الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٦

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٦

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-188-2
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٣٩

وأنى قريش تديه ، وإنما بعثته بنو زهرة؟

فقال الأخنس بن شريق : والله ما نديه ، ما قتلناه ، ولا أمرنا بقتله ، قتله رجل مخالف ؛ فأرسلوا إلى محمد يديه.

فقال أبو سفيان بن حرب : لا ، ما على محمد دية ولا غرم ، قد برئ محمد. ما كان على محمد أكثر مما صنع. فلم تخرج له دية.

فأقام أبو بصير وأصحابه بسيف البحر ، وقال ابن شهاب : بين العيص وذي المروة من أرض جهينة ، على طريق عيرات قريش.

قال محمد بن عمر : لما خرح أبو بصير لم يكن معه إلا كف تمر ، فأكله ثلاثة أيام ، وأصاب حيتانا قد ألقاها البحر بالساحل فأكلها. وبلغ المسلمين الذين قد حبسوا بمكة خبر أبي بصير ، فتسللوا إليه.

قال محمد بن عمر : كان عمر بن الخطاب هو الذي كتب إليهم بقول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لأبي بصير : «ويل أمه محش حرب لو كان له رجال» ، وأخبرهم أنه بالساحل.

وانفلت أبو جندل بن سهيل بن عمرو الذي رده رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى المشركين بالحديبية ، فخرج هو وسبعون راكبا ممن أسلموا فلحقوا بأبي بصير ، وكرهوا أن يقدموا على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في هدنة المشركين ، وكرهوا الثواء بين ظهراني قومهم ، فنزلوا مع أبي بصير.

ولما قدم أبو جندل على أبي بصير سلم له الأمر ، لكونه قرشيا. فكان أبو جندل يؤمهم. واجتمع إلى أبي جندل ـ حين سمع بقدومه ـ ناس من بني غفار ، وأسلم ، وجهينة ، وطوائف من الناس ، حتى بلغوا ثلاثمائة مقاتل ـ كما عند البيهقي عن ابن شهاب ـ لا تمر بهم عير لقريش إلا أخذوها ، وقتلوا

١٨١

من فيها ، وضيقوا على قريش ، فلا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه.

ومما قاله أبو جندل بن سهيل في تلك الأيام :

أبلغ قريشا عن أبي جندل

أنا بذي المروة في الساحل

في معشر تخفق راياتهم

بالبيض فيها والقنا الذابل

يأبون أن تبقى لهم رفقة

من بعد إسلامهم الواصل

أو يجعل الله لهم مخرجا

والحق لا يغلب بالباطل

فيسلم المرء بإسلامه

ويقتل المرء ولم يأتل

فأرسلت قريش إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أبا سفيان بن حرب ، يسألونه ويتضرعون إليه : أن يبعث إلى أبي بصير وأبي جندل ومن معهم.

وقالوا : من خرج منا إليك فأمسكه ، فهو لك حلال ، غير محرج أنت فيه.

وقالوا : فإن هؤلاء الركب قد فتحوا علينا بابا لا يصلح إقراره.

فكتب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى أبي بصير وأبي جندل يأمرهما : أن يقدما عليه. ويأمرا من معهما ممن اتبعهما من المسلمين أن يرجعوا إلى بلادهم وأهليهم ، فلا يتعرضوا لأحد مر بهم من قريش وعيراتها.

فقدم كتاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على أبي بصير وهو يموت. فجعل يقرؤه ، ومات وهو في يديه ، فدفنه أبو جندل مكانه ، وجعل عند قبره مسجدا.

وقدم أبو جندل على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ومعه ناس من أصحابه. ورجع سائرهم إلى أهليهم ، وأمنت بعد ذلك عيرات قريش.

١٨٢

قال عروة : فلما كان ذلك من أمرهم ، علم الذين كانوا أشاروا على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يمنع أبا جندل من أبيه بعد القضية : أن طاعة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» خير لهم فيما أحبوا وفيما كرهوا من رأي من ظن أن له قوة هي أفضل مما خص الله تعالى به رسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من الفوز والكرامة.

ولما دخل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عام القضية ، وحلق رأسه قال : «هذا الذي وعدتكم» (١).

مصير أبي بصير :

إن من الأمور التي تؤلم الإنسان وتؤذي روحه هو أن يبذل جهدا مضنيا ، حتى إذا رأى : أنه قد حصل على مبتغاه ابتلي بفقده ، فكيف إذا استبدل بضده. فإن المصيبة عليه ستكون أعظم ، والألم سوف يكون أشد ..

وبمقدار ما يكون ذلك الشيء الذي يسعى له ثمينا وعزيزا ، وغاليا لديه ، بمقدار ما تتعذب روحه لفقده ، وتعظم مصيبته فيه ، فكيف إذا كان أثمن وأغلى ما في الوجود عليه ، وأعز عليه من كل عزيز ، وهو مستعد لأن يبذل من أجله ماله ، وولده ، وحتى روحه التي بين جنبيه ، فكيف يمكن لنا أن نتصور حاله حين يفقده ، بعد أن وجده؟!

وهذا بالذات هو ما جرى لأبي بصير الذي أفلت من قومه ، وجاء إلى المدينة سعيا على قدميه ، والآمال العذاب تراود خاطره ، بأن يملك حريته ،

__________________

(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٦١ ـ ٦٣ والبحار ج ٢٠ ص ١٤١ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٢ ص ٦٠ وج ١٥ ص ٢٥.

١٨٣

ويكون مع أهله وأحبابه ، حيث العزة والكرامة ، والمحبة ، والقلوب الصافية ، والعاطفة المتوهجة ، وحيث يكون مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، خير الخلق ، وأشرف الكائنات ..

ولم تدم فرحته ثلاثة أيام حتى حلّت به الكارثة ، فقد وصل كتاب قريش ، يطالب بإرجاعه إليها ، ليواجه السجن ، والقيد والذل ، والعذاب ، والأذى النفسي ، والمهانة ، والفتنة في الدين وما إلى ذلك ..

فأمره رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأن يرجع مع الرسولين ، ودفعه إليهما .. وقال له : نفس الكلمات التي كان قالها لأبي جندل حين سلّمه لأبيه سهيل بن عمرو ، حين كتابة صلح الحديبية.

أبو بصير يقتل آسره :

ويذهب أبو بصير مع آسريه ، ويسير معهما على طريق العذاب والآلام ، وهو يرى أن آسريه محاربون له ولدينه ، ومعتدون على حريته وعلى كرامته ، وهو لم يعقد معهم عهدا يعطيهم الحق بقهره وظلمه ، وبالعدوان عليه .. ويرى أن له كل الحق بدفع السوء عن نفسه ، وأن لا يمكنهم من إلحاق الأذى به.

كما أنه ليس لمحاربه وآسره أن يغفل الاحتياط لنفسه ، وأن يطالب بالأمان من ناحيته .. فإذا قصر في حفظ نفسه ، وظفر به عدوه فلا يلو من إلا نفسه ، فأبو بصير لم يعتد على آسره ولم يظلمه حتى حين يباشر قتله ، بل هو قد مارس حقه الطبيعي بالدفاع عن نفسه.

١٨٤

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يجير المشرك :

وقد كانت إجارة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لذلك الهارب من أبي بصير ، تفضلا منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وكرما ، فإن الأمر يرجع إليه في أن يستجيب له أو لا يستجيب .. ولكن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يخيب من أمله ، ويطلب معونته ، حتى لو كان مخالفا لدينه ، وساعيا في إلحاق الأذى به ..

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يجيب أبا بصير :

وقد لا حظنا : أنه حين قال أبو بصير للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : وفت ذمتك. لم يجبه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بشيء ، لا سلبا ولا إيجابا. إذ لا مجال للإجابة بالنفي ؛ لأن ذلك غير واقعي ، وليس من المصلحة الإجابة بالإيجاب ، حتى لا تسيء قريش فهم القضية ، وتتخذ ذلك ذريعة لاتهامه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مما هو بريء منه ..

ويل أمه مسعر حرب ، لو كان معه رجال :

ولكن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أطلق كلاما عاما ، يصف فيه أبا بصير ، دون أن يتمكن أحد من اتخاذه ذريعة لتسجيل مؤاخذة مباشرة عليه ، حيث ذكر «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أن أبا بصير قادر على أن يسعر حربا لو كان معه رجال.

وهو وإن كان وصفا له بأمر عام يمكن أن يستفاد منه الإغراء بأمر من هذا القبيل .. ويمكن المناقشة والتشكيك القوي في أن يكون قد قصد ذلك منه فإنه لم يحدد زمان ومكان هذه الحرب التي يحب أن يسعرها هذا الرجل ..

١٨٥

ولكن لأبي بصير أن يفهم : أن نفس سماع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لهذا الكلام ، وبهذه الطريقة لا بد أن يكون له مغزى ويتضمن توجيها خفيا عليه أن يعرفه ، وأن يسعى لتحقيقه .. وهو :

أن عليه أن يجد رجالا ، وأن يسعر حربا على أعدائه وأن يخلص نفسه من الورطة التي هو فيها ..

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقبل خمس السلب :

وقد صرحت النصوص المتقدمة : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يرض أن يأخذ خمس سلب ذلك القتيل ، موضحا له أن سياسته هي أن لا يعطي قريشا ما ينفعها في توجيه أي تهمة له ، فقال :

«إني إذا خمسته رأوني لم أوف لهم بالذي عاهدتهم عليه ، ولكن شأنك بسلب صاحبك ، واذهب حيث شئت».

وبذلك يكون قد أعلمه : أن عمله كان مشروعا ، فإنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يقل له : لا خمس عليك فيه ، بل أفهمه : أن الخمس ثابت في هذا السلب ، ولكن ليس من المصلحة أن يأخذه منه .. لأن قريشا سوف تدفع بالأمور باتجاه توجيه التهمة الصريحة لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأنه وراء قتل الرجل ، وأنه هو الآمر بذلك.

قريش تعيش الإرباك والانقسام :

وبالرجوع إلى خلافات قريش في دية المقتول ، نخرج بالنتائج التالية :

١ ـ إن قريشا لم تستطع أن تدي ذلك القتيل ، ولم تتفق على رأي في من يجب أن يديه.

١٨٦

٢ ـ إن قريشا بمن فيها أبو سفيان قد برأت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من أن يكون هو المطالب بدفع الدية. ولم يستطع أحد منهم أن يدفع هذا القول ، أو أن يسجل تحفظا عليه.

مما يعني : أن أسلوب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في التعامل مع هذا الأمر كان غاية في الدقة والحكمة.

٣ ـ إن قريشا حتى وهي تواجه مشكلة تمس كبرياءها ، وترى أنها تمثل عدوانا عليها ، قد تعاملت مع تلك المشكلة بالمنطق القبلي ، الذي يكرس الحقد والانقسام العشائري ، خصوصا حين يقول أبو سفيان : أنّى قريش تديه ، وإنما بعثته بنو زهرة.

أسلم وغفار وجهينة مع أبي جندل :

وقد كانت قبائل أسلم ، وغفار ، وجهينة ، تسكن حول المدينة ، وهي قبائل من الأعراب ، كان فيهم طائفة من المنافقين ، أخبر عنها القرآن الكريم بقوله : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ ..) (١).

ويلاحظ : أن من هذه القبائل أشخاصا انضموا إلى أبي جندل ، ونحسب أن ذلك لكونهم وجدوا الفرصة سانحة للحصول على المال ، من التجارات التي يصادرها أبو جندل ، حيث ظهر لهم : أنه قد اتخذ موقعا حساسا على طريق قوافل قريش التجارية ..

__________________

(١) الآية ١٠١ من سورة التوبة.

١٨٧

واللافت : أن سائر القبائل لم ينفر من أفرادها ما يدعو إلى الإشارة إليها بالبنان كما كان الحال بالنسبة للقبائل الثلاث التي سلف ذكرها ..

ذل قريش :

وقد ألمحنا فيما سبق : إلى أن ما فعله أبو جندل وأبو بصير ، قد أوقع قريشا في مأزق حقيقي ، وجدت أن إرسال الكتب والرسائل لا يفيد في إخراجها منه.

كما أن إرسال أناس عاديين لا يكفي في ذلك ، فاضطرت إلى إرسال أحد قادتها الكبار ، الذي عرف بشدة الطغيان والجحود ، وبجمع الجموع ، وقيادة الجيوش لحرب الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وهو أبو سفيان بن حرب ، أرسلته إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لتطمئن إلى انحلال العقدة ، والخروج من الأزمة.

واللافت هو : أن طلب قريش من الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يكن طلبا عاديا ، بل كان طلب الضارع الملح ، الذي يظهر المزيد من المسكنة والضعف ، لاستجلاب رضاه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، الذي كانت تسعى في استئصال شأفته ، وخضد شوكته.

وقد كان تدخّله هذا تفضلا منه ، ونبلا وكرما ، فهو «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يساعد حتى عدوه الذي طالما شن عليه الحروب ، وقتل الخلصاء والأصفياء ، وسعى في طمس هذا الدين ، وإبطال جهود جميع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين يساعد على حفظ السلام ، وبسط جناح الأمن ، مع أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يكن مطالبا ، لا من ناحية أدبية ، ولا

١٨٨

من ناحية سياسية ، ولا بأي ميزان عرفه الناس آنئذ ، بدفع هؤلاء المظلومين عما يطالبون به ، وما يسعون إليه ، فإن هؤلاء الذين أخذوا بكظم قريش لم يأتوا إليه ، ولم ينطلقوا من عنده ، ولا كان عملهم تنفيذا لأوامر صدرت منه ، وإنما هي مبادرة منهم لم تنص المعاهدة بمسؤوليته عن أي شيء تجاهها.

١٨٩
١٩٠

الباب الثالث

حتى خيبر

الفصل الأول : أشخاص أراد الناس أن يمدحوهم

الفصل الثاني : سرايا وقضايا بين خيبر والحديبية

١٩١
١٩٢

الفصل الأول :

أشخاص أراد الناس أن يمدحوهم

١٩٣
١٩٤

إيضاحات ضرورية :

هناك أشخاص جرت عادة بعض المؤرخين على تخصيصهم بالذكر في بعض الموارد في السيرة النبوية الشريفة ، مع أنهم يهملون أو يكادون ، ذكر أشخاص قد ساهموا بصورة عميقة في بناء القوة الفكرية أو السياسية ، أو المعنوية أو غيرها للمجتمع الإسلامي. وكان لهم أثرهم الكبير في حفظ الدين وفي نشره ، وسهروا الليالي ، وقدموا التضحيات الجسام من أجله وفي سبيله ..

نعم ، إنهم يهملون هؤلاء. حين لا يحالفهم الحظ في أن يسلبوهم ذلك كله ، لينحلوه إلى أعدائهم ومناوئيهم.

وحين تضطرهم الوقائع ، ويفرض عليهم الواقع ، الذي لا يجدون منه خلاصا ولا عنه مناصا إلى الاعتراف بشيء من تضحيات وجهاد هؤلاء الذين يكرهون التنويه بذكرهم ، والإعلان بمآثرهم ، فإن تحريفهم وتلاعبهم بالحقائق ، يصل إلى حد يصبح معه الإهمال والتجاهل أولى وأحفظ للحق ، وأنفع للخلق ، حيث يصبح السباب والتجريح أخف شناعة وقباحة من الكذب الصريح ، الموجب لتحريف حقائق الدين ، وتضييع جهد وجهاد الأولياء المخلصين .. وانسداد أبواب الهداية عن العالمين.

١٩٥

وقد نجد في هذا الفصل نماذج لأشخاص أريد التسويق لهم ، من خلال الادعاءات العريضة التي يطلقونها ، والانتفاخات الاستعراضية التي يقومون بها ، لأن ذلك يخدم نفس الأهداف التي كان لهؤلاء الأشخاص دور في مساعدة أصحابها لبلوغها ، أو لأنهم قد شاركوا في العمل على استبعاد نهج أصيل ، ومحاصرة قيم الحق ، وإضعاف حركة أناس يريدون لذلك النهج أن يفرض نفسه ولتلك القيم أن يكون لها دورها في واقع الحياة بقوة وحزم ، وبعمق ورسوخ ، وإباء وشموخ ..

وحيث إننا قد التزمنا بمراعاة ومجاراة كتّاب السيرة في ذكر ما أحبوا ذكره ، فإننا نشير في هذا الفصل إلى نفس النقاط التي ذكروها ، ونحاول أن لا نمر عليها مرور الكرام ، بل نسجل بعض ما نجد ضرورة لتسجيله من توضيحات أو تصحيحات ، مع التزام جانب الاختصار الذي نرجو أن لا يصل إلى حد الإخلال ، والله الولي ، والموفق ، والهادي إلى سبيل الرشاد ..

وفاة أم رومان :

قالوا : إن أم رومان بنت عامر ، بن عويمر ، أم عائشة ماتت في سنة ست. وكانت أولا عند عبد الله بن سخبرة ، فولدت له الطفيل ، ثم مات عنها فتزوجها أبو بكر ، فولدت له عبد الرحمن وعائشة.

فلما ماتت نزل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في قبرها ، فلما دليت فيه قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «من أراد أن ينظر إلى امرأة من الحور العين

١٩٦

فلينظر إلى هذه» (١). وهذا هو قول محمد بن سعد ، وإبراهيم الحربي.

ونقول :

قد ذكرنا في الجزء الخاص بحديث الإفك من كتابنا هذا ، في فصل : «شخصيات ومضامين غير معقولة» : أن هذا الكلام موضع شك ، وأن آخرين يقولون : إنها عاشت بعد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دهرا طويلا ، حيث ماتت في خلافة عثمان (٢).

ويستدلون على ذلك :

أولا : برواية مسروق بن الأجدع عنها ، وقد ولد مسروق أول سني الهجرة ، وروى عنها حديث الإفك في خلافة أبي بكر أو عمر ، وسمع منها حديث الإفك ، وهو بعمر خمس عشرة سنة (٣).

__________________

(١) راجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ٢٦ وطبقات ابن سعد ج ٨ ص ٢٠٢ والروض الأنف ج ٤ ص ٢١ ووفاء الوفاء ج ٣ ص ٨٩٧ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٧٩ والمستدرك للحاكم ج ٣ ص ٤٧٣ والجامع الصغير للسيوطي ج ٢ ص ٦١٠ وكنز العمال ج ١٢ ص ١٤٦ وفيض القدير ج ٦ ص ١٩٧ وأسد الغابة ج ٥ ص ٥٨٣ وعن الإصابة ج ٨ ص ٣٩٢ وسبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ١٦٤.

(٢) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٢٦ وتهذيب التهذيب ج ٢ ص ٤٦٨ عن البخاري في تاريخيه : الأوسط والصغير ، وعن الإصابة ج ٨ ص ٣٩٢ وفيض القدير ج ٦ ص ١٩٧ وعن مقدمة فتح الباري ص ٣٧١.

(٣) الإصابة ج ٤ ص ٤٥١ وتهذيب التهذيب ج ١٢ ص ٤٦٨ وراجع : فتح الباري ج ٧ ص ٣٣٧ وإرشاد الساري ج ٦ ص ٣٤٣.

١٩٧

ولكن كثيرين أنكروا هذا (١) ، بل لقد قال السهيلي : إن مسروقا ولد بعد وفاة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بلا خلاف ، ولم ير أم رومان قط (٢).

فالحكم بإرسال رواية مسروق بن الأجدع عنها ، استنادا إلى عدم الخلاف في ولادته أولى ..

ثانيا : قد حاول العسقلاني إثبات بقائها إلى ما بعد سنة أربع أو خمس أو ست لكي يؤيد سماع مسروق منها بعد وفاة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. بالاستناد إلى روايتين :

إحداهما : رواية تخيير النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لنسائه. حيث أمر «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عائشة أن تشاور أبويها : أبا بكر ، وأم رومان ..

والأخرى : حديث عبد الرحمن بن أبي بكر عن أضياف أبي بكر وفيه : «وإنما هو أنا وأبي ، وأمي ، وامرأتي الخ ..».

وعبد الرحمن قد هاجر بعد الحديبية في سنة سبع أو ثمان بل هو قد أسلم يوم الفتح (٣). فدل ذلك على حياة أمه إلى ما بعد هذا التاريخ.

__________________

(١) راجع : الإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج ٤ ص ٤٥٢ والروض الأنف ج ٤ ص ٢١ والإصابة ج ٤ ص ٤٥٢ وفتح الباري ج ٧ ص ٣٣٧ و ٣٣٨ وتهذيب التهذيب ج ١٢ ص ٤٦٨.

(٢) الروض الأنف ج ٤ ص ٢١ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٧٩ وتهذيب الكمال ج ٣٥ ص ٣٦٠ وعن مقدمة فتح الباري ص ٣٧١.

(٣) راجع : الإصابة ج ٤ ص ٤٥١ و ٤٥٢ وفتح الباري المقدمة ص ٣٧١ وج ٧ ص ٣٣٧ وج ٨ ص ٤٠١ وتهذيب التهذيب ج ١٢ ص ٤٦٨ و ٤٦٩ ورواية تخيير النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نساءه في مسند أحمد ج ٦ ص ٢١٢ وفيض القدير ـ

١٩٨

ونقول :

١ ـ قد ذكرنا في حديث الإفك : أن حياتها إلى سنة تسع لا تثبت بقاءها إلى ما بعد وفاة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فضلا عن أن تثبت سماع مسروق منها ، وهو إنما ولد بعد وفاته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بلا خلاف.

٢ ـ إن رواية أضياف أبي بكر قد عبرت بكلمة «وأمي» ، فلعله نزّل زوجة أبيه بمنزلة أمه.

٣ ـ إن كلمة «وأمي» لا توجد في جميع نسخ البخاري ، بل هي موجودة ـ فقط ـ في نسختي الكشمهيني ، والمستملي.

٤ ـ إن عبد الرحمن يقول : فقالت له امرأته ، أو فقال لامرأته ، وهذا يؤيد أن تكون زوجة أبيه ، وليست أمه على الحقيقة ..

٥ ـ إن رواية الأضياف تقول : إن أبا بكر قد قال لزوجته : يا أخت بني فراس .. وهذا دليل آخر على أن المقصود ليس هو أم رومان ، ؛ حيث إنها ليست فراسية ، فراجع ما ذكرناه حول ذلك في الجزء الخاص بحديث الإفك.

٦ ـ إن التخيير لم يكن سنة تسع ـ كما يدعيه هؤلاء ـ بل كان قبل ذلك ؛ لأن سورة الأحزاب التي وردت فيها آية التخيير قد نزلت ـ كما يقول نفس هؤلاء ـ سنة أربع أو خمس ، أي حين زواج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بزينب بنت جحش.

__________________

ـ ج ٢ ص ١٨٧ وجامع البيان ج ٢١ ص ١٩٠ وعن تفسير القرآن العظيم ج ٣ ص ٤٨٩.

١٩٩

بل لقد صرحت رواية مسلم وغيره : بأن آية التخيير قد نزلت حين تظاهرت عليه عائشة وحفصة ، فاعتزلهن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تسعا وعشرين ليلة ، وذلك قبل أن يفرض الحجاب على نساء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

وقد تقدم : أن الحجاب قد فرض ـ حسبما يدّعون ـ عند زواجه بزينب بنت جحش ، ونحن قلنا سابقا : إنه قد فرض قبل ذلك. فلا نعيد ..

وأما أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد نزل في قبر أم رومان ، فهو مما رواه محبوها.

وقد عوّدنا هؤلاء أنهم إكراما لعائشة ، ولأبي بكر ، على استعداد لاقتحام كل المسلمات ، وإيقاع أنفسهم في المتناقضات.

فإذا احتاجت عائشة إلى رواية مسروق بن الأجدع عن أم رومان ، فإن أم رومان تعود إلى الحياة بعد عشرات السنين من موتها ، ومسروق بن الأجدع يولد قبل زمان ولادته بعشر أو بعشرات من السنوات.

وإذا احتاجوا أم رومان لإظهار فضيلة لها من حيث إنها زوجة لأبي بكر ، فإنها قد تموت قبل زمان موتها الحقيقي بعشرات السنين ، لكي ينزل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في قبرها ، وينشئ لها المدائح والتقاريظ البديعة ..

ونبقى نحن في أتون الحيرة والشك ، فلا ندري من وما نصدق!! هل

__________________

(١) راجع : صحيح مسلم ج ٤ ص ١٨٨ و ١٨٧ و ١٨٩ و ١٩٠ والدر المنثور ج ٦ ص ٢٤٢ و ٢٤٣ عنه وعن ابن مردويه وعبد بن حميد ومسند أبي يعلى ج ١ ص ١٥٠ وعن تفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٤١٥ وصحيح ابن حبان ج ٩ ص ٤٩٦ وكنز العمال ج ٢ ص ٥٢٨ والجامع لأحكام القرآن ج ١٨ ص ١٨٩.

٢٠٠