الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٥

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ١٥

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-171-8
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٢

تدمير موقع الخطر دون سواه ، فعمل على التخلص من خصوص الساعي في تأليب الناس وجمعهم لحرب المسلمين ، وهو ابن رزام نفسه ، أما قومه ، فلم يردهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. لاحتمال أن يكون لهم عذرهم في الانقياد لأسير ، والانخداع بما كان يقدمه لهم من مبررات ..

وهذا في الحقيقة : إحسان من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إليهم ، وإعطاء الفرصة لهم لإعادة النظر في الأمور بروية وتعقل.

وهذا يدلنا : على أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يكن همه إرسال عصابات القتل ، والسلب ، والنهب في كل اتجاه ، كما ربما يراد الإيحاء به ، أو التسويق له ، بل كان يريد دفع شر الأعداء عن أهل الإسلام ، حينما يتضح له بصورة قاطعة أنهم بصدد تسديد ضربتهم للإسلام والمسلمين.

ب ـ استعمال أسير على خيبر :

وما ذكروه لأسير بن رزام : من أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يريد أن يستعمله على خيبر ، غير ظاهر الوجه ، لأن المفروض : أن هذه السرية كانت سنة ست ، أي قبل فتح حصون خيبر بمدة طويلة ، إلا إذا كان المقصود هو استعماله على حصون خيبر ، التي كانت بيد اليهود ، وهم لم يكونوا تحت سيطرة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

بل كان جعله على خيبر يكون من قبيل تحصيل الحاصل ، لأن المفروض حسب زعم الرواية : أن يهود خيبر قد أمّروا أسير بن رزام عليهم بعد قتل ابن أبي الحقيق ، فما معنى هذا العرض؟!

فلعل الصحيح : هو أن هذه السرية قد كانت بعد فتح خيبر ، ويكون

٢١

اليهود الذين تفرقوا في البلاد ، أو أبقاهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليعملوا في أرض خيبر قد جعلوا عليهم ابن رزام ، فسعى لنقض العهد ، وجمع الجموع لحرب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. فجاءه ابن رواحة في ثلاثين رجلا ، وكان ما كان ، من تطميعه بالولاية على خيبر من قبل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. ثم انتهى الأمر بقتله ، وقتل من معه ..

وأبقي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» اليهود على أعمالهم في خيبر ؛ لأنهم لم يشاركوا ابن رزام في مساعيه ..

ولعل هذا أولى بالقبول من القول : بأن القضية قد حصلت قبل خيبر ، وأن المقصود : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أراد أن يجعله على غطفان ، وغيرها من القبائل الساكنة في تلك المناطق.

أو أنهم أرادوا طمأنته إلى أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يأبى من أن يكون أميرا على خيبر ، بل هو يعطيه أيضا تفويضا بذلك ، ويستعمله عليها ، فقبل ابن رزام ، المتوجس خيفة من الحرب ذلك منهم ، لأنه رأى أنه قد ضمن السلام والسلامة ، وأبعد عن مخيلته شبح الحرب ، وكابوسها المخيف والمرعب الذي رأى بعض فصوله في حروب المسلمين مع بني قينقاع ، والنضير ، ومع المشركين في بدر وفي أحد.

وقد يهوّن عليه تصديق هذه المقولة : ما دخل في وهمه من أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد ملّ الحرب (١).

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٨٣.

٢٢

ولكن في نص آخر قال أسير بن رزام : «بلى قد مللنا الحرب» (١).

وهذا يؤيد : أنه كان يريد أن يتخلص من شبح الحرب ، التي ملها الناس من حوله.

وفي جميع الأحوال نقول : إن الأرجح هو أن تكون هذه السرية قد حصلت بعد فتح خيبر حسبما أوضحناه.

ج ـ من هو الغادر؟

وذكروا : أنهم حين ساروا برفقة أسير بن رزام «حمل عبد الله بن أنيس أسير بن رزام على بعيره ، قال عبد الله بن أنيس : فسرنا حتى إذا كنا بقرقرة ثبار ، وندم أسير ، وأهوى بيده إلى سيفي ، ففطنت له ، ودفعت بعيري ، وقلت : أغدرا أي عدو الله؟!

فدنوت منه لأنظر ما يصنع ، فتناول سيفي. فغمزت بعيري ، وقلت : هل من رجل ينزل يسوق بنا؟!

فلم ينزل أحد.

فنزلت عن بعيري ، فسقت بالقوم ، حتى انفرد لي أسير ، فضربته بالسيف ، فقطعت مؤخرة الرجل ، واندرت عامة فخذه وساقه ، وسقط عن بعيره ، وفي يده مخرش الخ ..» (٢).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١١١ وموسوعة التاريخ الإسلامي ج ٢ ص ٥٩٦.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١١٢ وج ١٠ ص ٢٤ والبحار ج ٢٠ ص ٤١ وإعلام الورى ج ١ ص ٢١١.

٢٣

ونقول :

إن هذا النص وأمثاله على درجة كبيرة من الغموض بل هو موضع شك وريب أيضا .. فإنه إذا كان ابن أنيس قد فطن لغدر ابن رزام ، وصرح فعله عن غدره هذا ، فمن المتوقع أن يحتاط أسير لنفسه ، ويتباعد عن مرافقه ، ويفر منه ، وأن يعلن عزمه على العودة من مسيره ذاك.

ومن جهة ثانية ، نقول :

قد روي أن قتل أسير كان على يد عبد الله بن رواحة فراجع (١).

ومن جهة ثالثة ، نقول :

كيف لم يسمع أحد من المرافقين ، وهم ما يقرب من ستين رجلا ما قاله ابن أنيس لرفيقه؟ ..

كما لم يروا ما دار بينهما من تجاذب للسيف!! وثمة أسئلة أخرى تحتاج إلى الإجابة هنا ، وهي التالية :

كيف صار اليهود ردفاء للمسلمين؟! ألم يكن لدى ذلك الرئيس المطاع أعني أسير بن رزام ولدى سائر من معه ، خيل ، أو إبل يركبونها ، حتى احتاجوا إلى الارتداف خلف أناس ، كانوا إلى ما قبل ساعة يسعون لجمع الناس لحربهم؟!.

وهل فكر أولئك اليهود الرؤساء بكيفية رجوعهم ، من مسيرهم ذاك؟ وهل سوف يرجعون سيرا على الأقدام؟ أم على الخيل؟ أم على الإبل؟!

وعلى أية خيل أو إبل سيعودون إلى بلادهم؟.

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٥٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤١٨.

٢٤

وإذا لم يكن هناك ارتداف وكان كل واحد منهم يركب بعيره الخاص به ، فكيف وصلت يد أسير بن رزام إلى سيف ابن أنيس؟.

وهل جاء ابن رواحة ومن معه في مهمتهم تلك على الخيل؟ أم على الإبل؟

فإن كانوا جاؤوا على الخيل ، فمن أين جاءت الإبل؟ وإن كانوا جاؤوا على الإبل ، فهل الإبل هي المراكب المناسبة لمهمات كهذه؟.

وعن قصة قتل ابن أبي الحقيق نقول :

قد تقدم : أن ابن عتيك هو الذي قتله ، وقد أصيب ابن عتيك ، وبانت يده فمسح النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عليها فلم تكن تعرف من اليد الأخرى (١).

د ـ ابن أنيس وقصة العصا :

وعن قصة العصا التي أعطاها النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لابن أنيس ، نقول :

أولا : إن نفس هذه الدعوى قد ادّعاها ابن أنيس لنفسه في قضية قتل سفيان بن خالد ، حيث زعم : أنه هو الذي أنجز هذه المهمة ، وأعطاه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» العصا ليعرفه بها ، ثم جعلها بين كفنه وجلده ..

فهل تكررت هذه الواقعة كما يحلو للبعض أن يتخيل؟!

فإن كان الأمر كذلك ، فإن نفس الحلبي الشافعي ربما تتشوق للسؤال

__________________

(١) البحار ج ١٠ ص ٤٦ وج ١٧ ص ٢٩٤ وج ٢٠ ص ٣٠٣ وراجع أيضا : مسند أبي يعلى ج ٢ ص ٢٠٦ من له رواية في مسند أحمد ص ٢٤١ وغير ذلك.

٢٥

عن حكمة تكرير ذلك له ، وتخصيصه بهذه المنقبة دون بقية الصحابة.

ثانيا : لا ندري لماذا يحتاج ابن أنيس إلى علامة تعرّف النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» به!! فهل يحتاج النبي حقا في معرفته لابن أنيس إلى علامة؟!

ولماذا لا يعرفه إذا رآه ، من حيث إنه يحفظ صورة وجهه في ذاكرته؟!

أم أن ذاكرته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سوف تضعف حين يدخله الله الجنة؟!

وإذا كان الأمر كذلك ، فما هي العلامات التي كان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يعرف بها نساء أصحابه.

إلى غير ذلك من الأسئلة الكثيرة التي تحتاج إلى جواب ..

٥ ـ سرية زيد بن حارثة إلى مدين :

قالوا : وبعث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» زيد بن حارثة إلى مدين ، فأصاب سبيا من أهل ميناء ، وهي السواحل ، فبيعوا ، ففرقوا بين الأمهات وأولادهن. فخرج رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهم يبكون ، فقال : ما لهم؟!

فأخبر خبرهم.

فقال : لا تبيعوا إلا جميعا (١).

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ١٥ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٨٣ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٩٦ ودعائم الإسلام ج ٢ ص ٦٠ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ١٠٥١ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٠٦.

٢٦

تحفظ على سرية مدين :

ونقول :

إن لنا تحفظا على هذه السرية ، يتلخص في أن «مدين» هي قرية شعيب ، وقد سميت باسم مدين بن إبراهيم ، وكان بينها وبين مصر ثمان مراحل (١). ولكنها لم تكن في سلطة فرعون.

وفي معجم ما استعجم : أنها بلد بالشام ، معلوم ، تلقاء غزة. وهو منزل جذام ، وشعيب النبي المبعوث إلى أهل مدين أحد بني وائل ، من جذام (٢).

والسؤال هو :

كيف استطاع زيد أن يخترق كل تلك التجمعات السكانية ، وكانت كلها معادية له ولدينه ، ويقطع هذه المئات من الأميال ، ولا يعارضه أحد من أهل الشرك والكفر ، الذين كانوا في تلك المفاوز والقفار النائية ، والتي قد يكون لقيصر الروم حساسية خاصة تجاه غزوها ، كما ظهر في قضية غزوة مؤتة.

ثم هو يحارب أهل مدين ، ويأسر النساء والأطفال من أهل ميناء ، ثم لا ينجد هؤلاء المنكوبين أحد من أهل نحلتهم ، ومن هم على دينهم ..

إننا ، وإن كنا لا نستطيع أن نعتبر هذه التساؤلات دليلا قاطعا على النفي ، ولكنها ترشد إلى لزوم التريث في الحكم القاطع بصحة هذه النقولات.

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ١٥ عن أنوار التنزيل.

(٢) تاريخ الخميس ج ٢ ص ١٥ عن معجم ما استعجم.

٢٧

إحترام المشاعر الإنسانية :

إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أمر بعدم التفريق بين الأم وولدها في البيع. والذي نريد أن نوجه النظر إليه هو :

أن هناك اختلافا في النظرة إلى هذا الكائن الإنساني ، وفي مبررات تكريمه ، أو إهانته ، ينشأ عنها اختلاف في التعامل معه في هذا الاتجاه أو ذاك أيضا.

فقد تعطى القيمة للإنسان على أساس العصبيات العرقية أو القومية ، وقد تبنى العلاقة بالإنسان على أساس المنفعة والمصلحة ، أو اللذة العاجلة. وما إلى ذلك ..

وهناك من يعطي القيمة للإنسان استنادا إلى مجرد كونه كائنا بشريا وحسب.

ولكن القيمة في الإسلام تستند إلى عنصرين أساسيين :

أحدهما : كونه بشرا ونظيرا لك في الخلق.

والثاني : كونه أخا لك في الدين.

وفقد أحد هذين العنصرين لا يلغي الحق الثابت له من خلال توفر العنصر الآخر .. وإن اختلفت طبيعة هذا الحق الثابت ، بالنسبة إلى كل واحد منهما ..

وعلى هذا الأساس نقول :

إنه إذا فقد الالتزام الديني لدى الإنسان ، واتجه نحو ممارسة العدوان ، فإن ذلك ، وإن كان يسلبه الحق الذي ينشأ عن الالتزام الديني ، ولكنه لا يستطيع أن يسقط الحق الثابت له بالاستناد إلى بشريته ، وإلى نوع خلقته وتكوينه.

فمن يؤسر أو يسبى ، نتيجة ظروف الصراع معه ، من أجل امتلاك حرية

٢٨

التدين التي يسعى لسلبها منك ، وإن كان يحرم الحقوق التي تثبتها الأخوة الدينية ، ولكن الحقوق التي يثبتها له كونه نظيرا في الخلق ، لا يمكن إسقاطها ..

ولذلك نهى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن التفريق بين الأم وولدها ، وفرض أن لا يباعا إلا جميعا ، حسبما تقدم.

ولهذا نقول :

إن نهي النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن هذا التفريق ليس مجرد قرار شخصي ، أو نتيجة توهج عاطفي ، بل هو حكم إلهي مستند إلى مبرراته الموضوعية ، وينطلق من طبيعة النظرة إلى الحقوق ، وإلى مناشئها ..

٢٩
٣٠

الفصل السادس :

حديث الإستسقاء

٣١
٣٢

حديث الاستسقاء :

وفي شهر رمضان من سنة ست استسقى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لأهل المدينة فمطروا ، فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أصبح الناس مؤمنا بالله ، كافرا بالكواكب.

وذلك لأن الناس كانوا قد قحطوا ، فطلبوا منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يستسقي لهم ، فخرج ، ومعه الناس يمشون بالسكينة والوقار ، إلى المصلى ، فصلى بهم ركعتين ، يجهر بالقراءة فيهما ، وقرأ في الأولى بفاتحة الكتاب وسبح اسم ربك الأعلى ، والثانية بفاتحة الكتاب ، وهل أتاك حديث الغاشية ..

ثم استقبل الناس بوجهه ، وقلب رداءه ، لكي ينقلب القحط إلى الخصب ، ثم جثا على ركبتيه ، ورفع يديه ، وكبر تكبيرة قبل أن يستسقي ، ثم قال : اللهم اسقنا وأغثنا غيثا مغيثا ، وحياء ربيعا .. الخ ..

فما برحوا حتى أقبل قزع من السحاب ، فالتأم بعضه إلى بعض ، ثم أمطرت سبع أيام بلياليهن ، فأتاه المسلمون ، وقالوا : يا رسول الله ، قد غرقت الأرض ، وتهدمت البيوت ، وانقطعت السبل ، فادع الله تعالى أن يصرفها عنا.

فضحك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وهو على المنبر حتى بدت نواجذه ، تعجبا لسرعة ملالة بني آدم. ثم رفع يديه ، ثم قال :

٣٣

حوالينا ، ولا علينا ، اللهم على رؤوس الظراب ، ومنابت الشجر ، وبطون الأودية ، وظهور الآكام.

فتصدعت عن المدينة حتى كانت مثل ترس عليها ، كالفسطاط ، تمطر مراعيها ، ولا تمطر فيها قطرة (١).

ثم قال : لله أبو طالب ، لو كان حيا لقرت عيناه ، من الذي ينشدنا قوله!

فقام علي «عليه‌السلام» ، فقال : يا رسول الله ، كأنك أردت :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهلاك من آل هاشم

فهم عنده في نعمة وفواضل

كذبتم وبيت الله يردى محمد

ولما نقاتل دونه ونناضل

ونسلمه حتى نصرع حوله

ونذهل عن أبنائنا والحلائل

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أجل.

فقام رجل من كنانة يترنم ، ويذكر هذه الأبيات :

لك الحمد والشكر ممن شكر

سقينا بوجه النبي المطر

دعا الله خالقنا دعوة

إليه وأشخص منه البصر

ولم يك إلا كقلب الرداء

وأسرع حتى رأينا المطر

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ١٤ وراجع : مناقب أمير المؤمنين للكوفي ج ١ ص ٨٢ والمصنف للصنعاني ج ٧ ص ٩٢ و ٤٣١ وعن فتح الباري ج ٢ ص ٤٢٥ و ٤٢٦ وسبل الهدى والرشاد ج ٩ ص ٤٤٠ و ٤٤٤ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٣٤ وبحار الأنوار ج ٢٠ ص ٣٠٠ والأحاديث الطوال ص ٧١ وكتاب الدعاء للطبراني ص ٥٩٧ وراجع : المعجم الأوسط ج ٧ ص ٣٢١.

٣٤

دفاق الغرائل جم البعاق

أغاث به علينا مضر

وكان كما قاله عمه

أبو طالب أبيض ذو غرر

به الله يسقيه صوب الغمام

وهذا العيان لذاك الخبر

فمن يشكر الله يلق المزيد

ومن يكفر الله يلق العبر (١)

ونقول :

إن لنا ههنا وقفات ، هي التالية :

الاستسقاء أكثر من مرة :

إن مراجعة النصوص التاريخية يفيد : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، قد استسقى أكثر من مرة ، إحداها حين رجع من تبوك في سنة تسع ، بطلب من وفد بني فزارة (٢).

وسيأتي الحديث عنها في موضعه إن شاء الله تعالى ، وبيان ما فيها من روايات مكذوبة تضمنت التجسيم ، ونسبة الضحك إلى الله سبحانه ، وغير ذلك من أكاذيب ، وترهات وأباطيل ، وفيها أيضا الكثير من الجرأة والوقاحة ،

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ١٤ وسبل الهدى والرشاد ج ٩ ص ٤٤٠ و ٤٤١ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٣٢ و ٢٣٥ وأمالي المفيد ص ٣٠٥.

(٢) راجع : دلائل النبوة للبيهقي ج ٦ ص ١٤٣ وطبقات ابن سعد ج ٢ ص ٩٢ وج ١ ص ٢٩٧.

وراجع : سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٩٤ والبداية والنهاية ج ٦ ص ١٠٥ و ٩٦ وج ٥ ص ١٠٣ وعن فتح الباري ج ٢ ص ٤٢٠ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ٣٠٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ١٧١.

٣٥

فيما ينسبونه لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من أنه تنبأ بأن أبا لبابة يقوم عريانا ، يسد ثعلب مربده وغير ذلك ..

اللهم حوالينا ولا علينا :

واللافت هنا : أن الناس حين استمر المطر أسبوعا كاملا طلبوا من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أن يدعو الله بأن يكف بعضا من ذلك عنهم ، فدعا الله بقوله : «اللهم حوالينا ولا علينا» ، فانجابت السحابة عن المدينة ، واستمر المطر ينهمر على أطرافها ..

وتحكى هذه الحادثة في مختلف وقائع الاستسقاء ، التي رويت .. وهي شاهد على أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد استجاب لهم ، وتصدى للتصرف في أمور التكوين ، ولكن بطريقة الطلب من الله تعالى ، فجاءت الاستجابة الإلهية متوافقة مع إرادته «صلى‌الله‌عليه‌وآله». ولتكن هذه القضية شاهدا لما اصطلح عليه العلماء ، بالولاية التكوينية للمعصوم ، والتي تعني أن تكون إرادته «عليه‌السلام» في سلسلة العلل لحدوث أمثال هذه الأمور.

وقد أوضحنا هذا الأمر في كتابنا خلفيات كتاب مأساة الزهراء «عليها‌السلام» ، فيمكن للقارئ أن يرجع إليه ويطلع عليه ..

لا يرفع يديه إلا في الاستسقاء :

وقد ذكرت بعض الروايات : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حين استسقى رفع يديه حتى رئي بياض إبطيه ، ودعا .. وكان لا يرفع يديه في

٣٦

شيء من الدعاء إلا في الإستسقاء (١).

ونقول :

أولا : إن رواية الاستسقاء التي تقدم ذكرها لم تذكر : هل أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في الركعة الأولى قد كبر بعد قراءة الحمد والسورة خمس تكبيرات ، وقنت خمس قنوتات ، ولا أنه قد كبر في الركعة الثانية أربع تكبيرات وقنت أربع قنوتات ، مع أن هذا هو ما يميز هذه الصلاة عما عداها ، لأنها ليست مجرد ركعتين كصلاة الصبح ، ولا شيء أكثر من ذلك.

ثانيا : إن الأحاديث دلت على أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، كان يرفع يديه

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٩٤ وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٢٣٢ ومسند أحمد ج ٢ ص ٣٧٠ وج ٣ ص ١٨١ وسنن الدارمي ج ١ ص ٣٦١ وعن صحيح البخاري ج ٢ ص ٢١ وج ٤ ص ١٦٧ وصحيح مسلم ج ٣ ص ٢٤ وعن سنن أبي داود ج ١ ص ٢٦٠ وسنن النسائي ج ٣ ص ١٥٨ و ٢٤٩ والمستدرك للحاكم ج ١ ص ٣٢٧ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٣ ص ٢١٠ و ٣٥٧ وشرح صحيح مسلم ج ٦ ص ١٩٠ وعن فتح الباري ج ٢ ص ٣٤٢ و ٤٢٢ وشرح سنن النسائي ج ٣ ص ١٥٨ والديباج على مسلم ج ٢ ص ٤٦٩ وتحفة الأحوذي ج ٩ ص ٢٣٢ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٢ ص ٣٧٠ ومسند أبي يعلى ج ٥ ص ٣١١ و ٣٣٣ و ٣٣٩ و ٣٤٧ و ٣٩٩ وصحيح ابن خزيمة ج ٢ ص ٣٣٣ وج ٣ ص ١٤٧ وصحيح ابن حبان ج ٧ ص ١١٣ وكتاب الدعاء ص ٥٩٥ وسنن الدارقطني ج ٢ ص ٥٥ و ٦٣ ونظم المتناثر من الحديث المتواتر ص ١٧٧ وإرواء الغليل ج ٣ ص ١٤١ وعن الكامل ج ٦ ص ٣٧٣ وتاريخ بغداد ج ٢ ص ٧٤ وتاريخ مدينة دمشق ج ٥٢ ص ١٥ وتهذيب الكمال ج ٢٤ ص ٣٨٩ وسير أعلام النبلاء ج ١٣ ص ٢٥٣ وذكر أخبار أصفهان ج ١ ص ١٤١ والبداية والنهاية ج ٦ ص ١٠٠.

٣٧

في الدعاء كثيرا ، وقد ذكر الصالحي الشامي أنه يوجد في صحيحي البخاري ومسلم ، أو في أحدهما : نحو ثلاثين حديثا صرح بذلك (١) .. فكيف بما في غيرهما من كتب الحديث والسيرة؟!

عبد المطلب يستسقي برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وقد ذكر الشهرستاني : أنه لما أصاب أهل مكة ذلك الجدب العظيم ، وأمسك السحاب عنهم سنتين أمر عبد المطلب ولده أبا طالب أن يحضر المصطفى «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وهو رضيع في قماط. فوضعه على يديه ، واستقبل الكعبة ، ورماه إلى السماء ، وقال : يا رب ، بحق هذا الغلام (٢).

ورماه ثانيا وثالثا ، وكان يقول : بحق الغلام ، اسقنا غيثا مغيثا ، دائما هاطلا.

فلم يلبث ساعة أن طبق السحاب وجه السماء ، وأمطر حتى خافوا على المسجد.

وأنشد أبو طالب ذلك الشعر اللامي ، الذي منه :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

ثم ذكر أبياتا من القصيدة (٣).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ٣٩٦ وراجع : المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي ـ مادة : رفع.

(٢) الغدير ج ٧ ص ٣٤٦.

(٣) الملل والنحل ج ٣ ص ٢٢٥ ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١١٩ والغدير ج ٧ ص ٣٤٦ وعن فتح الباري ج ٢ ص ٤١٢.

٣٨

ولكن من يلاحظ لامية أبي طالب يجد أنها تشير إلى أحداث وقعت بعد نبوة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. الأمر الذي يدل على أنه رحمه‌الله لم ينظمها دفعة واحدة ، بل هو قد نظم بعض مقاطعها في زمن أبيه عبد المطلب ، ثم أتمها في أزمنة لاحقة ، بعد بعثة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

أبو طالب يستسقي بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاث مرات :

هذا .. وقد روي : أن أبا طالب استسقى برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أيضا في صغره ، لما تتابعت عليهم السنون ، فأهلكتهم ، فخرج به «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى أبي قبيس ، وطلب السقيا بوجهه ، فسقوا ، فقال يمدحه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة الأرامل (١)

والظاهر : أنه كرر إنشاد هذه الأبيات ، بعد أن كان قد قالها حين استسقاء عبد المطلب به.

وروى ابن عساكر عن جلهمة بن عرفطة ، قال : «قدمت مكة ، وقريش في قحط ، فقائل منهم يقول : اعتمدوا اللات والعزى.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ١ ص ٤٨٩ عن ابن سعد ، والطبراني ، وشرح الأخبار ج ٣ ص ٢٢٣ وأمالي المفيد ص ٣٠٤ والخرائج والجرائح ج ١ ص ٥٩ والعمدة ص ٤١٢ والطرائف ص ٣٠١ والصراط المستقيم ج ١ ص ٣٣٤ وكتاب الأربعين للشيرازي ص ٤٩٥ وحلية الأبرار ج ١ ص ٨٤ والبحار ج ١٩ ص ٣ ص ٢٥٥ وج ٣٥ ص ١٦٦ ومناقب أهل البيت للشيرواني ص ٥٣ وأبو طالب حامي الرسول ص ١٠٦ و ١٠٨ و ١١١ والغدير ج ٧ ص ٣٣٩.

٣٩

وقائل منهم يقول : اعتمدوا مناة الثالثة الأخرى.

فقال شيخ وسيم ، حسن الوجه ، جيد الرأي : أنى تؤفكون ، وفيكم بقية إبراهيم ، وسلالة إسماعيل؟!

قالوا : كأنك عنيت أبا طالب؟

قال : إيها.

فقاموا بأجمعهم ، وقمت معهم ، فدققنا عليه بابه ، فخرج إلينا رجل حسن الوجه ، عليه إزار قد اتشح به ، فثاروا إليه ، فقالوا : يا أبا طالب ، أقحط الوادي ، وأجدب العيال! فهلم فاستسق لنا!!

فخرج أبو طالب ، ومعه غلام ، كأنه شمس دجنة ، تجلت عليه سحابة قتماء ، وحوله أغيلمة. فأخذه أبو طالب ، فألصق ظهره بالكعبة ، ولاذ بأضبعه الغلام ، وما في السماء قزعة. فأقبل السحاب من ههنا وههنا ، فأغدق واغدودق ، وانفجر له الوادي ، وأخصب النادي والبادي.

وفي ذلك يقول أبو طالب :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة الأرامل

يلوذ به الهلاك من آل هاشم

فهم عنده في نعمة وفواضل

وقال ابن سعد : حدثنا الأزرق ، حدثنا عبد الله بن عون ، عن عمرو بن سعيد : أن أبا طالب قال : كنت بذي المجاز مع ابن أخي ، يعني النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأدركني العطش ، فشكوت إليه ، فقلت : يابن أخي قد عطشت. وما قلت له ذلك ، وأنا أرى عنده شيئا إلا الجزع ، قال : فثنى وركه.

ثم قال : يا عم عطشت؟

قلت : نعم.

٤٠