الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٦

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٦

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-188-2
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٣٩

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يذكرهم :

قد رأينا : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حين أنكر البعض أن يكون ما جرى في الحديبية فتحا صار يذكّرهم بما كان منهم في أحد ، حيث هاجمهم المشركون في عقر دارهم ، فانهزموا فيها شر هزيمة ، ولم يذكّرهم بما فعله علي «عليه‌السلام» في أصحاب الألوية ، حيث دحر قوى الشرك.

ثم ذكّرهم بما كان في وقعة الخندق ، حيث هاجمهم المشركون أيضا في دارهم ولم يستطيعوا أن يبرزوا لمقاومتهم ، وكان منهم ما كان ، ولم يشر إلى قتل علي «عليه‌السلام» لعمرو بن عبد ود في الخندق ، وهزيمة الأحزاب بسبب ذلك ..

وذلك من أجل أن يقارنوا بين ما جرى لهم هناك وما جرى لهم في الحديبية ، فإن المسلمين في الحديبية هم الذين حضروا إلى بلاد المشركين ، حتى بلغوا مشارف عاصمتهم ، ولم يجرؤ المشركون على مواجهتهم ، بل رضوا بأن يدفعوهم عن بلادهم بالراح.

ثم هم يرضون بدخول المسلمين بلدهم بعد عام ، ومعهم سيوفهم في القرب.

وبعقد معاهدة معهم تضمنت شروطا لم يكن المسلمون يحلمون بأن يعطيها لهم أهل الشرك ..

أبو بكر .. في موازاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

والذي يقرأ أحداث صلح الحديبية في الروايات المزعومة يجد : أن ثمة تشابها فيما بين حركات وكلمات ، ومواقف كل من أبي بكر ، ورسول الله «صلى

١٦١

الله عليه وآله» ..

ونحن نرى : أن ثمة تعمدا لإظهار هذا الانسجام والتوافق ، لكي ينال أبو بكر فضيلة ترتفع به إلى مستوى الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في الوعي للقضايا ، وفي الحكمة ، والتدبير ، والرصانة والاتزان ..

وينال عمر بن الخطاب في المقابل فضيلة الغيرة الفائقة ، والحماس المنقطع النظير ، والشدة في الحفاظ على العزة والكرامة الإسلامية ..

ولينقلب من ثم الخطأ إلى صواب ، والرذيلة إلى فضيلة!! ويصبح الشك في النبوة والرسالة صريح الإيمان ، وعصارة التقوى!! فتبارك الله أحسن الخالقين!!

تبرك سهيل بن عمرو :

وقد أظهرت الروايات : أن سهيل بن عمرو كان يتبرك بشعر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وقد قلنا مرات كثيرة : إن التبرك من بديهيات هذا الدين ، وأن النصوص المثبتة له قد تصل إلى المئات. فراجع كتاب التبرك للعلامة الأحمدي «رحمه‌الله».

١٦٢

الفصل السادس :

عهد الحديبية : نتائج وآثار

١٦٣
١٦٤

آثار ونتائج عهد الحديبية :

ثم إن سورة الفتح وكذلك تصريحات رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ونصوص عهد الحديبية بالذات ، أظهرت : أن الإسلام قد حقق في الحديبية أمورا هامة وأساسية جدا ، لا مجال للتعرض لها في كتاب كهذا ، فلا بد من الاقتصار على الإلماح السريع إلى بعضها ، فنقول :

١ ـ إن السورة قد اعتبرت ما جرى في الحديبية فتحا مبينا. وصرح بذلك الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقد أظهرت الوقائع هذا الأمر بصورة جلية أيضا.

٢ ـ قد نسبت السورة هذا الفتح إلى الله سبحانه ، بمعنى : أن الله تعالى هو الذي هيأ لهذا الفتح. حيث يتضح لمن رصد حركة الأحداث : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لو استجاب لرغبة أصحابه لما حصل على هذا الفتح العظيم ، الذي أوجب دخول المنطقة بأسرها في الإسلام من دون قتال ، وأظهر ظلم قريش وعدوانيتها ، وأظهر ضعفها ، وسماحة الإسلام ، ونبل مقاصده ، وجلّى مكامن القوة فيه ، وعرّف الناس بالبون الشاسع بين حقيقة أهداف المسلمين ، والمشركين ، ثم هم مع ذلك كله قد رجعوا سالمين ، ومن دون أية خسائر تذكر ..

١٦٥

٣ ـ لقد أوضحت الآيات : أن من جملة ما حققه صلح الحديبية هو : أن الله تعالى قد جعل الأمور باتجاه أرغم قريشا على اتخاذ موقف من شأنه أن يسقط مزاعمها في حق رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ؛ فإن الصلح قد ركز القناعة : بأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يكن يسعى في قطع الأرحام ، ولم يكن يمارس العدوان والبغي ، وأنه إنما يطالب بالكف عن الظلم وعن البغي ، وأنه الوصول ، الودود ، الرحيم ، الرضي ، الذي يتعامل بالصفح والعفو حتى عن أعدى أعدائه ..

وهذا هو ما أشار إليه قوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ..) فقد هيأ الصلح قريشا للإقرار : بأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يكن مذنبا في حقها ، بل هي سوف تبرؤه من الذنب ، حتى حين تسير الأمور باتجاه لا ترضاه ، أو باتجاه ما ترى أنه لا يخدم مصالحها الخاصة.

وبعد .. فإننا نستطيع أن نفهم الكثير من نتائج هذه الهدنة من ملاحظة نفس الشروط التي وضعت في وثيقة الصلح ، ومن هذه النتائج والفوائد :

ألف ـ أن الصلح قد أفسح المجال أمام الكثير من المشركين والمسلمين للتلاقي في مكة وفي المدينة وغيرهما ، وطرح القضايا فيما بينهم على بساط البحث ، والتقى الأصدقاء والأهل ، وذوو الأرحام ببعضهم ، وبذلوا لهم النصيحة ، من موقع المحبة والإخلاص والصدق.

وقد أسهم كل ذلك : في اتضاح كثير من الأمور التي كانت مبهمة لدى المشركين فيما يختص بحقائق الإسلام ، وما يسعى إليه المسلمون. وتكونت لدى الكثيرين منهم قناعات جديدة سهلت عليهم الدخول في هذا الدين ، أو هي على الأقل قد أسهمت في تخفيف حدة العداء له ، والتقليل من

١٦٦

مستويات التشنج ضده.

ب ـ يضاف إلى ذلك : أن الكثيرين من المشركين قد شاهدوا عن قرب أحوال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وربما بعض معجزاته ، وعاينوا حسن سيرته ، وحميد طريقته ، وجميل أخلاقه الكريمة ، وعرفوا الكثير عن طبيعة تعاطيه مع القضايا ، وأدركوا : أن ما يسعى إليه ليس هو التسلط على الآخرين ، واكتساب الامتيازات على حسابهم ، بل هو يريد : أن يحقق لهم المزيد من الرفعة والشوكة ، والكرامة والعزة ..

وهذا أمر لم يعرفوه ولم يألفوه في زعمائهم ، الذين يريدون : أن يتخذوا مال الله دولا ، وعباد الله خولا ..

فلا بد أن تميل نفوسهم إلى الإيمان ، ويبادر خلق منهم إلى الإسلام ويزداد الآخرون له ميلا (١).

وكان ذلك أعظم الفتح ، فقد دخل الإسلام في تينك السنتين مثل ما دخل فيه قبل ذلك ، بل أكثر (٢).

بل لقد روي عن الإمام الصادق «عليه‌السلام» أنه قال : «فما انقضت

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٩٤ وشرح صحيح مسلم للنووي ج ١٢ ص ١٤٠ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٨٠ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢.

(٢) تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٨٣ والنص والإجتهاد ص ١٨٣ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٩٤ وعن فتح الباري ج ٥ ص ٢٥٧ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٩٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٢٤ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٦٤ والكامل في التاريخ ج ٢ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢.

١٦٧

تلك المدة (وهي سنتا الهدنة) حتى كاد الإسلام يستولي على أهل مكة» (١).

ج ـ إن شروط الصلح : قد مكنت من إظهار الإسلام في مكة ، بعيدا عن أي ضغوط حتى النفسية منها ، فلم يعد أحد يمنع أحدا من الدخول في الإسلام ، فدخل فيه من أحب. ولم يعد الداخل في هذا الدين يخشى الاضطهاد ، والأذى ، بل هو قد أصبح آمنا حتى من ممارسة بعض الضغوط النفسية ضده ، حيث لم يعد التعيير به مسموحا بمقتضى المعاهدة ..

ولو أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» اختار طريق الحرب ، فإن ضررا بالغا سوف يلحق بهؤلاء المسلمين المستضعفين ؛ لأن قريشا سوف تشتد عليهم ، ولربما قتلت الكثير منهم ، كما أن جيوش المسلمين لا تعرف المسلم من غير المسلم منهم ، خصوصا مع ما هم عليه من التقية والتستر ، كما أنهم لا يعرفون من أصبح له ميل ورغبة في الدخول في هذا الدين ، لكنه غير قادر على المبادرة إلى ذلك في هذا الوقت ، بل يكون مجبرا على مجاراة أهل الشرك ، والتظاهر بحرب المسلمين معهم .. وهذا سوف ينتهي بقتل عدد كبير من هؤلاء أيضا ..

فكان الصلح سببا في حفظ هؤلاء ، وأولئك ، وهو صلح سعت إليه قريش نفسها ، وظهر إعزاز الله تعالى لأوليائه ، ولدينه.

د ـ إن هذا العهد ، قد جعل المسلمين في مأمن من جانب قريش ،

__________________

(١) البحار ج ٢٠ ص ٣٦٣ وإعلام الورى ص ٦١ ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٧٥ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٩٤ وإعلام الورى ج ١ ص ٢٠٥ والكافي ج ٨ ص ٣٢٦ وقصص الأنبياء للراوندي ص ٣٤٤.

١٦٨

فتفرغوا لنشر الإسلام في سائر القبائل ، ليصبح المحيط الإسلامي أكثر اتساعا ، ويتم التحول من حالة حصار للإسلام في المدينة ، وضواحيها القريبة ، إلى حالة حصار لقريش في مكة ، بل حصارهم في بعض زواياها ، وكان الإسلام ينتشر في مكة بسرعة ، فيدخل كل بيت ، وشمل كل القبائل والشعب والأفخاذ.

فما حققه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في هذا الصلح أضعاف أضعاف ما تحقق في حروبه الدفاعية مع قريش وسواها ، حسبما تقدم.

ويكفي للتدليل على ذلك ، أنهم يقولون : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، قد بعث بعد الحديبية سراياه وبعوثه في مهمة الدعوة إلى الله تعالى ، فلم تبق كورة ولا مخلاف في اليمن والبحرين ، واليمامة إلا وفيها رسل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، والناس يدخلون في دين الله أفواجا (١).

وإذا كان قد جاء إلى الحديبية بألف وأربع مائة أو نحو ذلك ، فإنه جاء بعد سنتين فقط بعشرة آلاف مقاتل ، وفتح الله له مكة ، ودخلها من غير قتال (٢).

ه ـ دخول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مكة في العام التالي ، وأداء مناسك العمرة ، من دون قتال ..

__________________

(١) راجع : مكاتيب الرسول ج ٣ ص ٩٥.

(٢) راجع : البداية والنهاية ج ٥ ص ٣٥١ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٣٤ والمناقب لابن شهر آشوب ج ٢ ص ٢٤ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٩٠ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٧٨٧ ومستدرك الوسائل ج ٤ ص ٨١ والدر المنثور ج ٦ ص ٤٠٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٤١.

١٦٩

وهذا يمثل اعترافا من قريش بقوة الإسلام ، وبأن للمسلمين الحق في ممارسة شعائر دينهم حتى في مكة ، وبأنها كانت ظالمة لهم في حرمانهم من هذا الحق.

كما أن ذلك يعطي الآخرين مزيدا من الجرأة على التعامل مع المسلمين ، وليس لقريش أن تعترض على أحد في ذلك ، أو أن تمارس ضده أية ضغوط ، لأن ذلك سوف يفهم على أنه بغي ، وابتزاز لا مبرر له .. ولا بد أن يسقط ذلك هيبتها ، ويسوق الناس إلى المقارنة بين طريقتها في التعامل ، وبين طريقة أهل الإسلام ، وتكون النتيجة هي المزيد من التعاطف معهم ضدها ..

هذا بالإضافة إلى أن هذا النصر قد أعطى المسلمين شحنة روحية ، وزادهم ثقة بأنفسهم ، وتصميما على المطالبة بحقوقهم ، ووطد الآمال بالوصول إليها والحصول عليها ، وإن طال السرى ..

وـ إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يملك الجيش المتحمس ، والقادر والمستعد لكل التضحيات ..

وهو مع ذلك قد رجع عن إتمام عمرته ، وأحل ونحر البدن في موضعه ، مقابل وعد أعطي له بأن يعود إلى مكة في العام التالي معتمرا ، وزائرا ، ومعظما للبيت ، لكي يمكن المسلمين والمشركين من الاجتماع بأهلهم وذويهم.

وذلك من شأنه أن يعرف الناس عمليا : أن جميع ما كانت تبثه قريش من إشاعات عن أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يعظم البيت ، وأنه يسعى لإفساد حياة الناس ، ويريد قطع الأرحام ، هو محض افتراء لا واقع له ، والشواهد كلها على خلافه.

١٧٠

فها هو الجيش القادر والمستعد لدخول مكة عنوة ، وها هي قريش في غاية الضعف والوهن ، ولا يلومه أحد لو أنه سدد الضربة القاضية لها. فإنها كانت ولا تزال تسعى جاهدة لا ستئصال شأفته ، وإعفاء آثاره ، ومحوها من الوجود والحياة ..

وها هو رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يؤثر الرجوع عنها رغم ذلك كله ، رغبة في حقن الدماء وإيثارا لتعظيم البيت ، وسعيا في صلة الأرحام ، وفي تخفيف آلام الناس.

ز ـ إن قريشا قد رأت كيف أن عددا من ملوك العرب والعجم كانوا بعد الحديبية يخطبون ودّ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ورأت أن باذان عامل كسرى قد دخل في الإسلام ، وأسلم أيضا عدد من ملوك العرب والعجم ، وأرسل الملوك ، مثل المقوقس وملك الحبشة وغيرهما الهدايا إلى إليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

كما أن أبا سفيان قد رأى تعظيم قيصر ملك الروم لكتاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

فأسهم ذلك كله في ترسيخ هيبته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لدى قريش ، واضطرها إلى أن تخفف من غلوائها. ووجدت نفسها مضطرة للاستسلام له في فتح مكة حتى دخلها من دون قتال ..

ح ـ إن ثمرات هذا الصلح قد بدأت بالظهور في لحظة إبرامه ، حيث إنه لما كتب فيه : «وأن من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل».

تواثبت خزاعة ، وقالوا : «نحن في عقد محمد وعهده» ..

١٧١

وتواثبت بنو بكر ، فقالوا : «نحن في عقد قريش وعهدهم».

وخزاعة كانت تعيش مع قريش في مكة ومحيطها ، وكانت عيبة نصح لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فلم تعد قريشا ـ التي ظهر أن الحرب قد أكلتها وأوهنت قواها ـ وحدها في مكة ، بل أصبح شركاء محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وحلفاؤه يعيشون معها ، وليس لها أحد في المدينة يجهر بالتحالف ، أو يعترف بالشراكة لها ، أو بالتعاون معها ..

هذا بالإضافة إلى : أنها تضطر بمقتضى الصلح إلى رفع اليد عن مصادرة حرية حتى من أسلم من أبنائها ، وأصبح لهم الحق في أن يعيشوا معها دون أن تتمكن من إلحاق أي أذى بهم.

وبذلك يكون معسكر الشرك قد انقسم على نفسه بصورة أعمق وأوثق ، وأوضح وأصرح. وأصبح هذا الانقسام محميا بالعهود والمواثيق ..

فإذا انضم ذلك إلى ما نتج عن وساطة الحليس ، وعمرو بن مسعود ، حيث رجع ابن مسعود بمن معه إلى الطائف ، واتخذ الحليس موقفا صارما من قريش. فإن الأمر يصبح أشد خطورة عليها ، وزادها مسير النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى الحديبية ، وكذلك عقده وعهده معها وهنا على وهن.

ط ـ وقد رضي المشركون بالفوز بانتصار وهمي ، وشكلي ، حين سجلوا على أنفسهم عهدا ، وأعطوا وعدا لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقضي بنقض كل قراراتهم السابقة ، ويشير إلى : أن كل تلك الحروب التي شنتها ضده «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والمسلمين طيلة السنوات الست السابقة كانت ظالمة وبلا فائدة ولا عائدة ..

فإنها قد اعترفت : بأن للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الحق في زيارة البيت

١٧٢

وأداء المناسك ، فلماذا شنت عليه كل تلك الحروب؟! وأدخلت كل تلك المصائب والبلايا على الناس؟! وخلقت هذا الكم الكبير من العداوات بين القبائل والفئات المختلفة؟!.

إن نفس هذا الاعتراف والعهد يجعل نفس هذا التأخير إلى العام المقبل أيضا بلا معنى ، بل هو يدخله في دائرة العدوان أيضا ، لأن مبرراته المعلنة هي : أنهم يريدون إرضاء عنجهيتهم ، وتنفيس كربتهم.

ي ـ إن هذا الشرط الذي نفر منه المسلمون كان إنجازا عظيما لهم لو تدبروا فيه ، فإن من يريد الفرار إلى المشركين يكون فراره رحمة للمسلمين ؛ لأن وجوده بين المسلمين بعد أن ارتد عن الدين ، ونكص على عقبيه ، ليس فقط سيكون بلا فائدة ولا عائدة ، بل سيكون مضرا لهم ، فيما لو سعى في إثارة الشبهات بين الضعفاء من الناس ، أو إذا مارس التجسس على المسلمين ، وعرّف المشركين بنقاط ضعفهم ، أو أعلمهم بطبيعة تحركاتهم وبتدبيراتهم في المواقع التي يجب أن تبقى طي الكتمان عنهم ..

وأما المسلم الذي يريد الخروج إلى المسلمين فيمنعه المشركون ، فإن وجوده بين المشركين ـ وهو متمسك بدينه ـ سيكون مفيدا جدا ؛ لأنه وهو بينهم لا بد أن يمارس شعائر دينه ، وربما تسنح له فرص كثيرة لطرح قضية الإيمان مع الكثيرين ممن يتصلون به ، أو يبذلون جهدا لإقناعه بالتخلي عن دينه والعودة إلى ما كان عليه .. وقد يوفقه الله تعالى لإقناع بعضهم ، أو لإثارة تساؤلات لديهم ..

ولعل هناك من يلمس في سلوكه الرسالي ، ما يجعله مهيئا لاختيار الإيمان على الشرك ..

١٧٣

ولعله لأجل ذلك وسواه قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «نعم .. إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ، ومن جاء منهم إلينا فسيجعل الله له فرجا ومخرجا» (١).

ك ـ إنه بعد أن أصبح المسلمون في راحة من جهة قريش ، راسل «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الملوك من حوله .. فأرسل كتب الدعوة إلى الإسلام إلى كسرى ، وقيصر ، والمقوقس ، وغيرهم. وكان ذلك بعد الحديبية في السنة السادسة أو السابعة بعد الهجرة (٢).

وهذا يفسح المجال للشعوب لتتسامع بأنباء بعثته ، وتلتفت إلى دعوته ، كما أن ذلك يؤكد هيبته في كل المحيط الذي يعيش فيه.

ل ـ إنه في ظل صلح الحديبية انطلق النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى يهود خيبر الذين كانوا وما يزالون يعلنون الحرب على الإسلام والمسلمين ،

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ٦٧٩ والكافي ج ٨ ص ٣٢٦ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٩٢ وعن فتح الباري ج ٥ ص ٢٥٣ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٥٤ وعن صحيح البخاري ج ٥ ص ٣٥٧ ومسند أحمد ج ٤ ص ٣٢٨ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ٢٢٠ و ٢٢٧ والمصنف لعبد الرزاق (٩٧٢٠) وجامع البيان ج ٢٦ ص ٥٩ و ٦٣ وتفسير القرآن العظيم ج ٧ ص ٣٢٤ وأخرجه : أبو داود في الجهاد باب (١٦٧) والسيوطي في الدر المنثور ج ٦ ص ٧٨ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢.

(٢) راجع : مكاتيب الرسول (ط دار صعب) ج ١ ص ١١٣ عن الطبقات الكبرى ج ١ ص ٢٥٨ و ٢٥٩ وعن الكامل في التاريخ ج ٢ ص ٨٠ وعن تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٨٨ وتاريخ أبي الفدا ج ١ ص ١٤٨ والتنبيه والإشراف ص ٢٢٥.

١٧٤

وينشئون التحالفات مع أعدائهم ويحرضون ويتآمرون ، ويثيرون المشكلات الكبيرة والخطيرة ، كلما سنحت لهم الفرصة ، وواتاهم الظرف.

وكان اليهود أكبر قوة ضاربة ومتماسكة في منطقة نقطة الارتكاز للوجود الإسلامي ، فقد كانوا قادرين على تجهيز عشرة آلاف مقاتل من اليهود في المنطقة ، فزحف إليهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في ألف وأربع مائة مقاتل ..

وهو أمر لم يكن متيسرا له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قبل الحديبية ، فإنه لم يكن يستطيع أن يخلي المدينة من أهلها ليقود جيشا يجمع فيه كل القوى المقاتلة ، ويترك المدينة من دون قوة تدافع عنها ؛ لأن قوى الشرك كانت تنتظر تلك اللحظة لكي تنقض على عاصمة الإسلام وقلبه النابض.

وقد منع عهد الحديبية قريشا من مهاجمتها ، ومن أن تمديد العون ليهود خيبر ، ولغيرهم. وكانت سائر القبائل القريبة أضعف وأهون من أن يخشى منها أمر من هذا القبيل. لأنها تعرف العواقب الوخيمة التي تنتظرها لو سارت في هذا الاتجاه.

وانتصر المسلمون على اليهود وأسقطوا كبرياءهم في المنطقة كلها : في خيبر ، وفدك ، ووادي القرى وتيماء .. وغير ذلك ..

م ـ ثم هناك الانطلاقة الكبرى إلى خارج المحيط الذي كان يعيش فيه المسلمون ، وذلك في غزوة مؤتة التي أظهر فيها ثلاثة آلاف جندي أعظم البطولات في مواجهة جيش يضم عشرات الألوف ، الأمر الذي أعطى للدولة البيزنطية انطباعا حاسما وقويا عن بسالة الإنسان المسلم ، وأفهمهم : أنهم مقدمون على تحولات ومتغيرات كبيرة ، قد يكون لها أعظم الأثر على

١٧٥

مستقبل حياتهم السياسية ، والدينية والاجتماعية .. وغيرها ..

ن ـ إن قريشا قد اضطرت إلى الاعتراف بقوة المسلمين ، وأنها أصبحت متكافئة معها ، وأنها قوة لها حضورها ، ولا بد أن تتعامل معها معاملة الند للند. ولو لا أنها رأت فيها ذلك ، لم تقدم على عقد الصلح معها.

وقبل الحديبية لم تكن قريش على استعداد للاعتراف بهذا التكافؤ ، بل ظلت تعتبر المسلمين حالة تمرد شاذة ، لا بد من السيطرة عليها ، وإخضاعها ، ولا يجوز أن يسمح لها ـ بوصفها شرذمة خارجة عن القانون ـ : بأن تبقى على ما هي عليه ، بل لا بد من إنزال أقصى الضربات بها ، والتخلص منها بصورة ، أو بأخرى.

س ـ والغريب في الأمر هنا : أن المشركين بعد مدة يسيرة يقدمون التماسا ، ويوسّطون لدى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وسطاء ليرضى بإعفائهم من الشرط الذي اعتبروه نصرا لهم ، واعتبره المسلمون إعطاء للدنية من دينهم ..

فإن أبا بصير عتبة بن أسيد ، وأبا جندل ، وثلاث مائة من المسلمين وأكثرهم من الذين حبسهم المشركون في مكة قد تسللوا منها ، ولكنهم لم يأتوا إليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لعلمهم بأنه سوف يردهم إلى مكة ، بل ذهبوا إلى سيف البحر ، فكانوا لا تمر عير لقريش إلا أخذوها ، وقتلوا من فيها.

فأرسلت قريش أبا سفيان إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يسألونه ويتضرعون له بأن يبعث إلى أبي جندل ليأتي إليه ، وإن كل من أتى منهم إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فهو له ..

١٧٦

ولتفصيل ما جرى نقول :

أبو بصير يقتل آسريه ، ويعتصم بالساحل :

روى عبد الرزاق ، والإمام أحمد ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، وأبو داود ، والنسائي ، عن المسور بن مخرمة ، والبيهقي ، عن ابن شهاب الزهري (١) : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لما قدم المدينة من الحديبية أتاه أبو بصير عتبة بن أسيد ـ بوزن أمير ـ بن جارية الثقفي ، حليف بني زهرة مسلما ، قد أفلت من قومه ، فسار على قدميه سعيا.

فكتب الأخنس بن شريق ، وأزهر بن عبد عوف الزهري إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كتابا ، وبعثا خنيس بن جابر ، من بني عامر بن لؤي ، استأجراه ببكر ، ابن لبون ، وحملاه على بعير ، وكتبا يذكران الصلح الذى بينهم ، وأن يرد إليهم أبا بصير ، فخرج العامري ومعه مولى له يقال له : كوثر دليلا ، فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام ، فقرأ أبي بن كعب الكتاب على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فإذا فيه :

قد عرفت ما شارطناك عليه ، وأشهدنا بينك وبيننا ، من رد من قدم عليك من أصحابنا ، فابعث إلينا بصاحبنا.

فأمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أبا بصير أن يرجع معهما ، ودفعه

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٦١ وقال في هامشه : أخرجه البخاري ج ٥ ص ٣٢٩ في الشروط ، وأبو داود في الجهاد باب ١٦٧ وأحمد ج ٤ ص ٣٣١ والبيهقي في الدلائل ج ٤ ص ١٠٧ وفي السنن ج ٩ ص ٢٢١ وعبد الرزاق في المصنف (٩٧٢٠) وانظر : البداية والنهاية ج ٤ ص ١٧٦.

١٧٧

إليهما فقال : يا رسول الله ، تردني إلى المشركين يفتنونني في ديني؟

فقال : «يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر. وإن الله تعالى جاعل لك ولمن معك من المسلمين فرجا ومخرجا».

فقال : يا رسول الله ، تردني إلى المشركين؟!!

قال : «انطلق يا أبا بصير ، فإن الله سيجعل لك فرجا ومخرجا».

فخرج معهما ، وجعل المسلمون يسرون إلى أبي بصير : يا أبا بصير ، أبشر ، فإن الله جعل لك فرجا ومخرجا ، والرجل يكون خيرا من ألف رجل ، فافعل وافعل : يأمرونه بقتل الذين معه.

وقال له عمر : أنت رجل ، ومعك السيف ، فانتهيا به عند صلاة الظهر بذي الحليفة ، فصلى أبو بصير في مسجدها ركعتين ، صلاة المسافر ، ومعه زاد له من تمر يحمله ، يأكل منه. ودعا العامري وصاحبه ليأكلا معه ، فقدما سفرة فيها كسر ، فأكلوا جميعا ، وقد علق العامري سيفه في الجدار وتحادثا.

ولفظ عروة : فسل العامري سيفه ثم هزه فقال : لأضربن بسيفي هذا في الأوس والخزرج يوما إلى الليل.

فقال له أبو بصير : أصارم سيفك هذا؟

قال : نعم.

قال : ناولنيه أنظر إليه إن شئت ، فناوله إياه ، فلما قبض عليه ضربه به حتى برد.

قال ابن عقبة : ويقال : بل تناول أبو بصير السيف بفيه ، وصاحبه نائم ، فقطع إساره ، ثم ضربه به حتى برد ، وطلب الآخر ، فجمز مذعورا مستخفيا.

١٧٨

وفي لفظ : وخرج كوثر هاربا يعدو نحو المدينة ، وهو عاض على أسفل ثوبه قد بدا طرف ذكره ، والحصى يطير من تحت قدميه من شدة عدوه ، وأبو بصير في أثره ، فأعجزه. وأتى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو جالس في أصحابه بعد العصر ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين رآه : «لقد رأى هذا ذعرا. فلما انتهى إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : «ويحك ما لك»؟

قال : قتل والله صاحبكم صاحبي ، وأفلت منه ولم أكد. وإني لمقتول.

واستغاث برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأمنه ، وأقبل أبو بصير فأناخ بعير العامري. ودخل متوشحا سيفه. فقال : يا رسول الله قد وفت ذمتك ، وأدى الله عنك ، وقد أسلمتني بيد العدو ، وقد امتنعت بديني من أن أفتن.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «ويل أمه مسعر حرب»!! (١).

__________________

(١) مسعر حرب ، أي : موقدها ، انظر المعجم الوسيط ج ١ ص ٤٣٢ والبحار ج ٢٠ ص ٣٣٦ ومسند أحمد ج ٤ ص ٣٣١ وعن صحيح البخاري ج ٣ ص ١٨٣ وعن سنن أبي داود ج ١ ص ٦٣ والمصنف لعبد الرزاق ج ٥ ص ٣٤١ والمعجم الكبير ج ٢٠ ص ١٥ وإرواء الغليل ج ١ ص ٥٩ ومجمع البيان ج ٩ ص ١٩٩ وجامع البيان ج ٢٦ ص ١٣١ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٢١٤ والدر المنثور ج ٦ ص ٧٨ وإكمال الكمال ج ١ ص ٥٩ وج ٢ ص ٣ وتاريخ مدينة دمشق ج ١٢ ص ١٣ وج ٥٧ ص ٢٣٠ وأسد الغابة ج ٣ ص ٣٦٠ وسير أعلام النبلاء ج ٣ ص ٣٤٦ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٨٤ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٠١ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٣٥ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٦٢.

١٧٩

وفي لفظ : «محش حرب ، لو كان معه رجال»!! (١).

وفي لفظ : «له أحد»!.

قال عروة ، ومحمد بن عمر : وقدّم سلب العامري لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليخمسه ، فقال : «إني إذا خمسته رأوني لم أوف لهم بالذي عاهدتهم عليه. ولكن شأنك بسلب صاحبك ، واذهب حيث شئت».

وفي الصحيح : أن أبا بصير لما سمع قول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «ويل أمه مسعر حرب لو كان معه أحد»! عرف أنه سيرده. فخرج أبو بصير ، ومعه خمسة كانوا قدموا معه مسلمين من مكة حين قدم على الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فلم يكن طلبهم أحد حتى قدموا سيف البحر.

ولما بلغ سهيل بن عمرو قتل أبي بصير العامري اشتد عليه ، وقال : ما صالحنا محمدا على هذا.

فقالت قريش : قد برئ محمد منه ، قد أمكن صاحبكم منه فقتله بالطريق ، فما على محمد في هذا؟

فأسند سهيل ظهره إلى الكعبة وقال : والله لا أؤخر ظهري حتى يودى هذا الرجل.

قال أبو سفيان بن حرب : إن هذا لهو السفه ، والله لا يودى ـ ثلاثا ـ

__________________

(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٦٢ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٨٤ والبحار ج ٢٠ ص ٣٣٦ و ٣٦٣ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ٢٢٧ وأسد الغابة ج ٥ ص ١٥٠ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٧٨٨ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٣١.

١٨٠