الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٥

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٥

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-171-8
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٢

بالمشركين .. ولسنا هنا بصدد البحث عن أمر كهذا ..

مكرز بن حفص مرة أخرى :

هذا وقد ذكرت النصوص : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أجاب مكرز بن حفص بنفس ما أجاب به عروة بن مسعود ، وبديل بن ورقاء ، والحليس ..

ويظهر من الروايات أيضا : أن مكرزا قد جاء بعد هؤلاء ..

ولكننا نقول :

قال اليعقوبي : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أبى أن يكلم مكرزا ، وقال : هذا رجل فاجر ، فبعثوا إليه الحليس بن علقمة (١).

وعدم تكليم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لمكرز بن حفص هو الأنسب بالوصف الذي أطلقه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على هذا الرجل ، وهو : أنه فاجر.

كما أن ظاهر كلام اليعقوبي هو : أن إرسال الحليس إنما كان بعد إرسال مكرز ، وهذا هو الأنسب أيضا ، حيث يتوقع أن يكون البديل عن الرجل الفاجر رجلا يتأله ، ويعظم البيت ، ويؤمن بالشعائر ..

مسلمون دخلوا مكة ، فأخذوا :

وقد ذكرت الروايات المتقدمة : أسماء عشرة أشخاص دخلوا مكة بإذن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله». وقد اختلفوا في طريقة دخولهم ، هل كان

__________________

(١) راجع : تاريخ اليعقوبي (ط دار صادر) ج ٢ ص ٥٤.

٣٢١

سرا؟! أم دخلوا في أمان عثمان؟!

ونرجح : أن يكون دخولهم سرا ، لتصريح الرواية : بأنهم «أخذوا» ، فإنهم لو كانوا قد دخلوا في أمان عثمان فلماذا أخذتهم قريش؟ وإذا كان قد بدا لها أن تأخذهم ، فلماذا لم يبد لها أن تأخذ عثمان معهم؟! ولم يكن في عثمان ما يميزه عنهم عندها ، بل قد يكون أخذه هو الأولى بالنسبة إليها ولا سيما مع تكفل كل قبيلة بالتصدي لمن يسلم من أبنائها ، حسبما تقدم.

وإذا كان عثمان قد دخل في جوار أبان ، فلماذا لم يطلب منه أن يجير رفقاءه معه؟! وهل من المروءة أن يؤمن نفسه ، ويترك رفقاءه؟!

وإذا كانوا قد دخلوا في أمانه وفي جواره ، فكيف رضي من أجارهم أن يؤخذوا؟!

وقد تقدم : أنه ليس ثمة ما يدل على : أن أحدا منهم قد طاف بالبيت ، ولا ظهر في شيء من النصوص التي بين أيدينا : أن قريشا قد سمحت لهم بذلك ، فرفضوه أو قبلوه ، كما يزعمونه بالنسبة لعثمان ..

ولم يظهر أيضا من النصوص : أنهم شاركوا عثمان في أي نشاط ، فلم تشر إلى ذهابهم معه لزيارة بيوت المؤمنين ، أو دخولهم على زعماء قريش لإبلاغ رسالة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

وهذا كله يقرب احتمال أن يكونوا قد دخلوا إلى أهاليهم سرا ، فكانوا عندهم ، فنمي أمرهم إلى قريش ، فأخذتهم.

هم عتقاء الله :

ومن أهم ما حدث في هذه الأثناء : أن أعدادا من الأرقاء والعبيد الذين

٣٢٢

كانوا في مكة ، وبعضا من المستضعفين من قريش ، كانوا قد لحقوا بالمسلمين قبل عقد الصلح ، فكتبت قريش إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يعيدهم إليها وجاء في الكتاب :

«والله ، ما خرجوا إليك رغبة في دينك ، وإنما خرجوا هربا من الرق».

فرفض النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» طلبهم وقال : «هم عتقاء الله ..»

وطلب منه سهيل بن عمرو ذلك أيضا ، وقال له : قد خرج إليك ناس من أبنائنا وأرقائنا ، وليس بهم فقه في الدين وإنما خرجوا فرارا من أموالنا وضياعنا ، فارددهم إلينا ..

فقال ناس : صدقوا يا رسول الله ، ردهم إليهم.

فغضب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من ذلك ، وقال :

«ما أراكم تنتهون ، يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم ، من يضرب رقابكم على هذا ، وأبى أن يردهم.

قال : هم عتقاء الله» (١).

__________________

(١) راجع : جامع الأصول ج ٩ ص ٢٢٣ والبحار ج ٢١ ص ١٦٨ وج ٢٠ ص ٢٦٤ و ٢٤٤ عنه وعن إعلام الورى ص ١٩١ ، وسنن أبي داود ج ١ ص ٦١٢ والمستدرك للحاكم ج ٢ ص ١٢٥ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ٢٢٩ وج ١٠ ص ٣٠٨ وعون المعبود ج ٧ ص ٢٦٣ وكنز العمال ج ١٠ ص ٤٧٣ والمنتقى من السنن المسندة ص ٢٧٥ والمعجم الأوسط ج ٤ ص ٣١٦ ونصب الراية ج ٤ ص ١٦ و ١٧ و ٣٠٩.

٣٢٣

لا ، ولكنه خاصف النعل :

وحسب نص آخر :

قالوا : «وفي هذه الغزاة أقبل سهيل بن عمرو إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال له : يا محمد ، إن أرقاءنا لحقوا بك ، فارددهم علينا.

فغضب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حتى تبين الغضب في وجهه ، ثم قال : لتنتهن ـ يا معشر قريش ـ أو ليبعثن الله عليكم رجلا امتحن الله قلبه للإيمان ، يضرب رقابكم على الدين.

فقال بعض من حضر : يا رسول الله ، أبو بكر ذلك الرجل؟!

قال : لا.

قيل : فعمر؟!

قال : لا ، ولكنه خاصف النعل في الحجرة.

فتبادر الناس إلى الحجرة ينظرون من الرجل!! فإذا هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» ..».

وروى جماعة هذا الحديث عن أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، وقالوا فيه : إن عليا قص هذه القصة ، ثم قال : سمعت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقول : من كذب عليّ معتمدا فليتبوأ مقعده من النار.

وكان الذي أصلحه أمير المؤمنين من نعل النبي «صلى الله عليهما وآلهما» شسعها ، فإنه كان انقطع ، فخصف موضعه ، وأصلحه» (١).

__________________

(١) الإرشاد للمفيد (ط مؤسسة آل البيت) ج ١ ص ١٢٢ و ١٢٣ ، وأشار في هامشه إلى : كفاية الطالب ص ٩٦ ومصباح الأنوار ص ١٢١ وباختلاف يسير في سنن

٣٢٤

ونلاحظ هنا ما يلي :

١ ـ إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد غضب إلى هذا الحد ، انتصارا منه لأناس مستضعفين ، ظلمهم أسيادهم بحرمانهم من حق الحرية الإعتقادية والدينية.

ولا يقف الأمر عند هذا الحد ، بل هو يهدد قريشا ، التي كانت ترى نفسها سيدة المنطقة العربية بأسرها ، وترى أن لها الحق ـ من موقعها الديني ، وكذلك من موقع مالكيتها لأولئك الأرقاء ـ أن يكون القرار الأول والأخير بالنسبة لأرقائها بيدها ، لا ينازعها فيه أحد ..

والناس يعترفون لها بهذا وذاك ، ويقرونها على ما تزعمه لنفسها ..

نعم ، إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليس فقط لا يعترف لها بشيء مما تزعمه لنفسها ويزعمه الناس لها في هذا الاتجاه وذاك ، وإنما هو يعطي لنفسه الحق في شن حرب كاسحة ، ومدمرة ، يريد لها أن تنتهي بضرب رقاب نفس هؤلاء الأسياد المتسلطين ، حتى لو كانوا من قريش ، أو كانوا سدنة البيت ،

__________________

الترمذي ج ٥ ص ٢٩٧ وإعلام الورى ص ١٩١ وفي (ط أخرى) ص ٣٧٢ وتاريخ بغداد ج ١ ص ١٣٣ والمستدرك على الصحيحين ج ٤ ص ٢٩٨ والبحار ج ٢٠ ص ٣٦٠ و ٣٦٤ وج ٣٢ ص ٣٠١ وج ٣٦ ص ٣٣ وج ٣٨ ص ٢٤٧ والإفصاح ص ١٣٥ والعمدة لابن البطريق ص ٢٢٤ وعوالي اللآلي ج ٤ ص ٨٨ وكتاب الأربعين للماحوزي ص ٢٤١ ودرر الأخبار ص ١٧٤ وخصائص الوحي المبين لابن البطريق ص ٢٣٩ وموسوعة التاريخ الإسلامي ج ٢ ص ٦٢٣ والمناقب للخوارزمي ص ١٢٨ وكشف الغمة ج ١ ص ٢١١ ونهج الإيمان ص ٥٢٣ وكشف اليقين ص ١٠٦.

٣٢٥

لمجرد ضمان حرية الفكر والعقيدة حتى لمن هم عبيد أرقاء لهم ، وقد اشتراهم أولئك الناس بأموالهم.

٢ ـ إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يهدد قريشا بطريقة تجد فيها الشواهد على جدية ذلك التهديد ، وأنه يسير باتجاه التنفيذ ، حيث صرح لها : بأن من يتولى تنفيذ هذا القرار هو من نفذ مهمات مشابهة بكل دقة وأمانة وحزم .. ولم تزل تشهد قريش والمنطقة بأسرها آثار جهده وجهاده ، طاعة لله ولرسوله ..

٣ ـ إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يصوغ هذا التهديد بطريقة تستدعي طرح الأسئلة لمعرفة المزيد من الأوصاف ، أو تدعو للتصريح باسم هذا الذي أشار إليه ..

٤ ـ ولا ندري ، فلعل طرح اسمي أبي بكر ، وعمر ، ليجيب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بنفي أن يكونا مرادين في كلامه ، قد جاء من قبل شخص يريد أن يسمع الناس هذا التصريح ، لقطع دابر الكيد الإعلامي الذي قد يمارسه ذلك الحزب الذي عرف بالانحراف عن علي «عليه‌السلام» منذ بدايات الهجرة ، وربما قبل ذلك أيضا.

ولعل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد عرّف بعض أهل السر عنده بما يدبره هؤلاء في الخفاء ، مما له مساس بمستقبل الدين والأمة ، فكان بعض أهل السر يشعرون بأنه لا بد من إيضاح الأمور للناس بطريقة أو بأخرى ليتحملوا مسؤولياتهم ، بعد أن تكون الحجة عليهم قد تمت ..

٥ ـ ويسجل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هذا الوسام الرائع لأمير المؤمنين «عليه‌السلام» في إطار فريد ورائع ، حين بيّن أن هذا الذي يستطيع أن يضرب رقاب قريش على الدين ليس ممن يرغب في شيء من حطام

٣٢٦

الدنيا ، وليس هو ممن يميّزون أنفسهم عن الآخرين .. وهو إنسان لا يمدح بكثرة المال ، ولا بشيء مما يمدح به الآخرون. ولا يحتاج في استحضار صورته إلى أي إطار تظهر عليه الألوان ، والأشكال ، والزخرفات ، بل هو يظهر في صورته وهو يخصف نعلا .. وهي صورة لا يتوقعون ظهور الحاكم والرئيس فيها في أي من الظروف والأحوال.

واللافت : أن هذا النعل الذي يخصفه ليس له ، وإنما هو لغيره ، إنه لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. الأمر الذي يشير إلى طبيعة نظرته لنفسه ، ويؤكد صحة ما يلهج به ، حيث يقول : أنا عبد من عبيد محمد (١).

٦ ـ إن قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «هم عتقاء الله» يستبطن أمرين :

أحدهما : أنه ليس هو المسؤول عنهم ، ولا المطالب بهم ، بل هم الذين خرجوا وفروا من سلطان قريش ، وليس لقريش أن تطالبه بأن يبسط سلطتها على أرقائها ، ولا استنابته بملاحقتهم كلما هربوا منها.

وبنود صلح الحديبية لا تشمل هؤلاء ؛ لأنهم قد هربوا من قريش قبل عقده ، والصلح إنما يعالج الحالات التي تحدث بعد توقيعه.

الثاني : أن إسلامهم هو الذي أعتقهم ، فإن العبد إذا أسلم في دار الحرب قبل مولاه ، فالمروي : أن ذلك من أسباب عتقه. خصوصا إذا خرج

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ٩٠ وشرح أصول الكافي ج ٣ ص ١٣٠ و ١٣١ والإحتجاج ج ١ ص ٣١٣ وعوالي اللآلي ج ١ ص ٢٩٢ والفصول المهمة في أصول الأئمة ج ١ ص ١٦٨ والبحار ج ٣ ص ٢٨٣ ونور البراهين ج ١ ص ٤٣٠ ومستدرك سفينة البحار ج ٧ ص ٦٤ وميزان الحكمة ج ١ ص ١٤٤ وج ٤ ص ٣٢٠٧ وتفسير نور الثقلين ج ٥ ص ٢٣٣.

٣٢٧

إلى دار الإسلام قبله (١).

وهؤلاء قد أسلموا وخرجوا إلى دار الإسلام قبل أسيادهم ، وهذا معناه : أنه لا سلطة لقريش عليهم لأنهم خرجوا عن صفة الرق. فلا يجوز لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يرجعهم إليه ، أو أن يساعد على ذلك ؛ لأن ذلك عدوان عليهم ومصادرة لحرياتهم ، بل أصبح من واجبه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الدفاع عنهم والمنع من ظلمهم ومن استعبادهم.

مبرر الإعلان عن بيعة الرضوان :

وبعد ما تقدم نقول :

إن المبرر المعقول والمقبول هو : أن يكون السبب القريب في الدعوة إلى بيعة الرضوان :

١ ـ أخذ قريش لعشرة من المسلمين دخلوا مكة ..

٢ ـ إرسال جماعات ليلية تسعى لاختطاف أشخاص ، أو القيام باغتيالات ، قد يكون بعضها بالغ الخطورة ، وقد أخذ المسلمون منهم خمسين رجلا.

٣ ـ حصول مناوشات وصدامات بين جماعة من المشركين والمسلمين ، انتهت بأسر اثني عشر رجلا من المشركين ..

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٩ ص ٢٢٩ و ٢٣٠ وراجع : تهذيب الأحكام ج ٦ ص ١٥٢ والنهاية للطوسي ص ٢٩٥ والوسائل كتاب الجهاد ج ١١ ص ٨٩ والتنقيح الرائع ج ٣ ص ٢٥٦ والسرائر ج ٢ ص ١٠ و ١١ ومسالك الأفهام ج ١٠ ص ٣٥٧ و ٣٥٨ وشرائع الإسلام كتاب العتق وكتاب الجهاد ، وكنز العرفان (ط مؤسسة آل البيت) ج ٢ ص ١٢٩ وعوالي اللآلي ج ٣ ص ١٨٧.

٣٢٨

٤ ـ قتل ابن زنيم ، الذي اطلع الثنية من الحديبية ، فرماه المشركون فقتلوه. ثم إصرار قريش : على أنها لن تمكّن المسلمين من دخول مكة ..

٥ ـ إصرارها على استعادة هؤلاء الأرقاء الذين أسلموا والتحقوا بالمسلمين ، حيث أراد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يفهم قريشا : أنه على استعداد للدخول في الحرب من أجل هؤلاء.

٦ ـ الضغط على قريش لتستجيب إما لتمكينهم من زيارة بيت ربهم ، أو ترضى بإعطاء العهد ، والوعد لهم بذلك في السنة القادمة.

فمن أجل كل ذلك جاءت الدعوة إلى بيعة الرضوان ، التي تعطي الانطباع لقريش عن أن المسلمين يد واحدة مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وعن غير ذلك من أمور.

النساء .. والبيعة :

ولا ندري كم كان عدد النساء اللاتي حضرن في الحديبية ، غير أن مما لا شك فيه ، هو : أن أخذ النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» البيعة منهن له العديد من الدلالات .. وهي التالية :

١ ـ إنه يؤكد على حقيقة : أن الحرب حين تكون مصيرية ، فإن مشاركة النساء ، وحتى الأطفال تصبح أمرا لا بد منه ، ولا غنى عنه.

٢ ـ إنه عدا عن أن ذلك يتضمن تكريما لعنصر المرأة ، فإنه يعد إعلانا بأن عليها أن تشارك في حماية المجتمع الإيماني ، بما تقدر عليه مما يتناسب مع طبيعة تكوينها وقدراتها ، ولا تخرج عما قرره الشارع لها من طريقة حياة ، وما شرعه لسلوكها من أحكام ..

٣٢٩

٣ ـ إن ذلك يظهر تصميم المجتمع الإيماني على الحصول على حقوقه ، ويشير إلى قريش بحقيقة : أن الأمر ليس صراعا على النفوذ ، بهدف الحصول على مكاسب لفريق يريد أن يجعل من نفسه حاكما ومهيمنا ..

بل القضية أكبر من ذلك ، وأخطر ، فإن المجتمع الإيماني يرى : أنه إنما يطالب بحقوقه من حيث إن عناصره يحملون صفة الإنسانية ، فكل من له هذه الصفة فلا بد من أن ينال حقوقه بغض النظر عن خصوصياته الفردية ، مثل اللون ، أو العرق ، أو السن ، أو غير ذلك.

وقد عبّر عن ذلك عروة بن مسعود ، حين قال لقريش : «والله لقد رأيت معه نساء ما كنّ ليسلمنه على حال» (١).

وهذا يفسر لنا : أخذه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» البيعة منهن بالطريقة التي تناسب حالهن ، وتراعي الأحكام الشرعية معهن ، فقد قال الشيخ المفيد «رحمه‌الله» :

«وكان أمير المؤمنين «عليه‌السلام» المبايع للنساء عن النبي «عليه‌السلام». وكانت بيعته لهن يومئذ : أن طرح ثوبا بينه وبينهن ، ثم مسحه بيده. فكانت مبايعتهن للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بمسح الثوب ، ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يمسح ثوب علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» مما يليه ..» (٢).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٤٥.

(٢) الإرشاد للمفيد (ط مؤسسة آل البيت) ج ١ ص ١١٩ والبحار ج ٢٠ ص ٣٥٨ وموسوعة التاريخ الإسلامي ج ٢ ص ٦٢٢.

٣٣٠

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يتفاءل بالاسم :

وقد قرأنا فيما سبق : أنه لما جاء سهيل بن عمرو ورآه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. قال لأصحابه : سهل أمركم.

وهذا يستبطن أحد أمرين ، أو كليهما ، وهما :

١ ـ أن يكون «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أراد مجرد التفاؤل بالاسم ، من حيث إن كلمة سهيل مأخوذة من السهولة ، بغض النظر عن طبيعة سهيل بن عمرو في نفسه.

٢ ـ أن يكون سهيل بن عمرو بالذات سهلا في تعامله مع الآخرين ..

هذا ، وقد جاء في النصوص : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يحب الفأل الحسن ، ويكره الطيرة (١).

والفأل ضد الشؤم ، وهو : أن يسمع كلاما أو يرى أمرا فيستبشر به ، ويتوقع لأجله أمرا حسنا ، كما لو سمع كلمة يا سالم ، فيتوقع السلامة ، أو

__________________

(١) راجع : مكارم الأخلاق ، الطبعة الأولى ج ١ ص ١٩١ والبحار ج ٩٢ ص ٢ و ٣ وفي ج ٧٤ ص ١٦٥ : إن الله تعالى يحب الفأل الحسن ، وعوالي اللآلي ج ١ ص ٢٩١ وميزان الحكمة ج ٢ ص ١٧٦٠ وج ٣ ص ٢٣٤٨ ومسند أحمد ج ٢ ص ٣٣٢ وسنن ابن ماجة ج ٢ ص ١١٧ وعن فتح الباري ج ١٠ ص ١٨١ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٦ ص ٢٢٥ وصحيح ابن حبان ج ١٣ ص ٤٩ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٢٣٠ وموارد الظمآن ص ٣٤٦ والجامع الصغير ج ٥ ص ٢٩٤ وكنز العمال ج ٧ ص ١٣٦ وج ١٠ ص ١١٥ وفيض القدير ج ٥ ص ٢٩٤ وكشف الخفاء ج ١ ص ٦٦ ومعجم البلدان ج ٥ ص ١٠٢ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١١٧ والكنى والألقاب ج ١ ص ٢٩٣.

٣٣١

رأى ما يسر ، فيتوقع السرور فيما يتوجه إليه ، ويسعى له.

وقد روي عن علي «عليه‌السلام» قوله : «تفأل بالخير تنجح» (١).

وعنه «عليه‌السلام» : العين حق ، والرقى حق ، والسحر حق ، والفأل حق ، والطيرة ليست بحق (٢).

وقد تفأل عبد المطلب بحليمة السعدية ، بالحلم والسعد ، وقال : بخ بخ ، خلتان حسنتان : حلم وسعد (٣).

وتفأل الإمام السجاد «عليه‌السلام» بالقرآن الكريم لتعيين اسم زيد ، حين اختلاف أصحابه في تعيين اسم ولده (٤).

وقد كان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كثير التفأل ، وقد تفاءل في الحديبية بسهولة الأمر ، حين جاءه سهيل بن عمرو كما تقدم (٥).

وعن أنس : قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : رأيت ذات ليلة فيما

__________________

(١) غرر الحكم رقم ٤٤٦٦ وعيون الحكم والمواعظ ص ١٩٩ وميزان الحكمة ج ٣ ص ٢٣٤٨.

(٢) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج ١٩ ص ٤٧٢ ونهج البلاغة ، قسم الحكم ، الحكمة رقم ٤٠٠.

(٣) البحار ج ١٥ ص ٣٨٨ ومستدرك سفينة البحار ج ٨ ص ١٠٤.

(٤) البحار ج ٤٦ ص ١٩١ وج ٨٨ ص ٢٤٣ ومستدرك سفينة البحار ج ٥ ص ١٧١ وج ٨ ص ١٠٤ والسرائر ج ٣ ص ٦٣٨ ومستدرك الوسائل ج ٤ ص ٣٠٥ ومستطرفات السرائر ص ٦٣٨.

(٥) راجع : البحار ج ٢٠ ص ٣٣٣ وصحيح ابن حبان ج ١١ ص ٢٢٢ وجامع البيان ج ٢٦ ص ١٢٥ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٢٧٧.

٣٣٢

يرى النائم ، كأنا في دار عقبة بن رافع ، فأتينا برطب من رطب ابن طاب. فأولت الرفعة لنا في الدنيا ، والعاقبة في الآخرة ، وأن ديننا قد طاب (١).

كما أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كتب إلى خسرو أبرويز ، يدعوه إلى الإسلام ، فمزق كتابه ، وأرسل إليه قبضة من تراب ، فتفاءل «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بتمزق ملك كسرى ، وبأن المسلمين يملكون أرضهم (٢).

وفي مقابل التفأل التطير ، الذي ذكر في القرآن أيضا في سورة الأعراف ، الآية ١٣١ وفي سورة النمل الآية ٤٧ وفي سورة يس الآية ١٨ : حين كانت بعض الناس في الأمم السالفة يزعمون لأنبيائهم أنهم تطيروا بهم ، من أجل إسقاط دعوتهم.

فكان جواب الأنبياء : أن هذا التطير ، لا يجعل الحق باطلا ، ولا يصلح عذرا لعدم الإيمان ، وأن أعمالهم هي التي توجب لهم الشقاء والعذاب عند الله تعالى وتجر الشر إليهم ، وليس هو ما يتطيرون به.

وقد أمرت الأخبار الكثيرة بدفع شؤم التطير بالتوكل ، وبالدعاء.

وقد روي عن الإمام الصادق «عليه‌السلام» قوله : الطيرة على ما

__________________

(١) البحار ج ١٨ ص ١٢٢ عن إعلام الورى وج ٥٨ ص ٢٢١ ومسند أحمد ج ٣ ص ٢١٣ و ٢٨٦ وصحيح مسلم ج ٧ ص ٥٧ وسنن أبي داود ج ٢ ص ٤٨٢ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٧ ص ٢٣٩ ومنتخب مسند عبد بن حميد ص ٣٩١ والسنن الكبرى للنسائي ج ٤ ص ٣٨٨ ومسند أبي يعلى ج ٦ ص ٢٣٦ وكنز العمال ج ١٥ ص ٣٨٥ وتفسير القرآن العظيم ج ٣ ص ١٨٠ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٠ ص ٥٢٧ وعن الإصابة ج ٤ ص ٤٢٨ وعن إعلام الورى ج ١ ص ٩٠.

(٢) مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ٥٥ وفي طبعة أخرى ج ١ ص ٧٩.

٣٣٣

تجعلها ، إن هونتها تهونت ، وإن شددتها تشددت ، وإن لم تجعلها شيئا لم تكن شيئا (١).

وعنه «عليه‌السلام» : كفارة الطيرة التوكل (٢).

وهناك حديث عن الإمام الكاظم «عليه‌السلام» ، عدّ فيه موارد الطيرة للمسافر ، وأنها سبعة ، وقال في آخره : فمن أوجس في نفسه منهن شيئا ، فليقل : اعتصمت بك يا رب من شر ما أجد في نفسي ، فاعصمني. فيعصم من ذلك (٣).

ويمكن أن يستفاد من ذلك : أن للحالات النفسية تأثيراتها في الأمور

__________________

(١) الكافي ج ٨ ص ١٩٧ الخبر رقم ٢٣٤ والوسائل ج ٨ ص ٢٦٢ وج ١٥ ص ٥٨٥ والبحار ج ٥٥ ص ٣١٠ و ٣٢٢ وشرح أصول الكافي ج ١٢ ص ٢٦٢ والفصول المهمة ج ٣ ص ٢٨٢ ونور البراهين ج ٢ ص ٢٧٨ ومستدرك سفينة البحار ج ٦ ص ٦١٩ وتفسير الميزان ج ١١ ص ٧٨ وميزان الحكمة ج ٢ ص ١٧٦٠ وج ٣ ص ٢٣٥٤ ونور الثقلين ج ٤ ص ٣٨٢.

(٢) الكافي ج ٨ ص ١٩٨ والوسائل ج ٨ ص ٢٦٢ وج ١٥ ص ٥٨٤ ونور الثقلين ج ٤ ص ٣٨٢ والميزان (تفسير) ج ١٩ ص ٧٨ وشرح أصول الكافي ج ١٢ ص ٢٦٢ والفصول المهمة ج ١ ص ٥٣٧ ونور البراهين ج ٢ ص ٢٧٧ وميزان الحكمة ج ٢ ص ١٧٦٠ وج ٣ ص ٢٣٥٤ و ٢٧١٦ والكنى والألقاب ج ١ ص ٢٩٣.

(٣) المحاسن ج ٢ ص ٣٤٨ والكافي ج ٨ ص ٣١٥ ومن لا يحضره الفقيه ج ٢ ص ٢٦٩ والوسائل ج ٨ ص ٢٦٣ ومكارم الأخلاق ص ٢٤٢ والبحار ج ٥٥ ص ٣٢٦ وج ٧٣ ص ٢٢٥ والجواهر ج ١٨ ص ١٥٢ والكنى والألقاب ج ١ ص ٢٩٣ والخصال ص ٢٧٢ وشرح أصول الكافي ج ١٢ ص ٤٣٩ ونور البراهين ج ٢ ص ٢٧٨ ومستدرك سفينة البحار ج ٦ ص ٦٢٠ وميزان الحكمة ج ٣ ص ٢٣٥٤ ونور الثقلين ج ٤ ص ٣٨٣.

٣٣٤

فإن من يتفأل بالخير ، يتعامل مع الأمور بروح منشرحة ، ونفس مطمئنة وواثقة ، ويعيش السكينة ، والثقة بالله سبحانه بما قسمه له واعتباره خيرا ، حتى وإن كان الناس يجدون فيه مرارة وألما ، فيرضى بهذا الألم. ويتمثل له فيه الرضا الإلهي ، ويجد فيه الخير والمثوبة ، ورفعة الدرجة والزيادة. فهو لا ينظر إليه بعين المقت والرفض ، والوجل والخوف ..

بل يراه على أنه باب للخير والفلاح في الدنيا والآخرة.

أما المتشائم المتطير فهو يرى : أن الأشياء من حوله ضده ، ولها دور في تقويض سعادته ، وهدم كيانه ، فهو لا يأنس بها ، بل يعاديها ، ويمقتها ، ولا يرى أن الله تعالى هو المؤثّر والمبدّل والمغيّر ، بل يرى أنها هي الأقوى.

وبعد .. فإن لانشراح الروح والشعور بالسكينة والبهجة والرضا تأثيره في الأشياء التي تحيط بالإنسان ، حتى في الهواء ، والشجر ، والنبات ، وغيرها ، وكذلك الحال بالنسبة للكآبة والحزن ، والتردد والخوف ، وما إلى ذلك.

وقد يمكن تأييد ذلك : بما دلت عليه الآيات والروايات الكثيرة ، من أن للمعاصي والطاعات تأثيراتها في المحيط الذي يعيش فيه الإنسان ، وفي كثير من الأشياء حوله ، ومن ذلك ما دل على ظهور الأسواء ، والمفاسد ، مثل قوله : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ..) (١).

وروي : إذا كثر الزنى كثر موت الفجأة (٢). وغير ذلك كثير.

__________________

(١) الآية ٤١ من سورة الروم.

(٢) المحاسن ج ١ ص ١٠٧ والكافي ج ٢ ص ٣٧٤ وج ٥ ص ٥٤١ وعلل الشرايع ج ٢ ص ٥٨٤ وأمالي الصدوق ص ٣٨٥ وثواب الأعمال ص ٢٥٢ وتحف العقول ص ٥١ وروضة الواعظين ص ٤٢٠ و ٤٦٣ وشرح أصول الكافي ج ١٠

٣٣٥

ومن ذلك أيضا : ما دل على زيادة النماء والبركات ، كقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١).

تبادل الأسرى :

وقد ادّعى سهيل بن عمرو ـ فيما يمكن أن يعتبر اعتذارا لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أو هو تنصل من المسؤولية ـ : أن قتال بعض المشركين للمسلمين ، وحبس الذين حبسوا في مكة ، قد كان بغير علم زعماء قريش. ولم يكن عن رأي ذوي الرأي فيها. بل هو قد ادّعى أنهم كانوا كارهين لذلك كله ، وأن السفهاء هم الذين أقدموا عليه ..

ثم طلب سهيل إطلاق سراح من أسرهم المسلمون أول مرة ، ومن أسروهم في المرة الثانية ، ولم يشر بشيء إلى مصير المحبوسين في مكة.

فجاء الرد ليؤكد على ضرورة إطلاق سراح من حبستهم قريش أيضا .. وأن على قريش أن تكون هي البادئة بإطلاق سراح من احتجزتهم ..

وذلك يتضمن أمرين :

أحدهما : التعبير عن أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان في موقع

__________________

ص ٤٠ والوسائل ج ١١ ص ٥١٣ وج ١٤ ص ٢٣١ ومستدرك الوسائل ج ٩ ص ١٠٧ وعن البحار ج ٧٠ ص ٣٦٩ و ٣٧٢ وج ٧٦ ص ٢٧ وج ٨٨ ص ٣٢٨ وج ٩٧ ص ٤٦ و ٧٢ ومستدرك سفينة البحار ج ٨ ص ١٣٠ وج ٩ ص ٢٠٨ ومكاتيب الرسول ج ٢ ص ١٣٥ وج ٣ ص ٥٧٠ وميزان الحكمة ج ٢ ص ١١٦١.

(١) الآية ٩٦ من سورة الأعراف.

٣٣٦

القوة ، وهو يملي إرادته على عدوه.

الثاني : إرغام قريش على الاعتراف ـ ولو ضمنا ـ : بأنها معتدية وظالمة .. وأن ما كان من المسلمين إنما هو مجرد دفاع ورد اعتداء ..

وكان ما أراده رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حيث بدأت قريش بإرسال من كان عندها أولا .. لأن سهيلا أرسل الشييم بن عبد مناف التيمي وحده إلى قريش ، ولم يطلق سراح أحد معه ، فبعثت قريش بمن كان عندها ..

وثبت بذلك ما أراده رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وكانت كلمة الله هي العليا ، وكلمة الذين كفروا هي السفلى ..

موقف كريم لسهيل بن عمرو :

وكان سهيل بن عمرو من أشراف قريش ، وقد أسر يوم بدر ، وكان أعلم الشفة العليا ، أي مشقوقها ، فقال عمر لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : يا رسول الله ، انزع ثنيتيه ، فلا يقوم خطيبا عليك أبدا.

فقال : دعه يا عمر ، فعسى أن يقوم مقاما نحمده عليه (١).

فكان ذلك المقام هو : أنه لما توفي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ارتجت مكة ، وأراد أهلها أن يعودوا إلى الشرك ، فقام سهيل بن عمرو

__________________

(١) أسد الغابة ج ٢ ص ٣٧١ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٨٢ وعن الإصابة ج ٢ ص ٩٣ والإستيعاب (بهامش الإصابة) ج ٢ ص ١٠٩ و ١١٠ وراجع : المصنف لابن أبي شيبة ج ٨ ص ٤٨٤ وشرح نهج للمعتزلي ج ١٤ ص ١٧٢ وراجع : كنز العمال ج ٥ ص ٤٠٩ وكتاب المنمق ص ٢١٨.

٣٣٧

خطيبا ، فقال : «يا معشر قريش ، لا تكونوا آخر من أسلم ، وأول من ارتد ، والله ، إن هذا الدين ليمتدن امتداد الشمس والقمر ، من طلوعهما إلى غروبهما الخ ..» (١).

فتراجع أهل مكة عما كانوا قد هموا به.

ونسجل هنا الملاحظات التالية :

١ ـ إنه حين يعرض عمر على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ما عرضه إنما يفهم الآخرين : بأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ بنظره ـ كغيره من الطغاة والجبابرة ، الذين يمارسون الانتقام من خصومهم بقسوة بالغة ، وبوحشية ظاهرة .. فهو لا يرى : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مبعوث رحمة للعالمين ، وقد كانت نفسه تذهب حسرات حتى على من كانوا يحاربونه ، ويسعون في سفك دمه ..

فما هذه النظرة العمرية لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

ومتى تخلص منها صاحبها؟! أم بقيت تعيش في نفسه ، وتتغلغل في أعماقه؟!

لا ندري .. ولا بد لمن يريد أن يدري أن يتتبع حياة هذا الرجل ليجد من الشواهد والدلائل ما يفيد في استخلاص الحقيقة ، ووضوح الأمر ..

٢ ـ إن عمر بن الخطاب قد طالب بقلع ثنيتي سهيل ، لأنه كان أعلما ،

__________________

(١) مكاتيب الرسول ج ٣ ص ٨٢ وأسد الغابة ج ٢ ص ٣٧١ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ١٧٢.

٣٣٨

أي : مشقوق الشفة العليا (١).

والأعلم إذا قلعت ثنيتاه ، فإنه يصبح عاجزا عن النطق.

٣ ـ إننا لم نفهم سر مطالبته بهذه العقوبة لسهيل ، ولم يطالب بعقوبات مماثلة أو متنوعة لغيره من أسرى بدر ، فهل كانت له على سهيل ثارات قديمة ، وقد أراد أن يأخذها منه بهذه الطريقة؟ أم كان لدى سهيل شيء من الفصاحة ، فأراد أن يسلبه ذلك حسدا منه له؟! ..

إن التاريخ لم يفصح عن شيء يفيد في تحديد الداعي لهذا الطلب الغريب والعجيب.

٤ ـ إن سهيل بن عمرو لم يقم خطيبا على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فما معنى تعليل عمر لطلبه هذا بقوله : فلا يقوم عليك خطيبا أبدا؟!

٥ ـ لماذا يقدم عمر الاقتراحات على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، من دون أن يطلب الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» منه ذلك ، ومن دون أن يستأذنه بالكلام في محضره .. فضلا عن أن يكون «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أذن له بالاقتراح ، أو طلب المشورة منه في هذا الأمر بأي شيء آخر!!

٦ ـ إن هذا الحديث لابد أن يعتبر من دلائل نبوة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حيث أخبر بما يكون من سهيل قبل أن يسلم سهيل ، وقبل أن تظهر أية بادرة منه تشير إلى أن لديه شيئا من الميل إلى الإسلام ، بل كان يخوض أخطر حرب ضد هذا الدين وأهله ، وكل واقعه وما هو فيه يشير إلى المزيد من اللجاج والعناد ..

__________________

(١) يقابله الأملح ، وهو مشقوق الشفة السفلى.

٣٣٩

يضاف إلى ذلك : أن ما أشار إليه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إنما تحقق بعد وفاته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فليس له صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطاهرين ، أية مشاركة في صنع المناسبة ، لا من قريب ولا من بعيد .. فهو إخبار غيبي بكل ما لهذه الكلمة من معنى ..

٣٤٠