الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٥

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٥

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-171-8
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٢

وسار حتى بلغ عسفان (١).

وقفات مع ما تقدم :

وقبل أن نتابع الحديث عن هذا الحدث الكبير نلقي نظرة على بعض الخصوصيات والأمور التي تذكر من بداية خروج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من المدينة إلى حين وصوله إلى عسفان.

فنقول :

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٩ و ١٠ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٦ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٣٢١ و ٣٢٢ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٧٥ وطبقات ابن سعد ج ٢ ص ٧٢ والمنتظم ج ٣ ص ٢٦٧ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٨٦ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٥١٧ وتاريخ الأمم والملوك للطبري ج ٢ ص ٢٧٠ وشرح المواهب للزرقاني ج ٣ ص ١٦٩ وجوامع السيرة النبوية لابن حزم ص ١٦٤ والإكتفاء ج ٢ ص ٢٣٣. وراجع : العبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ قسم ٢ ص ٣٤ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) (ط سنة ١٤١٠ ه‍) ص ٣٦٤ و ٣٦٥ والبدء والتاريخ ج ٤ ص ٢٢٤ وعيون الأثر (ط سنة ١٤٠٦ ه‍) ج ٢ ص ١١٣ و ١١٤ والسيرة النبوية لدحلان (ط سنة ١٤١٥ ه‍) ج ١ ص ٤٨١ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٣ و ٣٤ ، وراجع : النص والإجتهاد ص ١٦٦ ومسند أحمد ج ٤ ص ٣٢٣ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٥ ص ٢٣٥ وصحيح ابن خزيمة ج ٤ ص ٢٩٠ وشرح معاني الآثار ج ٤ ص ١٧٤ والمعجم الكبير ج ٢٠ ص ١٦ ونصب الراية ج ٤ ص ٢٣٨ وجامع البيان ج ٢٦ ص ١٢٤ وتفسير القرآن العظيم لابن كثير ج ٤ ص ٢٠٠ و ٢٠٩ وتاريخ خليفة بن خياط ص ٤٨ وأسد الغابة ج ٢ ص ٩٣ والإصابة ج ١ ص ٤٢٥ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣١٣.

٦١

الخروج إلى العمرة :

وأول ما ما يواجهنا من ذلك هو دلالات هذا التحرك الجديد ، الذي يدلنا على الأمور التالية :

١ ـ إن خروج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» محرما ، معظما للبيت ، زائرا له ، من شأنه أن يطمئن أهل مكة ، ومن حولها إلى أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يريد الحرب في تحركه هذا ، وأن بإمكانهم أن يشعروا بالأمن من هذه الجهة.

ولكن ذلك لا يمنع من أن يعتبر هذا التحرك في الوقت ذاته تحديا لزعماء الشرك ، وإقداما جريئا ، بل هو الغاية التي ما بعدها غاية في الجرأة .. على أمر يستبطن كسر عنفوان الشرك ، وهو يدل على شعور المسلمين بالقوة والعزة ، إلى حد أنهم يقتحمون على عدوهم داره ، ولا يخشونه.

٢ ـ وفيه أيضا تأكيد على حق الناس بمقدساتهم ، وبممارسة عباداتهم بحرية تامة ، وفق ما يعتقدونه وحسبما ثبت لهم.

٣ ـ وفيه أيضا إظهار لقريش على أنها باغية ومعتدية ، وأنها لا تملك من المنطق والحجة ما يبرر لها ذلك ، بل حجتها في هذا البغي هو ما تتوسل به من قوة وقهر ، وما تمارسه من ظلم وعدوان ..

٤ ـ والأهم من ذلك هو كسر هيبة الشرك والمشركين ، وقريش بالذات في المنطقة كلها ، وإفساح المجال للناس للاعتقاد بأن بإمكانهم التفكير بعيدا عن الضغوط التي يمارسها عليهم الآخرون ، وأن بإمكانهم أن يختلفوا مع قريش وأن يخالفوها إذا وجدوا الحق في خلافها.

٥ ـ إن الناس حين يشعرون بقوة هذا الدين ، فإنهم إن لم يتجرأوا على الدخول فيه ، سوف تكون لهم الجرأة على الدخول في تحالفات معه ، خصوصا

٦٢

القبائل القريبة من المدينة ، وسيتريثون كثيرا في اتخاذ قرار التحالف مع أعدائه ، والدخول إلى جانبهم ، في حروبهم ضده.

فائدة المنامات :

وقد ذكرت النصوص : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رأى في المنام : أنه دخل مكة هو وأصحابه آمنين ، محلقين رؤوسهم ، مقصرين ، وأنه دخل البيت ، وأخذ مفتاحه ، الخ ..

وقد تحققت رؤيا الرسول الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ولكن في عام آخر وقد أشار القرآن إلى ذلك حين قال : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً).

كما أن في القرآن حديثا عن الرؤيا وعن تأويلها ، في أكثر من موضع. وذلك مثل : ما حكاه سبحانه عن رؤيا إبراهيم عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام : أنه يذبح ولده إسماعيل وتأويلها. ورؤيا يوسف أحد عشر كوكبا ، والشمس والقمر وتأويلها.

ومن المعلوم : أن رؤيا الأنبياء «عليهم‌السلام» هي طرائق الوحي الإلهي إليهم.

وتحدث القرآن الكريم أيضا : عن رؤيا صاحبي السجن وتأويل يوسف الصديق «عليه‌السلام» لها.

ورؤيا عزيز مصر (سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ) .. ثم تأويل يوسف لهذه الرؤيا ..

٦٣

فالرؤيا وتأويلها ، وارتباطها بالواقع الخارجي ، أمر ثابت لا مرية فيه ، ولا شبهة تعتريه إذا كانت رؤيا من نبي أو وصي ، وقد تصدق وقد تكون أضغاث أحلام ، إذا كانت من غيره.

نعم .. إن ذلك كله مما لا مجال لدفعه ، ولا للنقاش فيه .. وفي النصوص القرآنية ، والنبوية ، وكذلك ما روي عن الأئمة الطاهرين «عليهم‌السلام» ، الكثير مما يؤيده ويدل عليه ..

وقد ذكروا : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان كثير الرؤيا. ولا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح (١). وما ذلك إلا لأن الرؤيا هي من

__________________

(١) البحار ج ٥٨ ص ١٨٢ وج ١٨ ص ١٩٥ و ٢٢٧ وج ٧٠ ص ١٠٣ ومكارم الأخلاق ص ٢٩٢ ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ٤٢ والنص والإجتهاد ص ٤٢٠ ومستدرك سفينة البحار ج ٤ ص ٢١ وأضواء على الصحيحين ص ٢٤٢ ومسند أحمد ج ٦ ص ١٥٣ و ٢٣٢ وعن صحيح البخاري ج ١ ص ٣ وج ٦ ص ٨٧ وج ٨ ص ٦٧ وعن صحيح مسلم ج ١ ص ٩٧ والمستدرك للحاكم ج ٣ ص ١٨٣ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ٦ وشرح صحيح مسلم للنووي ج ٢ ص ١٩٧ وفتح الباري ج ١٢ ص ٣١٨ والديباج على مسلم ج ١ ص ١٨٢ ومسند أبي داود الطيالسي ص ٢٠٧ والمصنف للصنعاني ج ٥ ص ٣٢١ ومسند ابن راهويه ج ٢ ص ٣١٤ وراجع كتاب الأوائل لابن أبي حاتم ص ٨٨ والذرية الطاهرة النبوية ص ٣٤ وأسباب نزول الآيات ص ٥ والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج ٢٠ ص ١١٨ وتفسير القرآن العظيم لابن كثير ج ٣ ص ٢٥ وج ٤ ص ٥٦٤ والدر المنثور ج ٦ ص ٣٦٨ والثقات ج ١ ص ٤٩ وأسد الغابة ج ١ ص ١٨ وج ٥ ص ٤٣٦ وتذكرة الحفاظ للذهبي ج ٣ ص ١١١٧ وسير أعلام النبلاء ج ١٧ ص ٦٣٠ والبداية والنهاية ج ٣ ص ٥ و ٧ و ٩ و ١٤٢ وج ٤ ص ٢٥٨ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ١ ص ٤٧٦ وج ٢ ق ٢ ص ٦ والعدد

٦٤

طرائق الوحي للأنبياء «عليهم‌السلام» ، حسبما تقدم.

والرؤيا هي من وسائل هداية البشر ، وتذكيرهم بالله ، وهي رحمة إلهية لهم ، ولأجل ذلك تجد أنه حتى الذي لا يبالي كثيرا بأمور دينه يحدثك عن أنه رأى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أو رأى أحد الأئمة الطاهرين «عليهم‌السلام» ، أو رأى الجنة ، أو النار ، أو غير ذلك مما من شأنه أن يذكّره بالله ، وبالآخرة.

كما أن الكثير من هؤلاء يتأثرون بما يرونه فيتوب بعضهم إلى الله تعالى ، ويؤوب إليه سبحانه ، ويعيد النظر في حساباته.

وقد ورد في الأحاديث الشريفة ما يدل على ذلك أيضا ، فقد روي عن الإمام أبي جعفر «عليه‌السلام» : أن الرؤيا الصالحة من البشارات المقصودة في قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ ، لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ..) (١).

وعن فائدة الرؤيا ودورها في هداية الناس ، وفي تذكيرهم نقول :

روي عن الصادق «عليه‌السلام» أنه قال : «إذا كان العبد على معصية الله عزوجل ، وأراد الله به خيرا ، أراه في منامه رؤيا تروعه ، فينزجر بها عن تلك المعصية ، وإن الرؤية جزؤ من سبعين جزءا من النبوة» (٢).

__________________

ـ القوية ص ٣٤١ وعن عيون الأثر ج ١ ص ١١٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ١ ص ٣٨٥ و ٣٨٧ و ٤٠٤ وج ٢ ص ١٠٦ وج ٣ ص ٤٢٩ وسبل الهدى والرشاد ج ١ ص ١٥ و ١٦ وج ٢ ص ٢٢٨ و ٢٣٢.

(١) البحار ج ٥٨ ص ١٥٢ وراجع : مجمع البيان ج ٥ ص ١٢٠.

(٢) الإختصاص ص ٢٤١ وهناك نصوص مختلفة ومتنوعة دلت على ذلك فراجع :

البحار ج ٥٨ ص ١٦٧ إلى آخر ذلك الفصل.

٦٥

لماذا الصدق والكذب في الرؤيا؟! :

ويدل على خصوصية التدبير الإلهي فيما يتعلق بارتباط الرؤيا بالواقع ، وصدقها تارة ، وعدم صدقها أخرى ما روي عن الإمام الصادق «عليه‌السلام» أنه قال للمفضل :

«فكر يا مفضل في الأحلام ، كيف دبر الأمر فيها!! فمزج صادقها بكاذبها ؛ فإنها لو كانت كلها تصدق ، لكان الناس كلهم أنبياء ..

ولو كانت كلها تكذب لم يكن فيها منفعة ، بل كانت فضلا لا معنى له.

فصارت تصدق أحيانا ، فينتفع بها الناس في مصلحة يهتدى لها ، أو مضرة يتحذر منها. وتكذب كثيرا ، لئلا يعتمد عليها كل الاعتماد» (١).

إذا تم الإيمان رفعت الرؤيا :

وجاء في الحديث الذي ذكر قصة الحسن بن عبد الله ، وأنه اهتدى على يد أبي الحسن موسى بن جعفر صلوات الله وسلامه عليه ، قوله : «وكان قبل ذلك يرى الرؤيا الحسنة ، وترى له ، ثم انقطعت عنه الرؤيا. فرأى ليلة أبا عبد الله «عليه‌السلام» فيما يرى النائم ؛ فشكى إليه انقطاع الرؤيا ، فقال : لا تغتم ، فإن المؤمن إذا رسخ في الإيمان رفع عنه الرؤيا» (٢).

وهذا يشير إلى أن الهداية إذا تمت لم يعد للرؤيا حاجة.

__________________

(١) البحار ج ٥٨ ص ١٨٣ وج ٣ ص ٨٥ وتوحيد المفضل ص ٤٣ وراجع : مستدرك سفينة البحار ج ٢ ص ٨٤ وج ٤ ص ١٩.

(٢) البحار ج ٥٨ ص ١٨٩ وج ٤٨ ص ٥٣ وبصائر الدرجات ص ٢٧٥.

٦٦

وهذا في غير ما يراه الأنبياء «عليهم‌السلام» ، حيث إن رؤياهم صلوات الله وسلامه عليه من طرائق الوحي إليهم ، حسبما أشرنا إليه.

سبب وضع الرؤيا :

عن الحسن بن عبد الرحمن ، عن أبي الحسن «عليه‌السلام» ، قال : إن الأحلام لم تكن فيما مضى من أول الخلق ، وإنما حدثت.

فقلت : وما العلة في ذلك؟!

فقال : إن الله عز ذكره بعث رسولا إلى أهل زمانه ، فدعاهم إلى عبادة الله وطاعته.

فقالوا : إن فعلنا كذا ، فما لنا؟! فو الله ، ما أنت بأكثرنا مالا ، ولا بأعز عشيرة.

فقال : إن أطعتموني أدخلكم الله الجنة ، وإن عصيتموني أدخلكم الله النار.

فقالوا : وما الجنة؟ وما النار؟!

فوصف لهم ذلك ، فقالوا : متى نصير إلى ذلك؟!

فقال : إذا متم.

فقالوا : لقد رأينا أمواتنا صاروا عظاما ورفاتا ..

فازدادوا له تكذيبا ، وبه استخفافا.

فأحدث الله عزوجل فيهم الأحلام ، فأتوه فأخبروه بما رأوا ، وما أنكروا من ذلك.

فقال : إن الله عزوجل ذكره أراد أن يحتج عليكم بهذا. هكذا تكون

٦٧

أرواحكم إذا متم ، وإن بليت أبدانكم تصير الأرواح إلى عقاب حتى تبعث الأبدان (١).

وآخر كلمة نقولها هنا هي : أن الكثيرين ممن قد يظن ظان بأنهم قد عاشوا في بيئة الانحراف ، ولم يصل إلى مسامعهم النداء الإلهي ، ولم يكن هناك من يذكّرهم بالله تعالى ، ويخوّفهم من عقابه ، ويرشدهم إلى جزيل ثوابه ، ويعرّفهم على فواضل نعمائه ، وبديع صنعه ، وباهر آياته وآلائه .. ويلفت نظرهم إلى ألطافه ورحماته ، ونعمه ، وبركاته ..

إن هؤلاء لا يمكن الجزم بأن الله تعالى لم يرهم في منامهم ، أو في يقظتهم ، ما يرشدهم إليه ، ويدلهم عليه .. فإن لله الحجة البالغة ، والبراهين الساطعة ، والآيات البينات ، والدلالات الباهرات ..

رؤيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هي المحور :

ولسنا بحاجة إلى التأكيد على : أن من المعجزات الكبرى لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هي رؤياه في مناسبة الحديبية ، التي كانت هي الإطلاقة القوية ، وهي العامل الأعمق تأثيرا في صناعة هذا الحدث الفريد ، الذي غيّر وجه التاريخ ..

لقد بدأ النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كل إنجازه العظيم ، وكل عملية التغيير بهذه الرؤيا ، التي أثرت على روحيات أصحابه ومعنوياتهم ، ونقلتهم إلى أجواء

__________________

(١) البحار ج ٥٨ ص ١٨٩ و ١٩٠ وج ٦ ص ٢٤٣ وج ١٤ ص ٤٨٥ والكافي ج ٨ ص ٩٠ وشرح أصول الكافي ج ١١ ص ٤٧٤ وتفسير نور الثقلين ج ٢ ص ٤١٠ وقصص الأنبياء للجزائري ص ٥١٥.

٦٨

جديدة فيها الكثير من الصور الرائعة ، التي باتت تراود خواطرهم ، ويحتاج الربط فيما بينها إلى نظام علاقات تتبلور فيه خصائصها ، وتنسجم فيه ميزاتها ، وتتعانق ملامحها ، وتتجاذب أطياف السعادة آفاقها الرحبة ..

وهذه الرؤيا بالذات ، وطريقة تداولها ، هي التي أربكت حركة النفاق وفضحت المنافقين ..

ووضعت إيمان أهل الإيمان على المحك ، فنجح من نجح عن جدارة واستحقاق.

وأخفق من أخفق عن تقصير ، وعن قلة تدبير ، وخطل رأي ، وخمول ضمير ..

هذا بالإضافة إلى أن هذه الرؤيا قد جرّت أهل الشرك والكفر إلى مزالق خطيرة ، لم يحسبوا لها حسابا ، ووضعتهم في مواقع الحيرة والتيه ، حتى أظهر الله الحق ، وأهل الحق. وفتح الله لنبيه فتحا مبينا ، فتح به القلوب ، وأزال كل رين وريب منها وعنها ، وكشف عن الأبصار وعن البصائر كل الغشاوات ، وبطلت الترهات ، وفضحت الأضاليل ، والأباطيل ، وأسفر الصبح لذي عينين.

فكانت هذه الرؤيا ـ المعجزة ـ هي الحجة البالغة ، والبرهان القاطع ، والبلسم الشافي ، ولله الحمد ..

إستنفار العرب .. ومراسم السفر :

وعن الحركة العملية لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نقول :

١ ـ إنهم يقولون : قد اغتسل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قبل

٦٩

الشروع في السفر ، ولبس ثوبين ، وركب راحلته من عند باب بيته ..

ولعل هذه التصرفات التي لم تعهد منه في سائر أسفاره ، هي للتأكيد على أن هذا السفر يختلف عن غيره مما سبقه ، فهو سفر له حرمته ، وله مراسمه الخاصة به ، التي تتوافق مع حالة التعظيم والتقديس لبيت الله عزوجل ، من حيث إنه يمهد لإطلالة على واحة من العبادات الروحية بما يناسبها من حركات ، وتصرفات ..

وقد ظهر من رؤياه التي أخبر بها أصحابه ، ومن إعلانه لوجهة سيره ، أن الهدف هو أداء مراسم العمرة ، ما يؤكد هذه الحقيقة ، ويزيل أي احتمال في أن تكون هناك أهداف قتالية ، وعمليات حربية ..

بل إن قوله في رؤياه : إنه يعرّف مع المعرّفين ، أي أنه يحضر عرفة ، دليل قاطع على أن المراد ليس هو العمرة ، وإنما هو أداء مراسم الحج التي تتضمن الوقوف بعرفات. وليس في العمرة ذلك.

فإخباره لهم : أنه يريد العمرة دليل على أن هذا السفر ليس هو التعبير لتلك الرؤيا التي أخبرهم بها. فما معنى امتناعهم عن الإحلال حينما أمرهم بذلك؟! وما معنى استدلالهم عليه بتلك الرؤيا التي تضمنت إسقاط دعواهم هذه بصورة دقيقة وصريحة؟!

وقد أكد هذه الأجواء أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أحرم من ذي الحليفة ، وصلى بالمسجد الذي بها ركعتين ، وركب من باب المسجد هناك ، وانبعثت به راحلته ، وهو مستقبل القبلة ، وأشعر البدن هناك وهي موجهات إلى القبلة ، وقلدها ، وكذلك فعل المسلمون معه.

فهذه الأجواء كلها تشير إلى أنه لا يريد حرب أحد ، فإن المحرم لا يحارب.

٧٠

٢ ـ وكل ذلك يجعل مشركي مكة أمام خيار صعب ، ومحرج ، فإن البيت للناس كلهم ، وهؤلاء القوم قد جاؤوا لزيارة بيت ربهم ، فكيف يمكن دفعهم عنه ، فضلا عن مواجهتهم بالحرب؟! بل كيف يمكن منعهم من تأدية مناسكهم ، ولو من دون قتال؟!

إن ذلك سيفضح قريشا بين العرب ، وسوف يقلل من مستوى الثقة بها ، وسيظهر المسلمين أنهم مظلومون وممنوعون من أبسط حقوقهم ..

خصوصا ، وأن هذا الإجراء قد جاء في الأشهر الحرم التي يمنع القتال فيها ، من كل أحد. وقد كانت قريش بالذات بحاجة إلى هذه الأشهر ، من أجل مراجعة علاقاتها مع المحيط الذي تعيش فيه ، ثم من أجل تجاراتها في موسم الحج ، والتأكيد على ارتباطاتها ، وعلاقاتها وتحالفاتها مع القبائل الوافدة .. ليكون لها بذلك بعض القوة في حربها مع محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الذي لم يزل يسجل عليها النصر تلو النصر ، ولم تزل تخسر مواقعها لصالحه ، وينحسر نفوذها عنها ليحتل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مواقع هذا النفوذ ، ولكن دون أن تتمكن من انتزاع تلك المواقع منه ، لأنه يحتلها بالدين ، وبالإيمان ، ويكون التزام الناس معه من موقع التقديس له ، والطاعة لله تعالى ، لا لأجل المصالح الفردية ، والفئوية ، أو القبلية ، ولا لغير ذلك من غايات دنيوية ..

٣ ـ والأمرّ والأدهى بالنسبة لقريش : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد جاءها بجموع كثيرة من العباد ، ومن مختلف القبائل ، ومن كثير من البلاد ، ليكونوا شهودا على ما تمارسه من ظلم واضطهاد ليس ضد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وحسب ، وإنما ضدهم جميع الذين أتوا معه ، لا لذنب أتوه إليها ،

٧١

بل لمجرد أنهم يقولون : ربنا الله ..

عامل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على المدينة :

ويقولون : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد استعمل على المدينة ابن أم مكتوم.

وقيل : أبا رهم ، كلثوم بن الحصين.

وقيل : نميلة بن عبد الله الليثي ..

وقيل : استعمل ابن أم مكتوم وأبا رهم جميعا ، فكان ابن أم مكتوم على الصلاة ، وكان أبو رهم حافظا للمدينة (١).

ونقول :

إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد استعمل ابن أم مكتوم على المدينة عدة مرات .. مع أن هذا الرجل كان ضريرا ، فاختيار هذا الرجل الضرير بالذات يشير إلى أن كونه أعمى لا يسلب منه الأهلية للتصدي للأمور حتى الحساسة منها ، إذا كان فقد بصره ، أو ابتلاؤه بأية عاهة أخرى ، لا يمنع من قيامه بما يوكل إليه من مهام. فما معنى تعطيل طاقاته ، وهدر قدراته لأجلها؟!

وربما يزيد هذا الأمر وضوحا إذا كان قد تصدى ابن أم مكتوم للصلاة وغيرها من شؤون الناس .. وأوكل أمر الحراسة والحفظ إلى أبي رهم ، فإنه لا يشترط سلامة النظر في إمامة الجماعة ، ولا في تقريب وجهات النظر لحل

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٩ والسيرة النبوية لدحلان (ط سنة ١٤١٥ ه‍) ج ١ ص ١٨١ وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٣ ص ١٧٢ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٣.

٧٢

خلافات الناس ..

أسلم وغفار ، وسائر العرب :

والذي نلاحظه هنا : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد استنفر العرب ، والأعراب حول المدينة بما فيهم أسلم وغفار ، وجهينة ، ومزينة ..

وقد حدثنا عكرمة في تفسير قوله تعالى : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ ..) (١).

أن المراد بهذه الآية : جهينة ، وأشجع ، وأسلم ، وغفار (٢) وزاد بعض المفسرين مزينة (٣).

__________________

(١) الآية ١٠١ من سورة التوبة.

(٢) الدر المنثور ج ٣ ص ٢٧١ عن ابن المنذر وتفسير النسفي ج ٢ ص ١٤٢ والسراج المنير للشربيني ج ١ ص ٦٤٦ والبحار ج ٢٢ ص ٤١ وتفسير مجمع البيان ج ٥ ص ١١٤ وتفسير جوامع الجامع ج ٢ ص ٩١ وتفسير الثعالبي ج ٣ ص ٢٠٨ وفتح القدير ج ٢ ص ٤٠١ ، وورد ذلك أيضا في : أسباب النزول للواقدي ص ١٧٤ والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج ٨ ص ٢٤٠ ، وقال المعتزلي في شرح النهج : وليست هذه الآية عامة في كل الأعراب بل خاصة ببعضهم وهم جهينة وأسلم ، وأشجع ، وغفار ، فراجع : ج ١٣ ص ١٨١.

(٣) جوامع الجامع ج ١ ص ٦٢٧ والجامع لأحكام القرآن ج ٨ ص ٢٤٠ وتفسير أبي السعود ج ٤ ص ٩٧ وروح البيان ج ٣ ص ٤٩٣ ومجمع البيان ج ٥ ص ٦٦ وراجع : فتح القدير ج ٢ ص ٣٩٨ و ٤٠١ عن عكرمة ، بإضافة مزينة ، والبحار ج ٢٢ ص ٤١ وتفسير مجمع البيان ج ٥ ص ١١٤ وأسباب نزول الآيات ص ١٧٤ والدر المنثور ج ٣ ص ٢٧١ وتفسير الثعالبي ج ٣ ص ٢٠٨.

٧٣

وهذا هو ما قاله المفسرون أيضا ، وزاد الثعالبي على هؤلاء : مزينة ، وعصية ، ولحيان (١)

فإذا كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد دعا هذه القبائل وغيرها للمشاركة معه في سفره ذاك ، فإن ذلك يستبطن رفع مستوى الأمن لسكان المدينة في مدة غيابه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لأنه إذا كان لكل تلك القبائل جماعات تحت سمع وبصر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فإن الذين يبقون في ديارهم منهم سوف لن يجرؤوا على مهاجمة المدينة ، وهم يعلمون أن طائفة من قبيلتهم عند رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وتحرك المنافقين في غيابه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليس بالأمر المستبعد ففي غزوة تبوك اضطر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى أن يبقي عليا «عليه‌السلام» مكانه في المدينة خوفا من أن يتحرك المنافقون في غيبته حركة خطيرة على مستوى الأمن العام للمدينة وأهلها ..

هذا كله .. لو فرضنا : أن الذين رافقوا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في عمرته تلك هم خصوص الخلّص من مؤمني تلك القبائل ، أو خليطا منهم ومن المنافقين ، أما إذا كان المنافقون هم الذين رافقوه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لأسباب ، ومطامع معينة ، فإن احتمالات مهاجمة الباقين الذين هم في الأكثر مؤمنون ستصبح ضئيلة ، وبلا مبرر.

والنتيجة ـ على كلا الحالين ـ هي : أن هذا التدبير النبوي كان على درجة كبيرة من الأهمية ، والواقعية.

__________________

(١) تفسير الثعالبي ج ٢ ص ١٥٠.

٧٤

وسيكون من يتولى المدينة في غياب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» غير مطالب بكثير من الجهد في الحراسة والحفظ ..

لماذا تثاقل الأعراب عنه؟!

ذكرت النصوص : أن جماعات من الأعراب الذين كانوا حول المدينة ، وكذلك غيرهم قد تثاقلوا عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، خشية من قريش أن يحاربوه ، أو أن يصدوه عن البيت ، كما صنعوا ، وقالوا : أنذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة ، وقتلوا أصحابه ، فنقاتلهم؟!

واعتلّوا بالشغل بأهاليهم وأموالهم ، وأنه ليس لهم من يقوم بذلك فأنزل الله تعالى تكذيبهم في اعتذارهم هذا ، فقال : (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ..) (١).

وذكرت النصوص أيضا : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سلك طريق البيداء ، ومر فيما بين مكة والمدينة بالأعراب من بني بكر ، ومزينة ، وجهينة ، فاستنفرهم فتشاغلوا بأموالهم ، وقالوا فيما بينهم : يريد محمد يغزو بنا إلى قوم معدين في الكراع والسلاح ، وإنما محمد ، وأصحابه أكلة جزور ، لن يرجع محمد وأصحابه من سفرهم هذا أبدا ، قوم لا سلاح معهم ولا عدد (٢).

ونقول :

١ ـ ظاهر كلامهم هذا : أنهم أناس يحبون أنفسهم ، ويهتمون بمصالحهم ، وأن إيمانهم ليس خالصا ، ولا صحيحا ، لأنهم قد اتخذوا

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٩.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٣٤ وموسوعة التاريخ الإسلامي ج ٢ ص ٦٠٢.

٧٥

قرارهم بعدم المسير مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين وجدوا أن أعداءه أقوياء إلى حد أنهم غزوه في عقر داره ، وقتلوا أصحابه ..

٢ ـ إنهم قد صرحوا : بأن دعوة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لهم للعمرة هي في واقعها دعوة لهم للمشاركة في الحرب.

٣ ـ إنهم يريدون الإبقاء على خط الرجعة إلى التفاهم مع قريش ، إن كانت هي المنتصرة في نهاية الأمر ، مع كونهم آمنين جانب المسلمين لإظهارهم : أنهم على دينهم.

ولكن الله قد فضحهم بما أنزل من آيات تحكي قصتهم ، وتشير إلى مكرهم هذا ، وتدل عليه ، لكي لا يظنوا أنهم قد خدعوا الله ورسوله ، ولكنه سبحانه لم يوصل الأمور إلى نقطة اللاعودة ، بل هو يبقي الباب مفتوحا ، والمجال مفسوحا أمامهم لإعادة النظر في حساباتهم ، مقدما لهم : بإخباراته الغيبية عما أسروه من تزوير وتدبير ماكر ، الدليل المقنع لهم : بأن هذا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، متصل بالله العالم بالسرائر ، والواقف على ما في القلوب والضمائر ، ليسهل عليهم أمر التوبة والعودة إليه.

عدد المسلمين :

قالوا : «وكان الناس سبع مائة رجل.

وقيل : كانوا أربع عشرة مائة.

وقيل : خمس عشرة.

وقيل : ست عشرة.

وقيل : كانوا ألفا وثلاث مائة.

٧٦

وقيل : وأربع مائة.

وقيل : وخمس مائة وخمسة وعشرين.

وقيل : ألف وسبع مائة.

وقيل : ألف وثمان مائة» (١).

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٩ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ١٦ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٣٢٢ والمواهب اللدنية (ط دار الكتب العلمية) ج ١ ص ٢٦٦ و ٢٦٧ وجوامع السيرة النبوية لابن حزم ص ١٦٤ والمنتظم ج ٣ ص ١٦٧ وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) (ط سنة ١٤١٠ ه‍) ص ٣٦٤ و ٣٦٥ و ٣٦٦ والبدء والتاريخ ج ٤ ص ٢٢٤ وعيون الأثر (ط سنة ١٤٠٦ ه‍) ج ٢ ص ١١٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٣٢١ و ٣١٣ والسيرة النبوية لدحلان (ط سنة ١٤١٥ ه‍) ج ١ ص ٤٨١ و ٤٨٢ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ١٧١ وشرح المواهب للزرقاني ج ٣ ص ١٦٩ ـ ١٧٣ وسبل الهدى والرشاد ج ٩ ص ٧٠ و ٧١ ومسألتان في النص على علي ج ٢ ص ٢٤ ومسند أحمد ج ٤ ص ٣٢٣ و ٤٨ و ٢٩٠ وصحيح ابن خزيمة ج ٤ ص ٢٩٠ و ٢٩١ وج ١ ص ٦٦ وشرح معاني الآثار ج ٤ ص ١٧٤ ونصب الراية ج ٤ ص ٢٣٨ وجامع البيان ج ٢٦ ص ١٢٤ وتفسير القرآن العظيم لابن كثير ج ٤ ص ١٩٧ و ٢٠٠ و ٢٠٩ والدر المنثور ج ٦ ص ٢٤٤ و ٦٨ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٨٨ و ١٩٤ و ١٩٥ وعن صحيح البخاري ج ٤ ص ١٧٠ وج ٥ ص ٦٢ و ٦٣ وعن صحيح مسلم ج ٥ ص ١٩٠ وج ٦ ص ٢٥ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٥ ص ٢٣٥ وج ٦ ص ٣٢٦ وج ٩ ص ٢٢٣ وعن فتح الباري ج ٦ ص ٤٦٧ وج ٧ ص ٣٣٩ وج ١٠ ص ٨٨ وصحيح ابن حبان ج ١١ ص ١٢٧ وج ١٤ ص ٤٧٩ ودلائل النبوة ص ١٢٠ والطبقات الكبرى ج ١ ص ١٧٩ وج ٢ ص ٩٩ و ١٠٠ وتاريخ خليفة بن خياط ص ٤٨

٧٧

ونقول :

قد يقال : إن الرواية القائلة : إن الذين ساروا معه كانوا سبع مائة رجل هي الراجحة ، فقد روى البخاري ، وغيره عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قوله : «اكتبوا لي كل من تلفظ بالإسلام ، فكتب حذيفة بن اليمان له ألفا وخمس مائة رجل».

وفي رواية : ونحن ما بين الست مائة إلى السبع مائة.

قال الدماميني : قيل : كان هذا عام الحديبية (١).

وإنما رجحنا رواية السبع مائة ، لأن المفروض : أن كثيرا من العرب وكذلك غيرهم من الأعراب حول المدينة ، وكذلك جماعات من أهل المدينة أنفسهم ، لم يسيروا معه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في وجهه ذاك ، حسبما قدمناه ..

مع ملاحظة : أن كثيرين ممن أسلموا كانوا في أرض الحبشة آنئذ.

ومع ضرورة إبقاء جماعة قادرة على حراسة المدينة في غيابه «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

__________________

و ٤٩ والشفا بتعريف حقوق المصطفى ج ١ ص ٢٨٦ و ٢٨٨ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٨ ص ٥١٢ وتأويل مختلف الحديث ص ٢١٩ ودلائل النبوة ص ١٢١ ونظم درر السمطين ص ٧١ وكنز العمال ج ١٢ ص ٣٦٧ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣٦ ص ٤٣٦.

(١) راجع : صحيح البخاري ج ٢ ص ١١٦ وصحيح مسلم ج ١ ص ٩١ ومسند أحمد ج ٥ ص ٣٨٤ وسنن ابن ماجة ج ٢ ص ١٣٣٧ والتراتيب الإدارية ج ٢ ص ٢٥١ و ٢٥٢ وج ١ ص ٢٢٠ ـ ٢٢٣ وعن المصنف لابن أبي شيبة ج ١٥ ص ٦٩.

٧٨

هل المدينة في خطر؟!

ويبقى أمام الباحث أمر هام ، وهو أنه لابد من اكتشاف العناصر الأساسية ، التي من خلالها انطلق القرار النبوي بدعوة الناس إلى العمرة ، والخروج من المدينة بمعظم العناصر القادرة على الحماية ، والمؤثرة في حسابات القوة والضعف ، حتى خلت المدينة أمام الطامعين والطامحين ، والحاقدين والموتورين من قبائل الشرك في المنطقة ..

وخلت أيضا أمام يهود خيبر ، الذين يبعدون عنها حوالي ثمانين ميلا ، والذين قد يقال : إنهم كانوا قادرين على دخول الحرب مع الإسلام والمسلمين بعشرة ألاف مقاتل ، إن لم يكن من اليهود وحدهم ، فمنهم ومن القبائل المتحالفة معهم في المنطقة ..

واليهود من أشد الناس حقدا على الإسلام ، بعد أن رأوا ما حل بإخوانهم بني النضير ، وقينقاع ، وقريظة ..

فكيف أمكن أن يتخذ النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قراره بالخروج بأكثر المقاتلين إلى هذه المسافات البعيدة ، وترك المدينة في هذا المحيط المعادي ، الذي يتربص بها الدوائر؟!.

ولعلنا نستطيع أن نجيب على هذه التساؤلات على النحو التالي :

١ ـ أما بالنسبة لقبائل العرب المحيطة بالمدينة فإن السرايا الكثيرة التي حركها الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قبل الحديبية مباشرة لضرب القوة المعادية ، والمتآمرة والمتربصة بهم شرا قد حسمت الأمور مع هؤلاء الأعداء ، بصورة تامة .. وقد أضعفتهم وشلت حركتهم من الناحية الاقتصادية .. وأرعبتهم ، وأسقطت كبرياءهم ، وجعلتهم يعيشون حالة اليأس من إمكانية

٧٩

النيل من هذه القوة الضاربة ، وأدركوا أن التمادي في التصدي لها لا يفيد إلا تعريض أنفسهم للمزيد من النكبات ، والبلايا ، والرزايا.

فالرأي الصواب هو : أن ينأوا بأنفسهم عن التعرض لها ، حتى حينما تخلو ربوعها من المقاتلين ، لأن مهاجمتهم للمدينة سوف يصاحبه تعرضهم لمن تبقّى فيها من النساء ، والأطفال ، وسبيهم ، واستلاب أموالهم ، ذلا شاملا ، وعقابا صارما وحازما ، لا طاقة لأحد به ، فقد عوّدهم المسلمون : أنهم يلاحقون من يعتدي عليهم ، وينزلون به القصاص العادل ولا يستطيع أن يفوتهم في كل زمان ومكان ..

٢ ـ وأما بالنسبة لليهود فالأمر لا يختلف عن ذلك أيضا ..

وقد جرب إخوانهم من بني النضير ، وقينقاع وقريظة ، نقض العهود ، والتحدي والتعدي على المسلمين ، فنزلت بهم الضربات الماحقة والساحقة ، في مرات ثلاث ، كانت كل واحدة أقسى عليهم من سابقتها ..

ولا يزال يهود خيبر ، وتيماء وغيرهما يعيشون الهلع من أن يكون مصيرهم هو نفس مصير أولئك .. وقد نبههم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بصورة قوية وحاسمة حينما جربوا القيام بخطوات عملية تؤدي إلى توجيه ضرباتهم للمسلمين ، فقد أنزل المسلمون ضربتهم القاضية بزعمائهم الغادرين ، الذين تصدوا لهذا الأمر .. فقتلوا أبا رافع سلام بن أبي الحقيق وأسير بن رزام .. وغيرهما ممن تقدم الحديث عنهم في هذا الكتاب.

٣ ـ ومن جهة أخرى ، فإن التجارب قد أظهرت لهم : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يترك لهم ولا لغيرهم ثغرة ينفذون منها تمكنهم من الإيقاع بالمسلمين بسهولة ، بل هو يراعي أدق التفاصيل ، ولا يهمل الاحتياط لأي طارئ.

٨٠