الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٦

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٦

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-188-2
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٣٩

قال : كيف نسبه فيكم؟

قلت : هو فينا ذو نسب.

قال : فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟

قلت : لا.

قال : فهل كان من آبائه ملك؟

قلت : لا.

قال : فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟

قلت : بل ضعفاؤهم.

قال : أيزيدون أم ينقصون؟

قلت : لا ، بل يزيدون.

قال : فهل يرتد أحد منهم عن دينه سخطة له؟

قلت : لا.

قال : فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟

قلت : لا.

قال : فهل يغدر؟

قلت : لا.

قال : فهل قاتلتموه؟

قلت : نعم.

قال : فكيف كان قتالكم إياه؟

قلت : الحرب بيننا وبينه سجال.

قال : كيف عقله ورأيه؟

٣٠١

قلت : لم نعب له عقلا ولا رأيا قط.

قال : كيف حسبه فيكم؟

قلت : هو فينا ذو حسب».

قال لترجمانه : قل له : فما يأمركم به؟

قلت : يأمرنا بالصلاة ، والزكاة ، والصدق ، والعفاف ، والصلة ، وأن نعبد الله وحده لا شريك له ، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا ، ويأمرنا بالوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة ، والطهارة.

فقال لترجمانه : قل له : إني سألتك عن حسبه ، فزعمت أنه فيكم ذو حسب ، وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها.

وسألتك هل كان في آبائه ملك فزعمت أن لا.

فقلت : لو كان من آبائه ملك قلت : رجل يطلب ملك آبائه.

وسألتك عن أتباعه أضعفاؤهم أم أشرافهم.

فقلت : بل ضعفاؤهم. وهم أتباع الرسل.

وسألتك هل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ، فزعمت أن لا ، فقد عرفت أنه لم يكن ليدّعي الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله.

وسألتك هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخله سخطة له ، فزعمت أن لا ، وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب.

وسألتك هل يزيدون أو ينقصون ، فزعمت : أنهم يزيدون وكذلك الإيمان حتى يتم.

وسألتك هل قاتلتموه ، فزعمت : أنكم قد قاتلتموه ، فيكون الحرب بينكم وبينه سجالا ، ينال منكم وتنالون منه ، وكذلك الرسل تبتلى ، ثم

٣٠٢

تكون لهم العاقبة.

وسألتك هل يغدر ، فزعمت أنه لا يغدر ، وكذلك الرسل لا تغدر.

وسألتك هل قال هذا القول أحد قبله ، فزعمت أن لا.

فقلت : لو قال هذا القول أحد قبله ، قلت : رجل ائتم بقول قيل قبله.

قال ثم قال : إن يكن ما تقول حقا فإنه نبي ، وقد كنت أعلم أنه خارج ، ولم أكن أظنه منكم ، ولو أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت قدميه ، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي.

قال : ثم دعى بكتاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فقرأه».

وذكر أن ابن أخي قيصر أظهر الغيظ الشديد ، وقال لعمه : قد ابتدأ بنفسه وسماك صاحب الروم.

فقال : والله إنك لضعيف الرأي ، أترى أرمي بكتاب رجل يأتيه الناموس الأكبر ، وهو أحق أن يبدأ بنفسه ، ولقد صدق أنا صاحب الروم ، والله مالكي ومالكه.

وفي نقل آخر : إن هذا الرجل أخوه.

قال أبو سفيان : فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده ، وكثر اللغط ، فأمر بنا فأخرجنا.

قال : قلت لأصحابي : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة ، إنه ليخافه ملك بني الأصفر.

قال : فما زلت موقنا بأمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

٣٠٣

إكرام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله :

ثم أمر الملك بإنزال دحية وإكرامه ، وأمر مناديا ينادي : ألا إن هرقل قد ترك النصرانية ، واتبع دين محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأقبل جنده قد تسلحوا حتى أطافوا بقصره.

فأمر مناديه فنادى : ألا إن قيصر إنما أراد أن يجرّبكم ، كيف صبركم على دينكم ، فارجعوا قد رضي عنكم.

ثم قال للرسول : إني أخاف على ملكي ، إني لأعلم أن صاحبك نبي مرسل ، والذي كنا ننتظره ونجده في كتابنا ، ولكني أخاف الروم على نفسي ، ولو لا ذلك لا تبعته ، فاذهب إلى ضغاطر الأسقف ، فاذكر له أمر صاحبكم ، فهو أعظم في الروم مني ، وأجوز قولا مني عندهم ، صاحبك والله نبي مرسل.

فجاء دحية فأخبره بما جاء به من عند رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فقال ضغاطر : صاحبك والله نبي مرسل ، نعرفه في صفته ، ونجده في كتابنا باسمه ، ثم ألقى ثيابا كانت عليه سوداء ، ولبس ثيابا بيضاء ، ثم أخذ عصاه ، ثم خرج على الروم وهم في الكنيسة.

فقال : يا معشر الروم : إنه قد جاءنا كتاب أحمد يدعونا فيه إلى الله ، وإني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن أحمد رسول الله ، فوثبوا عليه وثبة رجل واحد فضربوه فقتلوه ، فرجع دحية إلى هرقل فأخبره الخبر.

فقال : قد قلت لك : إنا نخافهم على أنفسنا ، وضغاطر كان والله أعظم عندهم مني».

ويظهر من بعض الألفاظ (كما يظهر من الإصابة عن بعض الرواة) :

٣٠٤

أن ضغاطر اجتمع مع ملك الروم ، فأقرأه الكتاب ، فقال : هذا النبي الذي كنا ننتظره.

قال : فما تأمرني؟

قال : أما إني فمصدقه ومشيعه.

قال قيصر : أما إن فعلت يذهب ملكي» (١).

__________________

(١) في مكاتيب الرسول ج ٢ ص ٤٠٥ قال العلامة الأحمدي : راجع في تفصيل بعث دحية وقصة أبي سفيان : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٧٣ وسيرة دحلان ج ٣ ص ٥٨ ودلائل أبي نعيم : ٢٨٧ و ٢٩٠ والبحار ج ٢٠ ص ٣٨٩ ومسند أحمد ج ٣ ص ٢٦٣ وتهذيب تأريخ ابن عساكر ج ١ ص ١٤١ وج ٦ ص ٣٩٢ والدر المنثور ج ٢ ص ٤٠ ومشكل الآثار للطحاوي ج ٣ ص ٣٩٧ والدلائل للبيهقي ج ٤ ص ٢٧٩ ـ ٢٨٤ والأموال لأبي عبيد ص ٣٤ و ٣٦٢ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٢٤٤ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ١٧٧ وج ١٠ ص ١٣٠ وفتح الباري ج ١ ص ٣٥ وج ٦ ص ٧٩ وج ٨ ص ١٦٥ وعمدة القاري ج ١ ص ٩٩ وج ١٤ ص ٢١٠ وج ١٨ ص ١٤٤ وعون المعبود ج ٤ ص ٤٩٨ والطبقات الكبرى ج ١ ق ٢ ص ١٦ وثقات ابن حبان ج ٢ ص ٥ والبخاري ج ١ ص ٢ ـ ٥ وج ٤ ص ٥٧ وتأريخ الخميس ج ٢ ص ٣٢ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٦٢ ـ ٢٦٨ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٦٤٦ والكامل لابن الأثير ج ٢ ص ٢١١ والإصابة ج ٢ ص ٢١٦ وأسد الغابة ج ٣ ص ٤١ ومجمع الزوائد ج ٨ ص ٢٣٦ و ٢٣٧ وج ٥ ص ٣٠٦ ـ ٣٠٨ وحياة الصحابة ج ١ ص ١٠٤ وراجع : الطبراني في الكبير ج ١٢ ص ٤٤٢ (١٣٦٠٧) وج ٢٥ ص ٢٣٣ ـ ٢٣٨ وج ٤ ص ٢٦٦ وج ٨ ص ١٧ ـ ٢٨ بأسانيد متعددة والمصنف لعبد الرزاق ج ٥ ص ٣٤٤ والروض الأنف ج ٣ ص ٢٤٩ والأموال لابن زنجويه ج ٢ ص ٥٨٤ و ٥٨٥ و ٥٨٩ والمنتظم ج ٣ ص ٢٧٧ و ٢٧٨.

٣٠٥

تعالوا إلى كلمة سواء :

وبعد ، فإننا نلاحظ على ما تقدم ما يلي :

إنه قد ورد في كتابه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى ملك الروم قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (١).

وقد تقدم : أن بعض النصوص صرحت : بأن كتاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى الكفار هو : (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ ..) الآية (٢).

وعن الزهري : كانت كتب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إليهم واحدة ، كلها فيها هذه الآية (٣).

وقد تقدم : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد كتب هذه الآية إلى كسرى (٤).

وسيأتي : أنه كتب بها إلى المقوقس وإلى النجاشي أيضا.

وقال أبو عبيد : «كتب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى كسرى ، وقيصر ، والنجاشي كتابا واحدا :

__________________

(١) الآية ٦٤ من سورة آل عمران.

(٢) الدر المنثور ج ٢ ص ٤٠ عن الطبراني عن ابن عباس وراجع المصادر المتقدمة.

(٣) البداية والنهاية ج ٣ ص ٨٣ والمصادر المتقدمة.

(٤) راجع : الأموال ص ٣٤ وكنز العمال ج ١٠ ص ٤١٧ والبحار ج ٢١ ص ٢٨٧ الدر المنثور ج ٥ ص ١٠٧ والمصنف لابن أبي شيبة ج ١٤ ص ٣٣٨ وسنن سعيد بن منصور ج ٢ ص ١٨٩ ومكاتيب الرسول ج ٢ ص ٣٢٠.

٣٠٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

من محمد رسول الله ، إلى كسرى ، وقيصر ، والنجاشي.

أما بعد ، (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ ..) الآية» (١).

وهذه الآية قد جاءت في سورة آل عمران.

وقد ذكروا أيضا : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد ذكر هذه الآية لأهل نجران ، حين جاؤوا إلى المدينة (٢).

وقالوا : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد كتبها.

وقيل : نزلت لأنها نزلت سنة تسع ، وهي سنة قدوم النجرانيين (٣).

وقيل : بل بعد نزولها ؛ لأن نزولها كان في أول الهجرة في شأن اليهود (٤).

ونقول :

إن قراءة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للآية على النجرانيين ، والطلب إليهم العمل بمضمونها لا يدل على نزول الآية في ذلك الحين ، فإن مضمونها عام صالح للاستفادة منه في كل حين ، وقد دلت الروايات على

__________________

(١) الأموال ص ٣٤ ومكاتيب الرسول ج ٢ ص ٣٢٠ و ٤٥٦ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٨ ص ٤٦١ وكنز العمال ج ١٠ ص ٦٣٢.

(٢) الدر المنثور ج ٢ ص ٤٠ عن ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير ، وعن السدي.

(٣) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٤٤ وراجع : عمدة القاري ج ١ ص ٩٣.

(٤) الدر المنثور ج ٢ ص ٤٠ عن ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وعبد بن حميد ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٤٤ وراجع : عمدة القاري ج ١ ص ٩٣ وجامع البيان ج ٣ ص ٤١٠ و ٤١٥ وفتح القدير ج ١ ص ٣٤٩.

٣٠٧

نزولها قبل ذلك حين كان يحتج على يهود المدينة.

كما أن من الجائز أن يكون أهل نجران قد جاؤوا إلى المدينة في سنة ست.

الآية تفرض التوحيد :

وربما يتوهم بعضهم ، أو يتعمد القول : بأن مفاد الآية هو دعوة أهل الكتاب إلى الالتزام بالقواسم المشتركة بيننا وبينهم ، وهي عبادة الله ، وتوحيده ، ويبقى ما عداها خاضعا للبحث والحوار ..

إنه كلام غير صحيح ، بل إن الآية تريد أن تلزم أهل الكتاب بالتوحيد ، وأن تفرض عليهم التخلي عن الشرك ، وعبادة غير الله ، وأن لا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله.

وهو أمر لا يرضاه أهل الكتاب ، وقد صرح القرآن بأنهم : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ..) (١).

وصرح أيضا بشركهم ، وبعبادتهم لغير الله عزوجل ، حيث قال : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ..) (٢).

وقال : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ، أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ، قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا

__________________

(١) الآية ٣١ من سورة التوبة.

(٢) الآيتان ١٧ و ٧٢ من سورة المائدة.

٣٠٨

وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ..) (١).

وقال تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا ..) (٢).

وقال سبحانه : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ..) (٣).

وقال تبارك وتعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ، اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ، يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (٤).

كما أن آية الجزية صريحة : في أن من أهل الكتاب ، من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يدين دين الحق (٥).

فهذه الآيات كلها تدل : على أن أهل الكتاب لا يعبدون الله وحده لا شريك له ، كما يريد أن يدّعيه هذا البعض. بل إن قوله تعالى : (تَعالَوْا إِلى

__________________

(١) الآيات ٧٣ ـ ٧٧ من سورة المائدة.

(٢) الآية ٥٩ من سورة المائدة.

(٣) الآية ١١٦ من سورة المائدة.

(٤) الآيات ٣٠ ـ ٣٢ من سورة التوبة.

(٥) الآية ٢٩ من سورة التوبة.

٣٠٩

كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ ..) الآية ، يدل : على أنهم بعيدون عن كلمة السواء ، ولا يلتزمون بها تماما كاتخاذهم أحبارهم أربابا من دون الله.

فإن الآية قد دعتهم إلى الالتزام بهذين الأمرين بصيغة واحدة ، وسياق واحد ، وذلك يدل على عدم التزامهم بهما معا ، كما قلنا ..

ويؤيد ذلك : ما روي من أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كلم النضر بن الحارث حتى أفحمه ، ثم قال : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ..) الآية ، فلما خرج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال ابن الزبعرى : أما والله لو وجدته في المجلس لخصمته ، فاسألوا محمدا أكلّ ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عزيرا ، والنصارى تعبد عيسى.

فأخبر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : يا ويل أمه ، أما علم أن «ما» لما لا يعقل ، و «من» لمن يعقل؟

فنزلت : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا ..) الآية (١).

__________________

(١) المناقب لابن شهرآشوب ج ١ ص ٤٩ والكنى والألقاب ج ١ ص ٢٩٤ والبحار ج ١٨ ص ٢٠٠ والقواعد الفقهية ج ٥ ص ٣٣٨ عن الكاشف ج ٣ ص ١٣٦ وعن أسباب النزول للواحدي ص ١٧٥ وعن الدر المنثور ج ٥ ص ٦٧٩.

وراجع : البداية والنهاية ج ٣ ص ١١١ والسيرة النبوية لابن هشام ج ١ ص ٢٤١ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٥٣ وسبل الهدى والرشاد ج ٢ ص ٤٦٥ وجامع البيان ج ١٧ ص ١٢٨ والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج ١٦ ص ١٠٣ وتفسير القرآن العظيم لابن كثير ج ٣ ص ٢٠٨.

٣١٠

المجوس أهل كتاب :

وإذا كان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد كتب بآية «كلمة السواء» إلى ملك الفرس بالإضافة إلى النجاشي ، وقيصر ، والمقوقس ، فإن ذلك يعني : أن المجوس أيضا من أهل الكتاب.

وقد ورد في الأحاديث : أنه كان لهم كتاب فضيعوه ، أو أحرقوه (١). فتضييعهم له ، لم يخرجهم عن أحكامه ، ولا أوجب معاملتهم معاملة أهل الشرك.

جواب قيصر :

ويقول المؤرخون أيضا : إن قيصر قد رد دحية بن خليفة الكلبي مكرما ، وأهدى إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هدية ، وكتب إليه :

«.. إلى أحمد رسول الله ، الذي بشر به عيسى ، من قيصر ملك الروم :

إني جاءني كتابك مع رسولك ، وإني أشهد أنك رسول الله ، نجدك عندنا في الإنجيل ، بشرنا بك عيسى بن مريم.

وإني دعوت الروم إلى أن يؤمنوا بك ، فأبوا ، ولو أطاعوني لكان خيرا

__________________

(١) فقه القرآن ج ١ ص ٣٤٢ و ٣٤٤ وميزان الحكمة ج ٤ ص ٣١٨٣ والكافي ج ٣ ص ٥٦٨ ومن لا يحضره الفقيه ج ٢ ص ٥٤ وتهذيب الأحكام ج ٤ ص ١١٣ وج ٦ ص ١٥٩ و ١٧٥ والوسائل (ط دار الإسلامية) ج ١١ ص ٩٦ و ٩٧ والفصول المهمة ج ٢ ص ٢١٢ والبحار ج ١٤ ص ٤٦٣ ومكاتيب الرسول ج ٢ ص ٤١٣ والتفسير الصافي ج ٢ ص ٣٣٤ ونور الثقلين ج ٢ ص ٢٠٢ وقصص الأنبياء للجزائري ص ٥١٤ وعن فتح الباري ج ٩ ص ٣٤٣.

٣١١

لهم. ولوددت أني عندك ، فأخدمك ، وأغسل قدميك» (١).

وجعل كتاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في الديباج والحرير ، وجعله في سفط (٢).

فلما وصل كتابه إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، قال : «يبقى ملكهم ما بقي كتابي عندهم» (٣).

ونقل الحلبي أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : «كذب عدو الله ، إنه ليس بمسلم» (٤).

وقد ذكر السهيلي : أن هرقل وضع كتاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، الذي كتب إليه في قصبة من ذهب ، تعظيما له ، وأنهم لم يزالوا يتوارثونه كابرا عن كابر ، في أرفع صوان ، وأعز مكان ، حتى كان عند

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٦٧ و ٦٨ وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٤٦ والسيرة النبوية لدحلان (مطبوع مع الحلبية) ج ٣ ص ٦٣ والروض الأنف ج ٤ ص ١٩٦ ومكاتيب الرسول ج ٢ ص ٤١٠.

(٢) دلائل النبوة لأبي نعيم ص ٢٩١ وراجع : الروض الأنف ج ٤ ص ١٩٧ ومكاتيب الرسول ج ٢ ص ٤١٠ وسبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ٣٥٤.

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٦٨ وراجع : مسند أحمد ج ٣ ص ٤٤٢ وج ٤ ص ٧٤ والبحار ج ٢٠ ص ٣٨٦ ومكاتيب الرسول ج ٢ ص ٤١٠ و ٤١٦ ومجمع الزوائد ج ٨ ص ٢٣٥ وعن فتح الباري ج ١ ص ٤٢ وكنز العمال ج ١ ص ٢٦٨ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٢٨ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٥٨ وج ١١ ص ٣٥٥.

(٤) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٤٦ والسيرة النبوية لدحلان (مطبوع مع الحلبية) ج ٣ ص ٦٣ وموارد الظمآن ص ٣٩٣.

٣١٢

«أذفونش» الذي تغلب على طليطلة ، وما أخذ أخذها من بلاد الأندلس ، ثم كان عند ابن بنته ، المعروف ب «السليطين».

حدثني بعض أصحابنا : أنه حدثه من سأله رؤيته من قواد أجناد المسلمين ، كان يعرف بعبد الملك بن سعيد ، قال : فأخرجه إلي ، فاستعبرته ، وأردت تقبيله ، وأخذه بيدي ، فمنعني من ذلك ، صيانة له ، وضنا به عليّ.

حراجة موقف أبي سفيان :

ولا نريد التعليق على المحاورة التي جرت بين قيصر وأبي سفيان ، بل نكتفي بالقول : إن أبا سفيان لم يكن سعيدا حين كان يجيب على أسئلة قيصر ، وذلك من جهتين :

إحداهما : أنه يرى : أعدى أعدائه قد أصبح يشكل قضية كبيرة لقيصر ، ولكسرى ، ولغيرهما من ملوك الأرض ، وأن هؤلاء الملوك الأقوياء جدا لم يستهينوا بأمر هذا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بل تلقوا أمره ، وقرأوا كتبه لهم باهتمام بالغ ، وبجدية ظاهرة ، وكان موقفهم منه يتسم بكثير من التروي ، والحرص على عدم ظهور أية بادرة عداء من قبلهم تجاهه ، سوى ما ظهر من كسرى ..

وقد أسلم بعض هؤلاء الملوك ، أو أسلم كبار من أعوانهم ورجالاتهم ، ومن لم يعلن إسلامه ، فإنه اتخذ جانب المداراة ، والتودد له ، وأرسل له الهدايا ، وخصه بالعبارات الرضية ، والرقيقة ..

وهذا أمر لا بد أن يزعج أبا سفيان جدا ، إلى حد الصدمة ، ويجعله أكثر يأسا من الوصول إلى مبتغاه ، ألا وهو القضاء على دعوته ، والتخلص من

٣١٣

الدين الذي جاء به بيسر وسهولة ..

الثانية : إنه وجد نفسه مضطرا للصدق في أجوبته على أسئلة قيصر ، ليحفظ لنفسه موطئ قدم لديه ، ولا بد أن يكون ذلك صعبا عليه ؛ لأنه يدرك أن كلماته سوف تترك انطباعا إيجابيا لدى قيصر عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وهو أمر كان أبو سفيان يخشى عواقبه وتبعاته كل الخشية ، ولا يرضاه في حال من الأحوال.

لم أكن أظنه منكم :

ويثير الانتباه هنا : قول قيصر لأبي سفيان : إنه يعرف : أنه نبي ، وأنه خارج لا محالة ، ولكنه لم يكن يظن أنه من العرب ..

غير أننا نقول :

هل كان سوء حال العرب ، واستغراقهم في جهالاتهم وضلالاتهم هو الذي صرف ذهن قيصر عن تداول احتمال أن يكون الرسول الموعود منهم؟! وإلا فإن واقع الحال يشير إلى أنه برغم كل هذا التحريف للحقائق الذي ظهر في كتبهم التي يعتقدون بها ، فقد حفلت تلك الكتب نفسها بإمارات ودلالات كثيرة جدا ، تؤكد على أن هذا النبي هو من العرب ، ومن مكة المكرمة بالتحديد. ونذكر مثالين على ذلك ، وهما :

١ ـ ورد في الأصل العبراني من سفر التكوين ما ترجمته : «ولإسماعيل سمعته (إبراهيم) ها أنا أباركه كثيرا ، وأنمّيه ، وأثمّره كثيرا ، وأرفع مقامه

٣١٤

كثيرا بمحمد ، واثني عشر إماما يلدهم إسماعيل ، وأجعله أمة كبيرة» (١).

٢ ـ «هذه شهادة يوحنا حين أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ، ليسألوه : من أنت؟!

فاعترف ولم ينكر ، وأقر : إني لست المسيح.

فسألوه : إذن ماذا؟! إيليا أنت؟!

فقال : لست أنا.

النبي أنت؟!

فأجاب : لا.

فقالوا : من أنت لتعطي جوابا الخ ..» (٢).

وهناك العديد من المؤلفات التي أوردت بشارات العهدين برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فيمكن الرجوع إليها والوقوف على بعض من ذلك .. ويكفي أن نشير إلى أن الله تعالى يقول : (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) (٣).

ويقول : (النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) (٤).

ومعرفة قيصر بظهور نبي في آخر الزمان يدل على أن ذلك ـ كما أشار إليه القرآن ـ كان معروفا عندهم. وهناك شواهد كثيرة على هذا الأمر لسنا بصدد تتبعها.

__________________

(١) سفر التكوين ١٧ : ٢٠.

(٢) إنجيل يوحنا ١ / ١٩ فما بعدها.

(٣) الآية ١٤٦ من سورة البقرة ، والآية ٢٠ من سورة الأنعام.

(٤) الآية ١٥٧ من سورة الأعراف.

٣١٥

ليبلغن ملكه تحت قدمي :

وقد تقدم أن قيصر قد أعلن : بأن ملك هذا النبي ـ الذي كان عالما بأنه سيظهر ـ سوف يبلغ إلى تحت قدميه .. والمتوقع في حالات كهذه أحد أمرين :

أولهما : أن يؤمن ويسلم ، ويستسلم للأمر الواقع ، ويرجع الأمر إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نفسه ..

الثاني : أن يثور ، وأن يزمجر ، ويتهدد ، ويتوعد ، ويباشر العمل في تجهيز الجيوش ، لإنزال الضربة الحاسمة بهذا الذي يخشاه على ملكه ..

ولكن قيصر لم يفعل لا هذا ولا ذاك .. بل عامل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالمداراة والرفق .. ولكنه لم يدخل في الإسلام.

تقدم وسيأتي أنه قد ادّعى الإسلام فكذّبه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وهذا يدل على أنه قد نافق ، وماكر ، وكذب على الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وسعى لدفعه برفق وأناة ؛ لأنه يريد التصدي لإنسان يعرف أنه نبي مرسل ، ويدرك أن إعلان الحرب عليه معناه إعلان الحرب على الله سبحانه ، وهو يعرف أنه قد يعجز عن مواجهة بشر مثله ، فهل يقدر على أن يواجه الله تعالى ، ويعلن الحرب عليه؟!

حنكة قيصر في استجواب أبي سفيان :

وقد أظهر استجواب قيصر لأبي سفيان : أن هذا الرجل كان على جانب كبير من الحنكة والمعرفة بالأمور ، وبمناشئها ، ودوافعها ، كما أنه كان مطلعا على شيء من تاريخ دعوات الأنبياء «عليهم‌السلام» ، وخصوصياتهم ، بالإضافة إلى

٣١٦

قدر كبير من الدراية والبصر بأحوال الناس ، وبأخلاقهم ، وطبيعة نظرتهم للأمور ، ويتضح لك فيما يلي :

نظرة في أسئلة قيصر :

وإذا ألقينا نظرة على أسئلة قيصر لأبي سفيان ، فإننا سوف نخرج بنتيجة مفادها : أنها قد اختيرت بعناية فائقة ، حيث عرف من خلالها كل الأمور والمزايا والخصوصيات التي تحتم نجاح مهمة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأنه لا قدرة لأحد على الوقوف في وجه دعوة لها هذه الميزات ، والخصوصيات.

ونذكر من ذلك على سبيل المثال :

١ ـ أن قيصر لم يسأل أبا سفيان عن معجزة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وعن السبب في عدم انصياعهم لمعجزته. بل اتخذ الحوار بينهما منحى آخر يصب في اتجاه التعرف على ما يفيد في وضع خطة لمواجهة هذه الدعوة التي يخشاها كل الخشية ويريد أن يتجنب الصدام معها.

٢ ـ أنه سأل أبا سفيان عن نسب وحسب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأخبره : أنه ذو نسب وحسب .. وله مكانة مرموقة فيما بين قومه .. وبديهي : أن الناس العاديين يعظمون ذوي الأحساب ، ويحبون التقرب منهم ، ولا يرضيهم إلحاق الأذى بهم ، ولا يؤنسهم التطاول عليهم .. ومعرفة قيصر بهذا الأمر بالنسبة لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، سوف يزعجه ، ويزيد من هواجسه ..

٣ ـ حين لم يجد قيصر في آباء رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ملكا ،

٣١٧

فإنه فقد المبرر لاتهامه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأنه يريد أمرا لنفسه ، وأنه طالب جاه ومقام ضاع منه ..

٤ ـ وإذا كان ضعفاء الناس هم أتباع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فإن ذلك يعني : أن الشرفاء والرؤساء ـ وهم قليلون ـ يفقدون سيطرتهم على أولئك الضعفاء ، الذين هم الكثرة الكاثرة ، والذين يعيشون حالة من التلاحم ، والتعاضد ، ويعطف بعضهم على البعض الآخر ، ويحن إليه ، وتتلاقى مشاعرهم بالمظلومية والقهر ، وتتشارك أمانيهم في التعلق بمن يأتي لينجيهم مما هم فيه ، من ظلم وعسف أولئك الأسياد. ويهديهم إلى طريق الخلاص من متاعبهم ، وآلامهم ..

٥ ـ ومن الواضح : أن الوثوق بصدق القائد والرئيس أمر مهم جدا في حصول الاطمينان لدى الناس بأقواله وأفعاله ، وفي سكون نفوسهم إليه .. وهو يقلل أيضا من فرص التشكيك في صدقيته ، وفي خلوصه ، وإخلاصه .. وهو من موجبات احترام الناس وإكبارهم له.

كما أن ذلك يؤكد لهم صحة ما جاء به ، ويزيد تقديسهم له ..

٦ ـ وإن عدم ارتداد أحد ممن يدخل في دينه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، يشير إلى أن باطن هذا الدين لا يخالف ظاهره ، وأن شعاراته متوافقة مع حقائقه ، وأنه منسجم مع الفطرة والحقيقة الإنسانية ، مؤيد بالمنطق القويم ، والعقل السليم ، وأنه صالح لكل المستويات ، ومتوافق مع عقول الناس من مختلف الفئات ، وجميع المجتمعات ..

كما أن ذلك يدل على أن من يؤمن بهذا الدين يجد فيه مبتغاه ، وأنه حتى لو كان قد دخل فيه لألف سبب وسبب ، فإن هذا الدين قادر على تحويل

٣١٨

العلقة الظاهرية ، إلى علقة إيمانية حقيقية وواقعية ..

٧ ـ يضاف إلى ذلك : أن أهل الإيمان في ازدياد مستمر ، وأن هذا الدين لا يتراجع ولا ينحسر. وأن ذلك ينسحب على جميع القوميات ، والطبقات ، والفئات.

وهذا يعطي : أنه لا خصوصية لبلاد العرب ولا لأحوالهم في ذلك ، بل الخصوصية هي للتكوين الإنساني نفسه ، حيث إنه إذا وجد ما يسانخه ، ويتلاءم معه ، فإنه يتلاحم معه ، ويندمج فيه.

٨ ـ ولأجل ذلك سأل قيصر أخيرا عن التعاليم التي جاء بها ، فلما أخبره ببعضها أدرك أنها تعاليم إنسانية إلهية خالصة ، وهي التي تبحث الفطرة عنها ، لتتكامل بها ومعها. وهي التي تأنس بها النفس ، وتهفو إليها الروح ، ويرشد إليها عقل الإنسان ويرضاها وجدانه ، وضميره ..

وفي هذا الحوار نقاط كثيرة أخرى ، كلها تصب في اتجاه واحد ، وهو : أن قيصرا أراد أن يكتشف ثغرة في دعوة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تفسح المجال لتسديد الضربة القاصمة له ، ليتخلص منه ، فلم يجد ..

ولأجل ذلك عقب بقوله : «وليبلغن ملكه ما تحت قدمي».

بل وجد أن أي صدام مع هذا النبي سوف يؤدي إلى غرس شجرة الإسلام في بلاده ، وهي شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، لا مجال للتخلص منها ، في أي حال ، بل يكون السعي في هذا الاتجاه من موجبات قوتها ، وتجذرها. وانتشار أغصانها في كل اتجاه ..

فآثر العمل على تجنب ذلك ، ومارس المكر والحيلة ، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله ، ولتعلمن نبأه بعد حين.

٣١٩

ولو أنه كان راغبا في الإسلام ، فقد كان باستطاعته وهو الرجل المجرب ، والحصيف أن يفعل ذلك ، وأن يمهد السبل لإسلام أهل مملكته وفق ما يأمره به نبي الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

هرقل ماكر وكاذب :

تقدم : أن ملك الروم بعد ما قرأ كتاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» واطلع من أبي سفيان على ما أحب أن يطلع عليه .. «أمر مناديا ينادي : ألا إن هرقل قد آمن بمحمد واتبعه.

فدخلت الأجناد في سلاحها ، وأطافت بقصره ، تريد قتله ، فأرسل إليهم : أني أردت أن أختبر صلابتكم في دينكم ، فقد رضيت عنكم. فرضوا عنه.

ثم كتب إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أنه مسلم ، ولكنه مغلوب على أمره ..

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : كذب عدو الله ، ليس بمسلم ، بل هو على نصرانيته .. أو نحو ذلك» (١).

__________________

(١) الروض الأنف ج ٤ ص ١٩٦ وراجع : حياة الصحابة ج ١ ص ١٠٦ و ١٠٧ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٦٧ و ٢٦٨ وج ٥ ص ١٥ وتهذيب تاريخ دمشق ج ١ ص ١١٤ وعن فتح الباري ج ١ ص ٣٥ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٤٦ والسيرة النبوية لدحلان (بهامش الحلبية) ج ٣ ص ٦٣ وسائر المصادر التي ذكرناها سابقا ، حين أوردنا ما جرى بين هرقل ، وأبي سفيان ، وموارد الظمآن ص ٣٩٣ وصحيح ابن حبان ج ١٠ ص ٣٥٨.

٣٢٠