الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٦

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٦

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-188-2
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٣٩

قال : فيكتب لهما في التراب : تنزل الملائكة والروح الخ .. (١).

فإن ظاهر هذه الرواية : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد مارس الكتابة فعلا ..

وقد ظهر مما تقدم : أنه لا مجال للقول : بأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يكن يقرأ ويكتب. وأن الصحيح هو خلاف ذلك ، سواء قبل بعثته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أم بعدها.

ولكن ذلك قد كان بصورة إعجازية ، على النحو الذي أوضحناه فيما تقدم.

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ٢٤٩ ونور الثقلين (تفسير) ج ٥ ص ٣٢٣ و ٦٣٣ ومدينة المعاجز ج ٢ ص ٤٤٨ والبحار ج ٢٥ ص ٧١.

١٢١
١٢٢

الفصل الرابع :

تبرئة المذنب

١٢٣
١٢٤

استدراج مدروس :

والمراقب لسير الأحداث في كتابة وثيقة الصلح يلاحظ :

١ ـ أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في كتابته القضايا كان ضمن خطة أراد لها أن تنتهي إلى نتائج محددة ، فهو يكتب : بسم الله الرحمن الرحيم .. مع أنه يتوقع الاعتراض عليها من قبل سهيل بن عمرو .. وقد حدث ذلك فعلا ..

ثم كان طبيعيا .. أن تثور ثائرة المسلمين. الذين لا يرضون بكسر كلمة نبيهم ، ولا سيما في أمر لا ينبغي أن يعارضه المشركون فيه .. فإن كلمة «باسمك اللهم» لا تتعارض مع ما كتبه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، كما أن ما كتبه الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليس أمرا غريبا عن ذهنية الناس بالنسبة لما يصح نسبته إلى الله من صفات.

وكان قبول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بما طلبه منه سهيل بن عمرو له دلالتان :

إحداهما : أنها جسدت هذه المرونة التي لديه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حيث ظهر : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على استعداد للقبول بكل ما فيه تعظيم للبيت ، وحقن للدماء. إذا لم يكن فيه تفريط بحقائق الدين.

والثانية : أن يقبل أصحابه بهذا التراجع الذي يهيئوهم لمواجهة ما هو

١٢٥

أشد عليهم وأقسى ، كما سنرى ..

٢ ـ ثم إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يكتب في الفقرة الثانية كلمة «رسول الله» مع أنه كان بإمكانه الاكتفاء بكلمة «محمد بن عبد الله» ، فلو أنه فعل ذلك ، فلن يخطر ببال سهيل بن عمرو : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أغفل أمرا هاما ، ثم أن يحتمل كون سبب إغفاله هذا هو تنازله عنه ، أو أنه أصبح أمرا ثانويا عنده. أو أصبحت له أهداف أخرى ، قد تكون هي الأولى عنده ..

٣ ـ ثم جاءت المفاجأة الأكبر والأخطر ، والتي حاول البعض ـ وهو عمر بن الخطاب بالذات ـ أن يثير من أجلها عاصفة من التحدي لشخص رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، إلى حد التفكير بقيادة حركة تمرد ضده «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، كما صرح به عمر نفسه ، وذلك لأنه اعتبر أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أعطى الدنية في دينه ، ورضي بها.

فكان ذلك سببا في ظهور ما كان خافيا على كثيرين فيما يتعلق بطبيعة علاقة عمر بالنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ومناحي توجهاته الفكرية ، ونظرته العقائدية للرسول الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

لا نعطي الدنية في ديننا :

قلنا : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يسوق الناس باتجاه تلمّس الرعاية الإلهية لهم ، ولطف الله تعالى بهم ، وإفهامهم أن كل ما يجري لهم وعليهم إنما هو بعين الله سبحانه .. وقد توالت الدلالات ، للمعجزات والكرامات التي كان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يتعمد إظهارها لهم.

ولكنه كان في مقابل ذلك يريد رفع مستوى الوعي لديهم ، من خلال

١٢٦

التعامل مع القضايا بواقعية ، وبدقة ، بالإضافة إلى زيادة درجة التحمل والصبر حين يواجهون القضايا المصيرية في مفاصلها الدقيقة والحساسة والضاغطة على المشاعر والأحاسيس ..

وقد كان إخباره «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لأصحابه بأنهم سوف يدخلون المسجد الحرام هو أحد مفردات هذه السياسات الرائعة ، حيث إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» اكتفى ببيان بعض جوانب هذا الأمر ، وهو : أن هذا الدخول سوف يحصل وسكت عن جانب آخر ، وهو : أن هذا الدخول لن يكون في هذه السنة. وترك أمر معالجة هذا الجانب المسكوت عنه للناس أنفسهم ، ففهمه الأكثرون منهم بطريقة غير سليمة ، وانساقوا وراء فهمهم هذا ، وظهرت منهم المواقف المتوافقة مع فهمهم الخاطئ هذا.

لقد فهموا : أنهم سيدخلون مكة في نفس تلك السنة ، وينحرون بدنهم ، ويتمون فيها نسكهم ..

واعتبروا : أن الرجوع من دون ذلك تكذيب للرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولكن عمر بن الخطاب قال في ذلك فأكثر ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : إنما قلت : ندخل مكة ، ولم أقل في هذه السنة ، حتى يكون الرجوع تكذيبا (١).

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص والسيرة النبوية لدحلان ج ص والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٣٦٥ و ٣٦٧ والبحار ج ٢٩ ص ٢١ وعن تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٨٠ و ٢٨١ والكامل ج ٢ ص ٧٧ وعن صحيح مسلم ج ٥ ص ١٧٥ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٠٩.

١٢٧

شك عمر في النبوة :

ولم يقف الأمر عند هذا الحد ، بل تابع هؤلاء مسيرتهم في هذا الاتجاه ، وتجاوز بعضهم حدود الاعتراض إلى حدود الشك في النبوة ، حتى لقد نقل المؤرخون ، عن عمر ، أنه قال : «إني شككت في يوم الحديبية في النبوة. وتكلمت بما أخاف منه ، وأتصدق ، وأصلي كي تكون كفارة لذلك».

وقال عمر : «لو أن معي أربعين رجلا لخالفته» (١).

وفي بعض الروايات : لو وجد مائة رجل.

أو قال : لو وجدت أعوانا لخالفت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في كتابة الصلح.

وقالوا : «أنكر عليه عامة أصحابه ، وأشد ما كان إنكارا عمر».

وقال عمر في خلافته : «ارتبت ارتيابا لم أرتبه منذ أسلمت إلا يومئذ ، ولو وجدت ذلك اليوم شيعة تخرج عنهم رغبة عن القضية لخرجت» (٢).

__________________

(١) البحار ج ٢٠ ص ٣٥٠ وتفسير القمي ج ٢ ص ٣١٢ ونور الثقلين ج ٥ ص ٥٢ والتفسير الصافي ج ٥ ص ٣٥.

(٢) نقل ذلك العلامة الأحمدي «رحمه‌الله» في مكاتيب الرسول ج ٣ ص ٩٣ عن :

السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٣٣١ وعن كنز العمال ج ١٠ ص ٣١٦ وتأريخ الطبري ج ٢ ص ٦٣٤ والحلبية ج ٣ ص ٢٢ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٤٣ والدر المنثور ج ٦ ص ٧٧ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٠٨ و ٦٠٧ و ١٠٩ ورسالات نبوية ص ١٧٧ و ١٧٨ ومسند أحمد ج ٤ ص ٣٢٥ و ٣٣٠ والمصنف لابن أبي شيبة ج ١٤ ص ٤٣٨ و ٤٤٩ والبخاري ج ٣ ص ٢٥٦ والبحار ج ٢٠ ص ٣٣٥ و ٣٥٠ ونيل الأوطار ج ٨ ص ٣٥ و ٤٧ وجامع البيان للطبري ـ

١٢٨

وكثر الضجيج وعلت الأصوات ، وطال جدالهم وأشاروا إلى السيوف ، وكادت الفتنة أن تقع ، وكان الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يسكنهم ، ويهدئ من روعهم.

وقد حاول بعضهم : أن يعتبر ذلك دليل صلاح لدى هؤلاء ، وعنوان إخلاصهم لهذا الدين ، وغيرتهم عليه .. وأنهم رأوا في هذا الصلح ما حسبوه دنية ، وعارا ، فلم يطيقوه ، وظهر منهم ما ظهر ، وبدر من بعضهم ما بدر.

ونقول :

أولا : إن من يؤمن بنبوة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فلا بد أن يصوّبه في جميع ما يقول ويفعل ، فيعتبر أنه لا يفعل إلا ما يرضي الله سبحانه ، والله لا يرضى للمؤمن الذل بل يريده قويا وعزيزا ، بل هو لا يرى العزة إلا لأهل الإيمان.

قال تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ..) (١).

وقد روي عن الإمام الصادق «عليه‌السلام» : أن الله سبحانه وتعالى قد

__________________

ج ٢٦ ص ٦٣ ومجمع البيان ج ٩ ص ١١٨ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٦٨ والبرهان ج ٤ ص ١٩٣ وعبد الرزاق ج ٥ ص ٣٣٩ وزاد المعاد ج ٢ ص ١٢٥ وحياة الصحابة ج ١ ص ١٣١ والمناقب ج ١ ص ٢٠٤ وتهذيب تأريخ ابن عساكر ج ٧ ص ١٣٥ وصحيح مسلم ج ٣ ص ١٤١٢ وفتح الباري ج ٥ ص ٢٥٥ والسنن الكبرى ج ٩ ص ٢٢٢ والجامع لأحكام القرآن ج ١٦ ص ٢٧٧ والنص والإجتهاد ص ١٨٢ وشرح النهج لابن أبي الحديد ج ١٢ ص ٥٩ والتاج ج ٤ ص ٢٢٧ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٤ ص ١٠٦ وج ١ ص ٢٤٩.

(١) الآية ٨ من سورة المنافقون.

١٢٩

فوض للمؤمن كل شيء إلا أن يذل نفسه (١).

فهل يمكن أن يقال ـ بعد كل هذا ـ : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد رضي بالذل لأهل الإيمان وأعطى الدنية في دينه .. وهل يمكن أن يكون قائل هذا النمط من الكلام تام الإيمان ، عارفا بحدوده واقفا على حقائقه ودقائقه.

ثانيا : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يمكن أن يعطي الدنية ، خصوصا إذا كانت الدنية في الدين .. لأنه إن كان لم يدرك أن ما أعطاه دنية ، وأدرك ذلك سائر الصحابة ، فقد كان الآخرون أجدر منه بمقام النبوة ..

ويزيد الأمر تعقيدا : أنه قد أصر على موقفه ، رغم التنبيه الشديد ، حتى لقد طال الجدال ، وأشاروا إلى السيوف ، وكادت الفتنة أن تقع ..

فإن كان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عارفا بأن ذلك دنية ، وقد أقدم عليه ، عن سابق تصميم وعزم. مع علمه بعدم رضا الله تعالى به .. فهو يخل بعصمته عن الذنب.

وإن كان لا يعلم أن الله لا يرضى به ، فهو يخل بعصمته في وعي الأحكام وفي تبليغها ، فإن قوله وفعله وتقريره حجة.

ثالثا : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد صرح لعمر : بأنه ينفّذ أمر الله تعالى ، وأنه لو فعل خلاف ذلك لكان عاصيا له سبحانه ، حيث قال له : ولن

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٦٣ و ٦٤ والوسائل ج ١١ ص ٤٢٤ ومشكاة الأنوار ص ٤٣٠ والفصول المهمة ج ٢ ص ٢٢٩ وعن البحار ج ٦٤ ص ٧٢ وميزان الحكمة ج ٢ ص ٩٨٢ ونور الثقلين ج ٥ ص ٣٣٦.

١٣٠

أعصيه (١).

وفي نص آخر : لا أخالف أمره ولن يضيّعني (٢).

وأنه مرعي من قبل الله سبحانه ، حيث قال له : ولن يضيّعني.

والسؤال هو : ما معنى إصرار عمر على موقفه؟! فهل هو يتهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ والعياذ بالله ـ بالكذب على الله تعالى ، أو أنه يتهمه بالاشتباه في فهم مراد الله عزوجل من أوامره ونواهيه ..

والأدهى من ذلك : أنه يذهب إلى أبي بكر ويوجه له نفس الأسئلة ، فهل كان أبو بكر أصدق من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أو أعرف منه عند عمر؟!

رابعا : ومع غض النظر عما تقدم نقول : إنه قد يكون هناك أناس بسطاء ، ينساقون مع حميتهم ، ومع عصبياتهم ، أو تثيرهم الشعارات ، وتهزم ثباتهم ، وتزلزل يقينهم الشبهات ، فيعذرون في هذا الحماس ، وتغفر لهم هذه الاعتراضات. من أجل ما علم من سلامة نيتهم ، وطهر طويتهم ..

ولكن حين يتصدى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نفسه إلى تنبيههم

__________________

(١) راجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص والمصنف لابن أبي شيبة ج ٨ ص ٥١٥ وكنز العمال ج ١٠ ص ٤٩٤ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٥٢.

(٢) المسترشد ص ٥٣٨ والبحار ج ٢٠ ص ٣٣٣ وج ٣٠ ص ٥٦١ ومسند أحمد ج ٤ ص ٣٢٥ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٢ ص ٥٩ وزاد المسير ج ٧ ص ١٦٢ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٢١١ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٨٠ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٩٢ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٧٨٢ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٢٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٢٠.

١٣١

وتذكيرهم والتصريح لهم : بأنه ملتفت إلى جميع الحيثيات والخصوصيات التي يثيرونها ، وقد صرح لهم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : بأنه إنما يعمل ما أراده الله منه ، فإن الاستمرار في المعارضة ، في هذه الحال يصبح أمرا غير مقبول من أحد حتى من أمثال هؤلاء ..

خامسا : والأنكى من ذلك : أن يبلغ الأمر ببعضهم حدّ الإعلان عن استعداده لقيادة حركة تمرد ضد شخص رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لو توفر له من يعينه على ذلك ، مائة رجل تارة ، وأربعون رجلا أخرى (١).

وهو يقصد بكلامه هذا أمرا عظيما جدا وهائلا ، وهو أكثر وأخطر من مجرد الاستمرار بالمعارضة ، فإن المفروض : أن أكثر الصحابة كانوا ثائرين معه ، وكانوا يجادلون كما كان يجادل ، فما الذي يريد منهم أكثر من ذلك ، حتى ليتمنى أن يجد منهم أربعين رجلا ، ليعاونوه على القيام ضد الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالذات؟!

سادسا : ما هذه الجرأة من الصحابة على مقام الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

ولماذا الضجيج وعلو الأصوات؟!

ولماذا يجهرون له بالقول كجهر بعضهم لبعض؟!

ولماذا يقدمون بين يدي الله ورسوله؟!

ولماذا يخفضهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ويسكنهم ولا يستجيبون له ..

__________________

(١) راجع : البحار ج ٢٠ ص ٣٥٠ وتفسير القمي ج ٢ ص ٣١٢ ونور الثقلين ج ٥ ص ٥٢ والتفسير الصافي ج ٥ ص ٣٥.

١٣٢

ألم يقل الله سبحانه وتعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)؟! (١).

وقال تعالى : (.. لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ..) (٢).

وقال تعالى لهم : (.. أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ..) (٣).

وقال : (.. وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٤).

فلماذا لا يأتمرون بأمره ، ولا ينتهون بنهيه؟!

سابعا : لو عذرنا من أعلن بالاعتراض : بأنه قد ثارت حميته ، وقاده عزه ، وإباؤه ، وشممه إلى اتخاذ هذا الموقف الحماسي الرافض ، ولكن بماذا وكيف نعذر من أعلن أنه قد شك في دينه ، وفي نبوة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

وإذا كان هذا الشك قد حصل فعلا ، فكيف نطمئن إلى عودة اليقين إليه؟! .. والدخول في جملة المؤمنين أو المسلمين؟! ..

ولو أن هذا اليقين قد عاد بالفعل ، فما الذي يجعلنا نطمئن إلى أن أمورا أخرى لم تنقضه مرة بعد أخرى ، ليحل الشك محله من جديد؟! خصوصا مع التصريح : بأن شكه في الحديبية لم يماثله أي شك آخر منذ أسلم ، فقد

__________________

(١) الآية ١ من سورة الحجرات.

(٢) الآية ٢ من سورة الحجرات.

(٣) الآية ٥٩ من سورة النساء.

(٤) الآية ٧ من سورة الحشر.

١٣٣

قال : «ارتبت ارتيابا لم أرتبه منذ أسلمت إلا يومئذ» (١).

وهو كلام خطير جدا ، حيث إنه يدل على كثرة ما عرض له من شكوك في دينه .. طيلة حياة الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله»!! ولعل هذه الشكوك قد لا حقته بعد الحديبية أيضا!! ولا ندري هل زالت عنه تلك الشكوك كلها؟! أم لا؟! كما أننا لا ندري لماذا سهل ورود هذه الشكوك على هذا الرجل دون سواه من سائر الصحابة؟!

إلا أن يقال : إن غيره كان يشك مثله ، لكنه لم يملك شجاعة التصريح بذلك.

ولا ندري كذلك ، إن كانت شكوكه قد بقيت في محيط حياة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أم أنها قد راودته أيضا بعد وفاته «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

وإذا كان ذلك قد حصل فعلا فماذا كان مصيرها؟! وما الذي يضمن لنا أن تكون هذه الشكوك لم تلاحقه إلى آخر حياته أيضا؟!

وكيف يمكن مقايسة هذا الرجل ، بمن هو كالجبل الراسخ ، الذي كان على بصيرة من أمره ، وعلى بينة من ربه ، حتى قال : «لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا»؟! (٢).

__________________

(١) راجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٦٠٧ والمسترشد ص ٥٣٥ و ٥٣٩.

(٢) إسعاف الراغبين (مطبوع مع نور الأبصار) ص ١٠٨ وفتح البيان ج ٤ ص ٥ والصواعق المحرقة (ط الميمنية بمصر) ص ٧٧ وينابيع المودة ص ٦٥ و ٢٨٧ وطبقات الشافعية ج ٤ ص ٥٤ ومطالب السؤل ص ١٦ وأنموذج جليل (مطبوع مع إملاء ما من به الرحمن) ج ١ ص ١٨ وشرح النهج للمعتزلي ج ٣ ص ١٨١ ـ

١٣٤

وقال : «ما شككت في الحق مذ رأيته»؟! (١).

فإن كل ما جرى من ضجيج وعجيج ومن وصول الأمر إلى حد الخطورة والفتنة يفيدنا في معرفة الدافع الحقيقي وراء بيعة الرضوان ، فإن تجديد البيعة ، كما أسلفنا ، إنما يلجأ إليها عند الخوف من عدو داخلي ، لا من عدو خارجي!!

شكوك عمر استمرت إلى الطائف :

روى عبد الرحمن بن سيابة والأجلح ـ جميعا ـ عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لما خلا بعلي بن أبي طالب «عليه‌السلام» يوم الطائف ، أتاه عمر بن الخطاب فقال : أتناجيه دوننا وتخلو به دوننا؟

فقال : «يا عمر ، ما أنا انتجيته ، بل الله انتجاه».

قال : فأعرض عمر وهو يقول : هذا كما قلت لنا قبل الحديبية : (.. لَتَدْخُلُنَ

__________________

وتفصيل النشأتين ص ٤٦ و ٦٢ والمناقب للخوارزمي (ط تبريز) ص ٢٦٠ وعن بحر المناقب ، وعن منال الطالب ، وجواهر المطالب في مناقب الإمام علي ج ٢ ص ٥٠ ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ٣١٧ ومواقف الشيعة ج ١ ص ٨٩.

(١) ينابيع المودة ص ٦٥ وخصائص الأئمة ص ١٠٧ والإرشاد ج ١ ص ٢٥٤ وحلية الأبرار ج ٢ ص ٦٣ والبحار ج ٢٠ ص ٣٣٥ وج ٢٩ ص ٥٦٢ وج ٣٢ ص ٢٣٧ و ٣٣٦ ومناقب أهل البيت ص ٧٥ وميزان الحكمة ج ١ ص ١٤٨ وج ٢ ص ١٠٢٦ و ١٤٩٩ وشرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ٢٠٧ و ٢١١ وج ١٨ ص ٣٧٤ والعدد القوية ص ١٩٥ وينابيع المودة ج ١ ص ٨٣ و ٢٠٣ وج ٣ ص ٤٥٠.

١٣٥

الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ ..) فلم ندخله وصددنا عنه ، فناداه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «لم أقل إنكم تدخلونه في ذلك العام»! (١).

ونقول :

إن هذا الحديث قد تضمن أمورا عديدة ، نكتفي منها بالإشارة إلى ما يلي :

١ ـ إن عمر بن الخطاب لا يزال يحمل في نفسه قضية الحديبية ، معتبرا إياها مأخذا على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. حتى أصبح يقيس الأمور عليها ..

٢ ـ إن كلامه يستبطن : اتهام النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالكذب والتدليس عليه وعلى المسلمين.

٣ ـ إن جواب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لعمر : «لم أقل إنكم تدخلونه في ذلك العام» ، لم يكن قد سمعه منه لأول مرة ، لأنه كان قد قاله لعمر بالذات في يوم الحديبية نفسه ..

٤ ـ إنه قد سبق للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن أحضر عمر في عمرة القضاء ، وبيّن له أنهم قد دخلوا مكة ، وأن ما يجري في عمرة القضاء كان تصديقا لما كان قد أخبرهم به عن دخول مكة.

استمرار شكوك عمر إلى حجة الوداع :

ويبدو أن شكوك عمر بن الخطاب قد استمرت إلى عام الفتح وكان

__________________

(١) الإرشاد للمفيد ج ١ ص ١٥٣ والبحار ج ٢١ ص ١٦٩ وإعلام الورى ج ١ ص ٢٣٥.

١٣٦

«صلى‌الله‌عليه‌وآله» يسعى لإزالتها ..

ولا ندري إن كان قد حصل ذلك أم لا؟!

فقد روي : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لما كان عام الفتح أخذ المفتاح ، وقال : ادعوا إلي عمر بن الخطاب ، فقال : هذا الذي كنت قلت لكم (١).

بل استمرت هذه الشكوك إلى حجة الوداع فقد ذكروا : أنه «لما كان في حجة الوداع وقف بعرفة ، وقال : أي عمر ، هذا الذي قلت لكم : إني رسول الله. والله ، ما كان فتح في الإسلام أعظم من صلح الحديبية» (٢).

فهل صدّق عمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟! وهل تخلى عن مواقفه وشكوكه السابقة؟!

الجواب : لا.

فإن عمر قد بلغ درجة اليقين ، ولكن في الاتجاه المعاكس!! حيث حكم على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في مرض موته بأنه يهجر ، أو غلبه الوجع بناء على الرواية القائلة : إن النبي ليهجر ، أو غلبه الوجع.

وأما إذا أخذنا بالرواية التي تقول : إنه قال : ما باله أهجر استفهموه؟. فربما يستفاد منها : أنه كان لا يزال باقيا على شكه ..

والله العالم بالحقائق.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٦٣ والمسترشد ص ٥٤٠ والبحار ج ٢٠ ص ١٤١ والنص والإجتهاد ص ١٧٢ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٢٥.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٦٣.

١٣٧

المسلمون يرفضون الإحلال :

ويقولون : إنه لما فرغ النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من قضية الكتاب قال : «قوموا فانحروا ، ثم احلقوا».

فو الله ما قام رجل منهم ، حتى قال ذلك ثلاث مرات ، فاشتد ذلك عليه ، فدخل على أم سلمة فقال : «هلك المسلمون ، أمرتهم أن ينحروا ويحلقوا فلم يفعلوا».

وفي رواية : «ألا ترين إلى الناس آمرهم بالأمر فلا يفعلونه ـ وهم يسمعون كلامي ، وينظرون وجهي»؟.

فقالت : يا رسول الله ، لا تلمهم ، فإنهم قد دخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح ، ورجوعهم بغير فتح ، يا نبي الله ، اخرج ولا تكلم أحدا كلمة حتى تنحر بدنك ، وتدعو حالقك فيحلقك.

فجلى الله تعالى عن الناس بأم سلمة.

فقام رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» واضطبع (١) بثوبه ، فخرج ، فأخذ الحربة ، ويمم هديه ، وأهوى بالحربة إلى البدن رافعا صوته : «بسم الله والله أكبر» ونحر.

فتواثب المسلمون إلى الهدي ، وازدحموا عليه ينحرونه ، حتى كاد

__________________

(١) الاضطباع : أخذ الإزار أو البرد فيجعل وسطه تحت إبطه الأيمن ويلقي طرفيه على كتفه الأيسر من جهتي صدره وظهره ، انظر النهاية ج ٣ ص ٧٣ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٥٦.

١٣٨

بعضهم يقع على بعض.

وأشرك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بين أصحابه في الهدي ، فنحر البدنة عن سبعة ، وكان هدي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سبعين بدنة.

وكان الهدي دون الجبال التي تطلع على وادي الثنية ، فلما صده المشركون رد وجوه البدن (١).

قال ابن عباس : لما صدّت عن البيت حنت كما تحن إلى أولادها (٢).

فنحر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بدنه حيث حبسوه ، وهي الحديبية ، وشرد جمل أبي جهل من الهدي وهو يرعى ، وقد قلد وأشعر. وكان نجيبا مهريا ، في رأسه برة من فضة. أهداه ليغيظ بذلك المشركين. فمر من الحديبية حتى انتهى إلى دار أبي جهل بمكة ، وخرج في أثره عمرو بن عنمة بن عدي الأنصاري ، فأبى سفهاء مكة أن يعطوه ، حتى أمرهم سهيل بن عمرو بدفعه إليه.

قيل : ودفعوا فيه عدة نياق.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٥٦ وقال في هامشه : أخرجه البخاري ج ٣ ص ٢٥٧ وأبو داود في الجهاد باب ١٦٧ وأحمد ج ٤ ص ٣٣١ والبيهقي في الدلائل ج ٤ ص ١٠٦ وعبد الرزاق الحديث رقم (٩٧٢٠) والطبري و ٢٦ ص ٦٣ وابن أبي شيبة و ١٤ ص ٤٥٠.

(٢) أخرجه أحمد في المسند و ٤ ص ٣٣٠ والبيهقي في دلائل النبوة ج ٥ ص ٣٣١ وراجع : تفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٢١٥ والدر المنثور ج ٦ ص ٧٩ وفتح القدير ج ٥ ص ٥٧ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٠٧ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٣٧٦ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٥٧.

١٣٩

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «لو لا أن سميناه في الهدي فعلنا» ، ونحره عن سبعة ، ونحر طلحة بن عبيد الله ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعثمان بن عفان ، بدنات ساقوها.

وروى ابن سعد ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال : نحر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سبعين بدنة عام الحديبية ، البدنة عن سبعة ، وكنا يومئذ ألفا وأربعمائة ، ومن لم يضح أكثر ممن ضحى.

وكان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مضطربا في الحل ، وإنما يصلي في الحرم.

وبعث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من هديه بعشرين بدنة لتنحر عنه عند «المروة» مع رجل من أسلم ، فلما فرغ الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من نحر البدن دخل قبة له من أدم حمراء ، ودعا بخراش ـ بمعجمتين ـ بن أمية بن الفضل الكعبي ، فحلق رأسه ، ورمى شعره على شجرة كانت إلى جنبه من سمرة خضراء ، فجعل الناس يأخذون الشعر من فوق الشجرة فيتحاصونه ، وأخذت أم عمارة طاقات من شعره فكانت تغسلها للمريض ، وتسقيه ، فيبرأ.

وجعل بعضهم يحلق بعضا ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما.

وحلق بعض المسلمين ، وقصّر بعض. فأخرج رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رأسه من قبته وهو يقول : رحم الله المحلقين.

قيل : يا رسول الله والمقصرين قال : «رحم الله المحلقين ثلاثا».

١٤٠