الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٦

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٦

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-188-2
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٣٩

فيه ، حتى تدخّل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، مؤثرا الحفاظ على قوة موقف علي «عليه‌السلام» ، فطلب منه أن يضع يده على الكلمة فوضعها ، فمحاها «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بيده.

ولو أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» طلب محوها من علي «عليه‌السلام» لما تأخر في إطاعة أمره ، ولم يكن «عليه‌السلام» ليطيع أمرا لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أولا ، ثم يقول له : «لو لا طاعتك لما محوتها» ، ثم يعصيه بعد لحظة. فإن الطاعة إذا كانت تدعوه لمحو الأولى ، فلا بد أن تدعوه لمحو الثانية .. خصوصا إذا كان ذلك في مجلس واحد.

ومن الواضح : أن محو كلمة «رسول الله» ليس فيه إنكار لرسوليته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، كما أن محو كلمة بسم الله الرحمن الرحيم لا يلزم منه إنكار رحمانية الله ، ورحيميته تبارك تعالى.

بل لا يتعدى الأمر حدود تسجيل ذلك على ورقة بينه وبين عدوه ، أو عدم تسجيله عليها ..

فلا معنى للتحرج من محو كلمة «رسول الله» وعدم التحرج من محو كلمتي الرحمن الرحيم.

رابعا : إن من المعلوم : أن الأمر بشيء إذا جاء بعد الإلزام به ، يفيد مجرد رفع الإلزام ، والأمر ههنا من هذا القبيل ، فقد كان إملاء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ملزما لعلي «عليه‌السلام» ولغيره بحفظ ما أمر بكتابته وعدم محوه حتى لو طلب ذلك منه ، من هو مثل سهيل بن عمرو ..

ولكن بعد أن احتدم الجدال بين علي «عليه‌السلام» والمسلمين من جهة ، وبين سهيل بن عمرو من جهة أخرى ، بادر النبي «صلى الله عليه

١٠١

وآله» إلى رفع الحظر ، وإزالة الإلزام بالأمر ، وصار بالإمكان التخلي عن ذلك النص ، وبالإمكان إبقاؤه ، وأصبح الأمر موكولا إلى الكاتب نفسه. ثم إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بادر إلى رفع الحرج بأن وضع يده الشريفة على الكلمة ومحاها إعزازا لعلي «عليه‌السلام» وتعلية لشأنه كما قلنا.

استنطاق النصوص :

وقد قلنا : إن النصوص لم تأت على نسق واحد :

١ ـ فبعضها سكت عن التصريح بهذا الأمر ، وذكر أنه «عليه‌السلام» قد كتب ما طلبه منه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فقد روى ابن حبان وغيره : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال بعد اعتراض سهيل : «اكتب محمد بن عبد الله ، وسهيل بن عمرو ، فكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو».

وقريب من ذلك أيضا : روي عن الإمام الصادق «عليه‌السلام» (١).

والنصوص التي ذكرت القضية ، وذكرت : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أمر عليا «عليه‌السلام» بكتابة اسمه مجردا ، ولم تشر إلى أي تمنّع من علي «عليه‌السلام» رواها كثير من المؤرخين ، مثل اليعقوبي ، وابن كثير

__________________

(١) الثقات ج ١ ص ٣٠٠ و ٣٠١ وراجع : الكافي ج ٨ ص ٢٦٩ عن الإمام الصادق مع بعض إضافات وتغييرات لا تضر. والبحار ج ٢٠ ص ٣٦٨ وتفسير نور الثقلين ج ٥ ص ٦٨ وتفسير البرهان ج ٤ ص ١٩٤ والإكتفاء للكلاعي ج ٢ ص ٢٤٠ وتاريخ ابن الوردي ج ١ ص ١٦٦ وحياة محمد لهيكل ص ٣٧٤ وإكمال الدين ص ٥٠.

١٠٢

وغيرهما ، والرواة ، مثل : الزهري ، وابن عباس ، وأنس بن مالك ، وحتى مروان بن الحكم ، والمسور بن مخرمة ، وهو المروي أيضا عن علي أمير المؤمنين «عليه‌السلام» نفسه (١).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٥٤ وراجع : البداية والنهاية ج ٧ ص ٢٧٧ و ٢٨١ وروح المعاني ج ٩ ص ٥٠ والكشاف ج ٣ ص ٥٤٢ وحول النص المنقول عن الزهري راجع : تاريخ الأمم والملوك ج ٥ ص ٦٣٤ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٦٨ وأنساب الأشراف ج ١ ص ٣٤٩ و ٣٥٠ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٣٣١ و ٣٣٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٢٠ و ٣٢١ ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٥٣ وتلخيصه للذهبي (مطبوع بهامشه) ومسند أحمد ج ١ ص ٨٦.

وحول النص المنقول عن ابن عباس راجع : الرياض النضرة المجلد الثاني ص ٢٢٧ وإحقاق الحق (الملحقات) ج ٨ ص ٥٢٢ ومسند أحمد ج ١ ص ٣٤٢ وخصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب للنسائي ص ١٤٨ و ١٤٩ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٢٠٠ عن أحمد ، وأبي داود ، ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ١٥١ وتلخيص المستدرك للذهبي (مطبوع بهامشه) وصححاه على شرط مسلم ، وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٩٢.

وروايتا أنس ومروان والمسور توجدان معا أو إحداهما ، أو بدون تسمية ، في المصادر التالية : صحيح البخاري ج ٢ ص ٧٩ و ٧٨ والمصنف للصنعاني ج ٥ ص ٣٣٧ ومسند أحمد ج ٣ ص ٢٦٨ وج ٤ ص ٣٣٠ و ٣٢٥ وجامع البيان ج ٢٥ ص ٦٣ والدر المنثور ج ٦ ص ٧٧ عنهم وعن عبد بن حميد ، والنسائي ، وأبي داود ، وابن المنذر ، وصحيح مسلم ج ٥ ص ١٧٥ والمواهب اللدنية ج ١ ص ١٢٨ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ٣٧٠ و ٣٧١ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ـ

١٠٣

٢ ـ هناك نصوص صرحت : بأن بعض المسلمين قد أمسكوا بيد علي «عليه‌السلام» ، ومنعوه من الكتابة.

ولهذا قوّى بعضهم : احتمال أن يكون قوله «عليه‌السلام» لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : إن يدي لا تنطلق بمحو اسمك من النبوة.

يريد به : لا تنطلق بسبب إمساكهم.

فبعد أن ذكر النص اعتراضات سهيل أولا.

وثانيا قال : «فضج المسلمون منها ضجة هي أشد من الأولى ، حتى ارتفعت الأصوات ، وقام من أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقولون : لا نكتب إلا محمد رسول الله».

__________________

ص ١٩٨ و ٢٠٠ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٧٥ ومختصر تفسير ابن كثير ص ٣٥١ و ٣٥٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٣٣ والسنن الكبرى ج ٩ ص ٢٢٠ و ٢٢٧ وتاريخ الخميس ج ١ ص ٢١ عن المدارك ، وتفسير الخازن ج ٤ ص ١٥٦ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٤ ص ١٠٥ و ١٤٦ و ١٤٧ والإحسان بتقريب صحيح ابن حبان ج ١١ ص ٢٢٢ و ٢٢٣ والجامع لأحكام القرآن ج ١٦ ص ٢٧٧ وبهجة المحافل ج ١ ص ٣١٦. وزاد المعاد ج ٢ ص ١٢٥ ومسند أبي عوانة ص ٢٤١.

وحول ما روي عن علي «عليه‌السلام» وغيره راجع : شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج ٢ ص ٢٣٢ وقريب منه ما في ينابيع المودة ص ١٥٩ ومسند أحمد بن حنبل ج ٤ ص ٨٦ و ٨٧ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١٤٥ وقال : رواه أحمد ورجاله الصحيح.

ومختصر تفسير ابن كثير ص ٣٤٧ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ١٩٢ وتفسير المراغي ج ٩ ص ١٠٧ والدر المنثور ج ٦ ص ٧٨ عن أحمد ، والنسائي ، والحاكم وصححه ، وابن جرير ، وأبي نعيم في الدلائل ، وابن مردويه.

١٠٤

فعن واقد بن عمرو قال : «حدثني من نظر إلى أسيد بن حضير ، وسعد بن عبادة ، أخذا بيد الكاتب فأمسكاها ، وقالا : لا نكتب إلا محمد رسول الله ، وإلا فالسيف بيننا ، علام نعطي الدنية في ديننا؟!

فجعل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يخفضهم ، ويومئ بيده إليهم : اسكتوا. وجعل حويطب يتعجب مما يصنعون ، ويقبل على مكرز بن حفص ، ويقول : ما رأيت قوما أحوط لدينهم من هؤلاء القوم الخ ..» (١).

الحدث مستعار بكامل تفاصيله :

وبعد ، فهل يمكننا أن نقول : إن هذا الحدث قد استعير بكامل تفاصيله من قضية أخرى.

نعم .. لقد استعاروها بهدف إثارة الشبهات والتساؤلات حول أقدس شخصية بعد الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

والحدث الذي نعنيه هو :

أن تميم بن جراشة قدم على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في وفد ثقيف ، فأسلموا ، وسألوه أن يكتب لهم كتابا فيه شروط ، فقال : اكتبوا ما بدا لكم ، ثم إيتوني به.

فأتوا عليا «عليه‌السلام» ليكتب لهم.

قال تميم : «فسألناه في كتابه : أن يحلّ لنا الربا والزنى. فأبى علي رضي

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٦١٠ و ٦١١ وراجع : سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٥٤ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٢٩٦ وغاية البيان في تفسير القرآن ج ٦ ص ٥٨ و ٥٩ والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٤٣ والسيرة الحلبية ج ٣ ص

١٠٥

الله عنه أن يكتب لنا.

فسألناه خالد بن سعيد بن العاص.

فقال له علي : تدري ما تكتب؟!

قال : أكتب ما قالوا ، ورسول الله أولى بأمره.

فذهبنا بالكتاب إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال للقارئ : اقرأ .. فلما انتهى إلى الربا قال : ضع يدي عليها في الكتاب. فوضع يده ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الآية (١) .. ثم محاها.

وألقيت علينا السكينة ، فما راجعناه.

فلما بلغ الزنى وضع يده عليها ، وقال : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) الآية (٢) ، ثم محاه. وأمر بكتابنا أن ينسخ لنا» (٣).

من أسباب التزوير :

وأما دوافع إثارة بعض الشبهات حول طاعة أمير المؤمنين «عليه‌السلام» لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فيمكن أن يكون منها ما يلي :

١ ـ إن النصوص التي ذكرت هذه القضية قد صرحت : بأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين أمر عليا «عليه‌السلام» بمحو ما كتب ، قال له : أما إن لك مثلها ، وستأتيها وأنت مضطر.

__________________

(١) الآية ٢٧٨ من سورة البقرة.

(٢) الآية ٣٢ من سورة الإسراء.

(٣) أسد الغابة ج ١ ص ٢١٦ وقال : أخرجه أبو موسى ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٧٢.

١٠٦

أو قال له : اكتب ، فإن لك مثلها ، تعطيها ، وأنت مضطهد مقهور. فكتب ما قالوا (١).

فلأجل الحفاظ على ماء وجه معاوية ، وحزبه الذين أصروا على محو كلمة «أمير المؤمنين» من وثيقة التحكيم ، وظهر بذلك مصداق ما أخبر عنه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، كان لا بد من إثارة أجواء من الريب

__________________

(١) راجع : الكامل في التاريخ ج ٢ ص ٢٢٠ والمعيار والموازنة ص ٢٠٠ وخصائص أمير المؤمنين علي «عليه‌السلام» للنسائي ص ١٤٩ و ١٥٠ وإحقاق الحق (الملحقات) ج ٨ ص ٤١٩. والسيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٤٣ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٠ ومجمع البيان ج ٩ ص ١١٨ و ١١٩ ومناقب آل أبي طالب ج ٣ ص ٢١٤ والبحار ج ٢٠ ص ٣٣٥ و ٣٥٢ و ٣٥٧ و ٣٥٩ و ٣٦٣ و ٣٣٣ وج ٣٣ ص ٣١٤ و ٣١٦ و ٣١٧ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٥٤ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص ٣٩٠ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٤ ص ١٤٧ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٨ ص ١٧٩ و ١٨٠ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٢١ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٢٠٤ وحبيب السير ج ١ ص ٣٧٢ وتفسير القمي ج ٢ ص ٣١٣ والخرايج والجرايح ج ١ ص ١١٦ وشرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ١٩٠ وج ٢ ص ٥٨٨ و ٢٣٢ والمغني لعبد الجبار ج ١٦ ص ٤٢٢ وينابيع المودة للقندوزي ص ١٥٩ وصبح الأعشى ج ١٤ ص ٩٢ والآمالي للطوسي ج ١ ص ١٩٠ و ١٩١ وصفين للمنقري ص ٥٠٨ و ٥٠٩ وكشف الغمة للأربلي ج ١ ص ٢١٠ والإرشاد للمفيد ج ١ ص ١٢٠ وإعلام الورى ص ٩٧ والبرهان ج ٤ ص ١٩٣ ونور الثقلين ج ٥ ص ٥٢ والفتوح لابن أعثم ج ٤ ص ٨ والبداية والنهاية ج ٧ ص ٢٧٧ والأخبار الطوال ص ١٩٤ عن تاريخ الطبري ج ٥ ص ٥٢ وعن فتح الباري ج ٥ ص ٢٨٦.

١٠٧

والشك في علي نفسه ، من أجل أن يخف وقع وأثر هذا الأمر على الناس.

٢ ـ إن نفس الطعن بقداسة علي «عليه‌السلام» ، وفي عصمته ، والحط من مقامه ، والنيل منه ، وابتذال شخصيته ، ونسبة الرذائل والمعاصي إليه ، وتصغير شأنه ، حتى يصبح كسائر الناس العاديين ، أمر مطلوب ، ومحبوب لأعدائه ، ومناوئيه. وبذلك تضعف حجة الطاعنين في مناوئيه ، ويخرج أتباعهم من الإحراجات القوية التي تواجههم.

٣ ـ تكريس أبي بكر على أنه الرجل المميز بين جميع الصحابة ، الذي كان يرى في الحديبية رأي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ويدعو الناس للقبول منه ، والتسليم له ..

قال دحلان : «.. ولم يكن أحد في القوم راضيا بجميع ما يرضى به النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، غير أبي بكر الصديق (رض) ، وبهذا يتبين علو مقامه. ويمكن أن الله كشف لقلبه ، وأطلعه على بعض تلك الأسرار التي ترتبت على ذلك الصلح ، كما أطلع على ذلك النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فإنه حقيق بذلك (رض) ، كيف وقد قال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : والله ، ما صب الله في قلبي شيئا إلا وصببته في قلب أبي بكر» (١).

٤ ـ إن هذه المزاعم بجعل علي وعمر في سياق واحد ، من حيث إن هذا يشك في دينه في الحديبية ، وذاك يعصي أوامر الرسول الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

من شأنها أن توجد حالة من التوازن ، ثم ترجح كفة الفريق الآخر من حيث

__________________

(١) السيرة النبوية لدحلان ج ٢ ص ٤٣.

١٠٨

جعل أبي بكر فوق الجميع ، بل هو في مستوى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

لك مثلها يا علي :

وقد قلنا : إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قال لعلي في الحديبية : لك مثلها ، تعطيها ، وأنت مضطهد ، أو مضطر ..

وظهر مصداق قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في حرب صفين ، وذلك حينما أخذوا بكتابة كتاب الموادعة ، فابتدأوا فيه بعبارة :

هذا ما تقاضى عليه علي أمير المؤمنين ومعاوية بن أبي سفيان ..

فقال معاوية : بئس الرجل أنا إن أقررت : أنه أمير المؤمنين ثم قاتلته.

وقال عمرو : لا بل نكتب اسمه ، واسم أبيه ، إنما هو أميركم ، فأما أميرنا فلا.

فلما أعيد إليه الكتاب أمر بمحوه. فقال الأحنف : لا تمح اسم إمرة المؤمنين عنك ؛ فإني أتخوف ، إن محوتها أن لا ترجع إليك أبدا ، فلا تمحها.

فقال «عليه‌السلام» : إن هذا اليوم كيوم الحديبية ، حين كتب الكتاب عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : هذا ما تصالح عليه محمد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وسهيل بن عمرو. فقال سهيل : لو أعلم أنك رسول الله لم أقاتلك ولم أخالفك ، إني لظالم لك إن منعتك أن تطوف بيت الله ، وأنت رسوله ، ولكن اكتب : من محمد بن عبد الله ..

فقال لي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : يا علي ، إني لرسول الله ، وأنا محمد بن عبد الله ، ولن يمحو عني الرسالة كتابي لهم : من محمد بن عبد الله ،

١٠٩

فاكتبها ، فامح ما أرادوا محوه ، أما إن لك مثلها ، ستعطيها وأنت مضطهد (١).

ضع يدي عليها :

وقد ذكرت المصادر المتقدمة : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال لعلي «عليه‌السلام» : ضع يدي عليها (أي على كلمة رسول الله) ، فوضعها عليها ، فمحاها «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بيده (٢).

فقد يظن ظان : أن هذا يدل على أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يعرف القراءة ..

ويؤيد ذلك أيضا : الرواية المتقدمة عن الكتاب الذي كتبه لتميم بن جراشة ووفد ثقيف ..

ونقول :

أولا : إن قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : ضع يدي عليها ، لا يدل على أنه لا يعرف القراءة ، إذ قد يكون مجلسه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعيدا عن مجلس علي «عليه‌السلام» ، فيقول له من بعيد : ضع يدي على الكلمة الفلانية ، لأنه «عليه‌السلام» هو المتمكن من قراءتها دونه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

__________________

(١) البحار ج ٣٢ ص ٥٤١ و ٥٤٢ وصفين للمنقري ص ٥٠٣ و ٥٠٤ والمسترشد ص ٣٩١ وشرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ٢٣٢ والدرجات الرفيعة ص ١١٧ وينابيع المودة ج ٢ ص ١٨ وموسوعة التاريخ الإسلامي ج ٢ ص ٦٢٨ ومصادر ذلك كثيرة.

(٢) تقدمت المصادر الكثيرة لذلك ، ومنها على سبيل المثال : كشف الغمة للأربلي ج ١ ص ٢١٠ والإرشاد للمفيد ج ١ ص ١٢٠ وإعلام الورى ص ٩٧ والبحار ج ٢٠ ص ٣٢٩ و ٣٦٣ و ٣٥٧ ومكاتيب الرسول ج ١ ص ٨٧.

١١٠

ولو قيل : لماذا لا يستعمل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قدرته الغيبية والإعجازية في هذا المورد؟!

فالجواب : أن الإعجاز ، وإعمال القدرات الغيبية تابع لمصالح يعرفها النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دوننا ، فلا بد من التسليم له ، وإيكال الأمر إليه ..

ثانيا : قد روى البخاري ما جرى في الحديبية ، فقال : «فأخذ رسول الله الكتاب ، فكتب : هذا ما قاضى محمد بن عبد الله الخ ..» (١).

__________________

(١) صحيح البخاري (ط سنة ١٣٠٩ ه‍) ج ٢ ص ٧٣ والكافي ج ٨ ص ٣٢٦ والغارات ج ٢ ص ٧٥٥ والمسترشد ص ٣٩١ و ٣٩٦ وشرح الأخبار ج ٢ ص ٥٠ و ١٣٥ وأوائل المقالات ص ٢٢٤ والإرشاد ج ١ ص ١٢٠ والأمالي للطوسي ص ١٨٧ والعمدة ص ٢٠١ و ٣٢٥ والبحار ج ٢٠ ص ٣٣٣ و ٣٦٢ وج ٣٣ ص ٣١٥ وج ٣٨ ص ٣٢٨ ومكاتيب الرسول ج ١ ص ٨٥ وج ٣ ص ٨٢ ومسند أحمد ج ٤ ص ٢٩٨ وسنن الدارمي ج ٢ ص ٢٣٧ وعن صحيح البخاري ج ٥ ص ١٧٤ وعن سنن أبي داود ج ١ ص ٦٢٩ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ٢٤٠ والمصنف لعبد الرزاق ج ١٠ ص ١٥٩ وعن المصنف لابن أبي شيبة ج ٨ ص ٥٠٧ و ٥١٥ والسنن الكبرى للنسائي ج ٥ ص ١٦٨ وصحيح ابن حبان ج ١١ ص ٢١٢ وعن المعجم الكبير ج ١٠ ص ٢٥٨ وج ٢٠ ص ١٣ وكنز العمال ج ١٠ ص ٤٧٤ و ٤٩٤ وإرواء الغليل ج ١ ص ٥٧ وتفسير مجمع البيان ج ٩ ص ١٩٧ ونور الثقلين ج ٥ ص ٦٨ وجامع البيان ج ٢٦ ص ١٢٩ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٢١٣ و ٢١٧ والدر المنثور ج ٢ ص ١٥٧ وج ٦ ص ٧٧ وموسوعة التاريخ الإسلامي ج ٢ ص ٦٢٧ وإعلام الورى ج ١ ص ٢٠٤ و ٣٧٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٣٣ و ٤٤٢ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٥٣ و ٧٧ وتاريخ مدينة دمشق ج ٥٧ ص ٢٢٨ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٠٠ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ ق ٢ ص ٣٤.

١١١

وفي نص آخر : «فأخذ النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الكتاب ـ وليس يحسن أن يكتب ـ فكتب مكان رسول الله : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله : أن لا يدخل الخ ..» (١).

فقد دلت هاتان الروايتان على : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو نفسه الذي كتب ما أراده.

ودلت الرواية الثانية على : أن ذلك قد كان منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على سبيل الإعجاز ، ويمكن تأييد هاتين الروايتين بما روي عن علي «عليه‌السلام» : أنه قال للخوارج ، وهو يذكر لهم ما جرى في الحديبية : «قالوا : لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.

فقال : اللهم إنك تعلم أني رسولك ..

ثم أخذ الصحيفة فمحاها بيده ، ثم قال : يا علي ، اكتب هذا ما صالح عليه الخ ..» (٢).

ثالثا : قد تقدم : أن هناك ما يدل على : أن حديث امتناع علي «عليه

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٣ ص ٧٣ ومسند أحمد ج ٤ ص ٢٩٨ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٢٠٤ وخصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب للنسائي ص ١٥٠ و ١٥١ والأموال ص ٢٣٣ وسنن الدارمي ج ٢ ص ٢٣٨ والسنن الكبرى ج ٨ ص ٥ والتراتيب الإدارية ج ١ ص ١٧٣.

(٢) الرياض النضرة ج ٢ ص ٢٧٧ وإحقاق الحق (الملحقات) ج ٨ ص ٥٢٢ وراجع :

مسند أحمد ج ١ ص ٣٤٢ وخصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب للنسائي ص ١٤٨ و ١٤٩ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٨ ص ١٧٩ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ٢١٥ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٢ ص ٤٦٤ والمناقب ص ٢٦٢ وغير ذلك.

١١٢

السلام» عن محو الكلمة إنما كان في مقابل سهيل ، ولكنه لما قال له النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : اكتب .. بادر إلى الكتابة ، ولم يعص أمره «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

وهذا معناه : أن قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : ضع يدي عليها يصبح موضع شك من الأساس .. خصوصا مع اختلاف نصوص هذه القضية إلى درجة تمنع الباحث من الاعتماد عليها.

رابعا : إن هناك شواهد وأدلة كثيرة على : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يعرف القراءة والكتابة .. فلا حظ ما سنذكره فيما يلي :

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقرأ ويكتب :

قال الشيخ الطوسي : «.. والنبي «عليه‌السلام» ـ عندنا ـ كان يحسن الكتابة بعد النبوة ، وإنما لم يحسنها قبل البعثة» (١).

وقال السيد جواد العاملي : «والنبي معصوم مؤيد بالوحي. وكان عالما بالكتابة بعد البعثة ، كما صرح به الشيخ ، وأبو عبد الله الحلي ، واليوسفي ، والمصنف في التحرير. وقد نقل أبو العباس ، والشهيد في النكت ، عن الشيخ ، وسبطه أبي عبد الله الحلي الساكتين عليه ..» (٢).

فالشيخ الطوسي ، قد أوضح لنا : أن القول بأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يقرأ ويكتب هو قول أصحابنا من الشيعة .. كما أن العاملي قد بين أن

__________________

(١) المبسوط ج ٨ ص ١٢٠ وتفسير التبيان ج ٨ ص ٢١٦ وأوائل المقالات ص ٢٢٥ ومكاتيب الرسول ج ١ ص ٩٣.

(٢) مفتاح الكرامة ج ١٠ ص ١٠.

١١٣

عدد من علمائنا الكبار قد صرح بهذا الأمر ، وسكت عنه آخرون.

ونقول :

إن ما نستفيده من الروايات والشواهد الكثيرة : أن النبي نبي منذ ولد ، وأنه كان قادرا على القراءة والكتابة قبل بعثته كرسول ، وبعدها.

وستأتي الروايات الدالة على الأمر الثاني ، أما الروايات الدالة على نبوته قبل بعثته فيمكن مراجعتها في كتب الحديث عند السنة والشيعة.

ولكن السياسة الإلهية ، القاضية بتيسير الهداية للناس قد قضت بأن لا يمارس ذلك بصورة فعلية قبل البعثة ، وبيان ذلك :

أولا : إذا تحقق للناس : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يتعلم القراءة والكتابة قبل البعثة عند أحد ، ثم رأوا : أنه بعد البعثة قادر على ذلك كأفضل ما يكون. فسوف يدركون : أن ذلك حصل له بالإقدار الإلهي ، وبذلك تقوم الحجة عليهم ، ولا يبقى عذر لمعتذر.

وهكذا يقال : بالنسبة لمعرفته بعلوم الأولين والآخرين ، وسواها مما يعجز البشر عن نيله ، مع أنه لم يقرأ في كتاب ، ولم يدرس عند أحد.

والخلاصة : أن ظهور قدرته لهم على القراءة والكتابة ، ومعرفته بجميع هذه العلوم من دلائل نبوته ، وهو للبشرية جمعاء.

ولا ضرورة بعد ذلك إلى أن يبقى ـ كما يزعمون ـ عاجزا عن القراءة والكتابة ، مع معرفة الآخرين بها ، فإن ذلك قد يثير لديهم الإحساس بأن ثمة نقصا وعيبا في شخصيته ، وقد ثبت بالبراهين العقلية والنقلية أنه منزه عن كل عيب ونقص ..

ثانيا : إن القراءة والكتابة لا تقصد لذاتها ، وإنما هي من العلوم الآلية

١١٤

التي تقصد إلى غيرها. ونيل المعارف عن طريقها ..

فإذا كانت المعارف والعلوم حاضرة لدى الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ويراها رأي العين. وهو يخبرهم بها ، ويرون صدقه بصدقها ، فإن البحث عن وسيلة أخرى عاجزة إلا عن إحضار خيالها ، وصورتها لديه لا أكثر (١). يصبح سفها غير مقبول .. ويكون بذلك كالذي يجد حبيبه إلى جنبه ، ثم يطلب النوم لعله يرى خياله في عالم الرؤيا.

ومن المعلوم : أنه ليس كل عدم نقصا ، وليس كل وجدان كمالا ..

فإن معرفتنا نحن بالأمور والعلم بها كمال بالنسبة لنا ، فإذا توقف ذلك على امتلاك آلات وأدوات ، فإن حصولنا على العلوم الآلية والأدوات الموصلة لها كمال لنا أيضا ، وفقدانها نقص ، لأنه يوجب حرماننا من كثير من المعارف التي نعجز عن الوصول إليها بدونها.

أما إذا كانت المعارف حاضرة بنفسها لدى العالم ، ولا يحتاج إلى تلك الآلات الموصلة ، كان ذلك عين الكمال .. ولا يكون فقدانه للآلات الموصلة نقصا له ، بل يكون حضورها لديه بلا فائدة ولا عائدة هو السفه والنقص.

فمن يستطيع الوصول إلى أي مكان في العالم بمجرد إرادته ، فإن ركوبه للدابة ، والسعي إلى ذلك المكان ، وتحمل المتاعب ، وصرف الساعات

__________________

(١) إشارة إلى الوجود اللفظي والكتبي الذي يلزم منه حضور صورة الشيء في الذهن ، لا حضور نفس الشيء لدى العالم.

وإشارة إلى ذلك : حالة التخيل لأمور يسمع بها ، ولم يكن قد رآها. فهي حاضرة حضورا تخيليا لا يصل إلى درجة حضور صورة الشيء في الذهن ، فضلا عن حضور نفس الشيء لدى العالم.

١١٥

والأيام ، أو الأشهر في الطريق ، يعد سفها.

ولا يعد عدم اقتنائه للدابة أو السيارة عيبا ولا نقصا ، ما دام أنه لا لأجل عجزه عن الاقتناء ، بل لغناه عنها مع توفر القدرة عليها في كل حين.

وهذا هو حال الأنبياء والأوصياء «عليهم‌السلام» في ما يرتبط بعلومهم ، فهم يعلمون بالأمور من خلال حضورها عندهم ، ورؤيتهم لها بما أعطاهم الله إياه من تفضلات ومزايا ، فلا يحتاجون إلى قراءة النقوش المكتوبة ليمكنهم الحصول على صورة ذهنية لها ، وهذا هو عين الكمال لهم ، وسواه هو النقص.

ثالثا : إن هناك أدلة من كلام المعصومين «عليهم‌السلام» ، وشواهد أخرى ، تدل على أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يعرف القراءة والكتابة ، فلا حظ ما يلي :

ألف : إننا نذكر من الشواهد الدالة على أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يقرأ ما يلي :

١ ـ ما رواه الشعبي من أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قرأ صحيفة لعيينة بن حصن ، وأخبر بمعناها (١).

٢ ـ عن أنس قال : قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : رأيت ليلة أسري بي مكتوبا على باب الجنة : الصدقة بعشر أمثالها ، والقرض بثمانية عشر (٢). فإن

__________________

(١) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج ٨ ص ٩٨ عن تفسير النقاش والجامع لأحكام القرآن ج ١٣ ص ٣٥٢.

(٢) سنن ابن ماجة ج ٢ ص ٨١٢ والمفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ج ٨ ص ٩٧ عنه ، ومستدرك الوسائل ج ١٣ ص ٣٩٥ ومسند أبي داود الطيالسي ص ١٥٥ ـ

١١٦

المتبادر هو : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قرأ هذا المكتوب بنفسه ، لا أنه قد علم بمضمونه من غيره.

ب : ومن الشواهد الدالة على أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يقرأ ويكتب نذكر :

١ ـ ما رواه الصدوق «رحمه‌الله» بسنده عن جعفر بن محمد الصوفي ، عن أبي جعفر الجواد «عليه‌السلام» وفيه : «فقلت : يا ابن رسول الله ، لم سمي النبي الأمي؟!

فقال : ما يقول الناس؟

قلت : يزعمون : أنه إنما سمي الأمي ؛ لأنه لم يحسن أن يكتب.

فقال «عليه‌السلام» : كذبوا عليهم لعنة الله ، أنّى ذلك ، والله يقول في محكم كتابه : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) (١).

فكيف كان يعلّمهم ما لا يحسن؟. والله ، لقد كان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقرأ ويكتب باثنين وسبعين لسانا ، أو قال : بثلاثة وسبعين لسانا ،

__________________

ـ والمعجم الأوسط ج ٧ ص ١٦ ومسند الشاميين ج ٢ ص ٤١٩ والجامع الصغير ج ٢ ص ٥ وكنز العمال ج ٦ ص ٢١٠ وتذكرة الموضوعات ص ٦٦ وكشف الخفاء ج ٢ ص ٩٦ والجامع لأحكام القرآن ج ٣ ص ٢٤٠ والدر المنثور ج ٤ ص ١٥٣ وتفسير الثعالبي ج ١ ص ٥٢٧ وكتاب المجروحين ج ١ ص ٢٨٤ والكامل ج ٢ ص ٣٣٧ وج ٣ ص ١١ وتهذيب التهذيب ج ٣ ص ١١٠ وسبل الهدى والرشاد ج ٩ ص ٢٨٣.

(١) الآية ٣ من سورة الجمعة.

١١٧

وإنما سمي الأمي ، لأنه كان من أهل مكة. ومكة من أمهات القرى ، وذلك قول الله عزوجل : (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها)» (١).

٢ ـ عن عبد الرحمن بن الحجاج قال : قال أبو عبد الله «عليه‌السلام» : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يقرأ ويكتب ، ويقرأ ما لم يكتب (٢).

وأما الحديث الذي يقول : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يقرأ ما يكتب ، فهو لا يريد نفي الكتابة عنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بل كلمة «ما» مفعول به ليقرأ. أي أنه يقرأ الذي يكتب.

وأما ما ورد في كثير من المصادر عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» : أن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يقرأ ويكتب.

فالمراد به : أنه كان يمارس القراءة ، ولا يمارس الكتابة ، وإن كان قادرا عليها.

قال المجلسي : كان يقدر على الكتابة ، ولكن كان لا يكتب لضرب من المصلحة.

٣ ـ روى الصدوق بسنده عن علي بن أسباط وغيره ، رفعه عن أبي جعفر «عليه‌السلام» قال : قلت : إن الناس يزعمون : أن رسول الله «صلى

__________________

(١) علل الشرايع ص ١٢٤ والبحار ج ١٦ ص ١٣٢ وبصائر الدرجات ص ٢٤٥ والبرهان (تفسير) ج ٤ ص ٣٣٢ ونور الثقلين ج ٢ ص ٧٨ وج ٥ ص ٣٢٢ ومعاني الأخبار ص ٥٤ والإختصاص ص ٢٦٣ والفصول المهمة ج ١ ص ٤١٢ ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٩٩.

(٢) البحار ج ١٦ ص ١٣٣ و ١٣٤ وبصائر الدرجات ص ٢٤٧ والبرهان ج ٤ ص ٣٣٣ ونور الثقلين ج ٥ ص ٣٢٢ والفصول المهمة ج ١ ص ٤١٣.

١١٨

الله عليه وآله» لم يكتب ولا يقرأ.

فقال : كذبوا لعنهم الله أنّى يكون ذلك ، وقد قال الله عزوجل : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١).

فكيف يعلّمهم الكتاب والحكمة وليس يحسن أن يقرأ ويكتب؟!

قال : فلم سمي النبي الأمي؟

قال : لأنه نسب إلى مكة ، وهو قول الله عزوجل : (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) ، فأم القرى مكة ، فقيل أمي لذلك (٢).

٤ ـ وعن الشعبي أنه قال : ما مات النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حتى كتب (٣).

وقال المجلسي : قال الشعبي وجماعة من أهل العلم : ما مات رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حتى كتب وقرأ. وقد اشتهر في الصحاح وكتب التواريخ قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : إيتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتابا لن

__________________

(١) الآية ٢ من سورة الجمعة.

(٢) البحار ج ١٦ ص ١٣٣ وعلل الشرايع ص ١٢٥ وتفسير البرهان ج ٢ ص ٣٣٢ و ٤٠ ونور الثقلين ج ٥ ص ٣٢٣ وج ٤ ص ٥٥٨ وبصائر الدرجات ص ٢٤٦ وتفسير العياشي ج ٢ ص ٧٨.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ج ١٣ ص ٣٥٢ والتراتيب الإدارية ج ١ ص ١٧٣ والبحار ج ١٦ ص ١٣٥ وسير أعلام النبلاء ج ١٤ ص ١٩٠ وج ٢٢ ص ٤٦٨ وعن الإرشاد ج ١ ص ١٨٤ ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٩٩ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٧ ص ٤٢ وعن فتح الباري ج ٧ ص ٣٨٦ وفيض القدير ج ٤ ص ٣٣٦ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣٤ ص ١٠٣.

١١٩

تضلوا بعده أبدا (١).

ونقول :

إن استدلاله «رحمه‌الله» بالفقرة الأخيرة غير خال عن النظر والمناقشة ، فإن قوله : أكتب لكم يتلاءم مع أمره لبعض من حضر بذلك .. ومع توليه الكتابة بنفسه أيضا ..

٥ ـ ونقل السيوطي عن أبي الشيخ ، من طريق مجالد ، قال : حدثني عون بن عبد الله بن عتبة ، عن أبيه قال : ما مات النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حتى قرأ وكتب. فذكرت هذا الحديث للشعبي.

فقال : صدق. سمعت أصحابنا يقولون ذلك (٢).

٦ ـ عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» قال : «كان علي «عليه‌السلام» كثيرا ما يقول : اجتمع التيمي والعدوي عند رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وهو يقرأ : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) بتخشع وبكاء ، فيقولان :

ما أشد رقّتك لهذه السورة.

فيقول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : لما رأت عيني ، ووعى قلبي ، ولما يرى قلب هذا من بعدي.

فيقولان : وما الذي رأيت ، وما الذي يرى؟!

__________________

(١) البحار ج ١٦ ص ١٣٥ وج ٢٢ ص ٤٦٨ وعن الإرشاد ج ١ ص ١٨٤ ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٩٩ ومستدرك الوسائل ج ٣ ص ٤٧٧ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٠ ص ٢١٩ وج ١٢ ص ٨٧ وإعلام الورى ج ١ ص ٢٦٥.

(٢) الدر المنثور ج ٣ ص ١٣١.

١٢٠