الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٦

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٦

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-188-2
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٣٩

١ ـ أن تمنع المسلمين من دخول مكة ، حتى لو أدى ذلك إلى حرب شعواء. وهذا خيار صعب ، من نواح عديدة ..

إحداها : أنها تخشى أن تدور الدوائر في هذه الحرب عليها.

الثانية : أن العرب يرون : أن مكة والبيت ليس ملكا لقريش ، وإنما هي تقوم بمهمة سدانته ، وتسهيل أمر زيارته .. وليس لها أن تمنع أحدا جاء للحج أو العمرة وزيارة البيت من الوصول إليه ..

فإن فعلت ذلك ، فسوف تواجه النقد الشديد ، والرفض الأكيد حتى من حلفائها ، وربما تنتهي الأمور إلى حدوث انقسامات خطيرة فيما بينها وقد حصل ذلك بالفعل ، كما أظهرته الوقائع ..

٢ ـ أن تسمح قريش للمسلمين بدخول مكة .. وفي هذا ما فيه أيضا : من كسر لهيبتها.

ومن اعتراف بحق المسلمين بهذا الأمر ، بعد أن كانت تصورهم للناس على أنهم جناة ، وعتاة ، وقطاع طرق ، ومفسدون في الأرض ..

ومن أنها لا تأمن من حدوث مفاجآت تجعل الأمور أكثر تعقيدا ، كما لو حصل اعتداء من قبل سفهائها على بعض الوافدين ، ثأرا لآبائهم وإخوانهم الذين قتلوا في بدر ، وأحد ، والخندق .. وربما تتطور الأمور إلى ما هو أعظم وأدهى.

٣ ـ أن ترجعه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في هذا العام ، وترضى بأن تبذل له من الشروط ما يرضيه ، ولكن هذا الاحتمال الأخير يجعل المبادرة بيد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو عارف بما يريد ، ويعرف سبل الوصول إليه ، والحصول عليه ، وهكذا كان ..

٦١

رعب قريش وضراعتها الصلح :

وقد صرحت النصوص : أنه قد زاد من رعب قريش ما رأته من سرعة أصحاب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى البيعة ، وتشميرهم إلى الحرب (١).

ونستطيع أن نقول : إن قريشا كانت بين نارين :

فهي من جهة ترى : أن دخول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى مكة على هذا النحو ، سيكون بالنسبة لها ذلا شاملا ، وضعفا بارزا ، بين العرب.

وترى من جهة أخرى : أنها لا قدرة لها على الحرب ، لأسباب مختلفة ، فهي :

١ ـ تعاني من ضائقة اقتصادية شديدة ، والحرب تحتاج إلى نفقات ، وتضيّع عليها استثمار موسم الحج في ذلك العام ، وكان هذا الموسم على الأبواب.

٢ ـ إن الناس قد ملوا الحرب وملتهم ، وقتل كثير من رجالهم. ونشأت من ذلك اختلالات في العلاقات الاجتماعية ، ومشكلات أسرية وقبلية. ونحو ذلك ..

٣ ـ قد تقدم : أن سيد الأحابيش قد خالفهم في هذا الأمر ، وتهددهم ، وفارقهم وكذلك الحال بالنسبة لعمرو بن مسعود ، ومن معه من ثقيف.

٤ ـ إن خزاعة أيضا كانت عيبة نصح لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، مسلمهم وكافرهم. وهي تعيش في مكة مع قريش ..

٥ ـ إن الإسلام قد فشا فيما بين قبائل قريش ، وأصبحت كل قبيلة تحتفظ بطائفة من أبنائها في القيود والسلاسل والسجون ..

٦ ـ إن المعركة لن تكون من الناحية العسكرية في صالح قريش ، وهي

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٥١ و ٥٢.

٦٢

معركة رأوا : أنها ستكون في غاية الحدة والشراسة ، وأنها تحمل معها المزيد من الخسائر في الأموال والأنفس. ومما يزيد في تضاؤل فرص النجاح لقريش ما رآه مبعوثهم من انقياد وخضوع ، وتفان ظاهر للمسلمين في خدمة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وإطاعة أوامره.

٧ ـ وقد أكدت بيعة الرضوان لقريش : أن الأمور في غير صالحها ، فإن الالتزامات والعقود ، تمنع من أي تعلل ، أو تراجع.

فكيف إذا كانت بيعة على الموت والفناء ، حتى يتحقق لهم ما جاؤوا له.

وبذلك يتضح : أنه لابد لقريش من عقد الصلح .. فهو المخرج الوحيد لها من هذه الورطة ..

فبعثوا سهيل بن عمرو إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقالوا له : ائت محمدا ، فصالحه ، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا.

فأتاه سهيل بن عمرو. فلما رآه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مقبلا ، قال : قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل.

فلما انتهى سهيل إليه تكلم ، وأطال ، وتراجعا ، ثم جرى بينهما الصلح.

بل إن الشيخ المفيد «رحمه‌الله» يقول :

«ولما رأى سهيل بن عمرو توجّه الأمر عليهم ضرع إلى النبي «عليه‌السلام» في الصلح ، ونزل عليه الوحي بالإجابة إلى ذلك. وأن يجعل أمير المؤمنين «عليه‌السلام» كاتبه يومئذ ، والمتولي لعقد الصلح بخطه ..» (١).

__________________

(١) الإرشاد للمفيد ج ١ ص ١١٩ والبحار ج ٢٠ ص ٣٥٨ وموسوعة التاريخ الإسلامي ج ٢ ص ٦٢٧.

٦٣

معرفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعدوّه :

إن قول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين رأى سهيل بن عمرو : «قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا» يدل على : معرفة الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بطبائع عدوه ، وميزاته ، ومواقعه ، وبكيفيات تصرفات ذلك العدو ، حتى إنه ليعرف نواياه بمجرد رؤية مبعوثيه ، قبل أن يكلمهم ، ويستخبرهم عما جاؤوا من أجله.

جلوس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وجلوس سهيل :

كما أن من الواضح : أن جلوس الرجل متربعا يشير إلى الاسترسال والهدوء ، وراحة البال ، ويرى أن الأمور تسير بشكل طبيعي وعادي ..

أما حين يبرك على ركبتيه ، فإنه يكون في حالة تختزن معها الاستعداد للجدال والمماحكة ، والسعي لحسم أمر يهمه ، فيحتاج إلى جمع أطرافه إلى نفسه ، وإظهار التماسك ، والتصميم ، والجدية في عمله من أجل إنجازه.

ولأجل ذلك نلاحظ : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد جلس متربعا ، وأما سهيل بن عمرو فبرك على ركبتيه.

اختلاف نصوص العهد :

إن نصوص العهد قد اختلفت في كثير من ألفاظها ، كالاختلاف في قوله : هذا ما صالح عليه محمد .. أو هذا ما قاضى عليه محمد.

اصطلحا .. أو اصطلحوا.

٦٤

هل وضعت الحرب عشر سنين كما تقدم (١) ، أو ثلاث سنين (٢) ، أو أربع أو سنتان (٣) هناك أقوال في ذلك؟!

ولعل تلك الاختلافات قد نشأت عن سوء حفظ الناقل ، أو لأن بعضهم أراد النقل بالمعنى ، أو لغير ذلك من أسباب ..

كما أن هناك بعض المواد قد ذكر بعض الناقلين ، دون البعض الآخر ..

مصادر العهد :

وقد ذكر العلامة الشيخ علي الأحمدي «رحمه‌الله» طائفة من المصادر ، يمكن الرجوع إليها للاطلاع على نصوص عهد الحديبية .. فلاحظ الهامش (٤).

__________________

(١) راجع : أنساب الأشراف ج ١ ص ٣٥٠ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٧٨٢ والجامع لأحكام القرآن ج ٨ ص ٦٤ والعمدة ص ١٦٣ ومسند أحمد ج ٤ ص ٣٢٥ وعن سنن أبي داود ج ١ ص ٦٣٠ ونصب الراية ج ٤ ص ٢٣٨ وخصائص الوحي المبين ص ١٦٠ وزاد المسير ج ٣ ص ٢٧٣ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٢١١ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ٩٧ والثقات ج ١ ص ٣٠١ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٣٧٣ ونهج الإيمان لابن جبر ص ٢٤٥ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٦٩١.

(٢) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٥٤ وفتح الباري ج ٥ ص ٢٥١ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٧٦.

(٣) راجع : مكاتيب الرسول للأحمدي ج ٣ ص ٨٩ وأنساب الأشراف ج ١ ص ٣٥١ ونصب الراية ج ٤ ص ٢٣٩ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٢٨.

(٤) مكاتيب الرسول ج ٣ ص ٧٩ و ٨٠ عن المصادر التالية : تفسير علي بن إبراهيم ج ٢ ص ٣٣٦ وإعلام الورى للطبرسي ص ٦١ وسيرة ابن هشام ج ٣ ص ٣٦٦ ـ

٦٥

__________________

وفي (ط أخرى) ص ٣٣١ والأموال لأبي عبيد ص ٢٣٣ و ٤٤٣ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ٩٧ وفي (ط قديم) ج ٢ ق ١ ص ٧٠ وكنز العمال ج ١٠ ص ٣٠٣ و ٣٠٦ و ٣١٢ و ٣١٦ والطبري ج ٢ ص ٦٣٤ والكامل ج ٢ ص ٢٠٤ والأموال لابن زنجويه ج ١ ص ٣٩٤ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٣ ودحلان بهامش الحلبية ج ٢ ص ٢١٢ وما بعدها ، والدر المنثور ج ٦ ص ٧٧ و ٧٨ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٦١٠ و ٦١١ والخراج لأبي يوسف ص ٢٢٨ ورسالات نبوية ص ١٧٧ ـ ١٨٠ والمناقب لابن شهرآشوب ج ١ ص ٢٠٣ وأنساب الأشراف (تحقيق محمد حميد الله) ص ٣٤٩.

وراجع : مدينة البلاغة ج ٢ ص ٢٨١ ومسند أحمد ج ٤ ص ٣٢٥ و ٣٣٠ والبخاري ج ٣ ص ٢٤٢ و ٢٥٥ وابن أبي شيبة ج ١٤ ص ٢٣٣ والبحار ج ٢٠ ص ٣٣٣ و ٣٣٤ و ٣٣٥ و ٣٥٢ و ٣٦٢ و ٣٦٨ ونيل الأوطار للشوكاني ج ٨ ص ٣٤ ـ ٣٦ وتفسير الطبري ج ٢٦ ص ٦١ و ٦٣ والنيسابوري بهامش الطبري ج ٢٦ ص ٤٩ ونور الثقلين ج ٥ ص ٥٢ ومجمع البيان ج ٩ ص ١١٨ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٦٨ و ١٧٥ وأبو الفتوح ج ٥ ص ١٠٤ والبرهان ج ٤ ص ١٩٣ والمصنف لعبد الرزاق ج ٥ ص ٣٣٧ و ٣٣٨ والكافي ج ٨ ص ٣٢٦ ومرآة العقول ج ٢٦ ص ٤٤٤ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٢٦٩ ونشأة الدولة الإسلامية ص ٢٩٦ عن جمع ، وزاد المعاد لابن القيم ج ٢ ص ١٢٥ والتاج ج ٤ ص ٣٩٩ وسيرة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لإسحاق بن محمد الهمداني قاضي أبرقوه ص ٤١١.

وراجع : المنتظم ج ٣ ص ٢٦٩ ومجموعة الوثائق السياسية : ٧٧ / ١١ عن جمع ممن قدمناه (وعن سيرة ابن إسحاق ترجمتها الفارسية والجاحظ في الرسالة العثمانية ص ٧٠ وإعجاز القرآن للباقلاني (ط مصر سنة ١٣١٥ ه‍) ص ٦٤ وإمتاع الأسماع للمقريزي ج ١ ص ٢٩٧ والوفاء لابن الجوزي ص ٦٩٨ وسيرة ـ

٦٦

__________________

الطبري رواية البكري فصل الحديبية مخطوطة آيا صوفيا.

ثم قال : قابل شرح السيد الكبير للسرخسي ج ٤ ص ٦١ والمبسوط للسرخسي ص ٣٠ و ١٦٩ وإرشاد الساري للقسطلاني ج ٨ ص ١٥٨ وكتاب الشروط للطحاوي ج ١ ص ٤ و ٥ وانظر كايتاني ج ٦ ص ٣٤ واشپرنكر ج ٣ ص ٢٤٦). وأشار إلى الكتاب كل مؤرخ ومحدث ذكر القصة ، فلا نطيل بذكرها وراجع : المعيار والموازنة ص ٢٠٠ والمفصل ج ٨ ص ٩٨ و ٩٩ و ١٣٥ وحياة الصحابة ج ١ ص ١٣١ والإرشاد للمفيد ص ٥٤ و ٥٥.

وراجع : المناقب لابن شهر آشوب ج ١ ص ٧٣ و ٢٠٣ وج ٢ ص ٢٤ وج ٣ ص ١٨٤ وثقات ابن حبان ج ١ ص ٣٠٠ وسنن الدارمي ج ٢ ص ٢٣٧ ومسند أحمد ج ١ ص ٣٤٢ وج ٣ ص ٢٦٨ وج ٤ ص ٨٦ و ٣٢٥ والبخاري ج ٣ ص ٢٤١ و ٢٤٦ وج ٤ ص ١٢٦ وج ٥ ص ١٨٠ وتهذيب تاريخ ابن عساكر ج ٧ ص ١٣٤ ومسلم ج ٣ ص ١٤٠٩ ـ ١٤١١ واليعقوبي ج ٢ ص ٤٥ و ١٧٩ وكنز العمال ج ١٠ ص ٣٠٧ و ٣١٣ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٨ ص ١٧٩ و ١٨٠ وج ٩ ص ٢٢٦ وابن أبي شيبة ج ١٤ ص ٤٣٥ و ٤٣٨ و ٤٣٩ و ٤٤٩ وصبح الأعشى ج ٦ ص ٣٥٨ و ٣٥٩.

وراجع : القرطبي ج ١٦ ص ٢٧٥ وابن أبي الحديد ج ١٠ ص ٢٥٨ وج ١٢ ص ٥٩ وج ١٧ ص ٢٥٧ والبحار ج ١٨ ص ٦٢ وج ٢٠ ص ٣٣٥ و ٣٥٧ و ٣٢٧ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١٤٥ و ١٣٦ وكشف الغمة ج ١ ص ٢١٠ وفتوح البلدان ص ٤٩ وأدب الإملاء والإستملاء ص ١٢ والمستدرك للحاكم ج ٢ ص ٤٦١ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٤ ص ١٠٥ و ١٤٥ والأخبار الطوال ص ١٩٤ وتأريخ دمشق (من فضائل أمير المؤمنين «عليه‌السلام») ج ٣ ص ١٥١ ـ ١٥٧ والعمدة لابن بطريق ص ٣٢٥ و ٣٢٦ والطبقات ج ٢ ق ١ ص ٧٤.

انتهى كلام العلامة الأحمدي رحمه‌الله تعالى ..

٦٧

كلمات تحتاج إلى توضيح :

ونوضح بعض الكلمات الواردة في هذا العهد على النحو التالي :

لا إسلال : الإسلال ـ كما قيل ـ هو السرقة الخفية ..

وقيل : هو الإغارة الظاهرة.

وقيل : هو سل السيوف.

قال البلاذري : الإسلال هو : دس السلاح وسله سرا ، والإغلال : الانطواء على غل (١).

ولعل المراد : أخذ العهد بأن لا يعين أحد المتعاقدين على الآخر ، أو نفي الإغارة ، أو نفي سل السيوف أو كل هذه المعاني مجتمعة ..

ويفيد هذا الشرط في : تحقيق الأمن على الأموال في تلك المدة ، والأمن من التخويف بالسلاح للأفراد من كلا الجانبين.

لا إغلال : أي لا خيانة خفية ، أو لا تلبس الدروع.

ولعل المراد من ذلك الشرط : تحقيق حالة الأمن من الكيد والتآمر في الخفاء.

العيبة المكفوفة : أن يكف ما يحمله الإنسان في باطنه من حقد أو غل أو عداوة ، فلا يظهر ذلك ولا يعلن به.

القراب : هو شبه الجراب يطرح فيه الراكب سيفه بغمده ، وسوطه ، وقد يطرح فيه زاده ، من تمر وغيره ..

ويقال له : (جلبان) أيضا.

__________________

(١) راجع : أنساب الأشراف للبلاذري ج ١ ص ٣٥١.

٦٨

من هو كاتب العهد؟ :

ذكر القمي نص العهد ، وجاء في آخره عبارة : «وكتب علي بن أبي طالب» (١).

ولكنه أتبعها بقوله : «وعهد على الكتاب المهاجرون والأنصار» فيحتمل أن يكون ذلك من إنشاء الراوي ، ويحتمل أن تكون هذه العبارة قد وردت في نص الكتاب فعلا ..

هذا ، وذكرت بعض المصادر : أن قريشا أبت إلا أن يكتب علي «عليه‌السلام» أو عثمان (٢).

وتكاد تجمع المصادر على ذلك (٣).

__________________

(١) راجع : تفسير القمي ج ٢ ص ٣١٣ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٦٩ والبحار ج ٢٠ ص ٣٥٢ وتفسير الصافي ج ٥ ص ٣٦ ونور الثقلين ج ٥ ص ٥٣ وموسوعة التاريخ الإسلامي ج ٢ ص ٦٢٩ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٧٨.

(٢) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٦١٠ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٣ والسيرة النبوية لدحلان.

(٣) مكاتيب الرسول ج ٣ ص ٥٨ عن المصادر التالية :

الدر المنثور ج ٦ ص ٧٨ والحلبية ج ٣ ص ٢٣ و ٢٥ ودحلان بهامش الحلبية ج ٢ ص ٢١٢ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٦١٠ والمناقب لابن شهر آشوب ج ٢ ص ٢٤ وج ١ ص ٧٣ و ٢٠٣ والمصنف لعبد الرزاق ج ٥ ص ٣٤٣ والإرشاد للمفيد ص ٥٤ وأنساب الأشراف (تحقيق محمد حميد الله) ص ٣٤٩ ومسند أحمد ج ١ ص ٣٤٢ وج ٣ ص ٢٦٨ وج ٤ ص ٨٦ و ٣٢٥ والبخاري ج ٣ ص ٢٤١ و ٢٤٢ وج ٤ ص ١٢٦ وج ٥ ص ١٧٩ ومسلم ج ٣ ص ١٤٠٩ ـ ١٤١١ واليعقوبي ج ٢ ص ٤٥ والسنن ـ

٦٩

ولكن البعض قد زعم : أن الكاتب هو محمد بن مسلمة (١).

وقد صرح ابن حجر : بأن هذا من الأوهام ، ثم إنهم جمعوا بين القولين : بأن الكاتب هو علي «عليه‌السلام» ، لكن محمد بن مسلمة نسخ من الكتاب نسخة أخرى أعطيت لسهيل بن عمرو (٢).

ويمكن تأييد ذلك : بما رواه عمر بن شبة ، عن عمرو بن سهيل بن عمرو ، عن أبيه : الكتاب عندنا كاتبه محمد بن مسلمة.

قال العسقلاني : ويجمع : بأن أصل كتاب الصلح بخط علي ـ كما هو في

__________________

الكبرى للبيهقي ج ٨ ص ١٧٩ وج ٩ ص ٢٢٦ و ٢٢٧ وابن أبي شيبة ج ١٤ ص ٤٣٥ و ٤٣٩ والبحار ج ١٨ ص ٦٢ وج ٢٠ ص ٣٢٧ و ٣٣٣ و ٣٣٥ و ٣٥١ ـ ٣٥٣ و ٣٥٧ و ٣٦٢ ونيل الأوطار للشوكاني ج ٨ ص ٤٥ وتفسير الطبري ج ٢٦ ص ٦١ وتفسير النيسابوري بهامش الطبري ج ٢٦ ص ٤٩.

وراجع : نور الثقلين ج ٥ ص ٥٣ ومجمع البيان ج ٩ ص ١١٨ والقرطبي ج ١٦ ص ٢٧٥ وابن أبي الحديد ج ١٠ ص ٢٥٨ والبرهان ج ٤ ص ١٩٢ و ١٩٣ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٦٩ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١٤٥ وفتح الباري ج ٥ ص ٢٢٣ وج ٧ ص ٢٨٦ والكافي ج ٨ ص ٣٢٦ ومرآة العقول ج ٢٦ ص ٤٤٤ وكشف الغمة ج ١ ص ٢١٠ وأدب الإملاء والإستملاء ص ١٢ وصفين لنصر ص ٥٠٨ و ٥٠٩ والكامل ج ٢ ص ٢٠٤ والطبقات ج ٢ ق ١ ص ٧١ ورسالات نبوية ص ١٧٨ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١٤٥ والمطالب العالية ج ٤ ص ٢٣٤.

(١) راجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٤ و ٢٥ والسيرة النبوية لدحلان ج ٣ ص ٤٣ ورسالات نبوية ص ١٧٩.

(٢) راجع : المصادر المتقدمة.

٧٠

الصحيح ـ ونسخ مثله محمد بن مسلمة لسهيل بن عمرو (١).

ونحن نخشى أن يكون إصرار هؤلاء على حشر اسم محمد بن مسلمة المهاجم لبيت الزهراء «عليها‌السلام» ، يدخل في سياق سياساتهم لإنكار فضائل علي «عليه‌السلام» أو تشريك غيره معه فيها على الأقل ، إن لم يمكن منحها بكل تفاصيلها لأعداء ومناوئي أهل البيت «عليهم‌السلام».

هذا .. وقد صرح أبو زميل سماك الحنفي : أنه سمع عبد الله بن عباس يقول : كاتب الكتاب يوم الحديبية علي بن أبي طالب (٢).

كما أن الزهري رغم أنه كان منحرفا عن أهل البيت «عليهم‌السلام» ، وكان معلما لأولاد ملوك بني أمية ، فإنه كان أكثر جرأة ، في هذا الأمر ، فقد روى عبد الرزاق عن معمر ، قال : سألت عنه الزهري ، فضحك ، وقال : هو علي بن أبي طالب ، ولو سألت عنه هؤلاء قالوا : عثمان (٣).

محنة أبي جندل ، وحوادث أخرى :

قالوا : وفي حديث عبد الله بن مغفل ، عند الإمام أحمد ، والنسائي ، والحاكم ، بعد أن ذكر نحو ما تقدم ، قال : «فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح ، فثاروا إلى وجوهنا ، فدعا عليهم رسول الله

__________________

(١) راجع : المصادر المتقدمة.

(٢) المصنف للصنعاني ج ٥ ص ٣٤٣ ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ٣٠٥ والبحار ج ٣١ ص ٢٢١ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٨٤ والدر المنثور ج ٦ ص ٧٨ والنزاع والتخاصم ص ١٢٧.

(٣) المصنف ج ٥ ص ٣٤٣ والنزاع والتخاصم ص ١٢٧ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٨٤.

٧١

«صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأخذ الله بأسماعهم ـ ولفظ الحاكم بأبصارهم ـ فقمنا إليهم فأخذناهم ، فقال لهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : هل جئتم في عهد أحد؟ وهل جعل لكم أحد أمانا؟

فقالوا : لا.

فخلى سبيلهم ، فأنزل الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ..) (١).

وروى ابن أبي شيبة ، والإمام أحمد ، وعبد بن حميد ، ومسلم ، والثلاثة ، عن أنس ، قال : لما كان يوم «الحديبية» هبط على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وأصحابه ثمانون رجلا من أهل مكة في السلاح ، من قبل جبل التنعيم ، يريدون غرة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فدعا عليهم ، فأخذوا ، فعفا عنهم (٢).

وروى عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن رجلا من أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقال له : ابن زنيم اطلع الثنية «يوم

__________________

(١) أخرجه : أحمد ج ٤ ص ٨٧ والبيهقي ج ٦ ص ٣١٩ والحاكم في المستدرك ج ٢ ص ٤٦١ وعن ابن الجوزي في زاد المسير ج ٧ ص ٤٣٨ وانظر : الدر المنثور ج ٦ ص ٧٨ وأسباب نزول الآيات ص ٢٥٧ والجامع لأحكام القرآن ج ١٦ ص ٢٨١ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٢٠٧ وفتح القدير ج ٥ ص ٥٣ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٥٤.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٥٤ ـ ٥٦ وقال : أخرجه مسلم ج ٣ ص ١٤٤٢ (١٣٣ / ١٨٠٨) وأحمد ج ٣ ص ١٢٤ والدر المنثور ج ٦ ص ٧٦.

والغرة : هي الغفلة. أي : يريدون أن يصادفوا منه ومن أصحابه غفلة عن التأهب لهم ليتمكنوا من غدرهم والفتك بهم.

٧٢

الحديبية» ، فرماه المشركون فقتلو.

فبعث نبي الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» خيلا ، فأتوا باثني عشر فارسا ، فقال لهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «هل لكم عهد أو ذمة»؟

قالوا : لا. فأرسلهم (١).

وروى الإمام أحمد ، وعبد بن حميد ، ومسلم ، عن سلمة بن الأكوع قال : إن المشركين من أهل مكة راسلونا في الصلح ، فلما اصطلحنا ، واختلط بعضنا ببعض أتيت شجرة فاضطجعت في ظلها ، فأتاني أربعة من مشركي أهل مكة ، فجعلوا يقعون في رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأبغضهم ، وتحولت إلى شجرة أخرى ، فعلقوا سلاحهم ، واضطجعوا.

فبينماهم كذلك إذ نادى مناد من أسفل الوادي : يا للمهاجرين ، قتل ابن زنيم ، فاخترطت سيفي فاشتددت على أولئك الأربعة وهم رقود ، فأخذت سلاحهم ، وجعلته في يدي ، ثم قلت : والذي كرم وجه محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه ، ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وجاء عمي عامر برجل من العبلات ، يقال له : مكرز ـ من المشركين ـ يقوده حتى وقفناه على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : دعوهم يكون لهم بدء الفجور وثنياه ، فعفا عنهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأنزل الله تعالى : (وَهُوَ

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٥٤ ـ ٥٦ وقال : أخرجه الطبري ج ٢٦ ص ٥٩ وذكره السيوطي في الدر المنثور ج ٦ ص ٧٦ وراجع : تفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٢٠٧ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٧٨.

٧٣

الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ).

فبينما الناس على ذلك إذ أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده ، قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين.

وكان أبوه سهيل قد أوثقه في الحديد وسجنه.

فخرج من السجن ، واجتنب الطريق ، وركب الجبال حتى أتى «الحديبية» ، فقام إليه المسلمون يرحبون به ويهنئونه.

فلما رآه أبوه سهيل قام إليه فضرب وجهه بغصن شوك ، وأخذ بتلبيبه ثم قال : «يا محمد ، هذا أول ما أقاضيك عليه أن ترده».

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «إنا لم نقض الكتاب بعد».

قال : فو الله إذا لا أصالحك على شيء أبدا.

قال : «فأجزه لي».

قال : ما أنا بمجيزه لك.

قال : «بلى فافعل».

قال : ما أنا بفاعل.

فقال مكرز وحويطب : بلى قد أجزناه لك. فأخذاه ، فأدخلاه فسطاطا ، فأجازاه ، وكف عنه أبوه.

فقال أبو جندل : أي معاشر المسلمين ، أردّ إلى المشركين وقد جئت مسلما؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب عذابا شديدا.

فرفع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» صوته ، وقال : «يا أبا جندل ، اصبر ، واحتسب ، فان الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا ، إنّا قد

٧٤

عقدنا مع القوم صلحا ، وأعطيناهم وأعطونا على ذلك عهدا ، وإنّا لا نغدر».

ومشى عمر بن الخطاب إلى جنب أبي جندل ، وقال له : اصبر ، واحتسب ، فإنما هم المشركون ، وإنما دم أحدهم دم كلب.

وجعل عمر يدني قائم السيف منه.

قال عمر : رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه.

قال : فضن الرجل بأبيه (١).

وقد كان أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد خرجوا وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع ، وما تحمل عليه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في نفسه دخل على الناس من ذلك أمر عظيم ، حتى كادوا يهلكون.

فزادهم أمر أبي جندل على ما بهم ، ونفذت القضية ، وشهد على الصلح رجال من المسلمين ورجال من المشركين : أبو بكر ، وعمر ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعبد الله بن سهيل بن عمرو ، وسعد بن أبي وقاص ، ومحمود بن

__________________

(١) أخرجه : أحمد في المسند ج ٤ ص ٣٣٠ و ٣٢٣ و ٣٢٥ والبيهقي في دلائل النبوة ج ٥ ص ٣٣١ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٥٤ ـ ٥٦ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص والسيرة الحلبية ج ٣ ص والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٢٢ والكامل في التاريخ ج ٢ ص وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٨٢ والنص والإجتهاد ص ١٧٧ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٩٣ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ٢٢٧ وفتح الباري ج ٥ ص ٢٥٤ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٢١١ وأسد الغابة ج ٥ ص ١٦١ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٩٣ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٧٨٣.

٧٥

مسلمة ، وعلي بن أبي طالب (رضي‌الله‌عنهم) ومكرز بن حفص وهو مشرك (١).

ونقول :

هناك نقاط نذكّر القارئ بها ، وهي التالية :

عمر وأبو جندل :

قد أوضح عمر : أنه يريد من أبي جندل أن يقتل أباه ، مع أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يريد أن يرجع أبو جندل مع أبيه.

فما هذا السعي لنقض مراد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

وما هي النتائج التي سوف تترتب على قتل أبي جندل لأبيه ، دون استئذان من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

وهل سوف يصدق الناس أن أبا جندل قد قتل أباه بدون رضا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

وهل عرف عمر كيف ستتطور الأحوال مع قريش ، وما هي الانطباعات التي سوف يتركها عمل كهذا على المنطقة بأسرها ، وعلى الأجيال؟!

هذه أسئلة تبقى تلح بطلب الإجابة. ولكن من أين .. وأنى؟!

هل عندكم أمان أو عهد؟! :

إن قول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للثلاثين رجلا : هل جئتم في عهد أحد؟!

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٥٦.

٧٦

ثم قول : هل جعل أحد لكم أمانا؟! يدل على : أن هؤلاء الثلاثين كانوا من المشركين المحاربين للمسلمين ..

وقد ظهر : أنهم قد اقتحموا معسكر المسلمين بالسلاح ..

مما يعني : أنهم قد جاؤوا ، بهدف الإيقاع بالمسلمين ، فلا بد من أن يعدّوا من أسرى الحرب ، الذين لا يشملهم عهد الحديبية.

وسهيل بن عمرو لم يطالب بهم ، إن كانوا قد أسروا قبل كتابة العهد ..

وإن كانوا قد أسروا بعده فلا بد أن يعد ذلك نقضا للصلح ، وليس لقريش أن تطالب بهم أيضا. بل يكون رضاها بفعلهم إعلانا لحالة الحرب مع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

ولكن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بادر إلى تخلية سبيلهم كرما منه ونبلا ، ولم يكلف قريشا حتى أن تعتذر عما بدر منهم ، فضلا عن أن تلتمس منه إطلاق سراحهم ..

وهذا إعلان آخر عن حقيقة ما يسعى إليه ، ويعمل من أجله ، وأنه ليس طالب حرب ولا ناشد زعامة ، وليس مفسدا ولا ظالما ، ولا معتديا على أحد ، فكل ما تشيعه قريش ما هو إلا محض أكاذيب ، وهو محض التجني والبغي ، والمكر السيء ، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله.

وهذا الكلام هو نفسه يقال بالنسبة للثمانين رجلا الآخرين ، الذين جاؤوا من قبل جبل التنعيم ، يريدون غرة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأخذوا ، ثم عفا عنهم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

٧٧

اثنا عشر رجلا آخر :

وأما بالنسبة للاثني عشر مشركا الذين أرسل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» خيلا فأتوا بهم ، حين قتل ابن زنيم .. فالذي يبدو لنا : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد بادر إلى أخذهم ثم إطلاق سراحهم ، ليثبت لهم : أنه قادر على مواجهة بغيهم إلى حد إنزال الضربات القاصمة بهم ، وأن مرونته معهم ليست ناشئة عن ضعف أو خوف .. بل هي حكمة وروية ، وعفو منه وتسامح ، وتعظيم للحرم ..

ويوضح ذلك : أنه حين جيء بهم ، قال لهم : «هل لكم عهد أو ذمة؟! فقالوا : لا ..».

وذلك ليفهمهم : أنه لو أراد قتلهم ، فإنه سيكون محقا ؛ لأنهم معتدون ، ومحاربون ، وليس لديهم عهد يمنعه من ذلك ، كما أنهم لم يدخلوا في ذمة أحد ، ليرى نفسه ملزما بمراعاة ذمته.

وهذا يعني : أنه لو قتلهم فليس لأحد أن يلومه في ذلك ، أو يمنعه منه ..

ولكنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عفا عنهم لكي يثوبوا إلى رشدهم ، ولتكون هذه رسالة أخرى إلى كل أحد ، تؤكد على : أنه لا يلجأ إلى القتل إلا حين لا يمكن دفع خطر العدو بدون ذلك.

ويؤكد ذلك : أن هذا العقوق قد تكرر منهم ، ولم يكن مجرد حالة استثنائية ، فقد عفا عن الثمانين مع الثلاثين الذين هاجموه ، وطلبوا غرته لكي يوقعوا به ..

متى قتل ابن زنيم؟!

وقد صرحت رواية سلمة بن الأكوع المتقدمة : بأن هذه الأحداث قد حصلت حينما كان سهيل بن عمرو ومن معه يفاوضون رسول الله «صلى

٧٨

الله عليه وآله» في أمر الصلح ..

وإن كان سلمة قد سعى إلى أن ينسب لنفسه في روايته هذه بطولة لم تنقل لنا عن غيره ، فنحن نصدقه فيما نقله من أن قتل ابن زنيم كان في هذا الوقت ، ونشك فيما نسبه لنفسه من بطولات لم ينقلها أحد سواه.

واللافت : أن هذا الأمر قد تعودناه من سلمة بن الأكوع حيث نسب لنفسه بطولات عظيمة تقدم الحديث عنها ، مع أنه لم ينقلها أحد سواه.

سهيل يضرب ولده :

والغريب في الأمر : أن سهيل بن عمرو ، الرجل الأريب ، والمجرب ، والمعروف بحكمته ، وتدبيره يخرج عن حالة التوازن ، ويتجاوز كل الآداب واللياقات ، ويتحول إلى جلاد شرس بمجرد أن رأى ابنه أبا جندل يلتجئ للمسلمين .. غير مبال في أن تتسبب تصرفاته الرعناء بنقض الصلح الذي جاء من أجله.

وقد كان باستطاعة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يخضعه للتأديب ، ويمنعه من تصرفاته تلك بالأسلوب الذي يستحقه ، حتى لو أدى إلى نقض الصلح ، ونشوب الحرب.

وسيكون محقا ، حتى في نظر أهل الشرك ، وسوف يوجّه كل اللوم إلى مبعوثهم الذي ارتكب هذه الحماقة ، وتحول من رجل عاقل أريب إلى رجل طائش أرعن ، أوقعهم في مأزق خطير ، قد يودي بكل تطلعاتهم وخططهم ..

ولكنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» آثر مراعاة مصلحة الإسلام العليا ، وذلك بحفظ حرمة بيت الله ، وفسح المجال للوصول إلى الأهداف الكبرى ، من

٧٩

دون إراقة دماء .. وهكذا كان.

الصلف الذي لا يطاق :

وقد أمعن سهيل في صلفه ورعونته ، وردّ كل طلب من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. إلى حدّ جعل مكرز بن حفص ، وحويطب بن عبد العزى في موقع الإحراج الشديد ، واضطرهما للتدخل لحفظ ماء الوجه من جهة ، وحفظ فرصة عقد الهدنة وخشية على الصلح الذي جاؤوا من أجله من جهة أخرى ، فإن المهم عندهم هو إبرامه وأن لا يتعرض لنكسة خطيرة ، لا طاقة لقريش بتحملها ، ولا قدرة لها على مواجهة تبعاتها وآثارها.

هل في موقف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله تناقض؟!

وقد يقال : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قال لسهيل حين ضرب ولده بغضن شوك : إنا لم نقض الكتاب بعد ، ولكنه عاد فقال لأبي جندل : إنا قد عقدنا مع القوم صلحا الخ ..

فهل بين كلاميه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تناقض؟!

ونجيب : لا ، لا تناقض بين الكلامين ، فإن الاتفاق ـ كلاميا ـ كان قد تم بين الفريقين ، فيصح أن يقال : قد عقدنا مع القوم صلحا. وقد قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : عقدنا ، ولم يقل : كتبنا.

أما كتاب الصلح ، فلم تكن كتابته قد تمت ..

فيصح أن يقول : إننا لم نقض الكتاب بعد. فعبر بالكتاب ، وقال عنه : إنه لم يقض بعد ، أي لم يتم ، ولم يعبر بعقد الصلح.

وبذلك يتضح : مدى الدقة في التعابير التي صدرت من النبي الكريم ..

٨٠