق الذي ذكر فيه اعتذار أعاظم الأنبياء عن الشفاعة.

وهذا الذي زعم الخصم تواضع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه مع موسى قد رواه القوم بقصّة ظاهرة الكذب ؛ لأنّهم زعموا فيها أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنكر على من فضّله على موسى ، وأنّه أظهر بمحضر اليهودي الشكّ في فضله على موسى ، مستندا إلى أنّه ينفخ في الصور وأنّه أوّل من يبعث ، فإذا موسى آخذ بالعرش فلا يدري النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحوسب موسى بصعقته في الطور ، أم بعث قبله؟!

__________________

(١) صحيح مسلم [ ٧ / ٥٩ ] كتاب الفضائل / باب تفضيل نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. منه قدس‌سره.

وانظر : سنن أبي داود ٤ / ٢١٧ ـ ٢١٨ ح ٤٦٧٣ ، سنن الترمذي ٥ / ٢٨٨ ح ٣١٤٨ وص ٥٤٨ ح ٣٦١٥ ، مسند أحمد ١ / ٢٨١ و ٢٩٥ وج ٢ / ٥٤٠ وج ٣ / ٢ ، التاريخ الكبير ـ للبخاري ـ ٧ / ٤٠٠ رقم ١٧٤٨.

(٢) مسند أحمد ٥ / ١٣٧ و ١٣٨. منه قدس‌سره.

وانظر : سنن الترمذي ٥ / ٥٤٧ ذ ح ٣٦١٣ ، سنن ابن ماجة ٢ / ١٤٤٣ ح ٤٣١٤ ، الكامل في الضعفاء ٤ / ١٢٩ ضمن الرقم ٩٦٩ ، المستدرك على الصحيحين ١ / ١٤٣ ح ٢٤٠ و ٢٤١ وج ٤ / ٨٨ ح ٦٩٦٩.

(٣) مسند أحمد ٥ / ٣٨٨. منه قدس‌سره.

وانظر كذلك : مسند أحمد ١ / ٢٨١ و ٢٩٥ وج ٢ / ٤٣٥ وج ٣ / ٢ و ١٤٤ ، صحيح البخاري ٦ / ١٥٧ ح ٢٣٣ ، صحيح مسلم ١ / ١٢٧ و ١٢٩ ، سنن الترمذي ٤ / ٥٣٨ ح ٢٤٣٤ ، مسند أبي عوانة ١ / ١٤٧ ـ ١٤٩ ح ٤٣٧ ـ ٤٤٠ ، المستدرك على الصحيحين ١ / ٨٣ ح ٨٢ وج ٤ / ٦١٧ ـ ٦١٨ ح ٨٧١٢.

١٠٧

وهذا إغراء لليهودي بالجهل! حيث ادّعى أنّ الله اصطفى موسى على البشر ، فلا يمكن أن يصدر من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!

روى ذلك مسلم في باب فضائل موسى ، والبخاري في أوّل أبواب الخصومات بعد كتاب المساقاة ، وفي تفسير سورة الأعراف ، وفي كتاب بدء الخلق (١).

وأمّا قوله : « وقد ذكر في هذا الحديث فضائل الأنبياء » ..

ففيه : إنّا لا نعرف فضيلة ذكرت فيه لإبراهيم ولوط ..

أمّا لإبراهيم ؛ فلأنّه لم يشتمل بالنسبة إليه إلّا على إثبات الشكّ له في الحشر ، ولا أقلّ من دلالته على أنّه ضعيف اليقين ، وذلك مباين للنبوّة ، ومناف لقوله تعالى : ( وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ ) (٢) .. وقوله تعالى : ( وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) (٣).

والحقّ أنّ إبراهيم عليه‌السلام لم يطلب الاطمئنان بالحشر ، بل بغيره (٤) ، أو

__________________

(١) صحيح مسلم ٧ / ١٠١ ، صحيح البخاري ٣ / ٢٤٣ ح ٢ و ٣ وج ٤ / ٣٠٧ ح ٢٠٨ وج ٦ / ١١٤ ـ ١١٥ ح ١٦٠.

(٢) سورة الأنبياء ٢١ : ٥١.

(٣) سورة الأنعام ٦ : ٧٥.

(٤) ذكر في ذلك عدّة وجوه ، نذكر منها أنسبها بمقام خليل الرحمن إبراهيم عليه‌السلام ونبوّته :

١ ـ سكون القلب إلى المشاهدة والمعاينة ، ليصير علم اليقين عين اليقين ، كما يحبّ المؤمن أن يرى الجنّة وهو مؤمن بها من قبل ، وذلك من دون تطرّق الشكّ أو الوساوس والخطرات أساسا كما ورد عن بعض المفسّرين ، فهذا ينافي العصمة ..

٢ ـ الاطمئنان من القتل وخوف انقطاع التبليغ بسبب ذلك بعد أن هدّده نمرود _

١٠٨

طلب الاطمئنان بالحشر لقومه بأن يكون خطابه مع الله مجاراة لهم لطلبهم له كقول موسى : ( رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ) (١) (٢).

وأمّا عدم اشتماله على فضيلة للوط ؛ فلأنّ قول النبيّ : « ويرحم الله لوطا ، لقد كان يأوي إلى ركن شديد » (٣) ، ظاهر في التعريض بلوط ، حيث قال : ( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) (٤).

فإنّ قول لوط يدلّ على أنّه لم يأو إلى ركن شديد لمكان « لو » ، فعرّض به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه كاذب ، لأنّه آوى ، أو بأنّه ضعيف القلب لا يرى الركن الشديد ركنا شديدا ، وكلاهما ذمّ لا فضيلة!

ومن المضحك أنّ الخصم استدلّ على إيوائه إلى ركن شديد بقوله في الآية : ( آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) ، مع أنّ معناها : « لو آوي »!

وأيّ عيب يريد الخصم أن يشتمل عليه الحديث أكثر من الضعف الذي زعمه ، وهو مناف للإمامة فضلا عن النبوّة؟! حتّى إنّ الخصم بنفسه حكم في مبحث الإمامة بأنّه يشترط في الإمام أن يكون شجاعا قويّ القلب ، فكيف يجوز إثبات الضعف للنبيّ؟! وكيف يصحّ الحديث الدالّ على ذلك؟!

__________________

بذلك في المحاججة التي جرت بينهما في الإحياء والإماتة.

انظر مثلا : تفسير الثعلبي ٢ / ٢٥١ ـ ٢٥٢ ، تنزيه الأنبياء ـ للمرتضى ـ : ٥١ ، مجمع البيان ٢ / ١٧٧ ـ ١٧٨ الوجهين الأوّل والثالث ، تفسير الفخر الرازي ٧ / ٤٢ الوجهين الثاني والرابع ، عصمة الأنبياء ـ للفخر الرازي ـ : ٥٤ الوجه السادس.

(١) سورة الأعراف ٧ : ١٤٣.

(٢) انظر مثلا : تنزيه الأنبياء ـ للمرتضى ـ : ٥١.

(٣) تقدّم تخريجه في الصفحة ١٠٣ ه‍ ٣.

(٤) سورة هود ١١ : ٨٠.

١٠٩

والحقّ أنّ ذلك القول من لوط عليه‌السلام لم يكن عن ضعف منه ، وإنّما قاله لأنّ نظر الناس إلى القوّة التي يشاهدونها لا إلى الله تعالى ، فخاطبهم على حسب عقولهم ، أو لأنّه قال ذلك استفزازا لعشيرته واستنصارا بهم على الحقّ.

* * *

١١٠

قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ (١) :

وفي الصحيحين ، قال : « بينما الحبشة يلعبون عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحرابهم ، دخل عمر فأهوى إلى الحصباء ، فحصبهم بها ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعهم يا عمر » (٢).

وروى الغزّالي في « إحياء علوم الدين » : « إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان جالسا وعنده جوار يغنّين ويلعبن ، فجاء عمر فاستأذن ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للجوار [ ي ] : اسكتن! فسكتن ، فدخل عمر وقضى حاجته ، ثمّ خرج ..

فقال لهنّ : عدن ؛ فعدن إلى الغناء.

فقلن : يا رسول الله! من هذا الذي كلّما دخل قلت : اسكتن ؛ وكلّما خرج قلت : عدن إلى الغناء؟!

قال : هذا رجل لا يؤثر سماع الباطل » (٣).

كيف يحلّ لهؤلاء القوم رواية مثل ذلك عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!

أيرى عمر أشرف من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث لا يؤثر سماع الباطل والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤثره؟!!

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٥٣.

(٢) صحيح البخاري ٤ / ١٠٦ ح ١١٣ ، صحيح مسلم ٣ / ٢٣ ، وانظر : الجمع بين الصحيحين ٣ / ٣٣ ح ٢٢١١ ، مسند أحمد ٢ / ٣٠٨ ، المصنّف ـ لعبد الرزّاق ـ ١٠ / ٤٦٦ ح ١٩٧٢٤ ، مسند أبي عوانة ٢ / ١٥٧ ـ ١٥٨ ح ٢٦٥٥ ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان ٧ / ٥٤٤ ح ٥٨٣٧ ، شرح السنّة ٣ / ١٧٩ ح ١١١٢.

(٣) لم نجده في إحياء علوم الدين ـ المطبوع الموجود بين أيدينا ـ بهذا اللفظ ، ونقله عنه السيّد ابن طاووس في الطرائف : ٣٦٤.

١١١

وقال الفضل (١) :

أمّا لعب الحبشة بالحراب فإنّه كان يوم عيد ، وقد ذكرنا أنّه يجوز اللهو يوم العيد بالاتّفاق (٢).

ويمكن أن يكون تجويز ذلك اللعب بالحراب ؛ لأنّه ينفع في الحرب ، وفيه المهارة من طعن الحربة وكيفية تعليمه وإلقائه في الحرب ، وكلّ ما كان من أمر الحرب فلا بأس به.

ويمكن أن يكون عمر لم يعلم جوازه فعلّمه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأمّا ما روي عن الغزّالي ، فإن صحّ يمكن حمله على جواز اللعب مطلقا ، أو في أيّام الأعياد ، وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسمعه لضرورة التشريع حتّى يعلم أنّ اللهو ليس بحرام ، وربّما كان عمر يمتنع منه ومكّنه على عدم السماع ، ليعلم أنّ الأولى تركه ، وسمع هو ـ كما ذكرنا ـ لضرورة التشريع ، فهل يلزم من هذا أن يكون عمر أشرف من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعمر من أمّته وممّن يتعلّم منه الشريعة؟!

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٢٥٧.

(٢) تقدّم في الصفحة ٧٦ من هذا الجزء.

١١٢

وأقول :

دعواه أنّ ذلك اللعب كان يوم عيد ، رجم بالغيب ، ومجرّد ورود بعض أخبارهم في وقوع لعب يوم عيد لا يقتضي أن يكون هذا اللعب كذلك.

ومن نظر إلى أخبارهم الكثيرة في وقوع اللعب عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع عدم تعيين وقت (١) ، علم أنّه لم يختصّ بوقت ، على أنّك عرفت حال ما استدلّوا به لحلّيّة اللهو في العيد (٢).

وأمّا تعليله لحلّيّة اللعب في الحراب بنفعه في الحرب ، وأنّ كلّ ما كان من أمر الحرب فلا بأس به ، فدعوى مجرّدة عن دليل.

وأمّا عذره بأنّ عمر لا يعلم ، فمستلزم لأن يكون عمر ـ بحصبه للحبشة بمحضر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مقدّما بين يدي الله ورسوله ، وهو ممّا نهى الله عنه في كتابه العزيز (٣).

ومن أظرف الأمور أنّه كلّما وردت رواية تتضمّن مثل ذلك يكون محلّها عند الخصم جهل عمر وتعليم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيّاه ، فهلّا علم جواز

__________________

(١) انظر : صحيح البخاري ٢ / ٥٤ ح ٢ ، صحيح مسلم ٣ / ٢٢ ، الجمع بين الصحيحين ـ للحميدي ـ ٤ / ٥٣ ح ٣١٦٨ ، سنن الترمذي ٥ / ٥٨٠ ح ٣٦٩٠ و ٣٦٩١ ، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ ٥ / ٣٠٩ ح ٨٩٥٧ ، الكامل في الضعفاء ٣ / ٥١ رقم ٦٠٨ ، مصابيح السنّة ٤ / ١٥٩ ح ٤٧٣٧ ، تاريخ دمشق ٤٤ / ٨٢ و ٨٤.

(٢) راجع ما مرّ في الصفحة ٧٨ وما بعدها من هذا الجزء.

(٣) وذلك قوله تعالى : ( لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ ) سورة الحجرات ٤٩ : ١.

منه قدس‌سره.

١١٣

اللهو في العيد من أوّل مرّة؟!

وأمّا جوابه عن رواية الغزّالي بأنّه يمكن حملها على جواز اللعب مطلقا ..

ففيه : إنّه لا يصحّ معارضة السنّة للكتاب المجيد بنحو المباينة (١) ، فكيف يحلّل اللهو بها مطلقا وقد حرّمه الكتاب كذلك؟!

وأمّا دعوى السماع لضرورة التشريع ، فقد عرفت ما فيها من منع الضرورة ؛ لعدم انحصار طريق التشريع بالسماع (٢) ، وكيف يسمعه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأولى ترك السماع بإقرار الخصم؟!

أيحتمل أن يمتنع عمر منه ويمكّنه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الامتناع ، ولا يمتنع عنه بنفسه الطاهرة وله عنه مندوحة بالتشريع القولي؟!

ولو توقّف تشريع جواز المكروهات على فعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها ، للزم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأتي بكلّ مكروه ، كما يلزم أن يأتي بكلّ محرّم أبيح للضرورة ، كشرب الخمر ، فيضطرّه الله سبحانه إليه فيشربه تشريعا له ؛ ولم يقل به مسلم!

ولو سلّم حاجة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى السماع للتشريع كفى سماعه أوّل مرّة ، فما باله يقول : « عدن » إذا خرج عمر؟! وما باله تكرّرت منه الوقائع الكثيرة كما تفيده أخبارهم؟!

ثمّ إنّ تعبير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن اللهو ب‍ « الباطل » دليل على أنّه حرام لا مكروه ، فإنّ المكروه لا يسمّى باطلا ، فيلزم أن يكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند

__________________

(١) وذلك لصدق المخالفة للكتاب إذا كان التعارض مستقرّا ولم يكن هناك ما يصلح لأن يكون قرينة على التخصيص أو التقييد ، فيجب طرحه.

(٢) راجع الصفحة ٨٧ من هذا الجزء.

١١٤

القوم مرتكبا للحرام والباطل دون عمر ، وكذا عند عمر نفسه ، فيكون أفضل من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى الإسلام السلام!!

وقريب من رواية الغزّالي ما رواه أحمد ، عن الأسود بن سريع (١) ، قال : « أتيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت : يا رسول الله! إنّي قد حمدت ربّي بمحامد ومدح وإيّاك.

قال : هات ما حمدت به ربّك.

قال : فجعلت أنشده ، فجاء رجل أدلم (٢) فاستأذن ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بين بين.

قال : فتكلّم ساعة ثمّ خرج ، فجعلت أنشده ، ثمّ جاء فاستأذن ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بين بين ؛ ففعل ذلك مرّتين أو ثلاثا.

فقلت : يا رسول الله! من هذا الذي استنصتّني له؟!

قال : عمر بن الخطّاب ، هذا رجل لا يحبّ الباطل ».

* * *

__________________

(١) مسند أحمد ٣ / ٤٣٥. منه قدس‌سره.

وانظر : فضائل الصحابة ـ لأحمد بن حنبل ـ ١ / ٣١٨ ـ ٣٢٠ ح ٣٣٤ ـ ٣٣٦ ، المعجم الكبير ١ / ٢٨٧ ـ ٢٨٨ ح ٨٤٤ ، المستدرك على الصحيحين ٣ / ٧١٢ ـ ٧١٣ ح ٦٥٧٦ ، حلية الأولياء ١ / ٤٦.

والأسود بن سريع بن حمير بن عبادة التميمي السعدي ، كان شاعرا قاصّا ، وكان أوّل من قصّ في مسجد البصرة ، مات سنة ٤٢ ه‍ في زمان معاوية ، وقيل : فقد أيّام الجمل ، وقيل : لمّا قتل عثمان ركب الأسود سفينة وحمل معه أهله وعياله ، فانطلق فما رئي بعد.

انظر : الاستيعاب ١ / ٨٩ رقم ٤٤ ، أسد الغابة ١ / ١٠٣ ـ ١٠٤ رقم ١٤٤ ، الإصابة ١ / ٧٤ ـ ٧٥ رقم ١٦١.

(٢) الأدلم : الطويل الشديد السواد من الرجال ؛ انظر : لسان العرب ٤ / ٣٩٥ مادّة « دلم ».

١١٥

قال المصنّف ـ رفع الله درجته ـ (١) :

وفي « الجمع بين الصحيحين » عن أبي هريرة ، قال : « أقيمت الصلاة وعدّلت الصفوف قياما قبل أن يخرج إلينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فخرج إلينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا قام في مصلّاه ذكر أنّه جنب ، فقال لنا : مكانكم! فلبثنا على هيئتنا قياما ، فاغتسل ثمّ خرج إلينا ورأسه يقطر ، فكبّر وصلّينا » (٢).

فلينظر العاقل هل يحسن منه وصف أدنى الناس بأنّه يحضر الصلاة ويقوم في الصفّ وهو جنب؟!

وهل هذا إلّا من التقصير في عبادة ربّه وعدم المسارعة إليها؟! وقد قال تعالى : ( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ) (٣) .. ( فاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ ) (٤) ..

فأيّ مكلّف أجدر بقبول هذا الأمر من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!

وفي « الجمع بين الصحيحين » عن أبي هريرة ، قال : « صلّى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إحدى صلاتي العشيّ ـ وأكثر ظنّي أنّها العصر ـ ركعتين ،

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٥٤.

(٢) الجمع بين الصحيحين ٣ / ٥٦ ح ٢٢٣٧ ، وانظر : صحيح البخاري ١ / ١٢٨ ح ٢٧ وص ٢٦٠ ـ ٢٦١ ح ٣٥ و ٣٦ ، صحيح مسلم ٢ / ١٠١ ، سنن أبي داود ١ / ٥٩ ح ٢٣٥ ، سنن النسائي ٢ / ٨١ ـ ٨٢ و ٨٩ ، سنن ابن ماجة ١ / ٣٨٥ ح ١٢٢٠ ، مسند أحمد ٢ / ٥١٨.

(٣) سورة آل عمران ٣ : ١٣٣.

(٤) سورة البقرة ٢ : ١٤٨ ، سورة المائدة ٥ : ٤٨.

١١٦

ثمّ سلّم ، ثمّ قام إلى خشبة في مقدّمة المسجد فوضع يده عليها ، وفيهم أبو بكر وعمر ، فهاباه أن يكلّماه.

وخرج سرعان الناس فضجّ الناس وقالوا : أقصرت الصلاة؟! ورجل يدعى ذو اليدين قال : يا نبيّ الله! أنسيت أم قصرت الصلاة؟!

فقال : لم أنس ولم تقصر.

قال : بلى نسيت.

قال : صدق ذو اليدين.

فقام فصلّى ركعتين ، ثمّ سلّم » (١).

فلينظر العاقل هل يجوز نسبة هذا الفعل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!

وكيف يجوز منه أن يقول : « ما نسيت »؟! فإنّ هذا سهو في سهو!

ومن يعلم أنّ أبا بكر وعمر حفظا ما نسي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أنّهما لم يذكرا ذلك للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!

* * *

__________________

(١) الجمع بين الصحيحين ٣ / ١٨٢ ح ٢٤١٢ ، وانظر : صحيح البخاري ١ / ٢٠٦ ح ١٣٩ وج ٢ / ١٥١ ـ ١٥٢ ح ٢٥٣ وج ٨ / ٢٩ ح ٧٩ ، صحيح مسلم ٢ / ٨٦ ، سنن أبي داود ١ / ٢٦٣ ح ١٠٠٨ ، سنن النسائي ٣ / ٢٠ ـ ٢١ ، سنن ابن ماجة ١ / ٣٨٣ ح ١٢١٤ ، سنن الدارمي ١ / ٢٥١ ب‍ ١٧٥ ح ١٤٩٩ ، مسند أحمد ٢ / ٢٣٤ ـ ٢٣٥ و ٢٤٨ و ٢٨٤.

١١٧

وقال الفضل (١) :

قد مرّ في ما سبق جواز السهو والنسيان على الأنبياء ؛ لأنّهم بشر ، سيّما إذا كان السهو موجبا للتشريع (٢) ، فإنّ التشريع في الأعمالالفعلية آكد وأثبت من الأقوال ، فما ذكر من حديث تذكّر الجنابة فمن باب النسيان ، وفيه تشريع العمل بعد النسيان إذا تذكّر.

ولهذا ترجم البخاري الباب الذي ذكر فيه هذا الحديث بقوله : « باب من تذكّر أنّه جنب رجع فاغتسل » (٣) ، ولا يلزم من هذا نقص.

وما ذكر من سهو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الصلاة ، فهو سهو يتضمّن التشريع ؛ لأنّه شرّع بذلك النسيان جواز وقوع الفعل المتعلّق بالصلاة في أثناء الصلاة ، وكذا الكلام القليل.

والعجب أنّه قال : « كيف يجوز أن يحفظ أبو بكر وعمر ما نسي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! » ..

وأيّ عجب في هذا؟! فإنّ الإمام كثيرا ما يسهو ، والمأمومون لا يسهون ، فلا يلزم من هذا تفضيل المأموم على الإمام ، وهل هذه الكلمات إلّا ترّهات ومزخرفات؟!

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٢٥٩.

(٢) تقدّم في الصفحتين ٢١ و ٥١ من هذا الجزء.

(٣) صحيح البخاري ١ / ١٢٨ ح ٢٧.

١١٨

وأقول :

بيّنّا في ما سبق امتناع وقوع السهو من النبيّ في العبادة ، وبطلان التشريع بالأفعال الموجبة لنقصه كما في المقام (١) ، فإنّ سهوه عن الغسل حتّى يشارف على الدخول في الصلاة أو يدخل فيها نقص ظاهر ، إذ هو خلاف المحافظة على العبادة والسبق إلى الخير ، ومناف لما حثّ به على كثرة تلاوة القرآن التي تكره من الجنب ، بل تحرّم إذا كان من العزائم (٢).

على أنّه معرّض لنزول الملائكة عليه ، والملائكة لا تدخل بيتا فيه جنب كما استفاض في أخبارهم (٣) ، فكيف يؤخّر غسله هذا التأخير حتّى ينسى؟!

وأيضا : قد تضافرت الأخبار ـ كما سبق ـ بأنّه تنام عيناه ولا ينام قلبه (٤) ، فكيف ينام عن عبادة ربّه وهو يقظان؟!

ولا يمكن أن يسهيه الله طلبا للتشريع ؛ فإنّ نبيّه أشرف عنده من أن يجعله عرضة للنقص ومحلّا للانتقاد بأمر عنه مندوحة ، وهي التشريع بالقول.

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ٥٣ وما بعدها من هذا الجزء.

(٢) انظر : مسند البزّار ٢ / ٢٨٤ ح ٧٠٦ ، مجمع الزوائد ١ / ٢٧٦ وج ٢ / ٨٥ ، كنز العمّال ١ / ٦٢١ ح ٢٨٧٣.

(٣) سنن أبي داود ١ / ٥٧ ح ٢٢٧ ، سنن النسائي ١ / ١٤١ ، سنن الدارمي ٢ / ١٩٦ ح ٢٦٥٩ ، مسند أحمد ١ / ٨٣ و ١٠٧ و ١٣٩ و ١٥٠ ، المستدرك على الصحيحين ١ / ٢٧٨ ح ٦١١ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ١ / ٢٠١.

(٤) راجع الصفحة ٥٤ ه‍ ٤ من هذا الجزء.

١١٩

ودعوى أنّ التشريع بالأعمال الفعلية آكد لا نعرف وجهها ، بل الأمر بالعكس ؛ لأنّ الفعل يحتمل خصوصية النبيّ بخلاف القول العامّ.

ولو تنزّلنا عن هذا كلّه ، فلا نتصوّر حاجة للتشريع في أمر الغسل ؛ لأنّ الواجب المؤقّت الذي لم يفت وقته ، أو غير المؤقّت ، لا يحتاج إلى التشريع بعد النسيان ، لكفاية الأمر الأوّل في لزوم الإتيان به.

هذا ، ولا يخفى أنّ حديث الجنابة الذي ذكره المصنّف رحمه‌الله لم يصرّح بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر الجنابة بعد الدخول في الصلاة ، ولكنّ حديث أحمد (١) عن أبي هريرة صرّح به ، قال : « إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج إلى الصلاة ، فلمّا كبّر انصرف ، وأومأ إليهم ـ أي : كما أنتم ـ ، ثمّ خرج فاغتسل ، ثمّ جاء ورأسه يقطر فصلّى بهم ، فلمّا صلّى قال : إنّي كنت جنبا فنسيت أن أغتسل ».

وكذا حديث أحمد عن عليّ عليه‌السلام (٢) ، قال : « صلّى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوما ، فانصرف ثمّ جاء ورأسه يقطر ماء ، فصلّى بنا ، ثمّ قال : إنّي صلّيت بكم آنفا وأنا جنب ، فمن أصابه مثل الذي أصابني ، أو وجد رزّا (٣) في بطنه ، فليصنع مثل ما صنعت ».

ومثله في كنز العمّال ، عن الطبراني (٤).

__________________

(١) مسند أحمد ٢ / ٤٤٨. منه قدس‌سره.

(٢) مسند أحمد ١ / ٩٩. منه قدس‌سره.

(٣) الرّزّ : غمز الحدث وحركته في البطن للخروج حتّى يحتاج صاحبه إلى دخول الخلاء ، كان بقرقرة أو بغير قرقرة ، وأصل الرّزّ الوجع يجده المرء في بطنه.

انظر : لسان العرب ٥ / ٢٠٢ مادّة « رزز ».

(٤) كنز العمّال ٤ / ٢٢٣ [ ٨ / ١٧١ ح ٢٢٤٢٦ ]. منه قدس‌سره.

وانظر : المعجم الأوسط ٦ / ٣٤٩ ح ٦٣٩٠.

١٢٠