الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٦

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٦

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-188-2
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٣٩

وهذا التوجيه النبوي الشريف ظاهر المأخذ : فإن مرحلة ما بعد الحديبية ، قد اختلفت كثيرا عن المرحلة التي سبقتها ، فإنه لم يعد ثمة من حاجة إلى التخفي في أي مسير يقوم به الجيش الإسلامي في أي اتجاه.

بل أصبح إيقاد النيران للجيش الإسلامي يرعب العدو أكثر من أي شيء آخر ..

ولم يعد هناك أي شيء من شأنه أن يفتح له باب التفكير بتسديد أي ضربة موجعة لذلك الجيش ، لأنه يرى أنه لم يعد له حيلة فيه ، وليس من مصلحته الاحتكاك به ، بل المصلحة كل المصلحة تكمن في الابتعاد عنه ، وإخلاء كل المحيط له.

وهذا هو أحد المظاهر التي تجسّد صدق قول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن هذا الصلح : إنه أعظم الفتح.

وظهر بذلك أيضا مصداق قوله تعالى في مناسبة هذا الصلح : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (١).

عمر يقطع شجرة بيعة الرضوان :

إن هناك مفارقات ظاهرة بين آراء وتصرفات عمر بن الخطاب وبين ما هو ثابت عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وعن الصحابة. بل هناك مفارقات بين تصرفات عمر بالذات.

فهو من جهة يتوسل إلى الله في الاستسقاء بالعباس عم رسول الله

__________________

(١) الآية ١ من سورة الفتح.

٤١

«صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١) ، ويقبّل الحجر الأسود ؛ لأنه رأى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقبّله (٢).

وهو يرى : أن الصحابة يتبركون بفضل وضوء الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وبشعره ، وعرقه ، وببصاقه ، وبكل شيء يرجع إليه.

ويشاهد بأم عينيه ما فعله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين بصق وغرس السهم في البئر التي في الحديبية ، بالإضافة إلى عشرات الموارد التي يشاهدها هو والمسلمون طيلة حياتهم معه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وعدة سنين بعدها فضلا عن تبركهم بقبره الشريف وبغير ذلك (٣).

ولكنه من جهة أخرى ـ على رغم ذلك كله ـ لا يطيق في أيام خلافته رؤية المسلمين يتعاهدون شجرة بيعة الرضوان ، ويصلّون عندها.

__________________

(١) الغدير ج ٧ ص ٣٠١ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٦١٨ وعن فتح الباري ج ٢ ص ٤١٢ وج ٧ ص ٦٢ وتحفة الأحوذي ج ١٠ ص ٢٦ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٦ ص ٣٥٩ وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٤١٣ وج ١٢ ص ٨٧ ودفع الشبه عن الرسول للدمشقي ص ١٣١.

(٢) المعجم الأوسط ج ٥ ص ١٩١ ورياض الصالحين للنووي ص ١٣٩ ومسند أحمد ج ١ ص ٣٥ وسنن أبي داود ج ١ ص ٤١٩ وسنن النسائي ج ٥ ص ٢٢٧ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٥ ص ٧٤ وشرح مسلم للنووي ج ٩ ص ١٦ وصحيح ابن حبان ج ٩ ص ١٣١ ونصب الراية ج ٣ ص ١١٧ وكنز العمال ج ٥ ص ١٧٣ وشرح مسند أبي حنيفة ص ١٩٩ عن الشفا بتعريف حقوق المصطفى ج ٢ ص ١٥ وسبل الهدى والرشاد ج ١ ص ١٧٨.

(٣) إن ما جرى في الحديبية ما هو إلا غيض من فيض ، فراجع كتاب : التبرك للشيخ علي الأحمدي «رحمه‌الله».

٤٢

فقد روي عن نافع قال : بلغ عمر بن الخطاب : أن ناسا يأتون الشجرة التي بويع تحتها ، فيصلون عندها ، فتوعدهم. ثم أمر فقطعت (١).

والظاهر : أن موضعها بقي معلوما ، أو أن بقية منها كانت ظاهرة للناس فكانوا يقصدونها للصلاة عندها أيضا ، فحاول سعيد بن المسيب أن يشكك الناس في موضعها ، تأييدا منه لما فعله عمر بن الخطاب.

فقد روي عن طارق بن عبد الرحمن قال : انطلقت حاجا ، فمررت بقوم يصلّون ، فقلت : ما هذا؟!

قالوا : هذه الشجرة ، حيث بايع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بيعة الرضوان.

فأتيت سعيد بن المسيب ، فأخبرته ، فقال سعيد : حدثني أبي : أنه كان فيمن بايع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تحت الشجرة ، فلما خرجنا من العام المقبل نسيناها ، فلم نقدر عليها ..

فقال سعيد : إن أصحاب محمد لم يعلموها ، وعلمتموها أنتم؟ فأنتم أعلم؟! (٢).

ونقول نحن لسعيد : لعل أباك وبعض رفقائه نسوا ذلك المكان ، فلم

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٥٠ عن ابن أبي شيبة وابن سعد وشرح النهج للمعتزلي ج ١٢ ص ١٠١ والدر المنثور ج ٦ ص ٧٣ وفتح القدير ج ٥ ص ٥٢.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٥٠ عن البخاري وابن مردويه. وفي هامشه عن البخاري ج ٧ ص ٥١٢ رقم (٤١٦٣) وعن فتح الباري ج ٧ ص ٣٤٤ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٢٠٥ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ٩٩ وعن الإصابة ج ٦ ص ٩٦ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٩٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٢٧.

٤٣

يقدروا عليه ، وربما يكون نسيانهم هذا لأسباب مختلفة ، ولكن هذا لا يعني أن يكون سائر الصحابة وعددهم ألف وأربع مائة أو أكثر قد نسوا كلهم ذلك المكان أيضا .. إلا أن تكون هذه الأمة هي أغبي الأمم ، وأشدها تغفيلا!!

وفي حديث نافع الآخر : أنه خرج قوم من أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعد ذلك بأعوام ، فما عرف أحد منهم الشجرة ، واختلفوا فيها.

قال ابن عمر : كانت رحمة من الله ..

وهذا الحديث : قد يكون هو نفس الحديث المتقدم عن طارق .. وسعيد بن المسيب (لكنه بدّل كلمة : «من العام المقبل» بكلمة : «بعد ذلك بأعوام»).

وحتى لو كان حديثا عن جماعة أخرى ، فالجواب عنه هو الجواب المتقدم عن حديث طارق أيضا ، فإن نسيان جماعة للمكان لبعض الأسباب ، لا يلازم نسيان غيرهم له أيضا .. ولعلهم قد خرجوا بعد أن أمر عمر بن الخطاب بقطعها (١) ، فقطعت ولم يعلموا بقطعها ، فبحثوا عنها ، فلم يجدوها ..

واللافت : أن عمر بن الخطاب قد أجرى امتحانا للصحابة ، وذلك حين مر بذلك المكان بعد ذهاب الشجرة (أي بعد أن أمر بقطعها) فقال : أين كانت؟

فجعل بعضهم يقول : ههنا.

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٥.

٤٤

وبعضهم يقول : هنا.

فلما كثر اختلافهم قال : سيروا ، قد ذهبت الشجرة (١).

وأما قول ابن عمر : «كانت رحمة من الله».

فإن كان يقصد به : أن الشجرة كانت رحمة من الله ، فهو صحيح ، لأن عبادة الله تعالى عندها من موجبات رحمته سبحانه ..

وأما إن كان يقصد : أن قطعها كان رحمة من الله ، فهو لا يتلاءم مع تبرك الصحابة بآثار النبي ولا مع تبركه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعلي «عليه‌السلام» وبالحجر الأسود ، وبغير ذلك.

بل قد يقال : إن ذلك لا يتلاءم مع ما كان يفعل ابن عمر نفسه حيث رووا عنه : أنه كان يتتبع آثار رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، والمواضع التي صلى فيها ، فيصلي فيها.

بل يذكرون : أنه كان يتتبع مواطئ قدمه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أيضا.

إلا أن يقال : إنه لم يرد عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أنه قد صلى تحت تلك الشجرة ، لكي يقتدي به ابن عمر ويصلي تحتها أيضا ..

وعلى كل حال : فقد عرفنا في ابن عمر تأثره الشديد لخطى أبيه ، والالتزام بأوامره ونواهيه بصورة لافتة ، ولعل هذا من ذاك.

مع أن اتباعه لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ولصحابته في التبرك بآثاره ، كان هو الأحرى به ، والأولى ..

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٢٠.

٤٥
٤٦

الفصل الثاني :

عهد الحديبية : أحداث وتفاصيل

٤٧
٤٨

تقديم :

فإن هدنة الحديبية كانت فاتحة عهد جديد ، له خصوصياته ، وكانت له آثاره العميقة في التحولات الكبيرة والعامة ، التي أكدت الحاجة إلى طاقات ، وإمكانات ، وكذلك إلى وسائل ، ثم إلى سياسات ومواقف من نوع آخر غير ما كان الواقع يحتاجه في الظروف وفي الفترة التي سبقت الحديبية.

وإن سير الأحداث التي تلت هذا الصلح يظهر هذه الحقيقة. ويفرض على الباحث رؤية جديدة من شأنها أن توفر له فهما أعمق ، وأوضح لتلك الأحداث ..

وقد يكون التوفر على هذا الأمر ، والالتفات إلى ما يلزم الالتفات إليه يحتاج إلى تضافر جهود ، وإلى إثارة أجواء من البحث ، والمناظرة حول ذلك كله ، وذلك من أجل إعطاء الرؤى كلها فرصتها لتتلاقى وتتكامل مع بعضها ، ولربما ينالها المزيد من التقليم والتطعيم ، وتصبح أكثر غنى باللفتات واللمحات ، التي تجعل نتائج البحث أكثر عمقا ، وملاءمة للواقع ، وأشد صفاء ونقاء ..

ولكن ذلك وإن لم يكن متوفرا في مثل هذا الحال ، فإن ما لا يدرك كله

٤٩

لا يترك كله ، أو جله.

فإن المهم هو : أن تبدأ مسيرة الألف ميل ولو بخطوة واحدة.

فها نحن نبدأ هذه المسيرة ولتكن هذه هي الخطوة الأولى ، وعلى الله نتوكل ومنه نستمد العون والقوة ، ونستنزل الصبر والتأييد والتسديد ، إنه ولي قدير ..

عهد الحديبية :

قال الصالحي الشامي : روى ابن إسحاق وأبو عبيد ، وعبد الرزاق ، والإمام أحمد ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن مردويه ، ومحمد بن عمر ، عن المسور بن مخرمة ، ومروان بن الحكم ، والشيخان ، عن سهيل بن حنيف : أن عثمان لما قدم من مكة ، هو ومن معه ، رجع سهيل بن عمرو ، وحويطب ، ومكرز إلى قريش ، فأخبروهم بما رأوا من سرعة أصحاب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى البيعة ، وتشميرهم إلى الحرب فاشتد رعبهم.

فقال أهل الرأي منهم : ليس خير من أن نصالح محمدا على أن ينصرف عنا عامه هذا ، ولا يخلص إلى البيت ، حتى يسمع من سمع بمسيره من العرب أنّا قد صددناه ، ويرجع قابلا ، فيقيم ثلاثا ، وينحر هديه ، وينصرف. ويقيم ببلدنا ، ولا يدخل علينا. فأجمعوا على ذلك ..

فلما أجمعت قريش على الصلح والموادعة بعثوا سهيل بن عمرو ، وحويطب ومكرزا ، وقالوا لسهيل : ائت محمدا فصالحه ، وليكن في صلحك : ألا يدخل عامه هذا ، فو الله لا تحدث العرب أنه دخل علينا عنوة.

فأتى سهيل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فلما رآه «صلى الله عليه

٥٠

وآله» قال : «قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا» (١).

وفي لفظ : فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «سهل أمركم».

وجلس رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» متربعا ، وكان عباد بن بشر ، وسلمة بن أسلم بن حريش على رأسه ـ وهما مقنعان في الحديد ـ.

فبرك سهيل على ركبتيه ، فكلم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأطال الكلام وتراجعا ، وارتفعت الأصوات وانخفضت.

وقال عباد بن بشر لسهيل : اخفض من صوتك عند رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، والمسلمون حول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» جلوس ، فجرى بين النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وبين سهيل القول حتى وقع الصلح على :

١ ـ أن توضع الحرب بينهما عشر سنين.

٢ ـ أن يأمن الناس بعضهم بعضا.

٣ ـ أن يرجع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عامه هذا ، فإذا كان العام المقبل قدمها ، فخلّوا بينه وبين مكة ، فأقام فيها ثلاثا.

٤ ـ ألا يدخلها إلا بسلاح الراكب ، والسيوف في القرب ، لا يدخلها بغيره.

٥ ـ أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه ـ وإن كان على دين

__________________

(١) السنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ٢٢١ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٢١٠ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٨٠ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٩٢ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٧٨١ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١١٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٢٠ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٥٢.

٥١

محمد ـ رده إلى وليه.

٦ ـ من أتى قريشا ممن اتبع محمدا لم يردوه عليه.

٧ ـ وأن بينهم وبين رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عيبة مكفوفة.

٨ ـ أنه لا إسلال (١).

٩ ـ ولا إغلال (٢).

١٠ ـ أنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل.

وقد أضافت بعض المصادر إلى المواد العشر المتقدمة ما يلي :

١١ ـ أنه من قدم مكة من أصحاب محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حاجا ، أو معتمرا ، أو يبتغي من فضل الله ، فهو آمن على دمه وماله ..

ومن قدم المدينة من قريش مجتازا إلى مصر ، وإلى الشام ، يبتغي من فضل الله ، فهو آمن على دمه وماله (٣).

١٢ ـ أن يخلوا له مكة من قابل ثلاثة أيام ، وتخرج قريش كلها من مكة ،

__________________

(١) الإسلال : السرقة ، المعجم الوسيط ج ١ ص ٤٤٨.

(٢) الإغلال : الخيانة.

(٣) راجع : كنز العمال ج ١٠ ص ٣٠٦ ومدينة البلاغة ج ٢ ص ٢٨١ وتفسير النيسابوري (مطبوع مع جامع البيان) ج ٢٦ ص ٤٩ ومجمع البيان ج ٩ ص ١١٨ والمصنف لابن أبي شيبة ج ١٤ ص ٤٤١ وعن مدينة البلاغة ج ٢ ص ٢٨١ ومجموعة الوثائق السياسية ص ٨٢ و ٨٣ عن ابن جرير ، وأنساب الأشراف ، وابن زنجويه ، ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٧٧ عنهم ، والبحار ج ٢٠ ص ٣٣٤ وميزان الحكمة ج ٣ ص ٢٢٤٦ وجامع البيان ج ٢٦ ص ١٢٥.

٥٢

إلا رجل واحد منها ، يخلفونه مع محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وأصحابه (١).

١٣ ـ وأن لا يخرج من أهلها بأحد ، إن أراد أن يتبعه.

١٤ ـ وأن لا يمنع أحدا من أصحابه ، إن أراد أن يقيم بها (٢).

١٥ ـ وأن يكون الإسلام ظاهرا بمكة ، لا يكره أحد على دينه ، ولا يؤذى ، ولا يعير (٣).

وجاء في آخر العهد : «شهد أبو بكر بن أبي قحافة و.. و.. وكتب علي

__________________

(١) راجع : تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٤٥ والبحار ج ٢٠ ص ٣٦٢ والمصنف لابن أبي شيبة ج ١٤ ص ٤٣٦ والتنبيه والإشراف ص ٢٢١ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٧٨ عنهم وعن آخرين ، ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٧٥ وإعلام الورى ج ١ ص ٢٠٥.

(٢) مكاتيب الرسول ج ٣ ص ٧٨ عن صحيح البخاري ج ٢ ص ٢٤٢ وصحيح مسلم ج ٣ ص ١٤١٠ والمصنف لابن أبي شيبة ج ١٤ ص ٤٣٦ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٣٤ والبحار ج ٢٠ ص ٣٧٢ وج ٣٨ ص ٣٢٨ والأموال ص ٢٣٣ و ٤٤٣ وكنز العمال ج ١٠ ص ٣١٦ والعمدة ص ٢٠١ و ٣٢٥ ومسند أحمد ج ٤ ص ٢٩٨ وسنن الدارمي ج ٢ ص ٢٣٨ وعن صحيح البخاري ج ٥ ص ٨٥ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٨ ص ٥ ومجمع الزوائد ج ٢ ص ٧٥ والسنن الكبرى للنسائي ج ٥ ص ١٦٨ وخصائص أمير المؤمنين ص ١٥١ وصحيح ابن حبان ج ١١ ص ٢٢٩ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٢١٧ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٨٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٤٢.

(٣) البحار ج ٢٠ ص ٣٥٢ و ٣٦٢ عن تفسير القمي ج ٢ ص ٣١٣ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٧٧ و ٩٠ ونور الثقلين ج ٥ ص ٥٣ وموسوعة التاريخ الإسلامي ج ٢ ص ٦٢٩.

٥٣

بن أبي طالب» (١).

فتواثبت خزاعة ، فقالوا : نحن في عقد محمد وعهده ، وتواثبت بنو بكر فقالوا : نحن في عقد قريش وعهدهم.

فكره المسلمون هذه الشروط ، وامتعضوا منها ، وأبى سهيل إلا ذلك ، فلما اصطلحوا ، ولم يبق إلا الكتاب وثب عمر بن الخطاب إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فقال : يا رسول الله ، ألست نبي الله حقا؟

قال : بلى.

قال : ألسنا على الحق وهم على الباطل؟

قال : بلى.

قال : أليس قتلانا في الجنة ، وقتلاهم في النار؟

قال : بلى.

قال : علام نعطي الدنية في ديننا؟ ونرجع ولم يحكم الله بيننا وبينهم؟

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «إني عبد الله ، ورسوله ، ولست أعصيه ، ولن يضيعني ، وهو ناصري».

قال : أو ليس أنت تحدثنا أنّا سنأتي البيت فنطوف حقا؟

قال : بلى ، أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟

قال : لا.

قال : «فإنك آتيه ومطوف به».

فذهب عمر إلى أبي بكر متغيظا ولم يصبر ، فقال : يا أبا بكر : أليس هذا

__________________

(١) راجع : أنساب الأشراف ج ١ ص ٣٥٠.

٥٤

نبي الله حقا؟

قال : بلى.

قال : ألسنا على الحق ، وهم على الباطل؟ أليس قتلانا في الجنة ، وقتلاهم في النار؟

قال : بلى.

قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا ، ونرجع ولم يحكم الله بيننا وبينهم؟

قال : أيها الرجل ، إنه رسول الله ، وليس يعصي ربه ، وهو ناصره ، فاستمسك بغرزه حتى تموت ، فو الله إنه لعلى الحق.

وفي لفظ : فإنه رسول الله.

فقال عمر : وأنا أشهد أنه رسول الله.

قال : أو ليس كان يحدثنا : أنه سنأتي البيت ونطوف به؟

قال : بلى ، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟

قال : لا.

قال : فإنك آتيه ومطوّف به.

فلقي عمر من هذه الشروط أمرا عظيما» (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٥٣ عن : البخاري ج ٤ ص ٢٦ و ١٢٥ ، وعن مسلم ج ٣ ص ١٤١٢ (٩٤ / ١٧٨٥) وراجع : الطبراني في الكبير ج ٦ ص ١٠٩ وفي (ط أخرى) ج ٢٠ ص ١٤ وابن سعد ج ١ ق ١ ص ٢٠ وانظر المجمع ج ٣ ص ٣١٢ ج ٥ ص ٦٧. وراجع : نيل الأوطار ج ٨ ص ١٨٧ وعين العبرة ص ٢٢ ومناقب أهل البيت ص ٣٣٦ والنص والإجتهاد ص ١٧٣ والغدير ج ٧ ص ١٨٥ والسنن الكبرى ج ٩ ص ٢٢٠ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٢١٣ والدر المنثور ج ٦ ص ٧٧ ـ

٥٥

وقال كما في الصحيح : والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ ، وجعل يرد على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الكلام.

فقال أبو عبيدة بن الجراح : ألا تسمع يا بن الخطاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقول ما يقول ، تعوذ بالله من الشيطان ، واتهم رأيك.

قال عمر : فجعلت أتعوذ بالله من الشيطان حياء ، فما أصابني شيء قط مثل ذلك اليوم ، وعملت بذلك أعمالا ـ أي صالحة ـ لتكفر عني ما مضى من التوقف في امتثال الأمر ابتداء ، كما عند ابن إسحاق ، وابن عمر الأسلمي.

قال عمر : فما زلت أتصدق ، وأصوم ، وأصلي ، وأعتق من الذي صنعت يومئذ ، مخافة كلامي الذي تكلمت به حتى رجوت أن يكون خيرا.

وروى البزار عن عمر بن الخطاب ، قال : اتهموا الرأي على الدين ، فلقد رأيتني أردّ أمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» برأيي ، وما ألوت على الحق.

قال : فرضي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وأبيت ، حتى قال : «يا عمر تراني رضيت وتأبي»؟! (١).

__________________

ـ وتاريخ مدينة دمشق ج ٥٧ ص ٢٢٩ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٠٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٣٤ والبحار ج ٣٠ ص ٣٣٩ والمصنف لعبد الرزاق ج ٥ ص ٣٣٩ وإرواء الغليل ج ١ ص ٥٨ وج ٨ ص ١٩٦ ومسند أحمد ج ٤ ص ٣٣٠.

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٥٣ عن الدولابي في الكنى ج ٢ ص ٦٩. وراجع :

فتح الباري ج ٥ ص ٢٥٤ وج ١٣ ص ٢٤٥ والمعجم الكبير ج ١ ص ٧٨ وفي (ط أخرى) ص ٧٢ ومجمع الزوائد ج ١ ص ١٧٩ وج ٦ ص ١٤٦ والأحكام لابن حزم ج ٦ ص ٧٨٢ وكنز العمال ج ١ ص ٣٧٢.

٥٦

فقال سهيل : هات ، اكتب بيننا وبينك كتابا ، فدعا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عليا ـ كما في حديث البراء عند البخاري في كتاب الصلح وكتاب الجزية ، ورواه إسحاق بن راهويه من حديث المسور ومروان ، وأحمد ، والنسائي ، والبيهقي والحاكم ـ وصححه عن عبد الله بن مغفل.

فقال له رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «اكتب : (بسم الله الرحمن الرحيم)».

فقال سهيل : أما الرحمن الرحيم فو الله ما أدري ما هو ، ولكن اكتب باسمك اللهم ، كما كنت تكتب. اكتب في قضيتنا ما نعرف.

فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلا : (بسم الله الرحمن الرحيم).

فقال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «اكتب : باسمك اللهم»

ثم قال : «هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فقال سهيل : والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ، ولا قاتلناك ، اكتب في قضيتنا ما نعرف ، اكتب محمد بن عبد الله.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لعلي : امحه ، فقال علي «عليه‌السلام» : ما أنا بالذي «أمحاه» ، وفي لفظ «أمحاك».

وفي حديث محمد بن كعب القرظي : فجعل علي يتلكأ ، وأبى أن يكتب إلا محمد رسول الله ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : اكتب ، فإن لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد (١) انتهى.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٥٤ وفي هامشه : عن البخاري ج ٥ ص ٣٥٧ (٢٦٩٩) وأحمد ج ٤ ص ٣٢٨ و ٨٦ وج ٥ ص ٢٣ و ٣٣ والبيهقي ج ٩ ص ٢٢٠ و ٢٢٧ ـ

٥٧

وذكر محمد بن عمر : أن أسيد بن الحضير ، وسعد بن عبادة أخذا بيد علي ومنعاه أن يكتب إلا : «محمد رسول الله» ، وإلا فالسيف بيننا وبينهم.

فارتفعت الأصوات ، فجعل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يخفضهم ، ويومئ بيده إليهم : اسكتوا.

فقال : أرنيه ، فأراه إياه ، فمحاه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بيده ، وقال : اكتب محمد بن عبد الله.

قال الزهري : وذلك لقوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : لا يسألوني خطة يعظمون بها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لسهيل : على أن تخلوا بيننا وبين البيت ، فنطوف.

فقال سهيل : لا والله ، لا تحدث العرب أنّا أخذنا ضغطة ، ولكن لك من العام المقبل ، فكتب.

__________________

ـ وعبد الرزاق في المصنف (٩٧٢٠) والطبري في التفسير ج ٢٦ ص ٥٩ و ٦٣ وابن كثير في التفسير ج ٧ ص ٣٢٤ وانظر المجمع ج ٦ ص ١٤٥ و ١٤٦. وراجع : ميزان الحكمة ج ٤ ص ٣١٩٦ ومجمع البيان ج ٩ ص ١٩٩ والميزان ج ١٨ ص ٢٦٩ والمناقب للخوارزمي ص ١٩٣ والبحار ج ٢٠ ص ٣٣٥ وج ٣٢ ص ٥٤٢ وج ٣٣ ص ٣١٤ ووقعة صفين ص ٥٠٩ والمسترشد ص ٣٩١ وشرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ٢٣٢ وموسوعة التاريخ الإسلامي ج ٢ ص ٦٢٨ وينابيع المودة ج ٢ ص ١٨ ومناقب آل أبي طالب ج ٢ ص ٣٦٦ والأنوار العلوية ص ٢٤٩ وعن الإحتجاج ج ١ ص ٢٧٧ وتفسير القمي ج ٢ ص ٣١٣ ونور الثقلين ج ٥ ص ٥٣.

٥٨

فقال سهيل : على أنه لا يأتيك منا أحد بغير إذن وليه ـ وإن كان على دينك إلا رددته إلينا.

فقال المسلمون : سبحان الله ، أيكتب هذا؟ كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «نعم ، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ، ومن جاء منهم إلينا سيجعل الله له فرجا ومخرجا» (١).

ونقول :

إن لنا مع النصوص المتقدمة وقفات للتوضيح ، أو للتصحيح ، وهي التالية :

الاصطفاف للقتال ، واللواء مع علي عليه‌السلام :

قال الشيخ المفيد «رحمه‌الله» : «.. ثم تلا بني المصطلق الحديبية ، وكان اللواء يومئذ إلى أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، كما كان في المشاهد كلها. وكان من بلائه في ذلك اليوم عند صف القوم في الحرب للقتال ، ما ظهر خبره ، واستفاض ذكره. وذلك بعد البيعة التي أخذها النبي «صلى الله عليه

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٥٤ وفي هامشه قال : انظر التخريج السابق وأخرجه أبو داود في الجهاد باب (١٦٧) وأحمد ج ٤ ص ٣٢٩ و ٣٣٠ والسيوطي في الدر المنثور ج ٦ ص ٧٦. وراجع النصوص المتقدمة في : سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٥١ ـ ٥٤ وصحيح مسلم ج ٥ ص ١٧٥ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٨ ص ٥١٠ وكنز العمال ج ١٠ ص ٤٨٠ والجامع لأحكام القرآن ج ١٦ ص ٢٧٧.

٥٩

وآله» على أصحابه ، والعهود عليهم في الصبر» (١).

ونقول :

إن كتب التاريخ التي بين أيدينا قد عجزت عن الجهر بما فعله علي «عليه‌السلام» حين صف القوم في الحرب للقتال .. مع أن ذلك كان قد ظهر خبره ، واستفاض ذكره ..

فهل كان أسر الخمسين على يد علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» ، وليس على يد محمد بن مسلمة؟

وهل كان أسر الاثني عشر الآخرين على يد علي «عليه‌السلام» دون سواه ، وكان ذلك في ساحة الحرب ، حيث رفعت فيها الألوية ، واصطف فيها الناس للقتال ، وكان اللواء مع علي «عليه‌السلام» كما هو في سائر المشاهد ، ثم أخفى ذلك الحاقدون ، وقللوا من شأنه ، وجعلوه مجرد مناوشات يسيرة لا أهمية لها .. مع أنها هي التي أرعبت قريشا ، وأرغمتها على الصلح ، ولما «رأى سهيل بن عمرو توجه الأمر عليهم ، ضرع إلى النبي «عليه‌السلام» في الصلح ، ونزل عليه الوحي بالإجابة إلى ذلك ..» حسبما رواه الشيخ المفيد «رحمه‌الله» (٢).

قريش في مأزق :

لقد وجدت قريش نفسها أمام خيارات صعبة ، لا تستطيع أن تتجرع مرارة أي واحد منها ، والخيارات هي التالية :

__________________

(١) الإرشاد ج ١ ص ١١٩ والمستجاد في الإرشاد ص ٧٣ والبحار ج ٢٠ ص ٣٥٨.

(٢) الإرشاد للمفيد ج ١ ص ١١٩.

٦٠