الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٥

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٥

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-171-8
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٢

تكون عداوتها له هي الأقل والأضعف ، كما أظهرته لنا وقائع في حرب أحد حيث طفت على السطح أمارات عديدة تشير إلى أن ثمة عطفا من مقاتلي قريش وقادتها على عمر بن الخطاب ومحبة منهم ، وسعيا منهم لحفظه ..

وقد قال ضرار بن الخطاب لعمر بعد أن ضربه بالقناة : «والله ما كنت لأقتلك» (١).

وكانت هذه يدا له عند عمر ، كان عمر يكافؤه عليها حين استخلف (٢).

كما أن عمر قد أخبر أبا سفيان بوجود النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بينهم حيا ، رغم أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان قد طلب منه أن لا يفعل (٣). فظهر أنه يتعمد الدلالة عليه ، في أخطر الأوقات ، وأصعب الحالات ..

يضاف إلى ذلك : أن خالد بن الوليد لقي عمر بن الخطاب في أحد ، وما معه أحد ، فنكب عنه ، وخشي أن يؤذيه أحد ممن كان معه ، فأشار إليه بأن يتوجه إلى الشعب لينجو منهم (٤).

__________________

(١) مغازي الواقدي ج ١ ص ٢٨٢ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٢٧٤ وج ١٥ ص ٢٠ عنه وعن البلاذري ، وابن إسحاق ، وطبقات الشعراء لابن سلام ص ٦٣ وراجع : البداية والنهاية ج ٣ ص ١٠٧ عن ابن هشام ، والبحار ج ٢٠ ص ١٣٥ و ١٣٨ ومناقب أهل البيت ص ٣٣٢ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٤ ص ٣٩٣ و ٣٩٧.

(٢) طبقات الشعراء لابن سلام ص ٦٣.

(٣) راجع : فصل : في موقع الحسم ، من هذا الكتاب.

(٤) المغازي للواقدي ج ١ ص ٢٧٩ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٢٣ ومناقب أهل البيت ص ٣٣٢.

٣٠١

وفي حرب أحد أيضا : هنأه أبو سفيان على ما اعتبره نصرا له في الجولة الأولى ، حيث قال له : أنعمت عينا ، بقتلى بدر (١).

وقال أبو سفيان له : إنها قد أنعمت يابن الخطاب.

فقال : إنها (٢).

واعتبره أبو سفيان آنئذ أبر من ابن قميئة الذي كان يقاتل المسلمين مع أبي سفيان.

ثم إنه لم يعترض يوم أحد على الخائفين ، المنهزمين الذين اقترحوا توسيط عبد الله بن أبي لدى أبي سفيان ، وذلك بعد أن صعدوا على الصخرة التي في الجبل (٣).

أما في حرب بدر ، فكانت مشورة عمر مثل مشورة أبي بكر ، وهي : أن قريشا ما آمنت منذ كفرت ، وما ذلت منذ عزت ، ولم يخرج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على هيئة الحرب .. فترك الحرب هو الرأي.

فلماذا هذا التخذيل الشديد منه عن الحرب ، وإظهار عزة قريش ، حتى زعما : أنها ما ذلت منذ عزت؟! ولماذا يحاولان إشاعة درجة من الخوف لدى المسلمين؟!

وهنا يعود السؤال من جديد : أين هي عداوة قريش لعمر بن الخطاب؟! وأين هو نضال عمر بن الخطاب ضد قريش؟! ..

__________________

(١) المصنف للصنعاني ج ٥ ص ٣٦٦.

(٢) الأوائل ج ١ ص ١٨٤ و ١٨٥ وتفسير القرآن العظيم ج ١ ص ٤١٢.

(٣) راجع : فصل : في موقع الحسم ، من هذا الكتاب.

٣٠٢

عمر يعترف بواقع عشيرته :

وأما قول عمر : «وليس بها من بني عدي من يمنعني» ، فقد تضمن اعترافا بأن قبيلته غير قادرة على منعه ، إما عجزا منها وذلا ، وإما لأنه لم يكن لديه فيها صديق ، ولا محب ، ونرجح الأول ، حيث ذكرنا في حديث إسلامه : أن عوف بن عطية يقول :

وأما الألأمان بنو عدي

وتيم حين تزدحم الأمور

فلا تشهد بهم فتيان حرب

ولكن أدن من حلب وعير

إذا رهنوا رماحهم بزبد

فإن رماح تيم لا تضير (١)

قد ذكر المؤرخون : أنه لم يكن في بني عدي سيد أصلا (٢).

وأن عمر قد قال لأبي عبيدة في الشام : «إنا كنا أذل قوم ، فأعزنا الله بالإسلام» (٣).

ويقول معاوية عن قبيلتي تيم وعدي : «ليس في قريش حيان أذل منهما ، ولا أنذل» (٤).

وقال أبو سفيان للعباس يوم فتح مكة : «لقد أمر أمر بني عدي بعد ـ

__________________

(١) طبقات الشعراء لابن سلام ص ٣٨.

(٢) المنمق ص ١٤٧.

(٣) المستدرك للحاكم ج ١ ص ٦١ وتلخيصه للذهبي (مطبوع بهامشه) وصححه على شرط الشيخين.

(٤) الخصال ج ٢ ص ٤٦٣ والبحار ج ٣٣ ص ٢٦٢ وكتاب سليم بن قيس ص ٢٤٢.

٣٠٣

والله ـ قلة وذلة» (١).

وراجع ما قاله خالد بن الوليد لعمر حول هذا الأمر (٢).

وذلك كله يؤكد لنا : أن ما يدّعونه من أن الإسلام قد عز بعمر ، وأنه قد ناضل قريشا حينما أسلم ، لو صح ـ وهو غير صحيح جزما ـ فلا بد أن يكون بالاستناد إلى قوته الشخصية وبطشه ، وأنه لم يفعل ذلك بالاستناد إلى قبيلته ، ولا بالاعتماد على نفوذها وزعامتها ..

غير أننا نقول : أين كان هذا البطش عنه في أحد ، والخندق ، وحنين ، وخيبر ، وقريظة و.. و..؟! ولماذا فر في مختلف المشاهد الصعبة ، ولم يظهر شيئا من هذا في أي منها؟!

ولماذا لا يعتمد على نفسه وعلى قوته الشخصية أيضا في حمل رسالة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى قريش؟ خصوصا مع علمه : بأن الاعتداء على حامل الرسالة عيب عند العرب ، وهذا يوفر له درجة من الطمأنينة والأمن حسبما أوضحناه ..

إن أحببت دخلت عليهم :

ثم يأتي قول عمر ، في آخر كلامه : «وإن أحببت يا رسول الله دخلت عليهم» ليكون بمثابة رصاصة الرحمة القاتلة لكل احتمال يمكن أن يكون في

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس ص ١٤٠ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ٢٧٢ وكنز العمال ج ١٠ ص ٢٩٥ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٣ ص ٤٥٤.

(٢) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٢١ وعن كنز العمال ج ٥ ص ٢٩٥ عن ابن عساكر ، عن الواقدي.

٣٠٤

صالح عمر بن الخطاب ، لأن هذه الكلمة قد أظهرت : أنه يريد أن يجعل المسؤولية عن أي شيء يواجهه في مسيره ذاك تقع على عاتق رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فكأنه قال له : أنا أرفض طلبك طائعا ، بالاستناد إلى شواهد وأدلة ، ولكني أنفذه مرغما.

يضاف إلى ذلك : أن هذا يستبطن أكثر من إشارة ودلالة أخرى ، ومنها : أن لا يكون لدى هذا المرغم أي ثواب فيما يقوم به ، وأنه لو تعرض لأي خطر في مهمته تلك ، فإنه يكون قد خسر نفسه في الدنيا والآخرة ، حيث سيكون مجرد قتيل ، ولا يكون شهيدا ، وأن على أهله وذويه أن يتوجهوا إلى من أرغمه على هذا الفعل الذي سوف ينتهي إلى هذه النتيجة ويطالبوه بدمه ، وبكل ضرر لحق به ..

والنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يرضى بذلك ، بل يريد أن يجعل المسؤولية على عاتق عمر نفسه ، وأن يفتح أمامه باب الرحمة الإلهية والفوز العظيم ، ويمكّنه من أن يختار الدخول من خصوص هذا الباب ، فإن اختار أن يقصد التقرب إلى الله تعالى ، وسعى في نيل رضوانه ، كانت له المثوبة العظيمة ، سواء تعرض لعدوان أعداء الله ، أم نجا منهم ..

وإن اختار أن يقوم بالعمل بهدف الحصول على الشهرة والمقام في الدنيا ، ونحو ذلك ، فذلك شأنه ، ويكون هو المقصر في حق نفسه.

ولأجل ذلك : سكت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ولم يجب عمر على كلامه بشيء ، وكان لا بد له من صرف النظر عن الموضوع ، والبحث عن غيره لهذه المهمة.

٣٠٥

عثمان إلى مكة :

وقد طلب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من عثمان : أن يذهب إلى مكة ، ومنحه الفرصة لنيل الثواب ، إن نوى القربة إلى الله تعالى ، وقصد نصر الدين ، وعز الإسلام.

أما إن نوى بذهابه الحصول على السمعة والشهرة ، واكتساب المقامات الدنيوية ، فسيكون جزاؤه دنيويا ، ولم يكن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يحب لأحد من أصحابه ذلك ، بل هو يريد أن يكونوا في منتهى الطهر والنزاهة والإخلاص ، والترفع عن الدنيا ..

وطلب من عثمان أمورا ثلاثة هي :

أولا : أن يخبر قريشا بما قصده «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من مجيئه هذا ، وأنه إنما جاء معتمرا زائرا لبيت ربه.

ثانيا : أن يدعوهم إلى الإسلام.

ثالثا : أن يدخل على رجال مؤمنين ونساء مؤمنات ، ويبشرهم بالفتح القريب وبأن الله تعالى سيظهر دينه قريبا في مكة ، وسيتمكن أهل الإيمان من إظهار دينهم فيها.

أساليب ونتائج :

وإننا نسجل هنا أمرين :

الأول : بالرغم من أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أعلم قريشا بما جاء له بواسطة بديل بن ورقاء ، وبواسطة عروة بن مسعود ، ثم من طريق الحليس ، وكذلك من خلال مكرز بن حفص ..

٣٠٦

لكن ذلك كله لم يره كافيا ، حتى أرسل إليهم خراش بن أمية.

وقد تعمد أن يحمله على جمل له ، يعرف أهل مكة : أنه له ، وهو يذكّرهم بحروبهم ضده ، وقد أراد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لهذا الجمل أن يدخل مكة.

وكان عقر عكرمة بن أبي جهل لهذا الجمل بالذات ، لأنه عرف أنه جمل النبي نفسه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ومن أجل أن راكبه رسول من قبل هذا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالذات .. إن ذلك كله قد جعل الناس يتسامعون بهذا الأمر ، وأن يفشو ويشيع في مكة ، ويتردد خبره فيها من أدناها إلى أقصاها. فيشعر الناس كلهم بأن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قريب منهم ، وأن رسوله بينهم ، وأن جمله يعقر في بلدهم وأن هذا الجمل قد أخذ منهم!!

ولكن ذلك أيضا لم يكن كافيا ولا مقنعا ، فقد كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يريد أن تطول مدة وجود رسوله في مكة ، وأن يكون معه عشرة آخرون ، لابد أن يلتقوا أيضا بآخرين ، من أقرانهم ، ومعارفهم ، وأن يشعر الناس بواقع الرحمة ، وبالحنان والرفق بينهم وبين هؤلاء الوافدين. وأن يترددوا إلى بيوت مكة ، وأن يتحركوا ذهابا وإيابا في شعابها .. فإن ذلك كله كان مطلوبا لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ويدخل ضمن خطته في دفع الأمور باتجاه الحسم ، الذي تخشاه قريش كل الخشية ، وتأباه ـ من ثم ـ كل الإباء ..

وكان ما أراده الله ورسوله .. وخاب اولئك الظالمون الجبارون والجاحدون.

الثاني : قد تقدم : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» طلب من عثمان أن يدخل بيوت المؤمنين في مكة ، ويبشرهم بقرب ظهور الإسلام في هذا البلد.

٣٠٧

والذي نلاحظه هنا هو الأمور التالية :

١ ـ أنه طلب من عثمان : أن يدخل بيوت هؤلاء المؤمنين والمؤمنات ليروا شخصه بعنوان : أنه مرسل من قبل نبيهم ، حاضرا بينهم ، ماثلا أمام أعينهم ، يسمعون كلامه ، ويسمع كلامهم ، ولا يبقى الأمر في مستوى اللمحات البعيدة ، التي يتسترون على ما تحمله من حنين إلى ذلك النبي الكريم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

٢ ـ إن في هذا إشارة لهم : بأن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عالم بهم ، مهتم بأمرهم ، يشعر بآلامهم ، ويعيش قضيتهم ، وليسوا غائبين عن فكره وعن اهتمامه ..

٣ ـ إن الأمر قد صدر إلى عثمان : أن يدخل على النساء أيضا ، وهنّ العنصر الذي يستضعفه الناس ، خصوصا في الجاهلية ، وبالأخص لدى أهل الاستكبار والجحود والطغيان منهم ..

فكان لا بد من الربط على قلوب هؤلاء النسوة ، والشد من عزائمهن ، وتقوية يقينهن ، وإعطائهن جرعة من الصبر ، وتمكينهن من تلمس خيط من الأمل ، في ليل عذابهن الطويل ..

٤ ـ إن بشارة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لهم بالفتح ، وبقرب ظهور الإسلام في مكة ، من شأنه : أن يبعث في المسلمين هناك حياة جديدة ، ويدفعهم لمضاعفة جهدهم في نشر الدعوة ، واجتذاب الناس إلى هذا الدين ..

٥ ـ كما أن دخول رسل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى مكة ، ودعوتهم الناس إلى الإسلام سوف يشجع الخائفين ، لتجاوز خوفهم ، وينبه الغافلين

٣٠٨

إلى أن ثمة معادلات جديدة قد ظهرت ، وأن عليهم أن لا يصموا آذانهم عن هذا النداء ، وأن لا يتجاهلوا هذه الدعوة ، فقد أظهرت الأيام : أن الأمور غير مستتبة لقريش ، وأن كلمتها ليست هي الأخيرة ، ليس فقط في المحيط الذي حولها ، وإنما في داخل مكة أيضا ..

وسوف تظهر نتائج ذلك كله بصورة سريعة ، وتتجلى على شكل أحداث تتلاحق وتتسارع ، بحيث تفقد قريش معها كل اختيار ، حتى تجد نفسها أسيرة واقع ، لم يكن يخطر في بالها ، أو يمر في خيالها أن تنتهي الأمور إليه ..

رسالة شفوية ، أم كتاب؟! :

والنصوص ، وإن اكتفت بالقول : إن عثمان قال لقريش : كذا وكذا ..

ولكن هناك نصا آخر يصرح : بأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد كتب لهم معه كتابا بذلك (١).

وقد يكون ما يذكرونه عن عثمان ، من أنه قال : كذا وكذا ، إنما أرادوا به التعبير عن مضمون هذا الكتاب.

ولعل إرسال الكتاب المدون إليهم هو الأولى ، وذلك لأن ذلك معناه : زيادة درجة الأمان لحامله ، حيث يرى الناس : أنه مجرد رسول ، وبذلك يقطع الطريق على اتهامه بأنه يتجاوز حدود ما أوكل إليه ..

كما أن الكتاب يكون أوثق في إقامة الحجة عليهم ، وأشد وقعا على نفوسهم ، وهو يشكل نقطة ارتكاز تستقر عليها اللفتة الذهنية حين تتحرك

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٦.

٣٠٩

الحوافز للالتفات إلى هذا الحدث ، وتذكّره ..

عثمان بحاجة إلى من يجيره :

هذا .. وقد أظهرت الوقائع : أن عشيرة عثمان هي التي كانت تتولى كبر المواجهة مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فلا يمكن أن تتساهل في أمره «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولم يصح قول عمر فيهم ، حيث لم يجد عثمان عندها عزة ولا نصرا ، بل احتاج إلى من يحميه ويجيره منها ، فكان أبان بن سعيد بن العاص .. هو الذي أجاره.

ووجدت قريش : أن التعدي على عثمان سيعتبر تعديا على من أجاره ، ومن شأن هذا الأمر ـ لو حصل ـ : أن يؤدي إلى الإنقسام في صفوف أهل الشرك ، وقد كانوا بأمسّ الحاجة إلى تحاشي ذلك بكل ثمن.

وهذا الأمر يدل : على عدم صحة ما ذكره عمر بن الخطاب للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حينما زعم : أن عثمان أقدر منه على تحقيق مراده «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ؛ لأن له عشيرة تمنعه.

ويزيد هذا الأمر وضوحا : أن عشيرة الرجل هي التي كانت تتولى تعذيبه إذا أسلم ؛ لأن تعذيب سائر القبائل له كان يواجه بالرفض ، ويثير المشاكل فعشيرة عثمان لا تمنعه بل ترى نفسها ملزمة بأذاه لكي لا تتهم بممالأة عناصرها ، في مقابل التشدد مع غيرهم ..

رسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قريش :

والذي يراجع النصوص المختلفة يلاحظ :

أن خطاب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لقريش ، وجميع رسائله لها ، وكل

٣١٠

ما قاله لمبعوثيها ، قد جاء على نسق واحد ، وله مضمون واحد ، لم يتغير. وقد أشرنا إلى هذا المضمون في فصل سابق ..

ونعود ، فنذكّر القارئ الكريم بما يلي :

١ ـ إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يجدد دعوته لهم إلى الإسلام ، ليظهر لهم : أن ما فعلوه ـ رغم فظاعته وبشاعته ـ لم يوجب استبعاد خيار الدعوة هذا .. وهو بذلك يفهمهم : أن الفرصة لا تزال سانحة أمامهم ، وأن بإمكانهم أن يفكروا في هذا الاتجاه أيضا ..

٢ ـ إن الدعوة لهم إنما كانت إلى الإسلام الذي هو دين الله تعالى ، وليس في هذا أي إذلال لهم ، فإنه لم يدعهم للاستسلام له وإلى طاعته كشخص .. بل دعاهم ليكون هو وإياهم مسلمين لله تعالى ، وفي طاعته سبحانه.

٣ ـ ثم عرض عليهم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أن يكفوا عنه ، وأن ينتظروا نتائج ما يجري بينه وبين غيرهم ، وهي دعوة تتلاءم مع ميل نفوسهم إلى السلامة ، والدعة .. مع ما في ذلك من أنهم قد يشعرون بالحاجة إلى توفير فرصة لهم لتجميع القوى واكتساب القدرات.

فالتروي في الأمر مطلوب ، حيث إن الناس إن ظفروا برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فسيحصل القرشيون على مطلوبهم ، دون أن يخسروا شيئا ، وإن كانت الأخرى فسيكونون هم في أوج قوتهم ، وفي حالة جمام وراحة ، وسيكون النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والمسلمون في حالة ضعف وإنهاك ، وتصبح الفرصة أمامهم أكبر ، واحتمالات النجاح أوفر وأكثر ..

ثم إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قدم لهم دليلا حسيا على صوابية ما يعرضه عليهم ، حين ذكر لهم : أن الحرب قد نهكتهم ، وأذهبت الأماثل منهم.

٣١١

٤ ـ ثم بيّن لهم أيضا : أن هناك ما يوجب المزيد من ضعف مصداقيتهم عند العرب ، حيث يرى الناس : أن حربهم معه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في هذا الظرف ، وضمن دائرة هذه العروض التي يطرحها عليهم لا مبرر لها ، بل هي حرب ظالمة ، وعدوانية. والعدوان والظلم فيها يأتي من قبلهم .. فإن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يأت لقتال ، بل هو قد جاء ليمارس حقه ، الذي يقر له به القريب والبعيد ، والعدو والصديق ، إذ لم يكن في نظام زيارة البيت ، والحج إليه ، اشتراط : أن يكون ثمة انتقاء قرشي لزائريه ، ومعظّميه ، بل كان لكل من يرى لهذا البيت حرمة وقداسة ، الحق في زيارته وتعظيمه ..

٥ ـ ثم هو من جهة أخرى : يقدم الدليل الحسي ، الذي يلامس المشاعر ، ويتصل بالروح ، والقلب ، والذي لا بد أن يصارع نوازع الهوى ، ويرفض الاستسلام لإملاءاتها ، ويثير حالة صراع داخلي ، ربما يكون القلب والروح والضمير هو المنتصر فيها ..

والدليل الذي نتحدث عنه هو هذا الإحرام المعقود ، وهذه البدن التي أشعرها المحرمون ، وساقوها لينحروها في المحل الذي أذن الله تعالى بنحرها فيه ..

جواب قريش :

وكان جواب قريش دائما هو رفض جميع هذه العروض ، وأنها لا ترضى بأن يدخل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عليها مكة رغما عنها. وهي بذلك تتناقض مع كل الدلائل التي تشير إلى أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يأت لقتال ، ولا يريد التوسل بالقوة لدخول مكة ..

٣١٢

ولكن قريشا تطرح الأمور بهذه الطريقة التضليلية انسياقا مع كبريائها ، وتوسلا لتحقيق مآربها ..

وقد أوجب ذلك تصدعا قويا في صفوف الشرك ، وظهرت الإنقسامات ، وتجلى الضعف ، كما أظهرته الوقائع في الحديبية وبعدها ..

بيعة الرضوان وشائعة قتل عثمان :

وقد زعموا : أن السبب في دعوة الناس إلى بيعة الرضوان هو الشائعة التي سرت في الناس : من أن عثمان قد قتل في مكة ..

فدعا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الناس إلى البيعة ..

ونقول :

إن كون سبب البيعة هو هذه الشائعة موضع شك كبير ، لأنهم يقولون : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد بايع عن عثمان أيضا .. وذلك بأن وضع ـ أو ضرب ـ إحدى يديه على الأخرى ، وقال : «اللهم إن هذه عن عثمان الخ ..» (١).

فإن صح هذا ، فهو يدل على : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والناس كانوا يعلمون بحياة عثمان ، فكيف يزعم الزاعمون : أن شائعة قتله كانت السبب في أخذ البيعة من الناس؟!

ودعوى : جواز أن يكون النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد عرف بحياته بعد البيعة ، ليس لها شاهد يؤيدها ، بل هي مجرد توهم واقتراح لعله من

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٧ وكتاب الأربعين للشيرازي ص ٥٨٨ والإصابة ج ٤ ص ٣٧٨ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ ق ٢ ص ٣٤ والصراط المستقيم ج ٣ ص ٣٤.

٣١٣

المحبين لعثمان ..

وإذا كان سهيل بن عمرو قد شاهد بيعة الرضوان (١) ، كما يستفاد من بعض النصوص ، فلماذا لم يخبر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن عثمان حي يرزق ، وأنه لا داعي للقلق عليه؟! ولماذا لم يسأل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أو أحد من المسلمين عنه؟!

على أننا نقول :

لماذا لا يكون سبب بيعة الرضوان هو : الشائعة التي سرت عن قتل العشرة الذين أرسلهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى مكة لملاقاة أهاليهم ، ودخلوا في أمان عثمان كما يزعمون.

أو أن سببها هو : الضغط على قريش لإطلاق سراحهم ، بعد أن احتجزتهم.

كما أن من أسباب البيعة : استكبار قريش عن قبول طلب المسلمين زيارة بيت ربهم ، وقضاء نسكهم وعمرتهم. أو غير ذلك من أمور ستأتي الإشارة إليها ، أوجبت إظهار القوة أمام قريش والمشركين ، وأن عليهم أن لا يتوهموا أن القضية هي مجرد هوى ، أو قرار شخصي لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد يعارضه فيه طائفة من أصحابه ، أو على الأقل لا يوافقه عليه كثير ممن وافقوه في مسيره ذاك.

والذي نميل إليه : أن كل هذا الذي يقال عن شائعة قتل عثمان ، وعن البيعة عنه ، وغير ذلك من أمور ، هو ـ كما تؤيده الدلائل والشواهد ـ مما

__________________

(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٥١.

٣١٤

حاكته يد السياسة ، التي لم تستطع أن تحفظ تسلسل الأحداث ، ولا تمكنت من اكتشاف الخلل فيما يذاع ويشاع ، وينشر ، هنا وهناك ، من قبل المحبين والمتزلفين ، وقديما قيل : لا حافظة لكذوب.

فكيف إذا اجتمع الكذّابون على أمر ، وصار كل واحد منهم يدبلج ما يحلوله ، من دون تنسيق أو تطبيق على ما تنتجه قرائح الآخرين؟! ..

شائعة احتباس سهيل بن عمرو :

وقد زعموا أيضا : أنه لما بلغ المسلمين : أن عثمان قد احتبس في مكة ، احتبس المسلمون سهيل بن عمرو مبعوث قريش (١).

ونقول :

إننا نشك في ذلك : فإن سهيل بن عمرو إنما جاء إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» معتذرا عما فعله سفهاؤهم ، وأن ما جرى لم يكن عن رأي ذوي الرأي فيهم ..

والظاهر : أن سهيلا قد وصل إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في وقت البيعة ورأى ما جرى بأم عينيه ، فناسب ذلك إطلاق شائعة من هذا القبيل.

حديث طواف عثمان :

ولا ندري مدى صحة حديث امتناع عثمان عن الطواف بالبيت ، وأن قريشا عرضت ذلك عليه ، فرفض أن يسبق رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فيه.

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٦ عن شرح الهمزية لابن حجر.

٣١٥

وسبب شكنا في هذا الحديث يرجع إلى ما يلي :

١ ـ إنهم يزعمون : أن عثمان لم يستطع دخول مكة إلا بجوار ، فما معنى أن تشتد عليه قريش هنا ، ثم تسمح له بالطواف بالبيت بعد ذلك؟!

٢ ـ إنهم يزعمون : أن قريشا قد حبست عثمان ، رغم الجوار الذي أعطاه إياه أبان بن سعيد بن العاص.

وهذا يتنافى معذلك الرفق الذي شملته به.

٣ ـ لو أغمضنا النظر عن هذا وذاك ، فإننا نقول :

إنهم يذكرون : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أخبر أصحابه : أن عثمان لم يطف بالبيت ، ولا يطوف ، فإن كان قد علم ذلك بواسطة الغيب ، فلماذا لم يعلم بواسطة الغيب أيضا ، بسلامة عثمان من القتل ، وبكذب الشائعة التي انطلقت حول ذلك؟! ولماذا بادر إلى عقد بيعة الرضوان استنادا إلى شائعة كاذبة؟!

وإن كان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أخبرهم بهذا الأمر استنادا إلى معرفته بنفسية عثمان ، وبطريقة تفكيره .. فذلك يحتاج إلى إثبات وشاهد.

٤ ـ من الذي قال : إن عثمان كان يعرف كيف يؤدي مناسك العمرة كما حددها الإسلام؟!

فإن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قال للناس حينما دخل مكة : «خذوا عني مناسككم» (١).

__________________

(١) مختلف الشيعة للعلامة الحلي ج ٤ ص ٥٣ و ١٨٣ و ٢٩٠ و ٣٠١ و ٣٥٢ والحدائق الناضرة للمحقق البحراني ج ١٦ ص ١٠٢ و ١٨٦ وج ١٧ ص ١٤

٣١٦

__________________

و ٧٦ و ٢٤٥ ورياض المسائل للسيد علي الطباطبائي (ط جديد) ج ٦ ص ٢١٦ و ٤٣٢ و ٥٠٤ و ٥٣٤ و ٥٥٢ وج ٧ ص ٧٩ و ٩٤ ومستند الشيعة للمحقق النراقي ج ١٢ ص ٧١ و ٢١٦ و ٢١٩ و ٢٩٩ وج ١٣ ص ٣٢ وجواهر الكلام للشيخ الجواهري ج ١٨ ص ٥٥ وج ١٩ ص ٢٢ و ١٠٣ و ١١١ و ١٣٢ و ٢٤٨ و ٣١٣ و ٣٩٦ و ٤٢٢ وج ٣٥ ص ٤٤٣ والمجموع لمحيي الدين النووي ج ٨ ص ٢١ و ٣٠ و ٣١ و ٩٧ و ١٥٥ و ٢٣٥ و ٢٣٧ وتلخيص الحبير لابن حجر ج ٧ ص ٢٩٢ و ٢٩٣ و ٣٠٣ و ٣٧٠ و ٣٨٨ و ٤٠٥ والمبسوط للسرخسي ج ٤ ص ٥١ والبحر الرائق لابن نجيم المصري ج ٣ ص ٤٢ و ٤٣ والمغني لعبد الله بن قدامة ج ٣ ص ٤١٤ و ٤٤٠ و ٤٤٢ و ٤٤٦ و ٤٥١ و ٤٧٢ و ٤٧٤ و ٤٧٦ و ٥٢٩ و ٥٣٠ وسبل السلام لابن حجر العسقلاني ج ٢ ص ٢٠١ و ٢٠٣ و ٢٠٨ و ٢٠٩ و ٢١٢ ونيل الأوطار للشوكاني ج ٣ ص ٣٧٨ وج ٥ ص ٤٣ و ٥٥ و ١١٠ و ١١٩ و ١٢٥ و ١٢٦ و ١٤٤ و ١٥٤ وفقه السنة للشيخ سيد سابق ج ١ ص ٦٥٠ و ٧١٢ و ٧٣٤ وشرح صحيح مسلم للنووي ج ٩ ص ٢١ وج ٨ ص ٢٢٠ وفتح الباري ج ١ ص ١٩٣ و ٤١٩ وج ٣ ص ٣٨٨ و ٣٩٧ و ٣٩٨ و ٤٣١ و ٤٥٦ و ٤٦١ و ٤٦٤ وتحفة الأحوذي ج ٣ ص ٤٧٩ و ٥٥١ وعون المعبود ج ٥ ص ١٨٢ و ٢٣٣ و ٢٥١ و ٣١١ ونصب الراية للزيلعي ج ٣ ص ١٣٦ وفيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي ج ١ ص ١٠٠ وكشف الخفاء للعجلوني ج ١ ص ٣٧٩ وأحكام القرآن للجصاص ج ١ ص ٩٨ و ١١٧ و ١٢١ و ٣٤٨ و ٣٥٥ و ٣٧١ وفتح القدير للشوكاني ج ١ ص ١٦١ و ٢٠٤ والفصول في الأصول للجصاص ج ٢ ص ٣٣ وج ٣ ص ٢٣٢ والأحكام لابن حزم ج ٣ ص ٣٠٠ وأصول السرخسي لأبي بكر السرخسي ج ١ ص ١٢ و ١٤ وج ٢ ص ٢٧ وسير أعلام النبلاء للذهبي ج ٦ ص ٣٤٣ والإصابة لابن حجر ج ١ ص ٤٢ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٠٣ و ٢٣٤ وسبل الهدى

٣١٧

فتعلم الناس منه كيفية الاعتمار ، وكيفية الحج حينئذ ، ولم يكن قد حج رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» معلنا قبل هذا ، ليكون عثمان قد حج معه ، ولا دليل يدل على أنه قد تعلم منه ذلك شفاها.

٥ ـ ومما يلقي ظلالا من الشك على هذه الأقوال أيضا : أن الكلام كله يتمحور حول عثمان ، مع أنهم يقولون : إن عشرة أشخاص قد دخلوا معه في أمانه ، ولم نجد أحدا قد سألهم ، أو سأل عنهم : هل طافوا حول الكعبة أم لم يطوفوا؟! أو على الأقل لم يحدثنا التاريخ بشيء من ذلك.

٦ ـ إن الظن المنسوب إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يصب في هذه المرة أيضا ، وذلك لأن ما ظنه من طاعة عثمان وتقيّده بأوامره ، قد خيّبه عثمان حين عصى أمره «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الناس وعثمان منهم أن يحلقوا رؤوسهم ، فلم يستجب له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وكان كما يقول السهيلي : وحده ، ومعه أبو قتادة (ونظن أن الصحيح : هو (ومعه عمر) ، لأن عمر المعارض الحقيقي ، بل هو رأس المعارضة).

نعم ، إن عثمان وهذا الرجل أو ذاك ، وحدهما اللذين عصيا أمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وأصرا على التقصير ، ووصفهما النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأنهم قد شكّوا (أي في دينهم) (١).

__________________

والرشاد ج ٨ ص ٤٧٥ وعوالي اللآلي ج ١ ص ٢١٥ وج ٤ ص ٣٤ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٥ ص ١٢٥ وإرواء الغليل ج ٤ ص ٣١٦ والجامع لأحكام القرآن ج ١ ص ٣٩ وج ٢ ص ١٨٣ و ٤٠٠ و ٤١٦ و ٤٢٩ و ٤٣١ وج ٣ ص ٥ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٣٦٧ و ٤٢٧.

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٣.

٣١٨

ما هو سبب البيعة إذن؟!

ونرجح : أن يكون سبب بيعة الرضوان ليس ما زعموه حول عثمان ، وإنما هو :

إظهار مدى تصميم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على حقه الذي تنكره عليه قريش.

والضغط عليها من أجل فك أسر العشرة الذين احتجزتهم.

وتكذيب ما تحاول التسويق له ، من أن الذين مع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا ينصرونه.

ولغير ذلك من أسباب يدخل بعضها في سياق التربية لأصحابه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ويفيد في إعطاء الانطباع الواضح ، وإشاعة الأجواء التي يريد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إشاعتها في محيط الشرك من خلال ذلك.

أسرى قريش :

وذكرت النصوص التي قدمناها : أن محمد بن مسلمة كان على الحرس في إحدى الليالي فأسر حوالي خمسين رجلا ، وأفلت مكرز بن حفص .. فظهر مصداق قول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن مكرز : إنه رجل غادر.

ونقول :

إنه لا مانع من أن يكون مكرز بن حفص رجلا غادرا ، ولا نريد أن ننفي أن يكون رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد وصفه بذلك. فقد يكون ذلك صحيحا في نفسه.

ولكننا نقول : حفاظا منا على الحق والحقيقة ، وعلى مقام رسول الله

٣١٩

«صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، من أن ينسب إليه ما يكون موضع شبهة :

إن ما زعموه مصداقا لقوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يصلح لذلك ؛ لأن المفروض : أنه لم يكن بين مكرز بن حفص ، وبين النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عهد وعقد يلزم مكرزا بعدم مهاجمة المسلمين ، وبعدم نصب الكمائن لهم ، وتحين الفرص للإيقاع بهم ، بل هو يرى : أنه في حالة حرب معهم ، فإذا جاء في خمسين رجلا ليصيب منهم أحدا ، أو غرّة ، فإن فعله هذا لا يكون هو المصداق لقول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عنه : إنه رجل غادر ..

ومما يدلل على صحة ما قلناه : أن الرواية نفسها تذكر : أن قريشا بعثت مكرز بن حفص نفسه مع سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى ليخلّصوا أولئك النفر الخمسين الذين أسروا ، وليقولوا لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : إن الذين قاتلوه ، والذين حبسوا أصحابه في مكة كانوا من سفهائهم. ولم يكن ذلك بقرار من ذوي الرأي فيهم.

فإن صح أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قال ذلك.

وصح أن يكون مكرز قد جاء مع المهاجمين.

وصح أنهم قد أسروا.

وصح أن الذي أسرهم هو محمد بن مسلمة ، ولم يكن المقصود هو : تهيئة الأجواء لمنح محمد بن مسلمة وساما ليكافئه به محبوه على مهاجمته بيت الزهراء «عليها‌السلام» ، مع من هاجمها بعد وفاة الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

نعم .. لو صح ذلك كله ، فإنه لا بد من البحث عن مفردات غدر مكرز بن حفص في غير هذه الواقعة.

وقد ذكر لنا التاريخ غدرا من مكرز ، ولكن ليس بالمسلمين ، وإنما

٣٢٠