الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٦

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٦

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-188-2
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٣٩

مزاجه ، والأربعين يوما من استحكامه (١).

وعن الزهري : أنه لبث سنة.

قال العسقلاني : قد وجدناه موصولا بالأسناد الصحيح ، فهو المعتمد (٢).

وعن عائشة : سحر ، حتى إنه كان ليخيل إليه : أنه يفعل الشيء وما فعله (٣).

وعن ابن عباس ، وعائشة : كان غلام من اليهود يخدم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فدبت إليه اليهود ، فلم يزالوا به حتى أخذ من مشاطة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وعدة أسنان من مشطه ، فأعطاها اليهود فسحروه فيها ، فمرض «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وانتثر شعر رأسه ، ولبث ستة أشهر يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيها (٤).

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٤١.

(٢) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٤١ عن السهيلي ، عن جامع معمر.

(٣) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٤١ عن البخاري وج ٧ ص ٢٨ و ٣٠ وأضواء على الصحيحين ص ٢٧٢ وعن فتح الباري ج ١٠ ص ١٩٢ وعن مسند أحمد ج ٦ ص ٦٣ وصحيح مسلم ج ٧ ص ١٤ وشرح مسلم للنووي ج ١٤ ص ١٧٤ وجامع البيان ج ١ ص ٦٤٤ وزاد المسير ج ٨ ص ٣٣٢ وموسوعة التاريخ الإسلامي ج ١ ص ٤٧٣.

(٤) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٤١ عن معالم التنزيل ، وتفسير القرآن العظيم (ط دار الجيل) ج ٤ ص ٥٧٩ عن الثعلبي ، وأسباب النزول (ط سنة ١٤١٠ ه‍) ص ٤٠٥ وعن فتح الباري ج ١٠ ص ١٩٣ وموسوعة التاريخ الإسلامي ج ١ ص ٤٧٢.

٢٢١

وذكر العسقلاني : أن رجلا نزل في البئر ، واستخرجه ، وأنه وجد في الطلعة مثالا من الشمع لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فإذا فيه إبر مغروزة ، وإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة ، (وفي نص آخر : ووجد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» خفة فقام كأنما أنشط من عقال (١)) فنزل جبرئيل بالمعوذتين ، فكلما قرأ آية انحلت عقدة ، وكلما نزع عقدة وجد لها ألما ، ثم يجد بعدها راحة (٢).

وقيل : قتل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من سحره ، وقيل : عفا عنه.

قال الواقدي : عفوه عنه أثبت عندنا. وروي قتله (٣).

وفي بعض الروايات : أن سحر يهود بني زريق حبس النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن خصوص عائشة سنة (٤).

__________________

(١) تفسير الجلالين ص ٨٢٦ ومكارم الأخلاق ص ٤١٤ والبحار ج ١٨ ص ٧١ وعن ج ٦٠ ص ١٣ و ١٥ وعن ج ٩٢ ص ١٣٠ وعن فتح الباري ج ١٠ ص ١٩١ وعن تفسير مجمع البيان ج ١٠ ص ٤٩٢ وتفسير نور الثقلين ج ٥ ص ٧١٩ وأسباب نزول الآيات ص ٣١٠ وزاد المسير ج ٨ ص ٣٣٣ والجامع لأحكام القرآن ج ٢٠ ص ٢٥٣ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٦١٥.

(٢) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٤١ عن المواهب اللدنية عن فتح الباري ، والدر المنثور ج ٦ ص ٤١٧ وعن فتح الباري ج ١٠ ص ١٩٦ وسبل الهدى والرشاد ج ٣ ص ٤١١.

(٣) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٤١ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٩٩.

(٤) راجع : المصنف للصنعاني (ط دار إحياء التراث العربي) ج ١١ ص ٩ وعن الشفا بتعريف حقوق المصطفى ج ٢ ص ١٨٢ وسبل الهدى والرشاد ج ١٢ ص ٥.

٢٢٢

وروي أن الغلام الذي سحر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والذي كان يخدمه هو نفس لبيد بن الأعصم (١).

وهناك تفاصيل أخرى ، وردت في بعض الروايات (٢). وفيما ذكرناه كفاية.

ونقول :

إننا لا نشك في كذب هذه الروايات ، ونعتقد : أنها من مجعولات أعداء هذا الدين ، أو من قبل أناس أعمى الجهل بصائرهم ، وتاهت في ظلمات الضلالات عقولهم.

ونحن نلخص ما نريد الإلماح إليه هنا بالمطالب التالية :

تناقض الروايات :

ولسنا بحاجة إلى التذكير بالتناقضات الكثيرة بين مضامين تلك

__________________

(١) الدر المنثور ج ٦ ص ٤١٧ عن ابن مردويه ، والبيهقي في دلائل النبوة.

(٢) راجع : البرهان (تفسير) للبحراني ج ٤ ص ٥٢٩ و ٥٣٠ والمصنف للصنعاني ج ٦ ص ٦٥ ومنتخب مسند عبد بن حميد ص ١١٥ ومسند أبي يعلى ج ٨ ص ٢٩٠ والإحسان في ترتيب صحيح ابن حبان ج ١٤ ص ٥٤٥ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٩٦ والعلل لأحمد بن حنبل ج ١ ص ٦٨ وميزان الإعتدال ج ١ ص ٦٤٢ والكامل ج ٣ ص ٩ ومعجم البلدان ج ٣ ص ٥ والبداية والنهاية ج ٦ ص ٤٤ وج ١٠ ص ٢١ وموسوعة التاريخ الإسلامي ج ١ ص ٤٧٢ ومستدرك الوسائل ج ١٢ ص ٦٥ ومناقب آل أبي طالب ج ٢ ص ٦٥ وكتاب الأربعين للشيرازي ص ٣٠١ ومسند أحمد ج ٤ ص ٣٦٧ وسنن ابن ماجة ج ٢ ص ١١٧٣ وعن فتح الباري ج ٦ ص ٢٣٩ وج ١٠ ص ١٩٢ وج ١١ ص ١٦٣ وغير ذلك كثير.

٢٢٣

الروايات ، وما ذكرته من خصوصيات ، ونكتفي من ذلك بأمثلة يسيرة هي :

١ ـ بعضها يقول : إن الملكين أمرا باستخراج السحر وإحراقه ، فإنه أرسل من استخرجه ، وصار كلما حل عقدة منه وجد لذلك خفة ، حتى قام كأنما نشط من عقال.

ورواية تقول : إنه لم يخرجه ، وقد عافاه الله وشافاه بدون ذلك.

٢ ـ هل الذي سحره هو لبيد بن الأعصم؟ أم أن الساحر هو بنات أعصم أخوات لبيد؟

٣ ـ هل بقي لا يقدر على قربان أهله ستة أشهر؟ أم بقي أربعين يوما؟ أم سنة؟ أو أنه بقي أياما؟

٤ ـ هل شفي بسبب حل العقد؟ أم بسبب أن جبرئيل أتاه فعوّذه بالمعوذتين ، فخرج إلى أصحابه صحيحا؟ أم أنه شفي بسبب الخاتم الذي ألبسه إياه جبرئيل؟

٥ ـ هل قتل النبي ذلك الذي سحره؟ أم أنه عفا عنه؟

٦ ـ هل الغلام الذي كان يخدم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو لبيد بن الأعصم نفسه؟ أم أنه رجل آخر؟

٧ ـ وهل السحر وضع في بئر ميمون؟ أم في بئر أروان؟

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الأسوة ، والقدوة ، والمثال :

إن كلام هؤلاء معناه : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد فقد قدرة التمييز بين الأمور وفقد توازنه ، ولم يعد قادرا على التركيز ، وبسبب ما يعانيه من اختلالات في عقله وإدراكه ..

٢٢٤

بل في بعضها : «فأقام رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لا يسمع ولا يبصر ، ولا يفهم ، ولا يتكلم ، ولا يأكل ولا يشرب» (١).

وكلامهم يعني أيضا : أنه قد أصبح من الجائز أن يتخيل «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أنه يصلي ، أو يحج ، أو يصوم ، وهو لا يصلي ، ولا يحج في واقع الأمر. بل هو يفعل أمرا آخر وقد يكون هذا الأمر الذي يفعله موبقة من الموبقات ، أو جريمة من الجرائم ، وقد يكون منافيا للآداب وللأخلاق وللإنسانية.

وقد يتخيل : أنه يبلّغ أحكام الله وهو في واقع الأمر ينطق بالكفر ، ويدعو الناس للضلال.

فهل يمكن أن يكون هذا حال من وصفه الله تعالى بأنه : (ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) ..

وهل يمكن أن يقول الله تعالى للناس : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا).

وأن يقول : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ).

وأن يجعل قوله ، وفعله ، وتقريره «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حجة ودليلا على الأحكام ، مع أنه رجل مسحور ، قد يتكلم بالباطل ، وقد يكون تصرفه لا يرضي الله تعالى؟!

إن تتبعون إلا رجلّا مسحورا :

والذي يؤكد لنا : أن ثمة يدا تحاول الطعن في النبوة ، بل وفي الدين

__________________

(١) دعائم الإسلام ج ٢ ص ١٣٨ والبحار ج ٦٠ ص ٢٣.

٢٢٥

كله .. أن هؤلاء أرادوا استصدار اعتراف من المسلمين أنفسهم ، ومن أقرب الناس لرسول الإسلام «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأن نبيهم رجل مسحور لا يصح اتباعه ، ولا مجال لتصديقه.

وقد اقتدوا في ذلك بأسلافهم ، أعداء الأنبياء ، الذين حكى الله عنهم : أن الاتهام بالوقوع تحت تأثير السحر هو أحد الوسائل التي اتبعوها لإسقاط دعوات الأنبياء السابقين ، قال تعالى حكاية لقول فرعون : (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) (١).

ويقول سبحانه عن الظالمين : (وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) (٢).

وقال : (إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) (٣).

وقد أخذ هؤلاء على عاتقهم خدمة هذا الكيد الشيطاني ، بنسبتهم هذه الأباطيل إلى ساحة قدس رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، مع أن الله سبحانه قد نزهه عنها.

حفظ الله تعالى لأنبيائه عليهم‌السلام :

وحين نحكم بكذب الروايات التي تقول : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد سحر فعلا ، فذلك لا يعني : أننا نريد نفي أن يكون اليهود وغيرهم قد بذلوا بعض المحاولات في هذا المجال.

__________________

(١) الآية ١٠١ من سورة الإسراء.

(٢) الآية ٨ من سورة الفرقان.

(٣) الآية ٤٧ من سورة الإسراء.

٢٢٦

بل إن ذلك : هو المتوقع منهم ، والمظنون بهم ، ولعل هذه المحاولات قد تكررت وتنوعت ..

ولكننا نقول :

إن جميع محاولاتهم قد باءت كلها بالفشل الذريع ، ومني الذين قاموا بها بالخيبة القاتلة والخسران المبين ، وفضحهم الله على لسان رسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليكون ذلك معجزة له ، من حيث إنه إخبار لهم بما أسروا من ذميم الفعل ، وخبيث النوايا ..

كما أن ما فعلوه لم يكن له أي تأثير على دعوته «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وخير دليل على ذلك : أنه لم يمكن لهم التعلق بشيء من ذلك طيلة كل هذه الأحقاب المتمادية .. وبقيت صورة نبينا الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تزداد تألقا وسطوعا جيلا بعد جيل ، وقرنا بعد قرن ..

هل كان يهودي يخدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟!

وكان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد حارب يهود بني قينقاع ، والنضير ، وقريظة ، وقد قتل المسلمون عددا من زعماء اليهود الآخرين ، الذين كانوا يعيشون في المنطقة ، من الذين جاهروا بالعداوة لهم وحالفوا أعداءهم ، وساعدوا وسعوا في إثارة الحروب ضدهم ، ولم يزل يهود المنطقة في خيبر ، وتيماء ، ووادي القرى على هذه الحال معهم أيضا ..

فكيف يرضى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والحال هذه ، بأن يخدمه ذلك اليهودي ، الذي يرى نفسه موتورا ، ولا تصفو نفسه لواتره؟!

خصوصا مع وجود التأكيدات القرآنية المتضافرة على شدة عداوة

٢٢٧

اليهود للمسلمين ، كما في قوله تعالى : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ..) (١).

ألم يكن في المسلمين من يقوم بهذه الخدمة لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حتى احتاج إلى خدمة يهودي؟!

يضاف إلى ذلك : أنهم يقولون : إن لبيد بن الأعصم كان موسرا كثير المال (٢).

ومن كان كذلك : فإنه لا يرضى عادة بأن يكون خادما لأحد ، وإن رضي بذلك للتوصل إلى أهداف شريرة ، فإنه سيكون موضع ريب وشك من كل أحد وسوف يتساءل الناس كلهم ، ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أيضا عن سبب إقدام هذا الرجل على خدمة رجل ليس على دينه ، بل هو يماديه ، وقد كانت بينه وبين قومه حروب هائلة ..

على أن بعض روايات السحر قد ذكرت : أن غلاما مر بلبيد وفي أذنه قرط فجذبه ، فخرم أذن الصبي ، فأخذ فقطعت يده ، فكوي منها فمات (٣).

فإن عقوبة من خرم أذن صبي ليست هي قطع يده.

كما أن اليد إذا كويت لا يموت صاحبها ..

__________________

(١) الآية ٨٢ من سورة المائدة.

(٢) دعائم الإسلام ج ٢ ص ١٣٨.

(٣) دعائم الإسلام ج ٢ ص ١٣٨ ومستدرك الوسائل ج ١٣ ص ١٠٨ والبحار ج ٦٠ ص ٢٢.

٢٢٨

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بدون شعر!!

وقد ذكرت الروايات المتقدمة : أن شعر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد انتثر بواسطة السحر ..

وهذا أمر عجيب وغريب ، لم نعهده في سحر الساحرين ، ولا قرأناه في تاريخ هذا النبي الأمين «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فلو كان ذلك قد حصل فعلا لاعتبره المؤرخون مفصلا تاريخيا في حياته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. ولكان قد بقي في ذاكرة الأجيال المتعاقبة كما بقيت قصة بدر ، وأحد ، وغيرهما ..

وكما حفظ لنا التاريخ حديث الطائر المشوي ، وحديث تصدق علي «عليه‌السلام» بخاتم في الصلاة ، وحديث الغدير ، وما إلى ذلك ..

يضاف إلى ذلك : أن هذا الأمر لو حدث فعلا فسنجد عائشة تحاول بما لا مزيد عليه نشره ، والتهويل به ، والإمعان في وصف جزئياته ، وحالاته وتحولاته ..

كما أن ذلك سوف ينقص قدره لدى زوجاته ، ويثير فيهن حالات من الاستغراب ، وقد يصل الأمر ببعضهن إلى حد إظهار الاشمئزاز من حالته .. مع أن شيئا من ذلك لم يحدث ، أو أننا على أقل تقدير لم نسمع بما يشير إلى شيء من ذلك ..

تصنيف الروايات المتقدمة :

والناظر في الروايات المتقدمة يخرج بحقيقة : أنها رغم دلالتها على تعدد محاولة التوسل بالسحر للتأثير على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. فإنه لا بد من تصنيفها في دائرتين :

٢٢٩

إحداهما : دائرة المقبول والمعقول. وهو ما دل على تأثير السحر في جسد الرسول ، من حيث إيجابه مرضا ، أو ضعفا ، أو تعبا ، فإن الأمراض مما يجوز حصوله للأنبياء ، والسحر من أسبابها العادية ، فلا يضر عروض المرض لهم ، ولا يوجب نقصا في محلهم ، ولا في مراتبهم.

تماما كما جرى لأيوب «عليه‌السلام» ، الذي قال الله تعالى عنه : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) (١).

حيث دلت هذه الآية وكذلك الروايات الواردة في تفسيرها ، على أنه لا مانع من تأثير السحر في تسليط بعض الأرواح الشريرة على أبدان الأنبياء «عليهم‌السلام» لإتعابهم ، وإيذائهم ، ويكون ذلك من موارد امتحان الأنبياء «عليه‌السلام» لإظهار مدى صبرهم ، وعظيم تحملهم وحقيقة ملكاتهم ، وقدراتهم في مواجهة المصائب والمصاعب.

الثانية : أن الأنبياء «عليهم‌السلام» محفوظون من السحر الذي يؤثر في إفساد عقولهم ، والعبث بقدراتهم ، في مجال الفهم ، والإدراك ، والتمييز ، وما إلى ذلك.

وكلامنا إنما هو في إبطال الروايات التي تنحو هذا المنحى وتريد إثبات تأثير السحر في هذه المجالات .. أما التي هي من النوع الأول فلسنا بصدد إثباتها ولا نفيها.

هذا ، وهناك أمور أخرى يمكن أن تذكر في جملة المؤاخذات على الروايات المذكورة ، غير أننا نكتفي بما ذكرناه آنفا. والله هو الهادي إلى سواء السبيل.

__________________

(١) الآية ٤١ من سورة ص.

٢٣٠

الباب الرابع

دعوة ملوك الأرض

الفصل الأول : بيانات تمهيدية

الفصل الثاني : كتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلي كسرى

الفصل الثالث : كتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قيصر

الفصل الرابع : كتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلي المقوقس

الفصل الخامس : كتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلي النجاشي الثاني

٢٣١
٢٣٢

الفصل الأول :

بيانات تمهيدية

٢٣٣
٢٣٤

كتابة إلى ستة من الملوك :

وفي سنة ست (١) أو في سنة سبع (٢) كان إرسال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الرسل إلى ستة من الملوك ، الذين يتحكمون في شعوب الأرض ، فقد

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٢٩ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٨٨ والكامل لابن الأثير ج ٢ ص ٢١٠ والجامع للقيرواني ص ٢٨٧ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٦٢ والبحار ج ٢٠ ص ٣٨٢ ومروج الذهب ج ٢ ص ٢٨٩ وفتح الباري ج ٨ ص ٩٨ وج ١٠ ص ٢٧٤ وسفينة البحار ج ١ ص ٣٧٦ وتحفة الأحوذي ج ٧ ص ٤١٧ ومكاتيب الرسول ج ٢ ص ٣٩٨ وميزان الحكمة ج ٤ ص ٣٢٠٩ والطبقات الكبرى ج ١ ص ٢٥٨ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٥ ص ٤٣٠ والشفا بتعريف حقوق المصطفى ج ١ ص ٣١٥ وسبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ٣٤٤.

(٢) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٢٩ عن الوفاء ، والمواهب اللدنية ، وأسد الغابة ج ١ ص ٦٢ والطبقات الكبرى (ط دار صادر) ج ١ ص ٢٥٨ والتنبيه والإشراف ص ٢٢٥ وتاريخ أبي الفدا ج ١ ص ١٤٨ والطبقات الكبرى ج ١ ق ٢ ص ١٥ ووفاء الوفاء ج ١ ص ٣١٥ والثقات لابن حبان ج ٢ ص ٦ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٢٤٣ وعن فتح الباري ج ١٠ ص ٢٧٤ وعن الكامل لابن عدي ج ٤ ص ١٥٦٥ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٧ ص ٣٥٧ وسبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ٣٤٤.

٢٣٥

أرسل في ذي الحجة الحرام ، أو في أواخره (١) أو في المحرم (٢) ستة نفر في يوم واحد (٣) فخرجوا مصطحبين (٤).

وقد كتب إليهم وإلى غيرهم من الملوك ، والرؤساء ، في داخل بلاد الإسلام وخارجها.

وكانت اللغة التي كتب إليهم بها هي العربية ، والتي هي لغة القرآن والإسلام.

الملوك الستة الذين كتب إليهم :

والملوك الستة الذين كتب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إليهم هم :

١ ـ النجاشي ، ملك الحبشة.

٢ ـ قيصر ، ويقال : هرقل ، عظيم الروم.

٣ ـ كسرى ، حاكم فارس والمدائن.

٤ ـ المقوقس ، صاحب الإسكندرية (مصر).

٥ ـ الحارث ، والي تخوم الشام ودمشق.

٦ ـ ثمامة بن أثال ، وهوذة بن علي الحنفيين ، ملكي اليمامة ، وقائديها.

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٢٩ وراجع : تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٨٨.

(٢) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٢٩.

(٣) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٢٩ عن المواهب اللدنية.

(٤) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٢٩ عن المنتقى وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٨٨ والبحار ج ٢٠ ص ٣٨٢.

٢٣٦

حاملو الكتب :

أما الذين حملوا الكتب إلى هؤلاء فهم :

١ ـ عمرو بن أمية الضمري ، إلى النجاشي.

٢ ـ دحية بن خليفة الكلبي ، إلى قيصر.

٣ ـ عبد الله بن حذافة السهمي ، إلى كسرى.

٤ ـ حاطب بن أبي بلتعة اللخمي ، إلى المقوقس.

٥ ـ الشجاع بن وهب الأسدي ، إلى الحارث بن أبي شمر الغسّاني.

٦ ـ وسليط بن عمرو العامري ، إلى ثمامة وهوذة.

التثاقل عن تنفيذ أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله :

والظاهر هو : أنه قد كان ثمة رهبة شديدة وخوف عظيم لدى بعض المسلمين من هذا الأمر ، حتى إن الرسل أنفسهم أظهروا تثاقلا عن تنفيذ أمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقد يكون من أسباب ذلك خوفهم من بطش أولئك الملوك بهم ، وذلك في سورة غضب شديد توقّعوها منهم حين تسليم الرسائل إليهم ، فقد قالوا : إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» خرج على أصحابه ذات يوم بعد عمرته التي صد عنها يوم الحديبية ، فقال :

يا أيها الناس ، إن الله بعثني رحمة وكافة ؛ فأدوا عني يرحمكم الله ، ولا تختلفوا عليّ كما اختلف الحواريون على عيسى!!

وقال : «انطلقوا ولا تصنعوا كما صنع رسل عيسى بن مريم».

فقال أصحابه : وكيف اختلف الحواريون يا رسول الله؟!.

فقال : دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه .. فأما من بعثه مبعثا قريبا فرضي

٢٣٧

وسلّم ، وأما من بعثه مبعثا بعيدا ، فكره وجهه ، وتثاقل.

فشكى ذلك عيسى إلى الله تعالى ؛ فأصبح المتثاقلون ، كل واحد منهم يتكلم بلسان الأمة التي بعث إليها (١).

وقد اعتبر الواقدي : أن من معجزات رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» :

أنه حين بعث النفر الستة إلى الملوك : «أصبح كل رجل منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعثهم إليهم».

وقالوا : «كان ذلك معجزة لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..» (٢).

وعلى كل حال .. فإن هذا الحديث يدل : على أنه قد جرى لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مع من أرسلهم إلى الملوك ، نفس ما جرى لعيسى مع الحواريين .. فظهر مصداق ما أخبر به رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٢٩ و ٣٠ عن الإكتفاء وكنز العمال (ط الهند) ج ١٠ ص ٤١٨ و ٤١٩ و (ط مؤسسة الرسالة) ج ١٠ ص ٦٣٣ و ٦٣٤ و ٦٣٥ وج ١١ ص ٦٤٤ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٢٥٤ و ٢٥٥ والمعجم الكبير ج ٢٥ ص ٢٣٢ و ٢٣٣ وعن ج ٢٠ ص ٨ والكامل لابن عدي ج ٤ ص ١٥٦١ وحياة الصحابة ج ١ ص ١٠١ والتراتيب الإدارية ج ١ ص ١٩٠ و ١٩١ ونشأة الدولة الإسلامية ص ٧٥ والطبقات الكبرى (ط ليدن) ج ١ ق ٢ ص ١٥ و ١٩ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٤١ والسيرة النبوية لدحلان (مطبوع مع الحلبية) ج ٣ ص ٥٦ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٨٩ والآحاد والمثاني ج ١ ص ٤٤٥ والأحاديث الطوال ص ٦٠ ومكاتيب الرسول ج ١ ص ١٨٤ و ١٨٥ وموسوعة التاريخ الإسلامي ج ٢ ص ٦٥٠.

(٢) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٢٩ عن الواقدي.

٢٣٨

أن هذه الأمة سوف تسير على سنن من قبلها حذو القذة بالقذة ، ومطابق النعل بالنعل ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوا فيه ..

لماذا باللغة العربية؟!

إن ههنا سؤالا يفرض نفسه ، ويلح بطلب الإجابة عليه ، وهو : أن الله سبحانه قد بعث محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نذيرا للبشر كلهم ، أبيضهم وأسودهم ، عربيهم وعجميهم ، قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) (١).

وكان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يكلم كل قوم بلسانهم ، فلماذا كتب لملوك الأرض كلهم باللغة العربية ، ولم يكتب لهم بلغاتهم الخاصة بهم؟!

والجواب :

أولا : من الطبيعي أن الإسلام يملك قيما حضارية ومبادئ إنسانية يريد لها أن تحكم العالم ، وتهيمن عليه ، فلا غرو أن يسعى لفرض لغته ومصطلحاته الخاصة به على الشعوب كلها ، واللغة هي الصلة بين جميع اتباع هذا الدين من هذه الأمة التي يفترض فيها أن تعيش تلك القيم ، وترتكز في تعاملها وسلوكها إلى تلك المبادئ. لأن المطلوب هو : أن تتحول تلك المبادئ والقيم إلى مشاعر وأحاسيس ، وأن يكون لها دور في صنع خصائص الشخصية الإنسانية ، وتصبح هي عينه التي ينظر بها ، وأذنه التي يسمع بها ، ولسانه المعبر عن حقيقته الباطنية ، وحركته العفوية ، وتكوّن

__________________

(١) الآية ٤ من سورة إبراهيم.

٢٣٩

لمحاته ، ولفتاته ، وكل مظهر من مظاهر الحياة والوعي لديه.

وتكون الكلمة ، واللغة ، والمصطلح الإيماني هو ذلك المحرك القوي ، الذي يطلق في حنايا الروح ، وفي أعماق الضمير والوجدان الإنساني شحناته الرافدة لمشاعره وأحاسيسه ، والغامرة لها بفيوضات من معاني القيم ، والمثل العليا.

ومن أجل ذلك كله ، نقول :

إنه لا بد من أن تفرض لغة القيم نفسها على البشرية كلها ، وإن احتفظت الشعوب بلغاتها الخاصة بها فإنما ذلك من أجل أن تكون وسيلتها في تلبية حاجاتها في مفردات ومجالات ليست لها علاقة مباشرة بمعاني القيم ونظام المثل والمبادئ.

ولهذا كتب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى ملوك العالم باللغة العربية ، ولم يكتب لهم بلغاتهم التي يتكلمون بها.

ثانيا : إن وحدة اللغة فيما يرتبط بالقيم الإنسانية ومناهج الدين ، تعطي الشعوب الإحساس الوجداني العميق بالرابط القيمي فيما بينها وبين الشعوب الأخرى ، وتؤكد شعورها بالقواسم المشتركة في مفردات الدين والإيمان ..

ولذلك أنزل الله القرآن ، وهو كتاب العالم بأسره باللغة العربية ، وجعل لقراءته ثوابا ، ورتب أحكاما ، كما أنه قد شرع الصلاة ، والأدعية ، والزيارات ، وبعض العقود وغيرها باللغة العربية أيضا.

ثالثا : إن الأمم الراقية تسعى لنشر لغتها في الشعوب على مستوى العالم بأسره ، وذلك على حد قول العلامة الأحمدي «رحمه‌الله» : «إعمالا للسيادة ،

٢٤٠